مار مارون: الروحانيّة التي تجمع بين البساطة والعمق والسير في الدرب الصعب
أجمل ما فيه أنه عاشَ في الظلّ بعيداً عن الضَوضاء والأضواء. ومع ذلك، تحوّل الى نقطة استقطاب، فَتَحلّقَ حوله مَن عايَنَ حبّه الفائق الوَصف ليسوع المسيح الذي كان محور حياته واستراح في قلبه عند مماتِه. هو القدّيس مارون الذي نأى بنفسه عن المُماحكات اللاهوتيّة والعقائدية ليعيش جوهر الحياة المسيحية القائمة على الاتحاد الدائم بالمسيح وعيش المحبة بعمقها حتى انتقاله إلى الحياة الأبديّة في العام ٤١٠، فأصبح علامَةً فارقة في الحياة الرهبانيّة التي ازدهرت في الشرق في تلك الأيام.
ما وصلَنا عنه من النصوص المُوَثّقة والمَوثوق بها نادر جدًا لكنه مُعبّر. إذ وَصفَهُ تيودوريطُس، أسقُف قوروش، “بزينةَ القدّيسين الذي مارَسَ ضُروبَ التقشّفات والإماتات تحت السماء دون سقف سوى خيمة صغيرة لم يكن يستظلّها إلا نادراً. وكان هناك حيث تنسّكَ هيكل وثني قديم، فَكرّسه وخصّصه لعبادة الإله الواحد… يُحيي الليالي بذكر الله وإطالة الركوع والسجود والتأملات في الكمالات الإلهية. ثم ينصرف إلى الوعظ وإرشاد الزائرين وتعزية المُصابين… فذاعَ صيتُهُ في الآفاق كلها وتَقاطر إليه الناس من كل جانب. وكانوا جميعهم يعلمون أنّ ما اشتهر عنه من الفضائل والعجائب هو صحيح”.
شهادةٌ أخرى مُوَثّقة حفظها التاريخ لِتُعطي مار مارون الذي بقيت تفاصيل حياته مغمورة بعضاً من حقّه تَمثّلَ برسالة كتبها أحد أعلام كنيسة المسيح، القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفَمّ. إذ كتبَ هذا القدّيس المُفَوَّه مِن مَنفاه رسالةً إلى مار مارون تَعود الى العام ٤٠٤ تُعبّر عن عمق احترامه وشوقه لَهُ ومكانته المرمُوقَة في الكنيسة، جاءَ فيها:
“إلى مارون الكاهن الناسك، إنّ رباطات المَودّة والصداقة التي تشدّنا إليك، تجعلكَ تقف نُصبَ عَينَينا كأنك حاضر لدينا، لأنّ عيون المحبة تخرق مِن طبعها الأبعاد، ولا يُضعفها طولُ الزمان. وكُنّا نَوَدّ أن نُكاتبكَ بكثرة لولا مَشَقّة البُعد ونُدرة المُسافرين إلى نواحيكم. والآن، فإننا إذ نُهدي إليك أطيب التحيات، نُحبّ أن تكون على يقين بأننا لا نَفتُر عن ذكرك أينما كُنّا لِما لكَ في ضميرنا من المَنزلة الرفيعة….”. ويختم رسالته بطلبٍ عزيز على قلبه: “جُلَّ ما نسألك أن تُصلّي إلى الله من أجلنا”.
رحل مار مارون بهدوء حوالي العام ٤١٠، لكنّ روحانيّته وتعلّق أتباعه به والتطورات السياسية التي شهدها الشرق الأوسط دفع تلاميذ مارون الذين يحملون تُراثاً سريانيّاً رهبانيّاً إلى تأسيس كنيسة قائمة بذاتها متّحدة بالكنيسة الكاثوليكية التي يرأسها قداسة البابا في الفاتيكان. وكان أوّل بطريرك عليها هو مار يوحنا مارون حوالي العام ٦٨٥.
