غلوريــــا لامست جهنّــــــم
شهادة غلوريا بولو المؤثّرة
السيّدة غلوريا بولو طبيبة أسنان في بوغوتا (Bogota -كولومبيا).
عام 2007 ظهرت مقتطفات من أحد أحاديثها
إلى “راديو ماريّا” في كولومبيا. وهو ما نثبِّته هنا.
Achevé d imprimer en la fête de Notre-Dame du Mont-Carmel,
Le 16 juillet 2007, par les éditions Résiac ? F 53150 Montsûrs
الأب دانيال غانيون(P. Daniel Ganion, OMI) المسؤول عن عقيدة الإيمان في الرئاسة الأسقفيّة في مكسيكو أوصى بقراءة هذا الكتاب نظرًا لما يتضمّنه من وحي روحيّ لا يخالف تعاليم الكنيسة الواحدة المقدّسة الرسوليّة الجامعة.
أيّها الإخوة والأخوات، رائع بالنسبة إليّ أن أتقاسم معكم في هذه اللحظة، النعمة الفائقة الوصف التي منحني إيّاها سيّدنا يسوع المسيح، لأكثر من عشرة أعوام خلت.
كان ذلك في جامعة كولومبيا الوطنيّة في بوغوتا (في أيّار 1995). كنت أُعِدّ شهادة دراسة عليا مع ابن أختي الذي كان طبيب أسنان كذلك. بعد ظهر الجمعة ذاك، كان زوجي يرافقنا، إذ كان علينا أن نأخذ كتبًا من الكليّة. كانت تُمطر بغزارة وكنّا، إبن أختي وأنا، نحتمي تحت مظلّة صغيرة. كان زوجي يقترب من مكتبة الحَرَم الجامعيّ، مرتديًا معطفًا واقيًا. وقد توجّهنا، إبن أختي وأنا اللاحقين به، نحو أشجار لتحاشي برك ماء صغيرة. في تلك البرهة ضربتنا الصاعقة لكلينا. مات إبن أختي فورًا؛ كان فتيًّا، وعلى رغم صغر سنّه، كرّس نفسه لربّنا؛ وكان تعبّده كبيرًا للطفل يسوع. كان يحمل دومًا صورته المقدّسة في بلّور صخري فوق صدره. وفقًا للتشريح، دخلت الصاعقة عبر الصورة، فحّمت قلبه وخرجت عبر قدميه. لم يكن يُلمَح خارجيًّا أي أثر حرق. من جهتي، احترق جسدي في شكل فظيع، في الداخل كما في الخارج. هذا الجسد الذي ترونه الآن، مُجدّدًا، هو كذلك بنعمة الرحمة الإلهيّة. الصاعقة فحَّمتني، ما عدت أملك صدرًا، وكلّ لحمي وقسمٌ من أضلعي اختفيا عمليًّا. الصاعقة خرجت عبر قدمي اليمنى، بعدما أحرقت كليًّا معدتي وكبدي، وكليتَي ورئتيّ.
كنت أستخدم منع الحمْل وأضع حاجبًا في الرحم من نحاس. ولمّا كان النحاس موصّلاً ممتازًا للكهرباء، فحّم مبيضَيّ. وجدت نفسي إذًا في حال سكتة قلبيّة، من دون حياة، ولجسدي انتفاضات بسبب الكهرباء التي كان لا يزال يحملها. إنّما لم يكن يتعلّق هذا إلاّ بالقسم المادي من ذاتي، ففيما كان لحمي مُحترقًا، وجدتُ نفسي في تلك اللحظة في نفق جميل جدًّا من نور أبيض، يملأني فرحٌ وسلامٌ؛ ما من كلمةٍ يمكنها أن تصف عظمة لحظة السعادة تلك. وكانت ذروة اللحظة هائلة.
كنت أشعر بنفسي سعيدة ومملوءة فرحًا، لأنّني ما عدت خاضعة لقانون الجاذبيّة. رأيت في آخر النفق مثلَ شمس ينبعث منها نورٌ خارق. أصِفها بيضاء لأعطيكم فكرة ما عنها، إنّما في الواقع، ما من لون على الأرض شبيه بسطوع كهذا. كنت أدرك فيها نبع كلّ حُبّ وكلّ سلام.
فيما كنت أرتفع، تحقّقت من أنّني قد متّ. في تلك اللحظة فكّرت بأبنائي وقلت لنفسي: “آه، يا إلهي، أبنائي، ماذا سيفكّرون بي؟ الأم النشيطة جدًّا التي كنت، لم تملُك أبدًا وقتًا تكرّسه لهم!” كان ممكنًا لي أن أرى حياتي كما كنت حقًّا، وذلك أحزنني. كنت أُغادر المنـزل كلّ الأيّام لأغيّر العالم، وما كنت حتّى قادرة على الاهتمام بأبنائي.
في لحظة الفراغ هذه التي كنت أشعر بها بسبب أبنائي، رأيت أمرًا ما باهرًا: ما عاد جسدي ينتمي إلى المكان والزمان. في لحظة، كان ممكنًا لي أن أحتضن بالنظر الناس كلّهم، الأحياء كما الأموات. استطعت أن أضمّ أجدادي ووالدَي المتوفّين. استطعت أن أعانق الناس كلّهم، كانت لحظة جميلة جدًّا! أدركت إذاك كم خُدِعت بإيماني بالتقمّص وقد جعلت من نفسي محامية عنه. كنت معتادة “رؤية” جدّي ووالد جدّي في كلّ مكان. إنّما هنا، كانا يعانقانني وكنت بينهما. في اللحظة نفسها، ضَمَمْنا بعضنا بعضًا كما في كلّ الكائنات التي عرفتها في حياتي.
