تأمل في أحد شفاء الأبرص
يَروي لنا الإنجيل في هذا الأحدِ الثاني مِن الصَّوم أعجوبَة شِفاءِ الأبرص. في هذا الحدثِ يُعبّرُ يسوع عن عِظَمِ مَحَبَّتِهِ اللّامُتناهيَة لِلإنسان المَنبوذِ الذي يعيشُ في بَرَصِهِ غريبًا عن نفسِهِ وبعيدًا عن ذويه ومُجتمَعِه.
لا يزالُ يسوع يلتقي بِجَميعِ البشَرِ ويتضامنُ معَ آلامِهِم ويُخلّص الهالِكين مِنْهم. زارَ حَماةَ بُطرُس فأزالَ عَنها الحُمَّى. غفرَ للمَرأةِ التي أُخذتْ في زنى وعاشَتْ في قلقٍ رهيبٍ إلى أنْ أنقذها وغفرَ لها خَطيئَتها. والرَّجُلُ الأعمى الذي لم يعْرِفْ مَنْ هو يَسوع، بَلْ كُلُّ ما عَرَفهُ هوَ أنّهُ كان أعْمى وأصبحَ الآن يُبصِر. إلتقى بولسَ الرَّسولَ الذي كان في طريقِهِ إلى دمشق.
وها هُوَ يسمعُ توَسُّلَ أبرصٍ فيَشْفيَهُ ويُعيدُهُ إلى حياةِ المُجتمع هادمًا كُلَّ الحواجز. فهو يَعْطِفُ على البَشريَّةِ ويُداويها ويَكْسِرُ القيودَ التي كانت تفصِلُ الإنسان عَنْ أخيه الإنسان إذ هو القائل: “…إنّ السبت جُعِلَ لِلإنسان، وما جُعِلَ الإنسانُ لِلسَّبت”.
البرص في العهد القديم:
يُعتبرُ البَرَصُ بِحَسَبِ الشّريعةِ اليَهوديَّة، أشنعَ داءٍ ونجاسة مُعدية وأقسى عِقابٍ إلهيٍّ يُعاقِبُ بِهِ اللهُ الإنسان الخاطِئ. كان يُنبذ كُلُّ مَنْ أصيبَ بهذا المَرَض مِن الجماعةِ إلى حين شِفائِهِ وتطهيرِهِ الطقسيّ.
وهذا ما نصَّتْ عليه الشّريعة في سِفْرِ الأحبار: “والأبْرَصُ الذي بِهِ إصابَة تكون ثيابُهُ مُمَزّقة ً وشعْرُهُ مَهْدولاً ويتلثـَّمُ على شَفتيه ويُنادي: نَجِس نَجِس. ما دامتْ فيهِ الإصابة يكونُ نَجِسًا، إنّهُ نجِس. فليُقمْ مُنفرِدًا وفي خارجِ المُخيَّمِ يكونُ مُقامُه” (أح 13 /45-46).
لذلك كانتِ الشَريعَة تأمرُ مَنْ أصيبَ بهذا المَرَضِ العيشَ في البراري مَفصولاً عَنْ النّاس فتُرسَمُ حُدودًا لهُ ولا يُسمَحُ لأنْ يَخْرُجَ مِنها ولا يُسمَحُ لأحدٍ بأنْ يَدْخُلَ إليه. فكان كُلُّ مَنْ يُخالفُ هذِهِ الرّسومِ يُصبِحُ نَجِسَا ومُخالِفـًا لِلشّريعة.
نُشاهِدُ في الكتابِ المُقدّسِ أنّهُ عندما لمْ تعُدِ الشّريعَة تعمَلُ لِخيرِ الإنسانِ كان يَسوع يُحَطـِّمُ كُلَّ هذِه القيود. لقد كَسَرَ يسوعُ الرّسومَ التي حَدَّدتْها الشّريعَة عندما أخذ المُبادرَة وجاءَ ولمَسَ الأبرصَ وَطَهَّرَهُ وخلقهُ مِنْ جديدٍ وعِوضَ أنْ يُنَجِّسَ الأبرصُ يَسوع طهّرَ هذا الأخير الأبرصَ وأعادَهُ إلى حياة الجَماعة، بعدما فرضَتْ عليه الشّريعة حياةَ العزلة. فالإنسانُ كائِنٌ اجتماعيٌّ في طبيعتهِ وقاعِدَةُ التواصُلِ مَحفورَةٌ في قلبِه.
