الفن الكنسي بالأردن
في العهد العثماني
لهولندي بيتر جيرتس
في بلدة الحصن (1906 – 1911)
د.هند غسان أبو الشعر
ذات أمسية شتوية باردة والعالم يحتفل بعيد الميلاد، وقفت أتطلع باندهاش إلى الجدارية الملونة في كنيسة اللاتين بالحصن، كنا نقضي عيد الميلاد ببيت جدي، وعندما انتهى القداس الاحتفالي الليلي، أخذتني جدتي قريبا من اللوحة الجدارية، وأشارت إلى أحد أشخاص اللوحة، وقالت باعتزاز:
– هذا جد والدك!
ولما كنت في السابعة من العمر، لم تَعْنِني المعلومة كثيرا، كانت ميولي الفنية المبكرة تشدني للتطلع إلى أول جدارية فنية أراها في حياتي، وعندما عدنا في منتصف الليل إلى بيت جدي، كنت أصعد الدرج وصورة الجدارية التي يتراقص قريبا منها نور العشرات من الشموع الاحتفالية، يسيطر علي، وبقيت الجدارية هاجسا ولغزا يحيرني.
– رسمها فنان إيطالي!
هذا ما قالته الجدة ردا على سؤالي، كان كل ما يعنيها من الجدارية أن تؤكد لي أن صورة الجد مرسومة على حائط كنيسة اللاتين، وبقيت الصورة في الذاكرة حتى قررت اختيار دراسة منطقة إربد وجوارها موضوعا لأطروحة الدكتوراه، وعادت اللوحة الجدارية تبرز من حنايا الذاكرة لتتحول إلى بحث أكاديمي، ولتنفتح أمامي ذاكرة الزمن العثماني في الحصن، وحكاية اللوحة الجدارية، ولأكتشف أن معلومة جدتي عن جنسية الفنان غير صحيحة، وهذا يعني أن الناس اعتادت أن تربط الفن الديني بالإيطاليين، وهي مسألة مبررة، لأن الطائفة اللاتينية ترتبط بروما، ولأن أول كاهن لطائفة اللاتين في الحصن كان إيطالياً هو الأب ثيوبالدي نافوني، وهو مؤسس أول مدرسة للطائفة في الحصن العام 1885.
من هنا نبدأ قراءة ذلك الزمن الذي حضر فيه الفنان الهولندي جيرتس صاحب اللوحة الجدارية، والذي أقام في الحصن ما بين العامين 1905 و1911.
بناء الكنيسة أولاً
شهدت الفترة الواقعة بين العامين 1885 و1918 صراعا حقيقيا في بلدة الحصن بين الطائفة الأرثوذوكسية الأم في كل بلاد الشام، والطوائف الكاثوليكية والبروتستانتية، إذ بدأ بعض أبناء الحصن من الأهالي الذين يدينون كلهم بالأرثوذوكسية بالتحول إلى الكاثوليكية وأحيانا إلى البروتستانتية، وانعكس هذا الأمر على التعليم وبناء الكنائس، فتنافست الطوائف الجديدة والطائفة الأم على فتح المدارس واجتذاب الطلبة، وعلى بناء الكنائس لإقامة الصلوات على الطقوس الجديدة.
ويحمل الأرشيف العثماني الرسمي صورة واضحة لهذا الصراع، وقد ساندت الدولة العثمانية الطائفة الأرثوذوكسية، وبالمقابل ساند رؤساء الطائفة ورجال الإكليروس فيها الدولة العثمانية، بدءا بالمقر المسكوني في أسطنبول (الآستانة عاصمة الدولة العلية)، وكان الصراع واضحا في ثمانينات القرن التاسع عشر في الحصن، ويبدو من السجل الكنسي العثماني الرسمي (1869) أن السلطان أصدر حكما إلى والي سوريا حمدي باشا وإلى متصرف سنجق حوران وإلى نائب مفتي قضاء عجلون وأعضاء المجلس بالموافقة على طلب طائفة الروم لإعادة بناء كنيسة أخرى جديدة فوق أرض ملك يكون طولها 25 ذراعا وعرضها 20 ذراعا وارتفاعها 13 ذراعا وذلك في العام 1888، واشترط الفرمان على أن يكون المحل الذي ستقوم عليه الكنيسة مستقلا للطائفة.. وليس داخلا ضمن محلة الإسلام أو في أراضي الوقف.. وإن نفقات الإنشاء ستجري تسويتها طبقا للقواعد والأصول، وأكد الفرمان على عدم جمع أموال من الطائفة المذكورة عنوة أو إزعاجهم، وبالفعل تم بناء الكنيسة وعرفت باسم “كنيسة مار جورجيوس”.