خلال تلك الآونة الجميلة جدًّا خارج جسدي، فقدت مفهوم الوقت. تبدّل نظري: (على الأرض) كنت أُفرّق بين مَن كان بدينًا، مَن كان ملوّثًا أو بشعًا، لأنّني كنت أملك دومًا أحكامًا مُسبّقة. خارج جسدي. كنت أتأمّل الكائنات من الداخل! كنت أستطيع معرفة أفكارها ومشاعرها. كنت أحتضنها كلّها في لحظة، وأنا أتابع ارتفاعي دومًا أعلى وملئي فرح. إذاك أدركت أنّني سوف أستفيد من رؤية رائعة، من بحيرة جمالها خارق. لكنني سمعت في تلك البرهة، صوت زوجي الذي كان يبكي ويناديني منتحبًا: “غلوريا، أرجوك لا ترحلي! غلوريا، عودي! لا تتخلّي عن الأولاد، يا غلوريا”. نظرت إذًا إليه ولم أرَه فقط، بل أحسست أيضًا بحزنه العميق. وسمح لي الربّ بالعودة، بالرغم من أنّ هذه لم تكن أمنيتي. كنت أشعر بفرح كبير جدًّا، بكثير من السلام والسعادة. وإذا بي أنحدر على مهل نحو جسدي حيث كنت أرقد من دون حياة. كان يتمدّد على نقّالة، في المركز الطبّي للحرم الجامعيّ. كنت أستطيع رؤية الأطباء الذين كانوا يُخضعونني لصدماتٍ كهربائيّة ويُحاولون إنعاشي على أثر السكتة القلبيّة التي عانيتها. لبثنا هناك خلال ساعتين ونصف الساعة. لم يكونوا يستطيعون في البدء معالجتنا باليد، لأنّ جسدَينا كانا لا يزالان مُوصِلين جدًّا للتيار الكهربائيّ. وعندما استطاعوا ذلك لاحقًا، جهدوا لإحيائنا.
استقرّيت قرب رأسي، وشعرت كما بصدمة جذبتني بعنف إلى داخل جسدي. كان الأمر مؤلمًا، لأنّ ذلك كان يبعث شرارات من كلّ الأنحاء. رأيت نفسي أندمج بشيء ما ضيّق جدًّا. كان لحمي المرضوض والمحروق يؤلمني. كان يُصعِّد دخانًا وبخارًا. لكن الجرح الأفظع كان يصدر من غروري. كنت امرأة مجتمع، مثقّفة، تلميذة عبدة جسدها، والجمال والموضة. كنت أُزاول الرياضة البدنيّة أربع ساعات يوميًّا، لأفوز بجسد رشيق: تدليك وعلاج طبّي وحمية من كلّ الأنواع.. الخ. كانت تلك حياتي، رتابة تُقيّدني بعبادة جمال الجسد. كنت أقول لنفسي: “لديّ ثديان جميلان، فلأبرزهما هكذا. ليس ثمّة أي سبب لإخفائهما. “كذلك بالنسبة إلى ساقَيّ، لأنّني كنت أعتقد بأنّ لديّ ساقَين جميلين وصدرًا جميلاً! لكنّني رأيت في لحظة بفظاعة، إنّني أمضيت حياتي أعتني بجسدي. حُبّ جسدي كان محور وجودي. والحال أنّني ما عدت أملك الآن جسدًا وصدرًا ولا شيء سوى ثقوب فظيعة. اختفى ثديي الأيسر خصوصًا. لكن الأسوأ كان ساقَيّ اللتين لم تكونا سوى جروح فاغرة من دون لحم، محروقتين ومُكلّستين كليًّا. من هناك، نقلوني إلى المستشفى حيث قادوني سريعًا إلى المركز الجراحي، وبدأوا كشط جروحي وتنظيفها.
وفيما كنت تحت تأثير المُخدّر، إذا بي أخرج مجدّدًا من جسدي وأرى ما كان يفعله بي الجرّاحون. كنت قلقة على ساقيّ. فجأة، اجتزت وقتًا رهيبًا، فكلّ حياتي، لم أكن سوى كاثوليكيّة “مقطّرة”. لم تكن علاقتي بالربّ تتوقّف إلاّ على إفخارستيّا الأحد، ليس أكثر من خمس وعشرين دقيقة، حيث موعظة الكاهن كانت الأوجز، لأنّني لم أكن أستطيع أن أتحمّل أكثر. تلك كانت علاقتي بالربّ. كلّ التيارات (الفكريّة) العالميّة أثّرت فيّ مثل دوّارة هواء.
ذات يوم، فيما كنت في الدراسات العليا لطب الأسنان، سمعت كاهنًا يؤكّد أنّ لا وجود لجهنّم ولا للشياطين. والحال أنّ ذلك كان الأمر الوحيد الذي كان لا يزال يُبقيني متردّدة على الكنيسة. وإذ سمعت تأكيدًا كهذا، قلت لنفسي أنّنا سنذهب كلّنا إلى الفردوس، بصرف النظر عمّا نحن، وابتعدت كلّيًا عن الربّ. غَدَتْ أحاديثي منحرفة، لأنّني ما عدت أستطيع وضع حدّ للخطيئة. بدأت أقول للجميع أنّ الشيطان ليس موجودًا وأنّ ذلك كان اختراعًا من الكهنة وتلاعبًا…
عندما كنت أخرج مع رفاقي في الجامعة، كنت أقول لهم أنّ الله لم يكن موجودًا وأنّنا كنّا نتيجة التطوّر. إنّما في تلك اللحظة، كنت مذعورة حقًّا في قاعة العمليّات! كنت أرى شياطين مقبلة نحوي. من جدران مركز العمليّات، رأيت أناسًا كثيرون يظهرون. كانوا يبدون طبيعيّين، للوهلة الأولى، إنّما كانت لهم وجوه حاقدة، بشعة. في ذلك الوقت، تحقّقت بحدّة ذهن أُعطيِت لي، من أنّني كنت مُلُك كلّ منهم. أدركت أنّ الخطيئة لم تكن مجانية، وأنّ الكذب الأكثر سفالة للشيطان، كان الإيهام بأنّه لم يكن موجودًا. كنت أراها كلّها آتية في طلبي. تصوّروا خوفي! لم يكن لذهني العقلاني والعلميّ أي عونٍ لي. أردت العودة إلى داخل جسدي، لكن هذا الأخير لم يكن يدعني أدخل. إذاك ركضت إلى خارج الحجرة، آملة بالاختباء في مكان ما في ممشى المستشفى، لكنّني انتهيت في الواقع إلى القفز في الفراغ.