شقّت الكنيسة المارونية طريقها في مُحيطٍ تَسكُنُه الاضطرابات لتَخُوضَ فيه اختبارها الصعب. ولم يكن سَهلاً أبداً على المَوارنة أن يرفضوا بإصرار طلب فَرمان تعيين بَطارِكَتِهِم في عزّ سَطوَة وجَبَروت الأباطرة والخُلفاء والسَلاطين، فكرّسُوا في الشرق منذ نَشأة كنيسَتِهِم مبدأ “الحقّ بالاختلاف”، وقد انتزعوه في هذا الشرق بصلابتهم قبل أن يتحوّل لاحقاً إلى مبدأ إنسانيّ عالميّ.
إن أردتَ أن تتعرف إلى حقيقة شَعبٍ ما، لا يُمكنك الاكتفاء بأن تقرأ ما كتبه غيره عنه (وقد نجهل خلفيّة الكُتّاب وأهدافهم ومفاهيمهم وتجاربهم الشخصية، وحتى أجنداتهم المَخفيّة)، ولا يُمكنك التغاضي عمّا يقوله هو عن نفسه بِلسانِ نُخَبَة مُفَكّريه في معرض تعريفه عن ماهيّته، حتى وإن حمل هذا التعريف بعض المُبالغة. فالعلّامَة المونسنيور ميشال حايك الذي كان صوته يصدح في كاتدرائيّة مار جرجس في وسط بيروت وَصفَ المَوارنة بشكلٍ دقيق لعلّه يختصر كل المُتَناقضات التي تسكنهم وَيُفَسّر بعضًا من خلفيّات سُلوكيّاتهم، فقال: “إذا ضُيِّقَ عليهم، رغم ضيق مَداهُم، احتموا في صخرة الوادي واعتزلوا وتَقَوقعوا، وإذا تَوَسّع لديهم المَجال تدفّقوا من أعالي الجرد إلى الساحل فالجنوب فالبحر حتى يصلوا إلى أقاصي الدنيا ويختبروا كل فكرة ويُجربوا كل شعار. فهم أكثر الناس تَقَدّميّة إذا أَمِنوا، وأشدّهم رجعيّة إذا فَزِعوا. وإذا ضَمنوا الحرية نفخوا في الشرق روح التحرر، وإذا أذلّهُم استعمار فضّلوا الانتحار. لقد كانوا أول من استقدم إلى الشرق فكرة الوطن، فأرادوه كياناً مستقلاً قائماً بذاته، مَنعوتاً بصفاته، غير مضافٍ إليه”.
المسيحيون المَوارنة الذين لعبوا دورًا محوريّاً في ترسيخ الكيان اللبناني وانتزاع اعتراف العالم به كدولة قائمة بذاتها لا يدفعون اليوم فقط، كما سائر اللبنانيين، بل وأهل الشرق عمومًا، ثَمَن انقساماتهم وتَعثّرهم في حكم أنفسهم بأنفسهم، بل هُم أيضًا يدفعون ثمن وجودهم في بُقعةٍ من الأرض تتصارع عليها المصالح الكبرى وثمن التحوّلات الدوليّة الهائلة في السياسة والاقتصاد.
الشعوب الصغيرة تُقَدّم للحضارة الإنسانية بِمَداميكها المؤسساتية والثقافية والتربوية قيمةً كبيرة وتساهم بشكلٍ طبيعي في التنمية الاجتماعية والاقتصادية بدفعٍ من طموحها وانفتاحها وتفاعلها ورغبتها في إثبات حضورها. عندما تُصابُ هذه الشعوب بالانتكاسات لا يكفي أن تُمارس النقد الذاتيّ لِتُحلّل ما تحمله في مَوروثاتها من مَواطن ضعف يقع أحياناً في فخّ جلد الذات (وجلد الذات، وما أكثره في زمن الانتكاسات، لا ينفع للنقد البنّاء)، بل يجب أيضاً أن تبقى العينُ التحليليّة مفتوحةً على مصالح الدول القريبة والبعيدة التي صار حقل الغاز عندها أكثر قيمةً من حضارة إنسانية بأمّها وأبيها، وباتَ التطور التكنولوجي القائم على الربح السريع الذي تُحقّقه قلّةٌ قليلة من الشركات والأفراد أهمّ بأشواط من الإرث الروحي والثقافي والأدبي الذي راكَمَتهُ الشعوب عبر التاريخ، وأصبح التواطؤ الخَفِيّ مع الأنظمة القمعيّة والميليشيات المافيَويّة بحثاً عن أسواقٍ جديدة واقتناصاً لِفُرصٍ سياسية أولويّةً على الدفاع الصادق عن حرية الإنسان وتعددية المجتمع والقِيَم الحضارية، وباتَت السطحيّة في التعامل مع الأحداث والاستخفاف بِمَصائر الشعوب السِمَةَ البارزة عند أهل القرار الذين ينسجون السياسة الدولية بخيوط الأوراق النقديّة!