وكان بناء الكنيسة الجديدة على أنقاض الكنيسة القديمة التي أصبحت آيلة للسقوط، وذلك في محاولة من الكنيسة الأرثوذوكسية لتثبيت أبناء الطائفة خوفا من انشعابهم للطوائف الأخرى، وكانت جماعة من الطائفة انشقت عن الكنيسة الأرثوذوكسية في الحصن، وكاتبوا البطريركية اللاتينية في القدس وطلبوا منها تزويدهم بكاهن يرعى جماعتهم، وأكدوا للبطريرك في القدس أنهم أكثر من 300 مسيحي في الحصن يرغبون بإقامة الطقس الكاثوليكي بدلا من الطقس الشرقي، فحضر الأب الإيطالي نافوني إلى الحصن العام 1885، وبدأت في العام نفسه إجراءات فتح المدرسة التابعة للطائفة، فأحضر الأب نافوني مدرّسة من الناصرة تدعى مريم أصيلة، وبمساعدة الأب مشيل كرم (وهو من الناصرة) والأب إلياس شيحا الدمشقي، تم تأسيس مدرسة اللاتين في الحصن، وضمت 110 طالبا وطالبة، وتمت دعوة راهبات الوردية إلى الحصن للإشراف على المدرسة، فحضرت ثلاث راهبات عربيات منهن الراهبة الفلسطينية سلطانة، وهي أول راهبة فلسطينية، مع راهبات الوردية، وقد خلف الأب نافوني في الحصن كاهن من أهالي مالطه اسمه الأب كارميلو أتارد، وبقي فيها راعيا للطائفة ومشرفا على المدرسة حتى العام 1892 عندما وصلها الأب الهولندي أدريانوس سمتس كاهنا لرعية الحصن، وبقي فيها حتى العام 1910.
ومع قدوم الأب سمتس بدأت مرحلة جديدة في حياة أبناء الطائفة الذين سموا سمتس: “أبونا جوزيف”، وهو الكاهن الذي تبنى مشروع بناء كنيسة للطائفة، وقد تقدمت الطائفة بطلب رسمي لبناء الكنيسة وحصلوا على الفرمان الرسمي بالبناء في العام 1902 في 17 ربيع الثاني 1298 هـ/ الأول من آب 1902 م، حيث نص الفرمان الموجه إلى والي سوريا حسين ناظم باشا وإلى متصرف سنجق حوران إبراهيم باشا وإلى أعضاء المجلس بالموافقة على الطلب المقدم للحصول على الرخصة لإقامة كنيسة جديدة لطائفة اللاتين المستوطنة في قرية الحصن إحدى ملحقات قضاء عجلون الواقع في سنجق حوران. حيث تبين أن الكنيسة ستقام على عرصة كانت تحت تصرف إلياس شيحه الرئيس الروحاني لطائفة القرية، وأنه حصل قبل ذلك على رخصة لإقامة دار فوقها وتبلغ مساحتها المعمارية 3019 ذراعا عتيقا، ويؤدي عنها إيجارا سنويا قدره 25 قرشا، وستكون الكنيسة بطول 28 ذراعا معماريا وعرضها 20 ذراعا معماريا وبارتفاع 16 ذراعا معماريا، وتبنى من أطرافها الأربعة بالحجارة، ويكون سقفها من الخشب ويضم بابا واحدا وست نوافذ، وتم تقدير نفقات الإنشاء بـ(55979) قرشا من صندوق إعانة الطائفة، وبين الفرمان أن الطائفة في الحصن تضم 450 شخصا من الإناث والذكور وأنهم يمثلون 65 خانة (أسرة).
وختم الفرمان بالنص التالي: “وأنتم أيها الوالي وسائر المومى إليهم، عليكم الحذر الشديد من الوقوع في حالات مثل الاعتراض على إقامة الكنيسة المذكورة، شريطة التقيد بالمقاييس المبينة أعلاه.. وعليكم عدم القيام بجمع الأموال عنوة من هذه الطائفة أو إزعاجهم بأي صورة، والحرص الشديد على تجنب الوقوع في ما يخالف ذلك”.