وقعت في نفق منجذبة نحو الأسفل. في البدء، كان ثمّة نورٌ، وكان ذلك يشبه قفير النحل. كان ثمّة ناس كثُر. إنّما سرعان ما بدأت الهبوط مارّة عبر أنفاق معتّمة كليًّا. لا سبيل إلى أي مقارنة بين عتمة ذلك الموضع والعتمة الأكثر شمولاً للأرض التي يمكننا مقابلتها بالنور الكوكبيّ. كانت تلك العتمة تُسبّب العذاب، والهول والعار. كانت الرائحة نتنة. حين انتهيت أخيرًا من الهبوط على طول تلك الأنفاق، نزلت على نحوٍ يدعو إلى الرثاء فوق مصطبة. أنا التي كنت معتادة الصياح إنّني كنت أملك إرادة فولاذيّة وما من شيء يفوق الحدّ بالنسبة إليّ… هناك، لم تكن إرادتي تفيدني في شيء؛ لم أكن أنجح في الصعود ثانية. في نقطة معيّنة، رأيت على الأرض مثلَ هوّةٍ هائلة تنفتح، ورأيت فراغًا شاسعًا، هاوية لا قعر لها. الأفظع في ما يتعلّق بذاك الثقب الفارغ كأنّنا كنّا نشعر بالغياب المُطلق لحُبّ الله، وذلك من دون أدنى أمل. امتصّني الثقب وكنت مذعورة. كنت أعلم إذا مضيت إلى داخله، فسوف تموت نفسي من ذلك. كنت مُنْجذبة نحو تلك الفظاعة.، وقد أُمسِكت بقدمَي. كان جسدي يدخل في هذا الثقب، كانت لحظة ألم شديد ورعب. لم أعد ملحدة، وبدأت أصرخ نحو أنفس المطهر لأنال مساعدة. وفيما كنت أصرخ، شعرت بألم شديد جدًّا، إذ أُعطي لي أن أفهم أنّ آلاف وآلاف الكائنات البشريّة كانت هناك، خصوصًا شبابنا. برعب كنت أسمع صريف أسنان، صيحات فظيعة وأنّات زعزعتني حتّى أعماق كياني. لزمتني أعوامٌ قبل أن أشفى، لأنّني في كلّ مرّة كنت أذكر تلك اللحظات، كنت أبكي مفكّرة بعذاباتها الفائقة الوصف. أدركت أنّ إلى هناك تمضي أنفس المنتحرين الذين يجدون أنفسهم، في لحظة يأس، وسط تلك الأهوال. لكن العذاب الأرهب، كان غياب الله. لم نكن نستطيع الإحساس بالله.
أخذت أصرخ، في تلك التعذيبات: “مَن أمكنه ارتكاب خطأ كهذا؟ إنّني قدّيسة تقريبًا، فلم أسرقْ أبدًا، لم أقتل أبدًا، أعطيت الفقراء قوتًا، أجريت علاجات أسنان مجانيّة لمعوزين؛ ماذا أفعل هنا؟ كنت أذهب إلى القدّاس الأحد… لم أتخلّف عن قداسي الأحد أكثر من خمس مرّات في حياتي! لِمَ إذًا أنا هنا؟ إنّني كاثوليكيّة، أرجوكم، إنّني كاثوليكيّة، أخرجوني من هنا”! فيما كنت أصرخ بأنّني كاثوليكيّة، لمحت وميضًا ضعيفًا. ويمكنني أن أؤكّد لكم أنّ أدنى وميض، في ذلك الموضع، هو أجمل الهدايا. رأيت درجات فوق الثقب، وتعرّفت إلى أبي، المتوفّى قبل خمسة أعوام. قريبة تمامًا وأربع درجات إلى أعلى، كانت تقف أمّي مُصلّية، مغمورة بنورٍ أكثر.
ملأني لمحها فرحًا، وقلت لهما: “أبي، أمّي، أخرجاني من هنا! أتوسّل إليكما، أخرجاني من هنا”! وحين انحنيا نحو ذاك الثقب، كان عليكم أن ترَوا حزنهما الهائل. في ذلك الموضع يمكنكم إدراك مشاعر الآخرين والإحساس بأَلمهم. أخذ أبي يبكي مُمسكًا رأسه بين يديه مردّدًا: “يا ابنتي، يا ابنتي!” كان يقول. وكانت أمّي تُصلّي، وفهمت أنّهما لم يكونا يستطيعان إخراجي من هناك؛ وازداد ألمي بألمهما، بما أنّهما كانا يشاطرانني ألمي. لذا أخذت أصرخ مجدّدًا: “أتوسّل إليكما، أخرجاني من هنا! إنّني كاثوليكيّة! من أمكنه ارتكاب خطأ كهذا؟ أتوسّل إليكما، أخرجاني من هنا”! هذه المرّة، سُمع صوتٌ، صوتٌ عذب أرجف نفسي. كلّ شيء غُمر إذاك بحبّ وسلام، وكلّ المخلوقات القاتمة التي كانت تُحيط بي هربت لأنّها لا تستطيع مواجهة الحبّ. قال لي ذلك الصوت العزيز: “حسنًا جدًّا، بما أنّك كاثوليكيّة، قولي لي ما هي وصايا الله؟”
ها هي ضربة خائبة من جانبي! كنت أعلم أنّ ثمّة عشر وصايا، في اختصار. ماذا كان عليّ أن أفعل؟ أمّي كانت تحدّثني دومًا عن وصيّة الحبّ الأولى. لم يكن عليّ إلاّ أن أردّد ما كانت تقوله لي. كنت أعتقد أنّني قادرة على أن أرتجل وأخفي هكذا جهلي للأخرى (الوصايا). أعتقد بإمكاني التخلّص من الورطة، كما حين كنت على الأرض حيث كنت أجد دومًا عذرًا موافقًا؛ وكنت أُبرّر نفسي بالدفاع عن نفسي لإخفاء جهلي.
قلت: “أحبّ الربّ إلهك قبل كلّ شيء وقريبك كنفسك”. إذاك سمعت: “حسنًا جدًّا، هل أحببتهما؟” أجبت: ” نعم أحببتهما، أحببتهما، أحببتهما”! وأُجِبتْ: “لا. لم تُحبّي الربّ إلهك فوق كلّ شيء وأقلّ بعدُ قريبك كنفسك. لقد ابتكرتِ لك إلهًا كنت تلائمينه وفق حياتك، وكنت تستخدمينه فقط في حال الحاجة الميؤوس منها. كنت تسجدين أمامه عندما كنت فقيرة، حين كانت عائلتك مُتّضعة وكنت تريدين الذهاب إلى الجامعة. في تلك الأوقات، غالبًا ما كنت تصلّين وتركعين خلال ساعات طويلة لتتوسّلي إلى إلهك بأن يُخرجك من البؤس؛ ليمنحك نيل الشهادة التي تسمح لك بأن تصيري شخصيّة مهمّة. كلّ مرّة كنت تحتاجين إلى مال، كنت تتلين المسبحة. هوذا كانت علاقتك بالربّ”.
