كنيسة القديس سمعان العمودي
قلعة “سمعان العمودي”… إحدى أقدم الآثار المسيحية. تعود إلى القرن الخامس ميلاديا وتعدّ جزءاً من “القرى المنسية في شمال سوريا“
“مجموعة لفائف اكتُشفت قبل عشر سنوات في الخرائب الأثرية، الواقعة شمال غربي مدينة حلب السورية، على مقربة من حواف الطريق القديم الذي يربط مدينتي حلب وأنطاكية العتيقتين، اللتين بدأتا تاريخهما قبل التاريخ المعروف، وقد وصلتنا هذه الرقوق بما عليها من كتابات سريانية قديمة (آرامية) في حالة جيدة، نادراً ما نجد مثيلاً لها، مع أنها كُتبت في النصف الأول من القرن الخامس الميلادي، وتحديداً: قبل خمس وخمسين وخمسمئة وألف، من سنين هذا الزمان”.
هذه مقدّمة رواية “عزازيل” للكاتب يوسف زيدان، التي تشير إلى محيط قلعة القديس سمعان العمودي التي اكتسبت شهرةً عالميةً تأتت من سمعة القديس نفسه الذي يحتل منزلة رفيعة في حياة الكنائس الشرقية.
سمعان العمودي (389-459):
قديس وناسك سوري عربي ولد في قرية سيسان بين سورية وقيليقية في الربع الأخير من القرن الرابع. عاش في منطقة حلب في سوريا وهو أول من ابتكر طريقة التنسك على عمود حجري، وهي طريقة انتشرت بعده في كافة مدن ومناطق الشمال السوري ومنها إلى أوروبا.
يقع دير القديس سمعان وقلعة سمعان وفيها العمود الذي تعبد وتنسك فوقه القديس سمعان في منطقة جبل سمعان شمالي حلب في سورية وبلغ طول العمود حوالي 15 متراً. وصفه تيودوريطس أسقف قورش في كتاب يتحدث فيه عن نساك سوريا، ونسب إليه الكثير من المعجزات، منها أنه كان يقضي الصوم الأربعيني منتصباً على قمة العمود ليلاً ونهاراً دون طعام أو شراب، ويقال أنه توفي بهذه الهيئة.
بعد وفاة القديس سمعان بنى الإمبراطور الروماني في نفس المكان كنيسة فخمة حول العمود لا تزال قائمة اليوم ما عدا السقف ضمن آثار دير كبير. أصر بطريرك أنطاكية على نقل جثمان سمعان إلى أنطاكية بأمر من الإمبراطور ليون، ولكن الأهالي رفضوا، فأرسل الإمبراطور 600 جندي للقضاء على مقاومتهم، واستطاع نقل الجثمان إلى كنيسة القديس قسطنطين في أنطاكية. نقل الرفات لاحقاً إلى القسطنطينية ودفن في كنيسة آياصوفيا.
أصبحت الكنيسة في جبل سمعان في سوريا مقصداً للحجاج المسيحيين من أوروبا والشرق فكان الناس تحج إليها طوال العام، حررها صلاح الدين من الصليبيين وحولها إلى قلعة عسكرية، لا زالت تعرف باسم “قلعة سمعان” ودير سمعان وهي من الأماكن الأثرية المسيحية الهامة في سوريا.
تقع كنيسة القديس سمعان العمودي على بعد /60/كم شمال غرب مدينة حلب، وقد شيدت باسم القديس سمعان عام 476 ميلادية، والذي توفي عام 459 ميلادية، وتقسم إلى قسمين:
1- الكاتدرائية أو الكنيسة الكبرى.
2- كنيسة المعمودية أو الكنيسة الصغرى.
لمحة تاريخية
يُعدّ “سمعان العمودي” المبتكر الأول لطريقة التنسّك على العمود الحجري، حيث عاش 37 سنة ناسكاً متقشفاً على عمود في جبل سمعان، وبعد وفاته بُني حول العمود كنيسة تُنسب إلى الإمبراطور زينون بداية العمل على بنائها في عام 476، وسُمّيت باسم “كنيسة مار سمعان العمودي” إحياء لذكراه، ثم أضيف بعد ذلك بسنوات الدير والمعمودية والمدفن كملحقات للكنيسة، إضافة لدور سكن ونزل للحجاج الذين قدموا من بلاد الغال (تشمل اليوم فرنسا وبلجيكا وجزءاً ألمانياً) وإنكلترا وأسبانيا وإيطاليا.
وتحوّلت الكنيسة وملحقاتها من مركز ديني إلى قلعة عسكرية، بعدما بنى حولها القائد البيزنطي “نقفور فوقاس” سوراً وأبراجاً، لتُعرف بـ “قلعة سمعان”.
