التلفزيون وتأثيره في البيت المسيحي
التلفزيون ومشتقّاته، في بيئتنا، هو أداة التسلية الأولى، إن لم تكن الوحيدة، بالنسبة لشريحة كبيرة من مجتمعنا. بالنسبة للأكثرية التلفزيون ضرورة حتى ليتعذّر على معظم الناس أن يتصوّروا أن يكون هناك بيت، اليوم، من دون تلفزيون. ولعلّه لا مبالغة إذا ما قلنا إنّ التلفزيون يأتي في سلّم الحاجات البيتيّة الأوليّة، بعد الأكل والشرب، أو يكاد. وهو، في هذا الإطار، محور الاهتمام الأول في المنزل. يخطف الأبصار لساعات في اليوم لا يقلّ معدّلها عن الأربع إلى الستّ الساعات فيما يمضي الكثيرون وقتاً إضافياً يتحدّثون فيه عمّا شاهدوه وعمّا سيشاهدونه.
إذاً الناس يقضون مقدار ربع وقتهم، يومياً، في مشاهدة التلفزيون. هذا ما يألفه الناس. التلفزيون ومَن هم وراءه بات مؤسّسة يفوق تأثيرها في الناس تأثير أي مؤسّسة أخرى في العالم، بما فيها النظم التربوية والحكومات والكنائس أيّاً تكن. ولكن ما لا يعرفه الناس أنّ التلفزيون أداة خطرة إذا لم يُحسن المرء استعمالها، سواء من ناحية اختيار البرامج المناسبة أو من ناحية الوقت الذي يمضيه المرء في مشاهدة هذه البرامج.
إذا كان عدد من الدارسين يرى في التلفزيون بعض الفائدة على الصعيد التربوي أو المعلوماتي، فإنّ ثمّة مَن يرى فيه أداة مؤذية في كل حال من الأحوال لأنّ بنية الإنسان العصبية لا تناسبها طبيعة التلفزيون. في تقرير Emery الذي أعدّه مركز التربية المتواترة في الجامعة الأسترالية الوطنية في كمبيرا (1978) أننا حين نشاهد التلفزيون فإنّ “المسارات العادية للفكر والقدرة على التمييز تكون عاملة بنصف طاقتها في أحسن الأحوال”. وتضيف الدراسة أنّه “فيما يبدو التلفزيون وكأنّه يمكن أن يزوّد المشاهدين بمعلومات مفيدة وينوَّه به باعتبار وظيفته التربوية، فإنّ تقنيّة التلفزيون والطبيعة الملازمة لخبرة المشاهدة تشكّل، عملياً، كابحاً [أو عائقاً] للتعليم الصحيح كما يُفترض بالتعليم أن يكون”.
وتجزم الدراسة بأنّ “الثابت هو أنّ التلفزيون لا يعطّل قدرة المشاهد على الحضور وحسب بل إذ يَشغل التلفزيون مسارات عصبية معقّدة، مباشِرة وغير مباشِرة، يجعل الصحو يتدنّى وكذلك حالة اليقظة العامة التي يُفترض بها أن تعدّ بنية الإنسان للمبادرة متى لفت مثيرٌ محدّد انتباه المرء”.
المسألة الأولى
التي نطرحها تتعلّق بما يُحدثه التلفزيون من تأثير في الدماغ، أو في الجهاز العصبي بعامة.
تحديداً لذلك نستعين بدراسة وضعها Walsh و Gentile سنة 2002. عنوان الدراسة “التسلّل في غفلة عن الرادار: الدعاية التجارية والعقل” (Slipping Under the Radar: Advertising & the Mind). الغرض من الدراسة هو شرح الأسباب التي تجعل رسائل وسائل الإعلام (Media) مؤثّرة بالشكل التي هي عليه.
الكهرباء تجري في أسلاك وقدرات الإنسان الفكرية والشعورية تجري في شبكات عصبية. هناك، بصورة أساسية، ثلاثة أنظمة في الدماغ. هذه تعمل بانسجام وتكامل. النظام الأول هو ما يُعرف بـ “ساق الدماغ” (brainstem) وهو يحكم الوظائف الفيزيولوجية الضرورية للحياة كضبط الحرارة ونبض القلب. والنظام الثاني هو المعروف بـ “نظام الأوصال” (Limbic system) وهو مجال الإنفعالات والمشاعر والعواطف. والنظام الثالث هو “اللحاء” أو “القشرة الدماغية” (Cortex) وهو يحكم الوظائف الدماغية الرفيعة المستوى كاللغة والتمييز والتفكير. النظام الذي يعمل مَن هم وراء التلفزيون، ووسائل الإعلام، بعامة، على التأثير فيه هو نظام الأوصال أو المشاعر.