نعم، يجب أن أعترف بأنّني كنت أُمسك بالمسبحة وأنتظر مالاً في المقابل، تلك كانت علاقتي بالربّ. وأُعطيت أن أرى أنّني حالما نلت الشهادة والشهرة، لم أملك أدنى شعور حُبّ نحو الربّ. أن أكون عارفة بالجميل؟ لا، أبدًا! عندما كنت أفتح عينيّ صباحًا، لم أكن أحمل أبدًا شكرًا على اليوم الجديد الذي كان الربّ يمنحني لأعيشه، لم أكن أشكره أبدًا على صحّتي، على حياة أبنائي، على السقف الذي وهبني إيّاه. كان ذلك نكران الجميل الأشمل. لم تكن بي رأفة بالمعوزين! في الواقع، كنت أُجلّ الربّ في مرتبة دنيا إلى حدّ أنّني كنت أثق أكثر بتنبؤات عطارد والزهرة. كان علم التنجيم يعميني، هاتفةً بأنّ النجوم كان توجّه حياتي! كنت أتسكّع نحو كلّ عقائد العالم. كنت أؤمن بأنّني سوف أموت لأُخلق مجدّدًا! ونسيت الرحمة. نسيت أنّني افتُديت بدم الله.
أخضعوني للاختبار بالوصايا العشر. أروني أنّني كنت أزعم أنّني أُحبّ الله بكلامي، لكنّني كنت في الحقيقة أحبّ إبليس. هكذا دخلت امرأة يومًا عيادتي لتعرض عليّ خدماتها السحريّة، وقلت لها: “إنّني لا أؤمن بذلك، إنّما دَعي هذين الحرزَين هنا في حال نجح ذلك”. وقد أودعت في زاوية حدوةَ حصان وصبّارًا، يُفترض أنّهما يُبعدان القوى الشريرة.
كم كان كلّ ذلك مُخجلاً! كان فحصًا لحياتي انطلاقًا من الوصايا العشر. لقد أظهروا لي ما كان تصرّفي نحو قريبي. أروني كيف كنت أزعم أنّني أُحبّ الله في حين اعتدت انتقاد الجميع، اتهام كلّ فرد، أنا غلوريا الكليّة القداسة! أظهروا لي أيضًا كم كنت حسودة وجاحدة! لم أشعر أبدًا بعرفان جميل نحو والدَيّ اللذين منحاني حبّهما وبذلا جهودًا كثيرة لتعليمي وإرسالي إلى الجامعة. ومنذ نيل شهادتي، هما أيضًا أصبحا أدنى منّي، وكنت حتّى أخجل من أمّي بسبب فقرها، بساطتها وتواضعها.
في ما يتعلّق بتصرّفي كزوجة، أُظْهر لي أنّني كنت أتشكّى كلّ الوقت، من الصباح إلى المساء. إذا قال زوجي: “صباح الخير”، كنت أردّ: “لِمَ يكون هذا اليوم خيّرًا فيما تُمطِر خارجًا؟” كنت أتشكّى أيضًا في استمرارٍ من أبنائي. وأظهروا لي أنّني لم أُحبّ ولا رأفتُ بإخوتي وأخواتي على الأرض. وقال لي الربّ: “أنّك لم تعتبري المرضى أبدًا؛ وفي وحدتهم، لم تلازميهم أبدًا”. كان لي قلب من حجر في قشرة جوز. لم أكن أملك نصفَ جوابٍ صحيحًا على اختبار الوصايا العشر هذا.
كان ذلك رهيبًا، مدمّرًا! كنت مضطرّبة كلّيًا. وكنت أقول لنفسي: لا يمكن لومي على الأقلّ على قتل أحد!
مثلاً، كنت أشتري مؤونة للمعوزين؛ إنّما ليس بدافع حُبّ، بل بالأحرى لأبدو سخيّة، وللذّة التي كنت أنعم بها متلاعبةً بمَن كانوا في العوز. كنت أقول لهم: “خُذوا هذه المؤونة واذهبوا مكاني إلى اجتماع الأهل والمعلّمين، لأنّني لا أملك الوقت لحضوره”. إلى ذلك كنت أُحبّ أن أُحاط بأشخاص يمتدحونني. كنت قد كوّنت صورة ما لذاتي.
قيل لي إنّ إلهي كان المال. حُكِم عليك بسبب المال. لهذا السبب غرقت في الهوّة وابتعدت عن ربّك. كنّا بالفعل أغنياء، لكنّنا غدونا في النهاية مُفلسين، تُغرقنا الديون وصفر اليدَين. إذاك صرخت: “أيّ مال؟ لقد تركنا على الأرض ديونًا كثيرة!” هوذا ما استطعت جوابًا.
عندما وصلنا إلى الوصيّة الثانية، رأيت بحزنٍ أنّني في طفولتي، تعلّمت سريعًا أنّ الكذب كان وسيلة ممتازة لتحاشي قصاصات أمي القاسية. بدأت يدًا بيد مع أب الكذب (إبليس) وصرت كاذبة. كانت خطاياي تزيد مثل أكاذيبي. لاحظت كم كانت تحترم أمّي الربّ واسمه القدّوس: رأيت هنا سلاحًا لي وأخذت أُجدّف باسمه. كنت أقول: أمّي، أُقسِم بالله بأنّ…” وهكذا، كنت أتحاشى القصاصات. تصوّروا أكاذيبي، مُشركةً اسم الربّ الكلّي القداسة…
إنتبهوا، يا إخوتيّ وأخواتي، أنّ الكلام لم يكن عبئًا أبدًا، فعندما لم تكن أُمي تُصدّقني، اعتدت أن أقول لها: “أمّي، إذا كذبت، فليضربْني البرق هنا والآن”. وحتّى لو أنّ الكلام ذهب مع الوقت، حدث أنّ الصاعقة ضربتني فعلاً فحَّمتني، وبفضل الرحمة الإلهيّة أنا هنا الآن.
أُظْهرَ لي كيف أنّني أنا التي كنت أدّعي بأنّني كاثوليكيّة، لم أكن أحترم أيًّا من وعودي، وكم كنت أحلف باسم الله بالباطل.
فوجئت برؤية تلك المخلوقات الرهيبة المحيطة بي، كانت تسجد عابدةً، في حضرة الربّ. ورأيت العذراء مريم عند قدمَي الربّ تُصلّي وتتشفّع لأجلي.