أتى الأبرصُ إلى يَسوع غيرَ عــابِئٍ بما تنُصُّ عليه الشّريعَة لأنّهُ كانتْ لديهِ الرَّغبَة الكامِلة بالشّفاءِ والإيمانِ المُطلقِ والثقةِ التّامّةِ بأنّهُ سيحصُلُ على الشفاءِ ولأجلِ هذا قالَ لِيَسوع: “فأنتَ قادِرٌ أنْ تُطهّرني”. فأشفق عليه يسوعُ ومَدَّ يَدَهُ قائِلاً له: “قدْ شِئْتُ فابْرَأ“.
في هذا الشّفاءِ طلبَ يسوعُ مِن الأبرَصِ ألّا يُخبرَ أحداً بلْ أنْ يذهَبَ ويُري نفسَهُ للكهَنَة. أمَّا هوُ فخرَجَ يُنادي ويُذيعُ الخبرَ فلمْ يعُدْ يسوع يَستطيعُ أنْ يدخُلَ مدينة علانية. مِنْ خِلالِ هذا لم يُرِدْ يسوعُ أنْ يدْخُلَ في ألاعيبِ الشّرِّ والشُهرة. إنَّ الشيطان أرادَ أنْ يدفعَ اليَهودَ لأنْ يَخلطوا بين ملكوتِ الله ومَمْلكة الأرض، بين مَسيحٍ يحمِلُ أوجاعَنا وآلامَنا ويَموتُ عَنّا وبين مسيحٍ أرْضِيٍّ يحملُ السَّيفَ ويُقاتِلُ الرّومان أعداءَ شَعبِه.
لهذا قرّرَ يسوع أنْ يَفرِضَ الصَّمْتَ على الأبرصِ كما فعلَ مَعَ أعْمى أريحا. لقدْ أمَرَ يَسوعُ الأبرصَ ولكنّ الأبرَصَ لمْ يمتَثِل. لذلك لمْ يستطعْ أنْ يَحتفِظَ بِفرْحَتِهِ لِنفسِه، فتوافدَتِ الجُموعُ على يسوع حينئذٍ ذهبَ إلى الأماكنِ المُقفِرَة.
لقدْ جاءَ يسوع يُعلن بِشارَة مَلكوتِ الله لكي نَتفاعَلَ معَ هذا الخَلاصِ المُقدّم لنا. فهذا الخلاصُ ليسَ فوق طاقتِنا. أرادَ يَسوع أنْ يتوَجَّهَ إلى كُلِّ إنسان، لأنَّ قلبَهُ يعرفُ الشّفقة والحَنان والحُبّ. مِنْ هذا المِنظارِ تبدو اللّمْسَة التي بها لمَسَ الأبرصَ هي لمْسَة حنانٍ ومَحَبَّةٍ وغُفران.
إنَّ هذه البادرة تَدُلُّ على أمانَةِ الإنسانِ لِلكَلِمَةِ التي دخلتْ إلى أعماقِهِ فأتاحَتْ لهُ أنْ يعيش، فحَرَّرتْهُ ووَحَدَّتْهُ وأعادَتْهُ إلى الجماعَة. هذا الأبرصُ أضحى رسولاً فأعلن الكلِمَة التي يَحْملها في كُلِّ مكان، لا على لِسانِهِ فقط ولا في شَفتيه، بَلْ في جسَدِهِ حيث أعلن ما اختبرَهُ.
