دير مار يوحنّا مارون – كفرحي
بهذا الاسم الذي يعني دير رأس مارون عُرف هذا الدير في كفرحي البترون شمال لبنان على أيام البطريرك الماروني الأول يوحنا مارون علمًا أنّ الدير سمّي لاحقًا على اسمه وهو ما يطلق عليه في أيّامنا هذه دير مار يوحنا مارون كفرحي.
يُدعى هذا الدير اليوم “دير ومدرسة مار يوحنا مارون – كفرحي”، ويقع في قرية كفرحي التابعة لقضاء البترون، والتي تبعد خمسة عشر كيلومتراً عن مدينة البترون مركز القضاء، كما تَبعد إثنين وسبعين كيلومتراً عن العاصمة بيروت، وترتفع أربعمئة متر عن سطح البحر. وأصل تسمية هذه القرية باللغة السريانية وتعني “قرية الحيّ والعائش” أي الإنسان المُتمتّع بالحياة.
ودير ريش موران أي دير رأس مارون ضمّ لوقت طويل رأس القديس مارون الذخيرة التي حملها معه البطريرك الأول يوحنا مارون والتي تبارك منها عدد غير زهيد من المؤمنين قبل أن تنتقل الذخائر في العام 1490 إلى مدينة فولينيو في إيطاليا حيث حُفظت بعناية إلهية حتى العام 2000 . وفي 8 كانون الثاني 2000 عادت الذخيرة إلى كفرحي حيث أقيم احتفال كبير ترأسه البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفيرالذي قال: “الذخيرة أُخذت من دير كفرحي وإليه تعود”..
وشارك فيه السفير البابوي وعدد كبير من المطارنة والرسميين ومطران فولينيو على رأس وفد من أبرشيته
لا يمكن لنا أن نغفل تاريخ دير مار يوحنا مارون كفرحي -الكلمة تعني موطئ الحياة – مع ما يحمل هذا المقرّ البطريركي الماروني الأول من أحداث ورجالات في سجّله الكنسي الأقرب إلى الذهبي كونه كان – كما يروي كاهنه الحالي نائب مطران البترون المونسنيور بطرس خليل- ملجأً لعائلات مسيحية عديدة أطعمها في الحرب العالمية إبان المجاعة. ولا يمكن أن نغفل أيضًا ما علّمه هذا الدير لضمّه مدرسة اشتهرت بتعليم لغات سبع ومن أبرز طلابها اسم ماروني يرتفع رويدًا الى القداسة وهو البطريرك الياس الحويك ابن حلتا البترونية أيضًا.
تاريخ الدير:
يروي التقليد أنّ القدّيس يوحنّا مارون، بنى الدير على أنقاض بيتٍ سكنه العبّاد يوم سيم أسقفًا على البترون في العام ٦٧٦، ونقل إليه هامة مار مارون وسمّاه ريش موران أي رأس مارون، وجعله كرسيّه بعد انتخابه بطريركًا سنة ٦٨٥.
أقام في الدّير، البطاركة الموارنة المتعاقبون إلى دانيال الشاماتي. كان الدّير قائمًا في العهد الصليبيّ وكان من أهمّ الأديرة في كونتيّة طرابلس، ومنه نُقلت الهامة إلى فولينيو سنة ١١٣٠، وأعيدت سنة ٢٠٠٠.
سنة ١٢٨٧ اجتمع مقدّمو الموارنة لإقامة مقدّم لهم بدلاً من المقدّم سالم اليعقوبيّ، وهذا الحدث يثبّت زعامة البطريك المارونيّ المدنيّة ايضًا على شعبه.
في عهد المماليك تمّ تجريد حملةٍ على كسروان سنة ١٢٩١، وعلى رأسها الامير بدر الدين بيدرا. وتفيد زجليّة إبن القلاعي بأنّ المماليك هُزموا على يد المقدمّين الموارنة في معركة البترون وقد تجمّعوا بعد انتصارهم في دير كفرحي.