في ما يتعلّق باحترام يوم الربّ (الوصيّة الثالثة)، كنت أدعو إلى الشفقة وأشعر لذلك بألمٍ حادّ. كان الصوت يقول لي أنّني كنت أُمضي الأحد أربعَ ساعاتٍ أو خمسًا أهتمّ بجسدي؛ لم يكن لديّ حتّى عشر دقائق شكر أو صلاة أكرّسها للربّ. إذا بدأت مسبحة، كنت أقول لنفسي: “يمكنني القيام بذلك خلال الإعلان، قبل المُسلسَل”. نكراني للجميل نحو الربّ بُكِّتُ عليه. عندما لم أكن أريد حضور القدّاس، كنت أقول لأمّي: “الله في كلّ مكان، فلِمَ عليّ الذهاب إلى هنا؟…” ذكّرني الصوت كذلك بأنّ الله كان يسهر عليّ ليل نهار، وأنّني لم أكن في المقابل أُصلّي إليه إطلاقًا؛ والأحد، لم أكن أشكره ولا أُظهر له عرفاني الجميل أو حُبّي. إلاّ أنّني كنت أعتني بجسدي، كنت عبدة له، وكنت أنسى كلّيًّا أنّ لي نفسًا وأنّ عليّ تغذيتها. لكنّني لم أكن أُغذّيها أبدًا من كلمة الله، لأنّني كنت أقول إنّ مَن يقرأ كلمة الله يغدُ مجنونًا.
في ما يتعلّق بالأسرار، كان كلّ شيء عندي خطأ. كنت أقول أنّني لن أذهب لأعترف أبدًا، لأنّ أولئك السادة الكبار في السنّ كانوا أسوأ منّي. كان الشيطان يُحوّلني عن الاعتراف، وهكذا كان يمنع نفسي من أن تكون نظيفة وتُشفى. كان نقاء نفسي الأبيض يدفع الثمن في كلّ مرّة كنت أُخطئ. كان إبليس يترك دمغته عليه: دمغة مُعتِمة. باستثناء مناولتي الأولى، لم أقُمْ أبدًا باعتراف صالح. انطلاقًا من هنا، لم أتلقَّ ربّنا باستحقاق أبدًا. إنعدام تماسك حياتي بلغ درجة بحيث كنت أُجدّف: “الإفخارستيّا المقدّسة؟ أيمكننا تصوّر الله الحيّ في قطعة خبز؟” إلى هنا اقتصرت علاقتي بالله. لم أُغذِّ نفسي أبدًا، وأسوأ بَعدُ، كنت أنتقد الكهنة في استمرار. كان عليكم أن تروا كم كنت أدأب على ذلك! منذ نعومة أظافري، كان أبي مُعتادًا القول أنّ أولئك القوم كانوا متهتكّين أكثر من العلمانيّين. وقال لي الربّ: “مَنْ أنت لتديني هكذا مسحائي؟ إنّهم بشر، وقداسةُ كاهن تسندها جماعته التي تُصلّي لأجله، تُحبّه وتعضده. عندما يرتكب كاهن خطأ، جماعته هي المدينة بذلك، إنّما لا هو”. في وقت ما من حياتي، اتّهمت كاهنًا باللواط وأُعلمت الجماعة بذلك. لا يمكنكم تصوُّر السوء الذي ارتكبته!
في ما يتعلّق بالوصيّة الرابعة: “أكرم أباك وأمّك”، كما قلت لكم، أراني الربّ نكران الجميل نحو والدَي. كنت أتشكّى لأنّهما لم يكونا يستطيعان تقديم أشياء كثيرة لي يمتلكها رفاقي. كنت جاحدة نحوهما لكلّ ما فعلاه لأجلي، وحتّى وصلت إلى حدّ كنت أقول فيه إنّني لم أكن أعرف أمّي لأنّها لم تكن في مستواي. بالفعل، دفعت فواتير الطبيب والصيدلي عندما مرض والداي، إنّما بما أنّني كنت أحلّل كلّ شيء بموجب المال، استفدت إذاك من الأمر للتلاعب بهما، وتوصّلت بذلك إلى سحقهما.
شقّت عليّ رؤية أبي يبكي بحزنٍ، فعلى رغم أنّه كان أبًا صالحًا علّمني العمل بشدّة وإقدام، نسي تفصيلاً مهمًّا: أنّ لي نفسًا، وأنّ حياتي بدأت تتأرجح بمثاله السيّئ. كان يُدخّن، يشرب ويُطارد النساء إلى حدّ أنّني اقترحت على أمّي أن تهجر زوجها: “يجب ألاّ تستمرّي وقتًا أطول مع رجل مثل هذا. كوني جديرة، أرِه أنّك تساوين شيئًا ما”. وأجابت أمّي: “لا، يا عزيزتي، إنّني أتألّم، لكنّني أضحّي بنفسي لأنّ لي سبعة أولاد ولأنّ أباك يبدو أبًا صالحًا في آخر النهار، لن أستطيع الرحيل وفصلكم عن والدكم؛ وفوق ذلك مَن سوف يُصلّي لخلاصه، إذا رحلت؟ إنّني الوحيدة القادرة على القيام بذلك، لأنّ كلّ تلك الآلام والجراح التي يُلحقها بي، أضمّها إلى عذابات المسيح على الصليب. كلّ يوم أقول للربّ: “ليس ألمي شيئًا مقارنةً بصليبك، لذا، أرجوك، خلّص زوجي وأولادي”. أمّا أنا، فلم أكن أنجح في فهم ذلك وغدوت متمرّدة، بدأت أدافع عن النساء، أُشجّع الإجهاض، والمساكنة والطلاق.
حين وصلنا إلى الوصيّة الخامسة، أراني الربّ القاتلَ الرهيب الذي كنته بارتكاب أرهب الجرائم: الإجهاض. إلى ذلك، موّلت إجهاضات عدّة، لأنّني كنت أنادي بأنّ امرأةً تملك حقّ اختيار أن تكون حُبلى أو لا. أعطي لي أن أقرأ في كتاب الحياة، وتمزّقت تمامًا من أنّ فتاة في الرابعة عشرة أجهضت بناء على نصائحي. أعطيتُ كذلك نصائح سيّئة لفتيات صغيرات ثلاث منهنّ كن نسيباتي، مُتحدّثة إليهنّ عن الإغراء، والموضة، ناصحةً إياهنّ بأن يستفدْن من جسدهن، وقائلةً لهنّ إنّ عليهنّ استخدام وسائل منع الحمل. كان ذلك نوعًا من إفساد القاصرين الذي يُفاقم خطيئة الإجهاض الرهيبة.