حين شفى يَسوعُ الأبرصَ طلبَ مِنْهُ أنْ يذهَبَ ويُري نفسَهُ لِلكاهِنِ لكي يَتَحَقـَّق مِنْ شِفائِهِ ويُعْطيهِ شهادَةً مَكتوبَة. وبعد هذا تتّمُ طقوسُ التّطهيرِ التي هيَ ذبيحَة ومُحْرَقة عنِ الخطيئة. في هذا الإطارِ كان يسوعُ طائِعًا لِلشَّرائِعِ وقد أمَرَ الأبرَصَ بأنْ يَخْضَعَ لها.
إنَّ الكهنة هُم المَسؤولون الرَّئيسيُّون، لذلك وجَبَ عليهم أنْ يَتَنَبَّهوا إلى ظهورِ الآياتِ المَسيحانِيَّة. وهكذا يَكونون بِلا عذرٍ على عَدَمِ إيمانِهِم بيسوع إنْ ظلّوا على عَماهُم. فهُم بِلا عذرٍ حين يُقسُّون قلوبَهُم ويتآمَرون عليه. وهذا ما دفعَ يسوع بأنْ يقولَ لهم: “… لو كُنتُم عميانًا لما كان عليكُم خَطيئة ولكنّكُم تقولون الآن: إنّنا نُبْصِرُ فخَطيئتُكُم ثابِتَة” (يو 9 /41). البَرَصُ في عصرِنا هوَ الخطيئة التي تؤثـِّرُ سَلبًا وتنْتقِلُ بِالعَدوى.
فإذا دخلتْ إلى نفوسِنا تبدأ تفتُكُ بنا وتجعلنا مُنغلقين على ذواتِنا وترسُمُ لنا الحُدودَ الواهِمَة، فنصبِحُ مُكبّلين ويُظهِرُ لنا، في هذا، روحُ الشّرِّ بِأنّنا لمْ نَعُدْ نَستطيعُ الخروجَ منها ولمْ تعُدْ تستطيعُ أنْ تدخلَ النّعمَة حُدودَ بَرَصِنا، إنَّ روحَ الشَّرِّ يَسعى لكي يُحَطـِّم إرادَتَنا وقنعاتِنا، فلمْ نعُدْ نتمكّن من النّجاةِ إلا بِحُدوثِ الأعْجوبَة مِنْ قبلِ الله كما حَصَلَ للأبْرَصِ الذي كانت عِندَهُ الرَّغبَة التّامَّة في الشّفاء، ولولا هذه الرَّغبة لما اسْتَطاع يسوعُ أنْ يَشْفيَه.
كُلّنا مَدعوُّون لِلبحْثِ عن يَسوع حيث نَكتَشِفُ قدرَة اللهِ بالذات. فنتحَرَّرَ مِنْ بَرَصِنا الذي هوَ الخَطيئة التي نَرتَكِبُها كُلَّ يوم. مَدعوُّون بِأن نُقبلَ إليه فهو يُطهِّرُنا ويَغمُرُنا بِنِعَمِه الفائِقة إدراكَنا، لكنّهُ يَخْتفي عَنّا فيجتَذِبُنا إلى القفرِ حيث نكتَشَفُهُ في عُمْقِ علاقتِهِ مع الآب.
إنَّ الإنسان قبلَ أنْ يَستوقِفُهُ اللهُ يكون شَيئاً وبعدَ ذلِك يُصْبِحُ كائِنًا آخر، حتّى عندما لا يكونُ التّغييرُ مأسَويّا، فاختبارُ حُضورِ الله يَترُكُ أثرًا لا يُمحى. إنَّ العواطِفَ والأحاسيسَ تَجيءُ وتَمْضي، أمَّا زمنُ الله فثابِتٌ أبدًا. الإنسانُ الذي يستوقفُهُ الله حَقـًّا لا يَنْسَحِبُ مِن الواقعِ ليَنْعَمَ وحْدَهُ بحضورِ الله فيه، بل إنّهُ يَتَعَمَّقُ في وعْيِهِ لِلمُحيط الذي يَعيش فيه فيرى بِعَينيهِ الجَديدَتين جمالَ العالم.
