كيف نختار شريك الحياة..؟
الأستاذ موريس آكوب
مقدّمة
في بحث أجراه أحد الباحثين على ألفيّ أسرة أمريكية ، طرح الباحثُ على الأزواج والزوجات كل على حده السؤال التالي : لو عُدْتَ عَزَباً ، هل كنت تختار شريك حياتك الحالي ؟
أجاب 60 % من الأزواج ، و 70 % من الزوجات بالنفي !!!
إن هذا الجواب يعطي صورة للاختيار غير المبني على أسس سليمة . لا شك أن مثل هذا الاختيار يؤدي غالباً ، إلى حياة زوجية تعيسة ، إن لم يؤدِّ إلى تفكك الأسرة وانحلال الزواج .
الاختيار في حد ذاته ، فعل إنساني ليس بالسهل . وخاصة ، إذا كان يتعلق باختيار شريك الحياة . ينطوي الاختيار على معنى الحرية ، فالحرية بالتعريف هي القدرة على الاختيار ، ولكن ليس أي اختيار ، إنها القدرة على اختيار الأفضل . في كل مرة نختار علينا أن نتساءل : إلى أي مدى كان اختيارنا بإرادتنا ، إلى أي مدى كان اختيارنا حرّاً . إلى أي مدى كان اختيارنا سليماً .
ثمة معايير لاختيار الأفضل هي : الحرية ، والعقل ، والمحبة . فبقدر ما يكون لاختياري حظ منها يكون سليماً وأكون قد اخترتُ الأفضل .
الدوافع اللاشعورية في الاختيار
ثمة دوافع خفيّة تقريباً تلعب دوراً في اختيار شريك الحياة دون وعي منّا تقريباً ، فنختار تحت تأثيرها ظانين أن اختيارنا هذا كان بإرادتنا تماماً ، وأننا كنا أحراراً فيه ، في حين أن الواقع غير ذلك . من هذه الدوافع نذكر :
أولا – الاختيار بدافع الهروب :
الهروب من عائلة تعتريها المشاكل أمثال تسلط الأب أو معاملة زوجة الأب القاسية أو… أو بدافع الهروب من الإحساس بالوحدة والخوف من فوات الأوان ( البنت العانس ) أو بدافع الهروب من الفقر ( تبني نظرية العروس أو العريس الجاهز ) .
ثانياً – الاختيار بدافع الصِفة أو الحاجة المُفتَقَدة في صاحب الاختيار:
كأن يختار الواحد شخصاً تتوفر فيه صفات أو إمكانات يتمنى أن تكون لديه ، فإذا ما وجدها عند آخر اندفع نحوه مختاراً إياه تحت تأثيرها . كمن يختار شخصاً يتصف بالجمال أو العلم أو الرزانة أو الحيوية ، أو موهبة ما . إنه اختيار لا شعوري تقريباً يهدف إلى اكتمال صاحب الاختيار وإشباع حاجة لديه تنقصه .
ثالثاً – الاختيار بدافع الشعور بالنقص :
فَمَنْ كان محروماً من حنان الأمومة أو عطف الأبوة والتقى مَن يسدّ لديه هذا النقص يندفع نحوه ويختاره وغالباً يكون هذا المختار أكبر سناً من صاحب الاختيار .
رابعاً – الاختيار بدافع ” البديل ” :
قد ينجذب شخص نحو آخر ، ربما لا يعرفه ، فيختاره لأنه يحمل صفات جسمانية أو سمات نفسانية وأخلاقية ، تذكّره بأشخاص يحبهم كانت تتوفر فيهم هذه الصفات وتلك السمات أو بعض منها . مثال ذلك ، الرجل الذي يختار زوجة فيها الكثير من صفات أمه التي كان يحبّها ويقدّرها . ومثال الفتاة التي تحب أباها وتعجب به وتتخذه مثلاً أعلى لها فتختار شاباً ترى فيه بعضاً من صفات أبيها كالحكمة أو القدرة على التدبير أو المرح…
خامساً – الاختيار بدافع الضد :
كأن يختار الواحد شخصاً يحمل نقيض القيم التي تحملها أسرة صاحب الاختيار والتي يرفضها أصلاً ليعبّر في اختياره عن رفضه لقيم أسرته ، ومن خلالها عن رفضه لأسرته التي تقسره على تبنّي هذه القيم والسلوك بحسبها . مثال ذلك الفتاة التي تنتمي إلى أسرة محافظة متعصِّبة تعاني فيها من تسلّط الأب أو الأخوة ، تختار شاباً من أسرة متحررة تقدمية .