لكنّ الدّير عاد وآل إلى الخراب بعد أن دمّره يوسف سيفا سنة ١٦٣٤.
أعاد بناؤه البطريرك يوسف أسطفان سنة ١٧٨٧ وكرّسه على إسم مار يوحنّا مارون، وجعل فيه مدرسةً لتعليم الأحداث ما لبثت أن تحوّلت لإكليريكيّة سنة ١٨١٨ بأمر البطريرك يوحنّا الحلو.
في العام 1812 قرر المجمع البطريركي برئاسة البطريرك يوحنا الحلو ( 1809-1823) تحويل هذا الدير إلى مدرسة لتنشئة الكهنة، وكانت تُعلّم سبع لغات إضافةً إلى مختلف العلوم والآداب، والوثائق تُثبت ذلك، ومن ثم أضحَت تَستقبِل تلامذة موارنة عِلمانيين من مَختلف مناطق جبيل والكورة وجبّة بشرّي. وكانت أتعاب المعلّمين عبارة عن غلال الأرض يُقدّمها الأهل للمدرسة. وكانت تُخَرِّج تلامذة يُرسَلون إلى المدرسة المارونية في روما. وهي المدرسة النظامية الثانية بعد مدرسة عين ورقة لناحية الأهمية العلمية الكبرى، وقد خَرَّجَت عُظماء مثل البطريركين الياس الحويك (1899-1931) وأنطون عريضة ( 1932-1955)، وكان القُنصل الفرنسي في طرابلس يَحضُر في آخر كل سنة مدرسية حفل التخرّج فيها.
الديّر اليوم كرسيّ أساقفة البترون، وهو الشاهد على تاريخ الموارنة في لبنان.
كيف تحوَّل الدير إلى اسم القديس يوحنا مارون؟
أمّا كيف تحوَّل الدير إلى اسم القديس يوحنا مارون، فتفصيله أنه لدى زيارة البطريرك يوسف اسطفان ( 1766-1793) الرعائية لأبناء رعيّته في بلاد البترون بعد عودته من الكرمل، إستوقفته أطلال الدير الذي تعرَّض للتخريب على يد بني سَيفا، إذ لم يَجد حيث كان سوى آثارٍ دارسة وأطلال طامسة. فحرَّكته الغيرة الدينية على إرجاعه إلى رونقه القديم قبل هدمه في العام 1634. ولكنَّ من المُتداول هو أن الدير الحالي لا يقوم في المكان ذاته الذي كان يقوم فيه الدير الذي بناه البطريرك الأول، بل في بقعة غير بعيدة عنه. فوَجَّه إليه القَسّ يوسف الحدّاد من دلبتا والقسّ الياس من ريفون ليعتنيا بتجديده. هذا ما أشار اليه المؤرخ الأب لامنس، أمّا البطريرك يوسف الخازن (1845-1854) فيُشير في إحدى رسائله إلى المجمع المُقدَّس، المؤرخة في 24 نيسان 1850، إلى ترميم هذا الدير بقوله: ” لما تولّى الأمير يوسف الشهابي على بلاد البترون وحصل هدوء فيها نوعاً ما اعتنى البطريرك يوسف اسطفان بترميم كنيسة هذا الدير، وجَدَّد فيه بعض المساكن، ووضع فيه كاهناً يُسمّى القس يوسف الحدّاد من قرية دلبتا في كسروان.. وَوَكّله به مع الأرزاق التي كانت باقية له، وأخذ يُجدّد له أملاكأ وأمتعة”.
فإزدهر الدير وكثر رهبانه مع الأيام كما تُشير نبذة بعنوان: “دير مار يوحنا مارون – كفرحي الحاوي ذخيرة مار مارون”.. التي تتابع: “وقد ظَلَّ قائماً إلى ما بعد العهد الصليبي، واجتمع فيه مقَدَّمو الموارنة أكثر من مرة ليتدارسوا شؤون الطائفة”.