لقد قال القدِّيس إريناوس: “إنَّ مجدَ اللهِ يتجلّى في الإنسان الذي يعيشُ الحياة بِمِلئِها”. فإذا ما استوقفَ اللهُ إنسانًا، لا بُدّ لذلك الإنسانِ مِنْ أنْ يقِفَ ويقولَ نعَم لِلحَياةِ مَرَّةً أخرى. قال القدِّيس أغسطينوس: “عندما نضرعُ إلى اللهِ طالبين، نكون نَحْنُ في أوّجِ قوّتِنا وهو في قِمَّة ضِعْفِهِ“.
والرَّبُّ يسوع أكّدَ لنا: “اطلبوا تجِدوا اقرَعوا يُفتحَ لكُم، كُلُّ ما تسألون باسْمي تنالونه”. هذا ما رأيناهُ يَتَجلّى في هذا الشّفاءِ حيث ظهَرَتْ مَحَبَّة اللهِ وَرَحْمَته. نحنُ نعرِفُ حَقّ المَعرِفةِ أنَّ قدرَة اللهِ حاضِرَةٌ دائِماً لتُنيرَ ظلمَتَنا وتشفِيَ بَرَصَنا وتمَلأ فراغَنا وتُقوِّمَ اعوِجاجَنا وتُشَدِّدَ عزيمَتَنا وتخلقَ فينا قلوبًا مُحِبَّة.
إنَّ طريقة الإتصالِ بهذِهِ القدرَةِ الإلهيَّة هي الصَّلاة: “فإنْ شِئْتَ فأنتَ قادِرٌ أنْ تُطهِّرَني”. وصاحب المَزامير يُؤكِدُ لنا: “الرَّبُّ قريبٌ مِنْ كُلِّ مَنْ يَدْعوه” (مز145). فمن المُهِمِّ جِدّاً نفسيًا وجَسَديًّا أنْ تكون لدى كُلٍّ مِنّا رغباتٌ واضِحَة.
فما مِنْ إنْجازٍ في التّاريخ رأى النّور إلّا مِنْ خِلالِ رَغبَةٍ واضِحَةٍ في قلبِ إنسانٍ شُجاع. عندما يَكونُ لديّ الإيمان والرَّغبة يَسْتَطيعُ اللهُ أنْ يَدْخُلَ أعماقَ عقلي ويُوَجِّهَ أفكاري ورَغَباتي وتَصَرُّفاتي. عندما نَتَعايش مَعَ الخطيئةِ تحدُث الفوضى في حياتِنا.
إنَّ سِفرَ التَّكوينِ يَصِفُ في كلماتِهِ الأولى روحَ الرَّبِّ وهُوَ يُنظّمُ فوضى الخَليقة الأولى: “في البَدْءِ خلق اللهُ السَّماواتِ والأرض وكانتِ الأرضُ خاويَة خاليَة وعلى وجْهِ الغَمْرِ ظلامٌ وروحُ الرَّبِّ يُرِفُّ على وَجْهِ المياه” (تك1/ 1-12).
إنَّ روحَ الرَّبِّ يُحَوِّلُ الخواءَ والفوضى ويُعيدُ تنظيمَ الخَليقة. لو لمْ يُنقِذنا الله مِنها كما حدَثَ لِلأبرَصِ مِن الفوضى اللّامُتناهيَة التي خلقها تَمَرُّدُنا، لمَكثنا فيها، ولما وجَدْنا مَنْ يُنقذنا. وَحْدُهُ اللهُ يعلمُ فداحَة الخَطيئة وخُبْثها ويَعْرِفُ خَطايانا وهُو وحْدُهُ يَستطيعُ أنْ يَكشِفها لنا. “إنّهُ لقولُ صدقٍ جديرٍ بالتصديق على الإطلاق، وهو أنَّ المسيحَ جاءَ إلى العالمِ ليُخلّصَ الخاطِئين وأنا أوّلهم” (1 طيم1 /15).