الأب سمتس
نظرا للدور الذي لعبه هذا الكاهن الهولندي في حياة أهالي الحصن، في إصراره على بناء الكنيسة وتزيينها بالجداريات الفنية، سنعرض هنا لشخصيته وسيرته. فهو من مواليد قرية دوميلين في جنوبي هولندا العام 1867، تلقى تعليمه الثانوي عند الجزويت في تورينهوت وسافر بعدها إلى القدس حيث تلقى دراسته في البطريركية اللاتينية بالقدس ودرس الفلسفة والعقائد، وتم تعيينه العام 1892 كاهنا مساعدا في أبرشية الحصن بعد وفاة الأب ثيوبالدو نافوني، وأصبح في العام 1897 كاهنا للرعية وبقي في منصبه حتى العام 1910.
هذا يعني أنه قضى زمنا طويلا في الحصن، وكان يرسل لعائلته في هولندا رسائل يتحدث فيها عن مقر أبرشيته وعن الأهالي في الحصن، وقد صمم على بناء كنيسة لرعيته، بمساعدات وتبرعات من مواطنيه في هولندا، ونشر المقالات في الصحف الكاثوليكية وبفضل جهوده الكبيرة تمكن من جمع مبلغ يوازي 8000 دينار أردني بحساب اليوم، وهو بالتأكيد مبلغ كبير آنذاك.
وقد تحدث سمتس في مقابلاته ومقالاته للصحافة الغربية عن الطائفة في الحصن وعن المدرسة لضمان جمع التبرعات، وكان الأب سمتس مقربا ومحبوبا من الأهالي، وقد تحدث عن موقف الحكومة المعادي من فتح المدرسة، حيث كانت تمنع الطلبة من المسلمين من دخول مدرسة اللاتين في الحصن، وقامت بفتح “مكتب” رسمي للتدريس، لكن سمتس يؤكد أن الأهالي من المسلمين والمسيحيين قاوموا التدريس الرسمي، وأدخل المسلمون أبناءهم في مدرسة اللاتين خوفا من الخدمة العسكرية الإجبارية، وربما كان على حق في هذا، لكن علينا أن نتذكر أن مدرسة اللاتين كانت تدرّس بالعربية، في حين كان المكتب يدرّس بالتركية.
تزيين الكنيسة بالجداريات
بعد الانتهاء من بناء الكنيسة، دعا الأب سمتس مواطنه الهولندي بيت (بيتر) جيرتس للقدوم إلى الحصن لتزيين الكنيسة الجديدة، وجيرتس من مواليد نيجيميجن في العام 1878، كان والده نجارا ماهرا أرسله إلى أمستردام لدراسة هندسة العمارة، لكنه وبعد عام ذهب إلى انتويرب لمتابعة دراسته في الأكاديمية الملكية للفنون، وبعد عودته إلى مسقط رأسه في نيجيميجن وأثناء وجوده في أمستردام أيضا مال جيرتس للفنون الدينية، ومع أنه كان مولعا برسم الجداريات، إلا أنه كان مهتما بفن بناء الكنائس أيضا.
وفي العام 1905 قام برحلته الأولى إلى فلسطين مدفوعا بميوله الدينية، وهناك التقى بالأب سمتس مواطنه الهولندي الذي دعاه للقدوم إلى شرقي الأردن، وقد سافر بالقطار من هولندا إلى القسطنطينية عاصمة الدولة العثمانية، ومن هناك وصل إلى المزيريب في حوران، وركب الخيل من المزيريب لمدة أربع ساعات فوصل الحصن في أيار 1906، ولم يغادرها إلا العام 1911.
ومع أن الدعوة كانت لتزيين كنيسة الحصن، إلا أن الفنان الهولندي زين أيضا كنائس في السلط والرميمين، وكان هدفه من الإقامة الطويلة في شرقي الأردن دراسة نمط الحياة القريبة من فلسطين، ورسم الإسكتشات اليومية لحياة الناس لجمع كل ما يمكن جمعه لبناء متحف خاص بالحياة التوراتية في قريته نيجيميجن.