لماذا؟ لأنّ المشاعر تركّز الانتباه وعليها يتوقّف، بخاصة، ما يتذكّره الإنسان، وهي مكوِّن أساسي من مكوِّنات مواقف الإنسان. والمواقف هي التي تؤثّر في خيارات الإنسان وقراراته وسلوكه المتواتر. والمشاعر، أيضاً، هي أساس الدوافع التي عنها تنتج الحركة والفعل. كذلك الرباط بين المشاعر والسلوك أقوى من الرباط بين الفكر والسلوك. والسبب هو أنّ في الدماغ طرقاً مختصرة أو قل قادوميات (shortcuts) تتّصل بالخلايا العصبية الآلية التي ينتج عنها السلوك. المهم هنا أنّ هذه القادوميات تتفعّل بقوّة المشاعر. فحين تكون هناك مشاعر قوّية بشأن أمر محدّد فإنّ ردّ فعل فيزيولوجي يحدث حتى قبل أن يدرك الإنسان ويفكّر ويفهم ماذا يجري. المشاعر، إذاً، لا تبعث على التفكير بالضرورة ومع ذلك تؤثّر في المواقف والدوافع والسلوك. الرسائل الإعلامية، وخصوصاً الرسائل التلفزيونية، تضرب على وتر المشاعر. بقدر ما تؤثّر هذه الرسائل في مشاعر الإنسان، وتالياً في سلوكه، دون أن تتنبّه قواه الفكرية إلى الأمر، بقدر ما تكون التقنية الإعلامية ناجحة.
الموضوع موضوع تقني بحت. المهم أن تخلق حالة شعورية قوّية لدى الإنسان ثم تربط الرسالة التي تريد إيصالها بهذه الحالة. هذا يحرّك القادوميات العصبية وهذه تبعث على السلوك المرجو. قد يختار الإنسان، طبقاً لهذا المسار، ما ينفع وما يضر سواء بسواء طالما التفكير لا يتدخّل في الأمر. لذلك آخر ما يشاء صاحب الدعاية التجارية فعلَه مثلاً أن يدفع الإنسان إلى التفكير. همّه أن يتسلّل إلى نفس المشاهد في غفلة عن رادار تفكيره. أقل ما يُقال في الأسلوب المتّبع هذا لتأثير أهل الإعلام، وخصوصاً التلفزيون، في الناس، أنّهم يعاملون الإنسان كآلة… ليس من مصلحتهم أن يفكّر. بكلام آخر يتحايلون على أهمّ ما لديه، كإنسان، يتحايلون على تفكيره ليلعبوا على مشاعره ويؤثّروا في قراراته الصغيرة والكبيرة.
المسألة الثانية
التي نطرحها هي أنّ للتلفزيون ومشتقّاته ما يدنو من الجاذبية المغناطيسية.
يحدّدون التنويم المغناطيسي بأنّه “ما يشبه حالة النشوة المحدَثة اصطناعياً والمتميِّزة بتغيير في الوعي ونقص في قوّة الإرادة والاستجابة المتزايدة للإيحاء (أو الإيهام)”.
أليس هذا حال المفرطين في مشاهدة التلفزيون بخاصة، لا سيما الصغار؟ أمام الألوان الطبيعية الزاهية، التي تتآلف مع نظام ذاكرتنا بحسب K. Gegenfurtner، والموسيقى المدروسة والصور السريعة الإنطباعية والشخصيات المختارة المتميّزة بحسنها أو حدّة ذهنها أو ظرفها، أمام كل ذلك ينتشي العقل ويتخدّر ويقع المرء، بسهولة، تحت تأثير الرسائل التلفزيونية التي يسعى المنتجون التلفزيونيون إلى تمريرها من خلال نظام الأوصال لديه.
المسألة الثالثة
هي أنّ ما يتسبّب، عموماً، في وضع المشاهد موضع المنوَّم مغناطيسياً أو يكاد أنّ التلفزيون، بطبيعته، يجعل الإنسان في موقع المنفعل (passive) لا الفاعل (active) أو المتفاعل، في موقع التلقّي لا في موقع التبادل.
