الشباب وتحدّّيات الألف الثالث
جورج يرق
ما الذي ينتظر الشباب من تحدّياتٍ في الألف الثالث ؟
أرى أنها أربع:
أولاً :التحدّيات الثقافية
فالسؤال يطرح نفسه بقوة: ما الذي ستكون عليه ثقافة الألف الثالث أو أقله ثقافة المئة سنة الأولى منه؟
1- من الواضح أنها ستكون ثقافة المعلوماتية، والنظم المتعددة للإتصال Multimedia. فالكتاب، كمروِّج ثقافي، مرشحٌ لأن يُستبدَل بشاشة الكومبيوتر، ودور النشر بالمتصفّحات العملاقة Proxies التي، عن طريق الإنترنت، ستنشر ثقافة الألفية القادمة. ونتساءل بعد ذلك: هل ستبقى ثمة حاجة للقلم أو للجريدة والمجلة أوغيرها من الأدوات غير المصنوعة من السيليكون كما هي حال رقائق أجهزة الكومبيوتر microprocessor الحالية؟
2- وتطالعنا تباشير الألف الجديد بثورة علميّة أخرى لا تقل أهمية عن ثورة المعلوماتية هي الطب الجينيّ Médecine génétique. فحين سيكتمل مشروع رسم خريطة التركيب الجينّيgénome humain للموروثات البيولوجية للإنسان ADN، فإن الكثير من موروثاتنا الثقافيّة ستتبدّل. وليس الإستنساخ سوى أبسط أُطُر التدخل في قواعد الموروث الجيني code génétique.
وما قانون تموز 1999 الفرنسي حول التشخيص المُبكر السابق للزرع الجيني diagnostic préimplantatoire المعروف بـ DPI سوى إشعار بأن الحرية التي تُعطى للطب في تعاطيه مع مستقبل إنسان الألف الثالث تمتد مساحتها شيئاً فشيئاً. فبموجب DPI، أصبح ممكناً إجراء تشخيص على الجنين في لحظات تكوّنه الأولى In vitro للتأكد من عدم وجود أمراض وراثية غير قابلة للشفاء عنده، ومن ثمّ البحث في إمكانية زرعه في رحم الأم أم لا.
3- وفي السياق نفسه، فإن علم دراسة الخلايا الدماغية والأعصاب neurobiologie ينتظر هو الآخر مستجداتٍ واستكشافاتٍ مثيرة، ستغيّرُ حتماً من طريقة فهمنا للذكاء الإنساني وللأداء البشري تالياً.
فحين ستغدو بعض خفايا المناطق المجهولة من دماغنا معروفةً، سنتساءل : هل إن أدمغة الألف الثالث وأدمغة الشباب تخصيصاً- ستبقى على ما كانت عليه في الألف الثاني؟ هذا من دون أن نستطرد عن الأدمغة الألكترونية.
4- أما علم الفضاء cosmologie والفلك – أي علم الفيزياء الفلكية astrophysique وليس التنجيم والأبراج astrologie طبعاً فإنه يخطو هو الآخر خطواتٍ جبّارة نحو تأكيد النظريات الكوسمولوجية كنظرية النسبيّة العامّة relativité générale d Einstein، ونحو غزو الفضاء الخارجي، وصولاً لتنظيم رحلات سياحية إلى المريخ ابتداء من الربع الأول للقرن المقبل يتمّ الإعلان عنها حالياً على صفحات الإنترنت. ولسوف نتساءل : هل التكاليف الباهظة التي ترصدها الدول الصناعية لمشاريع الفضاء، تستأهل أن نفكر بقضاء عيد الميلاد على كوكب المريخ سنة 2025 مثلاً ؟!
وبالإجمال، فإن تكن ثورة الألف القادم علميّة الطابع فإنها، مع ذلك وربما بسببه، تطرح علينا تحدياً ثقافياً ملحاً: أي مكان سيبقى للفلسفة والشعر واللاهوت والأدب والمسرح في ثقافة الأجيال المقبلة ؟ ومن هو الذي سيروِّج ويسوِّق معرفتنا المستقبلية، ويراقبها (إذا كان ثمة مراقبة ممكنة بعد)، ويحميها من الخليط الثقافي المتعاظم يوماً بعد يوم ؟
وهل ستبقى الحقيقة واقعاً راهناً أم ستضحي ، شأنها شأن ألعاب الكومبيوتر التي يتهافت عليها شبابنا ، حقيقةًً افتراضية Réalité virtuelle ؟
وفي كل الأحوال، لا بد لشباب الألف الثالث من معالجة هذه الأسئلة لأن العصرَ سيكون عصرُهم، ولأن القرار سيكون حينها بأيديهم.