في كلّ مرة يُراق دم جنين، تلك محرقة لإبليس، تجرح الربّ وتُرجفه. رأيت في كتاب الحياة كيف كانت تتكوّن نفسنا، البرهة التي تصل فيها البذرة إلى البيضة. شرارة جميلة تلتمع، نورٌ يشعّ من شمس الله الآب. ما أن يُبذَر بطن الأم، حتّى يُضاء بنور النفس. خلال الإجهاض، تنوح النفس وتصرخ ألمًا، ويُسمعُ صراخًا في السماء التي تزعزع. هذا الصراخ يتردّد كذلك في جهنّم، إنّما هنا صراخ فرح. كم من أجنّة يُقتلون كلّ يوم! إنّه انتصار لجهنّم. أنّ ثمن هذا الدم البريء يُحرّر كلّ مرّة شيطانًا إضافيًّا إلى الأرض. أنا غمست يدَيّ في هذا الدم وغدت نفسي غارقة كلّيًّا في الظلام. على أثر تلك الإجهاضات فقدت الوعي بالخطيئة. بالنسبة إليّ، كلُّ شيء كان على ما يُرام. وماذا أقول عن كلّ أولئك الأجنّة الذين رفضت حياتهم بسبب مانع الحَمْل الذي كنت أستخدمه! ليس مُدهشًا أنّني كنت دائمًا عنيفة ومُحبطة ومُكتئبة. وكنت أغرق أكثر بَعدُ في الهوّة. كيف كان يمكنني التأكيد أنّني لم أقتُل أبدًا.
وكلّ أولئك الأشخاص الذين احتقرتهم وكرهتهم ولم أُحبّهم. هنا أيضًا، كنت قاتلة لأنّنا لا نموت فقط من رصاصة مسدّس. يمكننا أن نقتل كذلك حين نكره ونرتكب أفعال الشرّ ونحسد ونغار.
في ما يتعلّق بالوصيّة السادسة (لا تزنِ)، كان زوجي رجل حياتي الوحيد. إنّما أعطوني أن أرى أنّني في كلّ مرّة كنت أكشف عن صدري وألبس سراويل ضيّقة، كنت أُحرّض الرجال على الفسق وأقودهم إلى الخطيئة. إلى ذلك، كنت أنصح النساء المخدوعات بأن يكنّ خائنات لأزواجهنّ، كنت أكرز ضدّ المغفرة وأُشجّع على الطلاق. إذاك تحقّقتُ من أنّ خطايا الزنا بغيضة وتستوجب العقاب، حتّى لو أنّ العالم الراهن يجد مقبولاً تصرُّفنا تصرُّف حيوانات.
كان مؤلمًا على نحو خاص رؤية كم خطايا زنا أبي جرحت أولاده. إنّ إخوتي الثلاثة صاروا نسخًا طبق الأصل عن أبيهم، متهتّكين وسكّيرين، ولم يكونوا يعون الأذى الذي يُسبّبونه لأولادهم. لهذا السبب كان أبي يبكي بكثير من الحزن وهو يكتشف أنّ المثال السيّئ الذي أعطاه ارتدّ عليّ، وعلى أولاده وأحفاده.
أمّا الوصيّة السابعة، لا تسرق، فأنا التي كنت أعتبر نفسي شريفة، أراني الربّ أنّ الطعام كان مُبَدّدًا في منـزلي، بينما كانت بقيّة الناس تُعاني الجوع. قال لي: “كنت جائعًا وانظري ما فعلته بما أعطيتك إيّاه؛ كم بدّدتِ! كنت بردانًا وانظري كيف كنت عبدة الموضة والمظاهر، راميةً مالاً كثيرًا في حمياتٍ لتنحفي. صنعتِ من جسدك إلهًا”! أفهمني أنّ لي نصيبي من الذنب في فقر بلادي. أظهر لي أيضًا أنّني في كلّ مرّة كنت أنتقد أحدًا ما، كنت أسرق كرامته. كان أسهل لي أن أسرق مالاً، لأنّ المال يمكننا دائمًا إعادته، لكن السمعة! إلى ذلك، كنت أختلس من أبنائي نعمة أن يحظَوا بأمّ حنون ملؤها حبّ. كنت أتخلّى عن أبنائي من أجل العالم، كنت أتركهم أمام التلفزيون، مع الكومبيوتر وألعاب الفيديو. ولأمنح نفسي ضميرًا حسنًا، كنت أشتري لهم ثيابًا رفيعة. كم ذلك رهيب! أي حزن هائل.
في كتاب الحياة، نرى كلّ شيء كما في فيلم. كان أبنائي يقولون: “لنأمَلْ بألاّ تعود أمّنا باكرًا جدًّا وتحدث زحمات سير لأنّها مزعجة غضوب”. في الواقع، سرقتُ منهم أمّهم، سرقت منهم السلام الذي كان مفروضًا عليّ حمله إلى بيتي. لم أعلّمهم حُبّ الله ولا حُبّ القريب. الأمر بسيط: إنْ لم أُحبّ إخوتي، فلا علاقة لي به كذلك.
الآن، سوف أتكلّم عن شهادات الزور والكذب، لأنّني غدوت خبيرة في هذا الموضوع. لا وجود لأكاذيب بريئة، كلّها من إبليس الذي هو أبوها. الآثام التي ارتكبتها باللسان كانت حقًّا مُرعِبة. رأيتُ كم جرحت بلساني. في كلّ مرّة كنت أذمّ الناس، أسخر من أحدهم أو أنعته بكنيةٍ تحطّ من قدره، كنت أجرح هذا الشخص. كم يمكن لكنية أن تجرح! كان يمكنني أن أُعقّد امرأة بمناداتها: “الضخمة”…
خلال هذه الدينونة في الوصايا العشر، أُظْهر لي أنّ كلّ آثامي كان سببها الطمع، هذه الرغبة السيّئة. لقد رأيت نفسي دائمًا سعيدة مع مال كثير. وغدا المال هَوَسي. ذلك مُحزنٌ حقًّا، فبالنسبة إلى نفسي، أرهب الأوقات كانت تلك التي كنت أملك فيها مالاً كثيرًا. فكّرت حتّى بالانتحار. كنت أملك كثيرًا من المال وأجد نفسي وحيدة، فارغة، عنيفة ومكبوتة. هوس المال هذا حوّلني عن الربّ وجعلني أفلت من يديه.