وتستطرد النشرة: “تعرَّض الدير للتخريب والسلب والنهب والتدمير أكثر من مرة في العهد العثماني بفعل تبدُّل الحكام وجور الايام، وفي كل مرة كان يعاد بناؤه ليتابع نشاطه الروحي والثقافي والحضاري والوطني. وفي أوآخر القرن الثامن عشر أمر البطريرك يوسف اسطفان بإعادة بنائه بعد أن كان خراباً، وبَدَّل اسمه من دير “ريش موران” إلى دير مار يوحنا مارون”.
وهناك وثيقة محفوظة عند آل فريفر في منزل القاضي رزق الله فريفر مؤرخة في 16 آب 1787 وموقّعة من البطريرك يوسف اسطفان.. تحمل في طياتها تاريخ تحويل اسم الدير: “هذا الدير والمقام المبارك يتسمّى ويقام باسم أبينا القديس مار يوحنا مارون دون غير”. ويذكر الخورأسقف يوسف داغر التنوري أن البطريرك يوسف اسطفان (1766-1793) قد حَوَّل كنيسة مار مارون إلى اسم يوحنا، وذلك عند إعادة بناء الدير سنة 1787.
واستمرت المدرسة في تقدُّمها مع المونسنيور بطرس إرسانيوس. وتوقفت أثناء الحرب العالمية الأولى، ولكنها فتحت أبوابها أمام المحتاجين من أبناء المنطقة ولبنان، وكانت تُقدِّم شهرياً آلاف الوجبات من الطعام. ثم عادت بعد الحرب مع المطران الياس شديد، ولكن بِتَعثُّر نظراً لفراغ المنطقة من السكان. وسنة 1950 فتحت أبوابها لتصبح مدرسة إكليريكية للدعوات المُتأخرة وتُخَرَّج منها أكثر من مائتين وخمسين كاهناً.. إلى أن أُقفلت نهائياً في مطلع السبعينات.
الوصف:
أمّا اليوم وإذا عدنا الى الدير، فلا بدّ لنا كمؤمنين من زيارة متأنية لهذا المقام الروحي. وأول ما يلفت لدى دخولك حرم الدير وتحديدًا على اليسار مزار مخصص لقسم من ذخائر مار مارون قبل أن تدخل لتتأمل وتصلّي أمام قسم آخر منها في الكنيسة الاثرية بامتياز من أجراسها الثلاثة إلى مذبحها الرخامي المحافظ على قدمه.
يتألف الدير من مقر لمطران أبرشية البترون، وكنيسة، ومدرسة ومتحف، ويعلو مدخل الكنيسة منحوتة نقرأ عليها:
“سنة 1847
قد كمل بنيان هذا الهيكل
المبارك على اسم القديس يوحنا
مارون بطريرك مدينة الله انطاكية”.
الكنيسة مَبنية بِالعقد على طريقة الصروح والبيوت اللبنانية القديمة، تَتَصدّرها صورة القديس يوحنا مارون بريشة الرسّام داوود القرم، وهي بقياس 200 -300 سنتم، حيث يبدو فيها باللباس الحبري مع العصا والتاج، وتعلوها عبارة “مجد لبنان أعطي له”، كما خُطَّت في أسفلها العبارة التالية: “حناجرهم قبور مفتَّحة، وسُمُّ الافاعي تحت شفاههم”
وفي ما يتعلق بالمَتحَف فهو قائم في أقبية الدير الوسيعة، ويَحتوي على مَخطوطات دينية قديمة ثمينة ونادرة باللغات العربية والسريانية والكرشونية، بالإضافة إلى قواميس، ومُستندات تَتَضَمَّن قوانين رهبانية، وكذلك ملابس حبرية ولوحات تاريخية…
كلمات قليلة لتاريخ كبير تختصره بكركي على موقعها الالكتروني الرسمي .
No Result
View All Result