القرى المنسية
تقع أطلال قلعة القديس سمعان في إحدى قمم جبل “ليلون” الذي يشكّل الجزء الشمالي من جبل سمعان في شمال غربي حلب، وتعدّ القلعة جزءاً من أكبر تجمّع للمواقع الأثرية في العالم ويُدعى “القرى المنسية في شمال سوريا”، التي أُضيفت عام 2011 إلى لائحة اليونسكو للتراث العالمي، وهي عبارة عن حوالى 800 مدينة وقرية أثرية مهمّة تقع بين مدينتي حلب وإدلب وتمتدّ في جبال الكتلة الكلسية. يعود أغلب هذه القرى إلى القرنين الأول والسابع، وتتميّز بالمناظر الطبيعية والبقايا المعمارية للمساكن والمعابد والكنائس، ويوضح مشهدها الثقافي الانتقال من عالم الوثنية القديم للإمبراطورية الرومانية إلى المسيحية البيزنطية، كما أنها تقدّم شهادة استثنائية عن الحياة الريفية في العصور القديمة وخلال الفترة البيزنطية.
العمارة المسيحية الأولى
جاءت أبنية الكنائس أيام المسيحيين الأوائل استمراراً لطراز البناء الروماني، فحافظت على التقاليد البنائية الرومانية القديمة مع موادها وعناصرها ومفرداتها المعمارية، إلى جانب استعمال أبنية الباسيليك ككنائس، وهي جزء من العمارة الرومانية كانت تُبنى بالقرب من الأسواق لأغراض تجارية، مخطّطها مستطيل وطوله ضعف عرضه، مزوّد بصفّ أو صفّين من الأعمدة من كل جهة، وتحدّد الأعمدة ثلاث أجنحة، الأوسط هو الأكبر والأعلى ارتفاعاً وينتهي بالمذبح، بينما الأجنحة الجانبية تعلوها الشرفات. واستُغلت الباسيليك بعد انتشار المسيحية كمكان للصلاة وممارسة الشعائر الدينية.
أما العمارة البيزنطية فاستخدمت الآجر كمادة أساسية للبناء والرخام للتغليف، وكانت الكنائس البيزنطية تقوم على مخطّط الصليب الإغريقي بقبة مركزية مؤلفة من أقواس متقاطعة وأعمدة كلاسيكية (الإغريقية والرومانية)، وكانت للمداخل أعتاب أفقية يعلوها عقد نصف دائري، ويعتبر الفن البيزنطي وريث الفن الإغريقي والشرقي من حيث الزخرفة والنقش بالرخام والفسيفساء.
مخطط المنطقة
تتألف القلعة من مجموعة معمارية مسيحية متجاورة، تضمّ الكنيسة الكبرى والدير والمعمودية والكنيسة الصغرى والمدفن. صُمّمت الكنيسة الكبرى على هيئة صليب يوناني مؤلّف من أربع باسيليكيات (شرقية وغربية وشمالية وجنوبية) متعامدة في ما بينها ما عدا الشرقية فتميل 6 درجات نحو الشمال، وفي مكان التقائها بهو رئيسي مثمّن (أكتوغون) الأضلاع. وتحيط جميعها بقاعدة عمود التعبّد السمعاني الذي عاش عليه القديس سمعان والذي يعدّ محور الكنيسة، وكان مزوّداً في أعلاه بدرابزين من الألوح الخشبية على شكل شرفة، مع سلّم لوصول الناس إلى الناسك والتواصل معه.
وحول الباسيليك الشرقية والجنوبية، تمتدّ باحة واسعة يقوم في رحابها بناء الدير والمصلى الخاص بالكهنة. أما مدفن الرهبان فمنحوت في الصخر في الجهة الشمالية وتتموضع القبور في جدرانه. وبعد حوالى 200 متر إلى الجنوب من الكنيسة، بناء المعمودية المربّع الشكل يعلوه مثمّن وفي جهته الشرقية حنية، ونلاحظ وجود حفرة كانت تُستخدم للمعمودية، يلتحم بناؤها مع بناء كنيسة صغيرة ثلاثية الأقسام (بازيليكا)، كانت تُستخدم لاستكمال الطقوس.
وإلى الجنوب من المعمودية، باب سور يقود الخارج عبر طريق منحدر إلى مرافق دير سمعان، وهي مبان ومنشآت كانت تُستخدم لنزول الحجّاج والزوار، وجميع هذه المباني مطوّقة بسور حجري ممّا يمنحها مظهر المجمّع الضخم.
الكنيسة الكبرى
تعود الكنيسة الكبرى إلى الحقبة الرومانية الشرقية- البيزنطية، وتدمج في تصميمها أساليب معمارية عدّة، فهي مصلبة وباسيليكية ومثمّنة في الوقت ذاته، ووصفها المؤرخ الأميركي هاورد بتلر، في كتابه “الكنائس المبكرة في سوريا”، بأنها “ملأت فجوة مهمة في فهمنا لعمارة الكنائس، فهي ليست أجمل وأهم نصب معماري قائم بين مباني الفترة الرومانية في القرن الثاني فحسب، بل اعتُبرت أيضاً نموذجاً للمبنى المسيحي في القرنين الحادي عشر والثاني عشر في شمال أوروبا”.