لذلك فالخطيئة تُعْدي كما يُعْدي داءُ البَرَص، وقد تُصبِحُ هذِهِ الخَطيئة ُ الشّخْصِيَّة ُ خطيئة ً جَماعيَّة ً فهي تجعَلنا في غُربَةٍ عنْ ذاتِنا وتفصِلنا عَنِ اللهِ وعَنِ الآخرين كما يَفصِلُ داءُ البرَصِ المُصابَ بِهِ عَنِ الآخرين. إنَّ كُلَّ نـفـسٍ ترْتفِـعُ تَرْفعُ مَعَها العالمُ وكُلَّ نفسٍ تنْحَدِرُ تُحْدِرُ مَعَها الجماعة، لذلك يقولُ بولسُ الرّسول: “لا تضلّوا: إنَّ المُعاشراتِ الرَّديئة تُفسدُ الأخلاق السّليمَة” (1 قو 15 /33).
فالخطيئة ليسَتْ مَسألة شَخْصيَّة بيننا وبين الله. إنّها إساءَةٌ لِكُلِّ عُضْوٍّ في جسَدِ المَسيحِ السِرِّي الذي هو الكنيسَة، جماعَة المُؤمنين، لأنّنا كُلنا أبناءُ المَعموديَّةِ الواحِدَة. فالخطيئة تُنَجِّسُ هذا الجَسَدَ وتُؤلِمُ كُلَّ عُضْوٍ فيه. لذلك وَجَبَ على كُلٍّ مِنّا نحنُ الخَطأة أنْ نتَصالحَ مَعَ الله. إنَّ سِرَّ المُصالحَةِ هو وسيلة فريدَة لِإعطاءِ النّعْمَة، الحَياة الجَديدة بالرُّوحِ القُدُسِ لِلخَطأة والتّائِبين.
كان يَسوعُ يَشفي باللّمْسِ والكلمَة وهذا ما يزالُ يَحْدُث في ليتورجيّا القُدَّاس في مُناوَلة جَسَدِ يسوع وسَماع كلمَتِه. وهذا ما يحدث أيضًا في سِرِّ المُصالحَةِ الذي فيه نضَعُ حَدّاً لخَطيئتنا الذي يستطيعُ تغييرَ كُلِّ حياتِنا ويُحَوِّلها. فنحن بحاجَةٍ إلى توبَةٍ قلبيَّةٍ مُستمِرَّة.
مِنْ هُنا جاءَتْ أهميَّة سِرِّ المُصالحَةِ في رِحلتنا إلى الله، فمِنْ جِهّةٍ نختبِرُ فيه رَحْمَة الله وغفرانَه، ومِن جِهَّةٍ ثانيةٍ نكتشفُ فيه جَسامَة ضُعْفِنا. يقولُ جوليان النّروجي: “إنَّ الله يُحِبُّ ضُعْفنا أكثرَ مِمَّا يُحِبُّ قوّتنا، لأنَّ الضُعْفَ يَحتاجُ أكثرَ إلى مَحَبَّةِ الله“.
عندما تُطبَّقُ خِدْعَة الخَطيئةِ عَلينا ولمْ نَعُدْ نقدِرُ أنْ نُفلِتَ مِنها، نَبدأ العيشَ في حلقةٍ مُفرغة وضِمْن حُدودٍ رسَمَتْها أوهامُ الخَطيئةِ لنا التي توهِمُنا بأنّنا لمْ نَعُدْ نستطيعُ الخروجَ منها. يُحدِث الشّرُّ كُلَّ هذا لكي يَقودَنا إلى اليأسِ والفشلِ إلى أنْ يصلَ بِنا إلى الإستسلامِ والإحباطِ وهذا ما يَقودُنا لأنْ نخْسَرَ المَعْرَكة إذا لم يكنْ عِندنا الإيمانُ القويُّ بِشفاءِ اللهِ والثقة الوطيدة بِتَدَخّلِهِ في تاريخِنا الشّخْصيّ. وهذا ما يَدعونا إليه نَصُّ إنجيلِ اليوم، لأنْ نَصْرُخَ معَ الأبرَصِ في عُمْقِ ضُعفِنا وعَظَمَةِ فشلنا: “أنت قادرٌ أنْ تطهِّرَنا”.