كان جيرتس نشيطا في تزيين الكنيسة وفي رسم الإسكتشات لحياة الحصن وأهاليها، وكان يرسل رسوماته لتنشر في هولندا، وقد جمعها لاحقا في متحف قريته الذي يضم اليوم كل ما جمعه من ملابس وموجودات البيوت ومظاهر الحياة اليومية وكل ما رسمه في الفترة التي قضاها بالحصن، ومن الموجودات الثمينة مجموعة الصور الفوتوغرافية التي صورها جيرتس للحصن وأهاليها بشكل خاص ولعموم المناطق التي زارها في الأردن وفلسطين ما بين العامين 1905 و1911. ولشدة إعجابه بالحياة في الأردن بنى لنفسه عند عودته إلى قريته في هولندا بيتا على الطراز الذي رآه في الحصن، وكان يستقبل الناس هناك وهو يلبس الثياب المحلية لأهالي الحصن، ومن المعروف لدى الأهالي أن جيرتس لبس ملابسهم المحلية منذ قدومه للحصن، وتدرب على ركوب الخيل حتى أصبح خيالا ماهرا، واندمج تماما مع الحياة اليومية طوال مدة إقامته التي استمرت خمس سنوات متتابعة.
جيرتس وإنتاجه الكنسي
منذ وصول جيرتس إلى الحصن، بدأ يرسم إسكتشات لكل ما يراه من يوميات، واستهوته ملابس النساء وملامح الأطفال، وأصبحت هذه الإسكتشات الأساس الفني لجدارية الكنيسة، وقد اقتنع الفنان والأب سمتس معا، بأن نماذج الجدارية يجب أن تكون محلية لتجذب أبناء الرعية، وأنه لو تم رسم النماذج الكنسية التقليدية التي تمثل الملامح الغربية، فإنها ستكون بعيدة عن روح الناس، لذا اجتهد جيرتس وجعل عدداً من الأهالي شخوصاً في الجدارية، وهو ما ظل الناس في الحصن يتداولونه، وهو ما أخبرني به الأب المرحوم نعوم كرادشة عندما زرته في الدير للاطلاع على أرشيف مدرسة اللاتين التي تعود إلى العام 1885، وأكد لي أن جد أبي سليم أبو الشعر وزوجته من شخوص الجدارية.
وقد عزز هذا الرأي لدي تشابه الملامح مع الصور المحفوظة لدينا لهذا الجد، وكانت صلته حميمة بالأب سمتس، وقد أهدى الأب سمتس الجدَّ سليم صورته، وكانت الصورة معلقة في مضافة الجد، وقد أراني الأب نعوم الصورة معلقة في غرفة ضيافة الدير، وأخبرني أنه حصل عليها من المضافة التي أصبحت اليوم مكانا مهجورا. وبالتأكيد، فإن المتأمل لملامح الشخوص في اللوحة الجدارية سيجدها محلية بامتياز، رغم أن الفنان اجتهد وأدخل عناصر أممية مثل الهندي الأحمر الظاهر في اللوحة، وملوك الأمم، في حين امتدت أغصان شجرة الزيتون في خلفية اللوحة لتؤكد علاقتها بالأرض المقدسة، وهو اختيار ذكي وبسيط من الفنان الهولندي الذي سحرته البيئة القريبة لبيئة البلاد المقدسة.
لم يكن جيرتس فنانا كبيرا في بلاده، لكن إنتاجه الفني الذي تركه مدة إقامته بالحصن كان حيا ومعبّرا ويستحق الدراسة، فقد استلهم الحياة اليومية لأهالي الحصن في مطلع القرن العشرين، ويبدو للدارس تميز الفنان بألوانه التي تلتصق ببيئة قرية أردنية تعيش على الزراعة مصدرا، وقد ظهرت شجرة الزيتون في غالبية خلفيات أعماله، كما ظهرت صورة الجمل الذي استحوذ على اهتمام الفنان الهولندي، وبرع في رسم إسكتشات يظهر فيها الجمل بإتقان، وكانت خلفية قرية الحصن بسهولها وتلالها تلوح في خلفيات لوحاته التي تنتشر فيها أغصان الزيتون.
أما ما اجتذب جيرتس فكان ملابس النساء وملامحهن الشرقية الهادئة، كما أعطى لأطفال القرية مساحة كبيرة في رسوماته، وكانت اللوحات تزخر بالأطفال الذين تحملهم الأمهات، أو الذين يتعلقون بأيدي أمهاتهم أو يمسكون بثياب الأمهات، واجتهد بمتابعة أعمال النساء وأهمها غزل الصوف، فالنساء يحملن المغزل في أيديهن وهن يلبسن ثيابا ملونة، لكن الفنان لم يبرز التطريز والجزئيات في الملابس، وكانت غالبية الوجوه جانبية وليست مواجهة، وكلها تبدو كأنها في حال تأمل وخشوع، ذلك أن هذه الوجوه كانت مرسومة على جداريات كنيسة، كما أن الشخوص تقف عادة في صف متتابع وتتجه نحو جانب واحد كأنها تنظر إلى النور وإلى ناحية النور الذي يمثله السيد المسيح.