ثانياً : التحدّيات الإجتماعية
1 – يبدو واضحاً لمن يتأمل خريطة عالمنا اليوم، أنه مقسوم إلى عالمين: عالم الأغنياء وعالم الفقراء. عالم الأغنياء هو عالم نصف الكرة الشمالي (أوروبا الشمالية-أميركا الشمالية- اليابان)، وعالم الفقراء هو عالم نصف الكرة الجنوبي ( أميركا الجنوبية- إفريقيا- دول البلقان…). وتلعب التكنولوجيا المتقدمة دوراً هاماً في جعل الأغنياء أكثر غنى والفقراء أكثر فقراً. مما يضع الشباب في مأزق الهجرة التي لا بد منها صوب بلدان الشمال حيث تتجمع الأدمغة في الجامعات ومراكز البحث والشركات، في حين تضحي بلدان الجنوب مجرد حقول لاستخراج المواد الأولية، أو لتشغيل اليد العاملة بكلفة أقل أو .. مكاناً للإستجمام والسياحة ليس إلا.
2 – إن الفارق بين الشمال والجنوب ليس فقط مادةً للإعلان السياحي، بل يزيده اتساعاً بُعدٌ اجتماعي آخر له طابع حضاري تاريخي. فبنظر الكثيرين أن الحضارة التي ولدت في الشرق ( الأقصى والأوسط) منذ ما قبل المسيح دون شكّ، وترعرعت في أوروبا المسيحية حتى بداية القرن العشرين، يبدو أنها تعيش مراهقتها اليوم في أميركا. والشباب،في كل العالم، منجذبون إلى المثال الأميركي الذي يفرض سيطرته عبر وسائل الإعلام. مما يطرح تحدياً مهماً : أليس للشباب الحق في أن يكون لهم مثالٌ آخر (modèle ) غير المثال الأميركي ؟ وهل صحيح أن الموسيقى التي تلائم شباب القرن المقبل هي موسيقى الولايات المتحدة الأميركية وحدها ؟ أو أن اللغة التي لا غنى عنها للحضارة هي اللغة الإنكليزية ؟
وإذا إفترضنا أن مقولة مركزيّة الحضارة صحيحة، فما هو مصير حضارات شعوب المجاهل الأفريقية وأميركا اللاتينية والصين ذات المليار ومئتي مليون نسمة ؟ وما هو دور شباب هذه الحضارات والمكان المُتاح لهم في صنع حضارة الألف الثالث القادم إن لم يهاجروا صوب الشمال ؟ !
3 – أما إذا نظرنا إلى سياسة الألف الثاني المنصرم فإننا نرى أنها سياسة اندثار الأمبراطوريات والممالك وقيام الجمهوريات، فحتى الدكتاتوريات الشعبية (كالشيوعية مثلاً) انهارت تحت وطأة الأدلجة idéologisme السياسية.
كما أن قرناً واحداً لم يمر دون أن يشهد حركة عنيفة عدوانية إما على شكل حرب، أو إجتياح، أو فتحٍ باسم الدين، أو غزو باسم الحضارة. وهذا ما يطرح على الشباب تحديا” سياسياً مهماً : هل ستسقط مقولة الحرب في القرن الواحد والعشرين أم سيظلّ الشباب وقود الحروب الدائمة ؟ وأي سياسة سيصنعها شباب القرن القادم لمن سيأتي بعدهم: هل هي سياسة الطوباويات الحالمة (كالماركسية والتشي غيفارية )، أم سياسة القهر والدم الهتلرية، أم سياسة سطوة رأس المال وسيطرة التكنولوجيا الاستهلاكية؟ وبكلمة اخرى: ما الذي سيكون عليه سياسيّوالألف الثالث الشباب؟
4 – أما على الصعيد السوسيولوجي البحت فإن ما ينتظر الشباب كبير: فالعائلة، كمفهومٍ وواقع، تبدو معرَّضة للزوال بكل بساطة، في ظل السماح بالإنجاب من دون رابط زواج les mères célibataires ، والقوانين التي ترعى حرية زواج المثليين homosexuels (ومنها مثلاً قانون PACS في فرنسا).