إنَّ الإيمان يقولُ لنا أنّهُ ما مِنْ شيءٍ يحْدُثُ لنا مُصادَفة، وأنَّ لِكُلِّ شيءٍ مَعنىً وغايَة بِحَيْث أنَّ مَحَبَّة اللهِ اللّامُتناهيَة قدْ تُحَوِّلُ كُلَّ أحْداثِ حَياتِنا وحتّى خَطايانا لأجلِ خيرِنا حيث يُصْبِحُ كُلُّ هذا جزءًا من تاريخ خَلاصِنا في رحلتنا إلى الله، حيث الرَّبُّ يَقودُنا إلى نفسِه.
ففي قعرِ خَطيئتِنا يظلُّ اللهُ يَدعونا إلى المواجَهَةِ وليسَ إلى الإستسلامِ لأنّنا في المواجَهَةِ نكونُ في صَميمِ شِفاءِ الله. إنَّ كُلَّ ذلك لن يَتَحَقـَّق إلّا في رغبتِنا بالتوبَةِ والعودةِ إلى سِرِّ المُصالحَةِ والإفخارستيّا في قلب الكنيسةِ التي وحْدَها مُخَوَّلة لأنْ تَشفيَ جِراحَ بَرَصِ نُفوسِنا وحيث تبقى الهِدايَة إلى قلبِ اللهِ مُمْكِنَة مَهما كانتِ الظروفُ صعْبة ً حتّى لو بدا ذلك مُستَحيلاً.
أسئلة للتأمل والتفكير:
1- عندما لم أعد أستطيع التحرّر من برص خطيئتي، فأبدأ أعيش في عالم هجرته التحدّيات الكبيرة وغابت عنه إرادة التجدّد، وكأنني لم أعد أتغيّر بعد اليوم، إذ يصبح كلّ يوم بالنسبة لي نسخةً عن الآخر، كيف أتصرّف مع هذا الإحساس الذي ينتابني؟
2- هل ما زلنا نثق بأن حبّ الله الذي لا يُقاوم يقبضُ علينا في درك ضعفنا وفشلنا ويتغلغل في كياننا ويحطّم جدار خطيئتنا، وهو الذي يدفعنا إلى الأمام بهدوء وثباتٍ في كلّ يومٍ من تاريخنا مهما عظمت شرورنا؟
3- هل أدركنا أن أعظم فرص الحياة التي نتعّرف فيها على الله، تأتي دائمًا إلينا مرتدية ثياب المعضلة، وأنّ كلّ من أراد أن يُخرج نفسه من واقع حياة تنقصها الجدّية ليعتنق حقيقة الله، يمرّ دومًا بالضياع والفوضى الذاتيّة لأنّ ذلك من ضروريّات النمّو في حياتنا الرّوحيّة؟
صلاة:
أيّها الإله الغفور يا من أتيت تشفي جراح برصنا بلمسةٍ من حبّك. إشفِ جراح خطيئتنا بفرح حضورك، ثبّت رجاءنا بمعرفة قوّتك. أرسل نعمتك فتخترق حدود عالمنا حيث الضّعف يتآكلنا. هبنا النعمة لنشرّع لك أبواب قلوبنا المظلمة. دعنا نؤمن بكلمتك الحيّة والفاعلة التي لا يتغلّب عليها شيء. إجعلنا ندرك قوّة الشرّ والخطيئة المتربّصة بنا. فنعرف أنّنا لا نصارع بشرًا، بل قوى روحيّة لن تتغلّب عليها إلاّ قوّة حبّك اللّامتناهية. لك المجد إلى الأبد. آمين.
الأب نبيل حبشي ر.م.م.
No Result
View All Result