بعد اختبار الوصايا العشر، أرَوني كتاب الحياة. أُحبّ امتلاك الكلمات لأصفه. كتاب حياتي بدأ عند الحَبَل، عندما اتّحدت خليّتا والدَيّ. حدثت شرارة فورًا تقريبًا، انفجارٌ رائع، وتكوّنت نفسٌ هكذا، نفسي، خلقتها يدا الله أبينا، وهو إلهٌ شديد الصلاح! كم ذلك رائع! ساهرٌ علينا أربعًا وعشرين ساعة! كان حُبّه عقابي، لأنّه لم يكن ينظر إلى جسدي الشهواني بل إلى نفسي، وكان يرى كم كنت أبتعد عن الخلاص. قبل أن أُنهي، أريد أن أعطيكم مثلاً على جمال كتاب الحياة.
كنت خبيثة جدًّا، كنت أقول لصديقة: “أنت فاتنة في هذا الثوب، إنّه يناسبك جيّدًا”! إنّما كنت أفكّر في سرّي: “هذا اللباس بَشع، وتعتبر نفسها ملكة”!
في كتاب الحياة، كلُّ شيء يظهر بالضبط كما فُكّر به، بالكلمات نفسها، كما المحيط الداخلي للنفس. كلّ أكاذيبي كانت معروضة ليتمكّن كلّ واحد من رؤيتها. غالبًا ما كنت أتسكّع خارج المدرسة، لأنّ أمّي لم تكن تدعني أذهب حيثما أريد. كنت أكذب عليها في شأن عمل بحثي في مكتبة الجامعة، وكنت في الواقع أذهب لمشاهدة فيلم خلاعي، أو كنت أمضي إلى بار لأشرب جعة مع أصدقاء. لكنّ أمي رأت حياتي تتتابع، ولم يفتها شيء.
كتاب الحياة جميلٌ جدًّا حقًّا. كانت أمّي معتادة أن تضع في سلّة غذائي موزات، هريسة غوافا وحليبًا، لأنّنا كنّا فقراء جدًّا حين كنت صغيرة. كنت آكل الموزات وأُلقي القشور أينما كان، من دون أن أعي أنّ أحدًا ما كان يمكنه أن ينـزلق فوقها ويجرح نفسه. أراني الربّ شخصًا انزلق فوق إحدى قشرة موز، وكان يمكنني أن أقتله بانعدام رأفتي. المرّة الوحيدة التي أدّيت فيها اعترافًا صحيحًا، مع أسفٍ وندم، كانت عندما ردّت امرأةٌ لي كثيرًا من المال. لقد أعطتني 4500 بيزوس (Pesos) زيادة، كان ذلك في محلّ تغذية في بوغوتا. أبي علّمنا أن نكون شرفاء، وعدم أخذ مال الآخرين أبدًا. أدركت خطأها في السيارة وأنا ذاهبة إلى العمل. “هذه الحمقاء أعطتني 4500 بيزوس زيادة، وينبغي أن أعود إلى هناك الآن”! كانت زحمةُ سيرٍ خانقة، لذا قرّرت عدم العودة. على كلّ حالٍ، لِمَ كانت بهذا الغباء؟ لكن الجرح بقي لأنّ أبي زرع فيّ بذرة النـزاهة. لذا ذهبت للاعتراف الأحد التالي، مُتّهمة نفسي بسرقة تلك البيزوسات الـ 4500، بما أنّني لم أردّها. لم أُعِرْ انتباهي حتّى كلمات الكاهن. ما عاد يستطيع الشيطان اتّهامي بالسرقة. إنّما أتريدون معرفة ما قال لي الربّ؟ “إنّك لم تُعوّضي انعدام المحبّة هذا، لم يكن ذلك سوى مصروف جيب بالنسبة إليك، إنّما بالنسبة إلى تلك المرأة التي لم تكن تكسب سوى الحدّ الأدنى، كان هذا المبلغ يُمثّل ما يُعادل ثلاثة أيّام طعام”. الأحزن أنّه أراني كم عانت وحرمت نفسها خلال أيّام عدّة. بسببـي جاع صغيراها. هكذا يُرينا الله الأمور. لقد أظهر لي كيف يمكن أن يعاني الآخرون بسبب أفعالي.
وسألني الربّ: “أيّ كنوز روحيّة تحملين؟” كنوز روحيّة؟ يداي فارغتان! إذاك قال لي: “ماذا يُفيدك امتلاك شقّتين، ومنازل ومكاتب، إنْ كنت لا تستطيعين حتّى أن تجلبي لي قليلاً من الغبار على الأقلّ؟ وكنت تعتقدين بأنّك نجحت؟ ماذا فعلت إذًا بالمواهب التي منحتك إيّاها؟” كنت أُفكّر: مواهب؟ “كانت لديك رسالة. هذه الرسالة كانت الدفاع عن ملكوت الحبّ، ملكوت الله”. نسيتُ أنّ لديّ نفسًا، لذا كيف كان بإمكاني أن أتذكّر أنّ لديّ مواهب، إنّني كنتُ يدَيّ الله المباركتين؟ كلّ ذلك الخير الذي لم أُحسِنْ صنعه جَرَحَ الربّ.
أتريدون معرفة ما رواه لي الربّ أيضًا؟ انعدام حبّي ورأفتي! إذاك حدّثني عن موتي الروحيّ. كنت حيّة إنّما ميتة في الواقع. لو يمكنكم أن ترَوا ما هو الموت الروحيّ. إنّه مثل نفس حاقدة، نفسٍ عنيفة على نحو رهيب وكارهة كلّ شيء، ملؤها خطايا وتجرح الجميع. كان يمكنني أن أرى نفسي من الخارج، طيّبة الرائحة وحسنة اللباس، إنّما في الداخل نتانة حقيقيّة وساكنة في أعماق الهوّة. ليس مُدهشًا إن كنت ساخطة ومُكتئبة!
وقال لي الربّ: “بدأ موتك الروحيّ عندما لم تعودي تشعرين بالقريب. كنت أحذّرك وأنا أريك ضيقهم. عندما كنت ترين التحقيقات عن جرائم القتل والخطف ووضع اللاجئين، كنت تقولين بالفم: يا للمساكين، كم ذلك مُحزن! إنّما في الحقيقة، لم تكوني تتألّمين لأجلهم، لم تكوني تشعرين بشيء في قلبك. الخطيئة حوّلت قلبك حجرًا “.