ما يعني أن مفهوم الأبوّة والأمومة لن يبقى على ما هو عليه. وبما أن شباب اليوم هم آباء وأمهات المستقبل، فإن سؤالاً كبيراً ينتظرهم : كيف يستعدّون، وماذا نفعل لهم نحن، ليكونوا آباء الألف الثالث الذين سيصنعون مجتمع القرن الحادي والعشرين لأبنائهم ؟
ثالثاً: التحديات التربوية
1 – يطرح القرن القادم علينا،شباباً وبالغين، نظاماً جديداً للتعلّم. فاللوح الأسود سيُستعاض عنه بشاشة الكومبيوتر، ولن يعود حضورالأستاذ الشخصي ضرورياً إذ يكفي أن ينشر محاضرته على الإنترنت لكي يحصل عليها كل من يودّ متابعته، في أي مكان وفي أي وقت، مع إمكانية محادثته chating بالصوت أم بالصورة من وراء الشاشة. فعلاوةً على تلاشي المكان délocalisation والزمان détemporalisation، أصبح “التلميذ” ليس فقط مستمعاً بل ومشاركاً أيضاً في نقل المعلومة ونشرها، كما وفي نشر معلومته الشخصيّة في الموضوع ومشاركتها، ليس فقط مع العشرات بل مع الألوف من المهتمين بالموضوع Discussion group، إضافةً لإتصاله السهل عبر الوسائط المتعددة multimedia “بالأستاذ” ومناقشته. وسيصبح بإمكان أي كان أن يبقى في منزله ويحصل على ما يودّ من معلومات، ويجري بالطريقة الإفتراضية virtual reality أي اختبار علميّ فيزيائي أم رياضي أم كيميائي وحتى بيولوجي كتشريح جسم افتراضي مثلاً.
هذا النظام دُعي أولاً ” اليد في العجين” hands on وبالفرنسية la main dans la patte، ليصير، مع دخول الإنترنت، الجامعة الإفتراضية université virtuelle والمدرسة الإفتراضية أيضاً. ما يطرحه هذا النظام من تحدٍ هو إمكانية تغييب بل وإلغاء العلاقة الشخصية بين المعلم والتلميذ. فعن قليلٍ وتصبح التربية هي أيضاً وظيفة الآلات!
ولكن التحدّي الأكبر هو كيفية إفهام الطلاب، وخاصة صغار السن منهم، أن الواقع المُعاش هو غير الواقع الإفتراضي المرئي على الشاشة … فعلى سبيل المثال، إن تعلّم قيادة السيارات بالطريقة الإفتراضية لها مزاياها وسهولتها، إلا أن حوادث السير بين المراهقين تدل على إن نسبة كبيرة منهم تدرّج على قيادة الفورمولا واحد الإفتراضية 3D Formula One ، والتي يلزمها مقود ” افتراضي” فقط لنشعر كما لو أننا داخل سيارة سباقٍ فعلية، لكن هؤلاء المراهقين لم ينتبهوا أن القيادة في طريق واقعية réelle لا يمكن أن تكون هي نفسها من وراء شاشةٍ كلُّ ما فيها غير واقعي virtuel.