الخطوط العربية في الجداريات
يلفت الانتباه وجود آيات من الكتاب المقدس مكتوبة على إطار الجداريات بالخط العربي، ولا ندري إن كان الفنان الهولندي هو الذي نقشها، أم إنه تمت الاستعانة بخطاط، لكن الخط المحيط بالجدارية قرب اللوحة من مدارك الأهالي بكل تأكيد، وقد كرر جيرتس لوحة رجم اليهود للسيد المسيح بالحجارة في كنيستي الحصن والرميمين، وأحاط الجدارية بالآية الواردة في إنجيل متى: “يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين” (الآية 23 ? 37)، في حين كتب في أعلى اللوحة: “ثم جثا على ركبتيه وصرخ بصوت عظيم: يا رب لا تقم عليهم هذه الخطيئة”.
الخطوط في اللوحات جميلة، ونظن أن الأب سمتس استعان بخطاط لهذا الغرض، من دون أن نجزم بهذا. أما أجمل اللوحات التي تستوقف المرء فهي صورة السيدة العذراء مريم تنوح على ابنها المصلوب وتحتضنه في حضنها، وقد أكد جيرتس أنه استوحى المنظر من رؤيته لامرأة بدوية كانت تنوح على ابنها الميت وهي تحتضنه بشدة، وهي من اللوحات المؤثرة التي تشير إلى استلهام الفنان للبيئة المحلية في الحصن خلال تنفيذه لأعماله ولوحاته الجدارية.
ملامح الحياة اليومية بالحصن
من أبرز الملامح اليومية التي استوقفت الفنان الهولندي، الجِمال التي تنقل الحبوب التي تُزرع في الحصن، والنساء اللواتي يحملن المغزل، والرعاة من الرجال مع قطعانهم، ولفت انتباهنا الإسكتش الذي يمثل الأرملة وهي تدخن الغليون الطويل، والصبية التي تعزف على الربابة، والعربي الذي يدق القهوة بالمهباش، وتبدو قربه المحماسة وهو يعتمر العقال العربي العريض، ومجموعة الطلبة الذين يجلسون أمام الكنيسة الجديدة.
ويبدو أن جيرتس نقل الملامح اليومية التي رآها في بناء البيوت إلى لوحاته الجدارية في قريته بهولندا، فرسم المصطبة والعقود والطاحونة اليدوية والجرار ومطوى الفراش والصندوق الشامي المزخرف والقنديل والكوارة الطينية التي تحفظ القمح، وجرة الزيت الكبيرة.. كل هذه الجزيئات اليومية التي عايشها الفنان الهولندي في الحصن، أصبحت من جزئيات جدارياته في أعماله بهولندا في العشرينات والثلاثيات من القرن العشرين.
جيرتس في هولندا
بعد عودة الفنان إلى قريته، تزوج في العام 1913، وأنجب 8 أبناء، وبنى لنفسه بيتا على الطراز العربي، وجعل فيه مضافة يستقبل بها زواره وهو بالملابس التي أخذها معه من الحصن، وكان أطفاله أيضا يستقبلون الزوار بملابس أطفال الحصن، ويبدو أن طراز البناء الذي أدخله الفنان الهولندي إلى قريته ترك أثره في البيوت المجاورة لبيته، وظهرت ثلاثة بيوت قريبة منه بطراز عربي! وقد توفي الفنان في كانون الثاني 1957 في هولندا بعد أن جُرح في الحرب العالمية الثانية، وبعد أن دمرت الحرب جزءا من المتحف الذي أعده بجهود كبيرة في قريته.
هذا هو الفنان الذي أحب الأردن كثيرا، والذي ما تزال أعماله على جدران كنائس الحصن والسلط والرميمين، وهذه المحاولة للتعريف به تؤكد أن على المهتمين والدارسين للفنون التشكيلية في الأردن دراسة الفن الكنسي لدينا، والاهتمام به، ولا أدري لماذا لا تتم متابعة ما تركه الفنان الهولندي في قريته وتوثيقه لدينا..
إن ما تركه هو ذاكرتنا نحن، وهو يستحق العناية الرسمية من وزارتَي الثقافة والسياحة معا، والسلام على روح هذا الرجل الذي أحبّنا وترك لنا أنفاسه على الجدران، وعسى أن نحافظ عليها.. أقول عسى..
No Result
View All Result
Discussion about this post