سادساً – الاختيار بدافع تأكيد الذات :
يعبّر عن الحاجة إلى تقدير الذات ، فيه يستهدف صاحب الاختيار ، شخصاً له مقام اجتماعي أو كنسي أو سياسي أو نَسَبيّ وحَسَبيّ أو غيره ، يربط شخصه به ويؤكد ذاته عن طريق اختياره له وارتباطه به .
سابعاً – الاختيار بدافع الإنقاذ :
كأن تختار إنسانة شاباً ضائعاً بتأثير الشفقة عليه ، وهو يختارها بدوره لتخرجه وتنقذه من حالة البؤس والشقاء والفقر الذي يعيش فيه .
ثامناً – الاختيار بدافع الوسط الاجتماعي :
فيه يختار الإنسان الآخر لا من أجل ذاته ، إنما من أجل عائلته لما تتمتع فيه من حَسَب ونَسَب أو جاه أو ثقافة أو مال ، مما لا يتوفر عند عائلة صاحب الاختيار .
تاسعاً – الاختيار بدافع عشق الذات :
إنه اختيار نرجسي فيه يختار الواحد شخصاً تتوفر فيه الصورة التي يعشقها عن ذاته . إن هذا الاختيار عشقٌ للذات من خلال الآخر .
عاشراً – الاختيار بدافع القانون الجيني ( تطابق الأبراج ) :
حيث يختار الواحد شخصاً ينتمي إلى البرج نفسه . إنها مجرد نظرية لم تثبُت صحتها .
معايير الاختيار الجيد
ليس المهم أن نختار فقط ، إنما أن نحسن الاختيار . أي أن يكون اختيارنا واعياً ومدروساً ، حرّاً وعقلانياً، ومحباً. أي أن نختار ما يناسبنا حقاً ، ما هو الأفضل حقاً بالنسبة إلينا .
فيما يلي أهم مقاييس هذا الاختيار الجيد :
أولاً – الانجذاب :
الانجذاب الجسدي والعاطفي والروحي شرط ضروري وأساسي ، لكنه لا يكفي وحده . لهذا الانجذاب معنيان : سلبي ويعني عدم وجود موانع في الآخر تنفّره منه . وإيجابي ويعني أن الشخص المختار يستحق أن يكون موضع اهتمام وتفكير ودراسة أعمق .
ثانياً – توفر عناصر ربط بين الاثنين :
عوامل مشتركة في الميول والطباع ، الطموح ، الذوق ، الاتجاهات، الأهداف المشتركة ، الوسط الاجتماعي والمذهب الواحد الخ.
إن الحب والزواج لا يستطيعان أن يتخطيا كل أشكال التباعد والاختلافات بين الطرفين ، إنما بإمكانهما تخطي بعضها مما ليس هو بجوهري . فالزواج ، على سبيل المثال ، لا يتمكن من تخطي مسألة الإدمان ، أو عدم الإخلاص والوفاء أو البخل في حين يستطيع تخطي مسألة الاختلاف في الهوايات .
إن ما ذكرنا من عناصر الربط المشتركة يمكن اعتبارها مقاييس داخلية تتعلق بالشخصية مباشرة . وهي مطلوبة على الأقل في حدِّها الأدنى . إن المسألة في النهاية نسبية .