لا يمكنكم تصوّر كم كان حزني هائلاً عندما انغلق كتاب حياتي ثانية. كنت أتألّم لأجل الله، أبي، لتصرّفي هكذا، فعلى رغم كلّ خطاياي وقذارتي وكلّ لامبالاتي ومشاعري الرهيبة، سعى الربّ دومًا حتّى النهاية إلى إدراكي. كان يُرسل إليّ أناسًا يمارسون تأثيرًا جيّدًا. حماني حتّى النهاية. الله يتوسّل منّا اهتداءنا!!!
لم أكن أستطيع لومه على إدانتي! بالتأكيد لا. بإرادتي الخاصّة اخترت أبًا غير الله. اخترتُ إبليس، كان هو بمثابة أبي. عندما انغلق الكتاب ثانية، لاحظت أنّني كنت أتوجّه نحو بئر لها باب في القعر. وفيما كنت أنزل داخلها، بدأت أدعو كلّ قدّيسي السماء ليُخلّصوني. ليست لديكم فكرة عن كلّ القدّيسين الذين تذكّرتهم، ومع أنّني كاثوليكيّة سيّئة. كنت أُفكّر أنّه بإمكاني طلب نجدة القدّيس إيزيدور أو القدّيس فرنسيس الأسيزي، وعندما نفذت لائحتي، حلّ الصمت وشعرت بفراغ عظيم وألم عميق.
كنت أفكّر بأنّ الجميع على الأرض كانوا يعتقدون بأنّني متُّ برائحة القداسة، ربّما كانوا يتوقّعون حتّى طلب شفاعتي. وانظروا أين كنت أحطّ! رفعت عينيّ والتقى نظري نظر أمّي. صرخت نحوها، بألمٍ حادّ: أُمّي، كم أنا خَجِلة! لقد أُدِنْت يا أمّي! حيث اذهب، لن أراك ثانية أبدًا!”
في تلك البرهة، مُنِحت نعمة رائعة. كانت تقف من دون أن تتحرّك لكن أصابعها أخذت تُسدِّد نحو العُلى. انفصلت قشرتان بألمٍ عن عينيّ: العمى الروحيّ. إذاك رأيت ثانية لحظة من حياتي الماضية، عندما قال لي أحد مرضاي يومًا: “دكتورة، أنّك ماديّة جدًّا، وسوف تحتاجين يومًا إلى هذا: في حال خطر داهم، أُطلبي من يسوع المسيح أن يكسوك بدمه، لأنّه لن يتخلّى عنك أبدًا. لقد دفع دمه ثمنًا لأجلك”. أخذت أنتحب، بخجلٍ هائل: “أيّها الربّ يسوع، أشفِقْ عليّ! إغفِرْ لي، إمنحني فرصة ثانية!” وانفتحت لي أجمل لحظة في حياتي، لا أملك كلمات لأصفها. أتى يسوع وأخرجني من البئر. رفعني وانبطحت كلّ تلك المخلوقات الرهيبة أرضًا. حين وضعني، قال لي بكلّ حبّه: “سوف تعودين إلى الأرض، أمنحك فرصة ثانية”. لكنّه أوضح أنّ ذلك لم يكن بسبب صلواتي عائلتي. “عدلٌ من جانبهم التضرّع لأجلك. إنّما ذلك بفضل تشفّع كلّ الذين هم غرباء عنك وقد بكَوا وصلّوا ورفعوا قلوبهم بحبّ عميق لك”. رأيت الناس الذين كانوا يصلّون لأجلي. إنّما كانت هناك شعلة أكبر بكثير، تلك التي كانت تمنحني أكثر نورًا، تلك التي ينبعث منها الحبّ الأكثر. كنت أُحاول تمييز مَن كان ذلك الشخص. فقال لي الربّ: “إنّ مَن يحبّك إلى هذا الحدّ حتّى لا يعرفك”. وشرح لي أنّ ذلك الرجل رأى قصاصة صحافة بالأمس. كان فلاّحًا فقيرًا يسكن عند سفح السييرا نيفادا سانتا مارتا (Serra Nevada de Santa Marta) (شمال شرق كولومبيا). ذلك الرجل المسكين ذهب إلى المدينة ليشتري سُكّر قصب. وعُبّئ السكّر في ورق صحيفة ورأى صورتي، وأنا محترقة كلّيًّا. عندما رآني الرجل هكذا، حتّى من دون أن يقرأ المقال كاملاً، خرّ على ركبتيه وبدأ ينتحب بحبّ عميق. وقال: “أيّها الربّ الإله، أشفِق على أختي الصغيرة. يا ربّ، خلّصها. أنظر، يا ربّ، إذا خلّصت أختي الصغيرة، فإنّني أعِدك بأنّني سوف أحجّ إلى معبد ربّنا في بوغا (Buga) (جنوب غرب كولومبيا)، إنّما أرجوك، خلّصها”. كان يملك بدلاً من ذلك قدرة على الحبّ، وكان يعرض نفسه لعبور منطقة لأجل أحدٍ ما لم يكن حتّى يعرفه! وقال لي الربّ: “هذا هو حُبّ القريب!” وأضاف: “ستعودين وتُردّدين لا ألف مرّة، بل ألف ألف مرّة ذلك. والويل لِمَن لن يتبدّلوا بعد سماعهم شهادتك، لأنّهم سوف يُدانون على نحو أقسى، كما أنت عندما تعودين إلى هنا يومًا، كذلك بالنسبة إلى مُسحائي الكهنة، فليس أسوأ من الصمم إلاّ عندما نرفض الاستماع”!
وهذا ليس تهديدًا، يا إخوتي وأخواتي. لا يحتاج الربّ إلى تهديدنا. هذه فرصة تُعرض لكم، ولله الشكر، فقد عشت ما لزمني أن أعيشه. حين سيموت كلّ منكم وينفتح كتاب حياته أمامه، سوف تَرون كلّ ذلك كما رأيتُه. وسوف نلتقي كلّنا كما نحن، الفارق الوحيد هو أنّنا سوف نشعر بأفكارنا في حضرة الله، والأجمل هو أنّ الربّ سيكون في مواجهة كلّ منّا، “متسوّلاً” دومًا اهتداءنا، لنغدو مخلوقًا جديدًا معه، لأنّنا لا نستطيع أن نفعل شيئًا من دونه.
ليبارك الربّ كُلاًّ منا بوفرة! المجد لله! المجد لربّنا يسوع المسيح!
من كتاب : القدّاس الإلهي
أسرار تكشفها السيّدة العذراء
أوّل مرّة للرائية كاتالين
Discussion about this post