عندما يفقد العالم القدرة على التوازُن بين التقدم الاقتصادي والغنى المادي من جهة، والارتقاء الإنساني من جهة أخرى، تتمّ التضحية بالشعوب الصغيرة، فَيجري تقديمُها كبش فداء على مَذابح المصالح المادية الكبرى.
لكنّ قَدر تلك الشعوب الصغيرة أن تُعاند المَرسُوم لها مَن مَسارٍ لم يكن من اختيارها، وأن تُواجه بشجاعة مَن لا يجد فيها إلا قَطيعاً مَقطوعاً عن مَنابع القوّة (بالمفهوم الزَمَنيّ لكلمة “قوّة”) وأن تتصدى لمن يعتقد بأنّ الصدفة أوجدتها لتؤدي فقط دوراً سياسياً واقتصادياً يُعطى لها لتنتهي صلاحيته بعد حين، ثمّ يُسحب منها ذلك الدور بتبدّل الأحوال!!
جميلٌ أن تُخَصص الجماعة التي تتلمذَت للمسيح وفق روحانيّة مار مارون يوماً واحداً في السنة لتتذكّر هذا القديس العظيم بتواضعه وإيمانه وأن تتباهى به حتى باتت تُعرف باسمه. ولكن الأجمَل أن تعيش رسالتها المسيحية الإنسانية بأمانَة وأن تتشرّب وتَتَزيّن بروحانيّة مار مارون التي تمزج بين البساطة والعمق. وهنا يكمن التحدي الأكبر.
إنّ النُخَبَ المُفَكّرة التي أفرزتها الكنيسة المارونية أرادت لأبناء شعبها أن يتفاعلوا مع محيطهم في جوانب الحياة كافّةً دون ذَوبانٍ أو ذمّية وأن يشتركوا مع المُتَنَوّرين من أبناء هذا الشرق في بناء ثقافة الحياة. الأوفياء لتلك الرسالة، والوفاء نادر، أثخَنَتهُم جراح هذا الدهر. ولكن، كلما غَرسَ السكّين مُمعناً في ذبحهم، أكانَ هذا السكّين من داخل الجماعة أو خارجها، تَذكّروا ذلك الحمَل المَذبوح وَوَحّدوا آلامهم بآلامِه. أما الكلمة الأخيرة في هذه الرواية الدراميّة الطويلة فَلن تكون أبداً لِمَن اعتقد واهماً أنه بدهائه وتَسَلّطه أو لا مُبالاته قادر على تحطيم شَعبٍ حيّ ساهم عبر التاريخ في إنهاض الشرق من سُباته وتحويله الى مُجَرد بَقايا لِشَعبٍ من الشعوب القديمة! واهمٌ من يظنّ أنه يستطيع بجبروته أن يتحيّن الفرصة الدولية المؤاتية له ليضع آخر نُقطة على آخر سطرٍ من تلك الرواية، وأنه وحده مَن يُحدد وقت نهايتها ليكتبها على طريقته المُشَوّهة ! لقد نَسِيَ هؤلاء الواهمون أنّ بعض النهايات بداية، وَمَن اعتاد أن يموت وينهض حيًّا، لا كطائر الفينيق، بل على مثال يسوع المسيح، سَيُنهض معه كل مَن استسلمَ من شِدّة الخوف للانحطاط، وكل مَن يرجو العبور من الموت إلى الحياة.
أستاذ جامعي
No Result
View All Result