يمكن أن نحدد هذه المقاييس الداخلية كما يلي :
حد أدنى من التعاطف والتجاذب النفسي والعاطفي .
حد أدنى من التناسب في الميول والطباع .
حد أدنى من التناسب الروحي .
حد أدنى من الاتفاق على قيم أخلاقية أساسية .
حد أدنى من الاتفاق على أهداف مشتركة في الحياة .
كذلك يمكن أن نحدّد مقابل هذه المقاييس الداخلية ، مقاييس خارجية يُهتدى بها أيضاً كما يلي :
التناسب في العمــر .
التناسب في المستوى الثقافي والتعليمي .
التناسب في المستوى الاجتماعي .
التناسب في المستوى الاقتصادي .
ثالثاً – مراعــاة ” السلّــم القيمــي ” :
لكل شخص قيم معينة يقدّرها ويعتنقها ويسعى إلى تحقيقها في حياته مثل : العلم ، المال ، الإيمان ، الأمانة ، الصدق… الخ . كلّما اتفق الشريكان على ترتيب الأولويات في هذه القيم ، أدّى ذلك إلى اتفاقهما وسعادتهما وشعورهما بوحدة الهدف . فلو كانت القيمة الأولى عند الزوج الإيمان وكذلك كانت عند الزوجة ، فلا شك أنّ هذه القيمة ستوحدهما . أما لو تصورنا أن القيمة الأولى عند الزوج هي العلم والسعي للحصول على أعلى الشهادات ، بينما كانت عند الزوجة الحصول على المال والتمتع بمباهج الحياة فإننا لا نتوقع لهذا الارتباط ( لزواج ) النجـــاح.
رابعاً – الوضوح مع النفس والصراحة التامة وإتاحة الفرصة للتعارف المتبادل :
ذلك كله لا يتم عن طريق الحوار فقط إنما أيضاً عن طريق المواقف وردود الفعل العفوية المختلفة ، وعن طريق لحظ شكل تعامل كل طرف مع أهل بيته ( الوالد ، الوالدة ، الأخت ) وكذلك عن طريق الصحبة والرفاق .
ويستحسن هنا الاستنارة في موضوع الاختيار ، برأي شخص ثالث شرط معرفته للطرفين ، وتوفّر الموضوعية والاتزان فيه .
خامساً – نضج الشخصية :
الحب والزواج من عمل الراشدين ، لذلك يستلزم نضج الشخصية . ومن مؤشرات هذا النضج : الاستقلال العاطفي والمادي – الثقة بالنفس – الشعور والقدرة على تحمل المسؤولية – القدرة على التكيف – القدرة على التحكم في الذات وضبطها – القدرة على عطاء الذات وإسعاد الآخر – الاستعداد لقبول الآخر المختلف عنّي والتكيف مع طباعه – تحكيم العقل وعدم الانجراف مع تيار العاطفة .
سادساً – قبـول فكـرة أنّ الاختيـار نقطـة انطـلاق :
يبدأ من بعدها المسير في رحلة بناء البيت الزوجي والحياة الزوجية . إنه البداية في مشروع الارتباط وليس النهاية كما يتخيّل البعض .
سابعاً – شجاعة الارتباط :
لا يوجد ضمانة كاملة في الاختيار ، إن فيه شيئاً من المغامرة شأنه في ذلك شأن الحياة كلها . لذا لا بدّ من الصلاة والإصغاء إلى الروح القدس في مسألة الاختيار . من الضروري أن تحسّ أنّ من وقع اختيارك عليه يحقق إرادة الله في حياتك ، ويدفعك إلى النمو روحياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً . الزواج الناجح هو المبني على النموذج الذي رسمه الله . إن دور المسيح الذي قدّس الزواج ورفعه إلى مرتبة السر عامل هام في التوفيق والسعادة .
” فإن لم يبنِ الربّ البيت ، فباطلاً يتعب البناؤون ” ( مزمور 27 )
Discussion about this post