2 – وهذا يقودنا إلى تساؤل آخر : ما هي الشخصية التي سيتربّى عليها جيل القرن الواحد والعشرين؟ ومن هو الشاب النموذجي الذي بدأت تتكون ملامح صورته في نهاية هذا القرن ؟
من الواضح أنه لن يكون ذاك الشاب المزارع الساكن بهدوء في الجبل بل هاوي الكومبيوتر- ذي النظارات ربما، الراكض وراء آخر أخبار البورصة أو الرياضة أو…القابع في أحد مقاهي الإنترنتcybercafé . وكيف يمكن ألاّ يقارن شباب الغد أنفسهم بأغنى رجل في العالم، الشهير Bill Gates صاحب مايكروسوفت الشهيرة هي أيضاً، والذي تبلغ ثروته الشخصية 90مليار دولار وهو ما يزال في الخامسة والثلاثين من عمره؟
3 – أما البيئة فإن ما ينتظرها في الألف القادم يتراوح بين نقيضين: إما الإهمال أو العبادة. فاستغلال الموارد البيئية يبدو بلا رادع عند البعض إلى حد استنفاد المخزون الطبيعي دون الإهتمام بآثاره السلبية كالتلوث مثلاً..وعند البعض الآخر تبدو قضايا البيئة موضوع إيمان وإضاءة شموع وإلتزام إلى حد الإستشهاد. ويتحمس الشباب للإنضواء تحت لواء الجمعيات البيئية. ويبدو بعضهم متحمسين لدرجة يصح معها التساؤل : هل ستكون التربية على احترام البيئة نظام الألف الثالث التربوي الجديد ؟ أم ديانته الجديدة؟
4 – أما التربية على السلام والغفران والمصالحة فسوف يكون لها أيضاً من ينافسها. فبناء حضارة تقوم على المحبة لا على البغض ليس بالأمر التربوي السهل في وقتٍ تـُعوّدنا فيه كبسة الفأرة الإلكترونية clic على إزاحة كل من لا يعجبنا من الدرب!
5- وتبدو الحركات الطالبية كأنها قد فقدت زخمها. فالثورات التي أشعلها الطلاب في أوائل القرن العشرين من أجل العدالة والمساواة والإخاء ووحدة العمّال، وفي الستينات والسبعينات من هذا القرن من أجل تحرير الكثير من المفاهيم التربوية كالسلطة والجنس والنظام، تبدو كأنها تعيد حساباتها : فحلم الدولة الأممية العادلة انهار. وتشي غيفارا أكلته الثورة نفسها. والجنس لم يصِرْ أسهل وأرخص وأكثر حرية بل خضع أكثر لعوامل السوق والدعايات السينمائية والاستهلاكية، حتى كأن ممارسة الجنس نفسها أصبحت محكومة ومسيَّرة من سلطة خفيّة طالما نادى المتحررون بالخلاص منها. ولم يجدِ فلتان الضوابط الأخلاقية في جعل الوئام والسلام يعمان العالم كله كما قال مغنّو البيتلز، بل زاد معدل الجريمة والإنتحار والإجهاض وحوادث السير والسكر وجرائم المافيا والمخدرات والتهريب وتبييض الأموال والفساد في الدوائر والموت بالجرعة الزائدة overdose . وسجلت زيادة المهلوسين ومنقسمي الشخصية بين قادة الثورات
6- مما يدفعنا للتساؤل : هل أن ما شهده قرننا من ازدهار هائل للأساليب التربوية المرتبطة بالتحليل النفسي الفرويدي psychanalyse ، والتي قامت على أساس قتل الأب patricide والتحرر من ضغط الموروثات السلطوية المانعة للتحرر الجنسي، سيُكتب لها الإستمرار بعد في القرن المقبل؟ وهل أن ما يحققه علم جراحة الدماغ والأعصاب neurobiologie من تقدم باهر في شفاء أمراض كانت تعتبر مستعصية إلى أمد قريب كداء النقطة épilepsie والباركنسون وربما قريباً الهستيريا وغيرها…هو دليل على أن الحاجز البيولوجي la barrière biologique الذي قال فرويد بصعوبة اختراقه بات يعطي إشارات تفتـّتِه؟ وهل أن الطب سيشفي كل ما كان يُعتبر في القرن الفائت “حالات نفسية معقدة وشاذة”، تاركاً الكثير من النظم والنظريات والأساليب التربوية والعقائد من عقدة الأوديب إلى ثورة Fleich الجنسية في مهب الريح؟الطلابية أنفسهم.
7 – وهل سيلجأ مربّو القرن الواحد والعشرين إلى هذه الأساليب أم سيكون للتربية الجديدة مربّون جدد؟
وأخيراً وليس آخراً، هل ستبقى ثمة حاجة لإندلاع الثورات بين صفوف الطلاب أم أن الطلاب أنفسهم سيسأمون من هذا الأسلوب التربوي “القديم”؟!
Discussion about this post