يتوسّط الكنيسة بهو مثمّن تخترقه أقواس واسعة تعلوها حنيات تتقعر في أربعة أضلاع، تجعله يبدو مربعاً، أما بقية الأضلاع فتّتصل بأربع باسيليكيات. يستند كل قوس على عمودين لكل منها تيجان كورنثية مزخرفة على شكل أوراق الأكنتوس التي تحرّكها الرياح (موجودة أيضاً في النارتكس، أي مجاز الكنيسة، والمدخل)، وهنالك شكوك حول ما إذا كان المثمّن مسقوفاً بقبة أم مكشوفاً للسماء، وثمّة بعض الدلائل التي تشير إلى أن قبة من الخشب كانت تعلوه لكنها انهارت بسبب زلازل.
أمّا الباسيليكات الأربع فتتمتّع بأشكال معمارية مختلفة. استُخدمت الشرقية منها ككنيسة، وهي تحوي مدخلين كبيرين في جدارين جانبيين وعدداً غير مسبوق من النوافذ التي تشترك بشريط زخرفي منحنٍ. لهذه الباسيليك حنية رئيسية وحنيتان ثانويتان وفي أرضيتها رخام مزخرف.
أما الباسيليك الجنوبية فيتقدّمها رواق يطلّ نحو الخارج بقوس ثلاثي الفتحات، يعلوه مثلث روماني يرتكز على أعمدة بتيجان مزخرفة، إضافة للنارتكس التي تعدّ مقدمة للكاتدرائيات الرومانسكية، إذ يذكر عالم الآثار الفرنسي “دوفوغويه”، أحد أهم الباحثين في تاريخ القرى المنسية، أن أصول الرومانسك في أوروبا موجودة في مقدّمة الواجهة الجنوبية لكنيسة القديس سمعان العمودي.
الجدير ذكره أن السقف المقبّب الكبير وأغلب الجدران الخارجية لم تعد موجودة، بينما بقيت الأقسام الرئيسية بما فيها الواجهة شبه سليمة، أما بالنسبة للعمود فقد تبقى منه ركيزة حجرية يعلوها حجر مستدير بارتفاع مترين فقط، يرجح أن يكون قد دمّر كلياً خلال الحرب الأخيرة في سوريا.
مقبرة الرهبان:
يعود بناؤها إلى نهاية القرن الخامس الميلادي، وتقع على الشمال الشرقي من الكنيسة الكبرى قرب السور الشمالي، وهي عبارة عن غرفة مستطيلة الشكل نحتت في الصخر، وتضم في كل من جدارها الشمالي والجنوبي ثلاثة قبور، وفي الجدار الشرقي قبرين فقط، وقد جوفت ارض هذه الغرفة بقبو حفر بكامله في نفس الصخرة بغية وضع عظام المتوفين من الرهبان بعد إخراجها من القبور التي في الجدران، وهناك قبر تاسع خارج الغرفة محفور في سور القلعة الشمالي.
دير الرهبان:
يشكل بناء الدير الملحق بالكنيسة مع ضلعيها الشرقي والجنوبي باحة مستطيلة، ويتألف من بناء ذي طبقة أرضية وطبقتين علويتين فوقها، خصص جزء من الطبقة الأرضية إسطبلاً للحيوانات، وقد أضيفت بعض الجدران في القرون الوسطى.
كانت إقامة الرهبان في الجهة الشرقية منه وقامت إلى الجنوب الشرقي لضلع الكنيسة الكبرى كنيسة صغيرة أو مصلى خاص بالدير يستعمل لصلوات الرهبان اليومية، وهي من طراز البازيليك المؤلف من بهو رئيسي في الوسط وبهوين جانبيين يفصل بينهم أعمدة وأقواس.
الحنية كالعادة باتجاه الشرق وجد في الزاوية الجنوبية الغربية من الكنيسة حجر كبير بديع الزخرفة ربما كان غطاء جرن المعمودية المستعمل لعماد الأطفال آنذاك، وفي الباحة الفاصلة بين الدير والكنيسة الكبرى وفي طرفها الغربي تقوم منصة صخرية كأنها أعدت للوعظ، بينما توجد أحواض صخرية خارج الواجهة الغربية لكنيسة الدير لعلها كانت تستعمل معاصر لصناعة الخمور أو زيت الزيتون، وتبلغ مساحة الدير مع باحته والمقبرة 5000 متراً مربعاً.
بيت وكنيسة المعمودية:
يتألف بيت المعمودية من بناء مربع أقيم في وسطه مثمن في جهته الشرقية حنية في أسفلها حفرة مستطيلة بدل الجرن لمعمودية البالغين، وهي مكسوة بالقرميد الأحمر ولها دَرَجٌ في الشمال وآخر في الجنوب للنزول فيها والصعود منها، وهناك قناة لتجري إليها المياه، وبعد المعمودية كان الجميع يتوجه إلى الكنيسة الملاصقة لهذا البناء من جهته الجنوبية حيث كان يتم استكمال طقس المعمودية، وتبلغ مساحة كنيسة وبيت المعمودية مع ملحقاتها 2000 متراً مربعاً.
تعتبر كنيسة القديس سمعان العمودي بحق جوهرة كنائس المدن المنسية، ومن أجمل روائع الفن ومن أضخم وأروع الكنائس التي بنيت في العالم.