وهذا يتعارض وطبيعة نمو الذهن لدى الإنسان. الإنسان تنمو قدراته بالتفاعل مع غيره، لا بالانفعال وحسب، خصوصاً الصغار. فحين يجد المرء نفسه في وضع المنفعل أمام شاشة التلفزيون فلا شكّ أنّ ذلك يخلق لديه، قليلاً قليلاً، حالة داخلية مرضية ليست أقلّ تداعياتها خمول الذهن وانحطاط القوى العقلية والتخدّر والبلادة والركون إلى راحة كذوب والعزلة عن المحيط الذي ينتمي إليه والدخول في واقعية إيهامية.
ما يحدثه التلفزيون في وجدان الأولاد، بخاصة، يعبِّر عنه البحّاثة، في علم النفس، يوري Bronfenbrenner بالكلمات التالية: “… إنّ الخطر الأول المتمثِّل في شاشة التلفزيون يكمن لا فقط في السلوك الذي يحدثه بل في السلوك الذي يحول دونه أيضاً: الأحاديث، الألعاب، الاحتفالات العائلية، المناقشات التي يتمّ، من خلالها، فعل التعلّم عند الولد، ومن خلالها يتكوّن خُلُقُه Character. تشغيل التلفزيون يمكن أن يوقف عملية (Process) تحوّل الأولاد إلى بشر”.
المسألة الرابعة
هي أن علاقة المشاهد بالتلفزيون تحلّ محلّ علاقته بالعائلة والأصدقاء.
شيئاً فشيئاً تتّسم العلاقات الإنسانية بطابع العلاقات السطحية. بدل أن تكون الجماعة، وخصوصاً العائلة، هي الإطار الذي ينمو فيه الإنسان، ويتكوّن كإنسان اجتماعي مسؤول، يصير التلفزيون كواقع إنساني إيهامي بديلٍ هو هذا الإطار. يظنّ نفسه أنّه بالتلفزيون يطلّ على العلم وعلى المعرفة وعلى العالم. إلاّ أنّه ولو حصّل بعض المعلومات هنا وهناك فإنّه لا يكون قد تعلّم، لأنّ التعلّم يستدعي التفاعل. كذلك لا يصير أكثر معرفة بالأمور لأنّ المعرفة الحقّ بالخبرة تكون. ولا يكون قد صار أكثر دراية بما في العالم، لأنّه ما دام قد عزل نفسه عن محيطه فكيف يسهم في إغناء العالم وكيف يكون جزءاً فاعلاً منه؟
لا شكّ أنّ مَن يقارن ما كان عليه الواقع الإنساني عندنا قبل العامين 1959 و 1962 ?وهما السنتان اللتان دخل إلينا التلفزيون فيهما عبر شبكة تلفزيون لبنان وتلفزيون المشرق? لا شكّ أنّ مَن يقارن الواقع الإنساني يومذاك بالواقع الإنساني الذي صرنا إليه اليوم يلاحظ مقدار التحوّل الهائل الذي حصل عندنا. بالأمس كانت الجماعة هي إطار حياة الناس على كل صعيد: الاقتصادي والإجتماعي والثقافي والترفيهي الخ… واليوم صارت الفردية هي الواقع: كلٌّ لنفسه! التلفزيون زكّى فردية الإنسان، وتالياً عُزلته عن الجماعة فصارت العلاقات الإجتماعية شكلية. حتى ضمن البيت الواحد صار كل فرد من أفراد العائلة مائلاً إلى الاستقلال عن الآخرين. حياته الخاصة صارت هي المرجع وهي الأساس. بات الأولاد في بيوتهم كأنّهم نزلاء في فندق أكثر ممّا هم أعمدة في إشادة صرح العائلة الواحدة. نمط الحياة تغيّر. والتلفزيون ومشتقّاته كانت له المساهمة الأولى في تزكية هذا التغيير.
المسألة الخامسة
هي أنّ التلفزيون لمّا صار موضع انجذاب أفراد الأسرة الواحدة أخذ وجهُ العائلة ككنيسة في الإمّحاء.
لم يعد ممكناً بإزاء تفكّك العائلة، وضعياً، واستلاب التلفزيون ومشتقاته لاهتمام أعضائها أن يكون اللهُ ومسيحُه مَن يتحلّق حوله أفراد العائلة ويجتمعون. في العائلة المسيحيّة كل شيء يُفترض به أن يتمحور حول المسيح. فإذا كان مَن في البيت يتناول الطعام وهو يشاهد التلفزيون وكلّه لهف إلى مطالعة مباراة البسكتبول فهذا معناه أنّه لا يعود هناك مجال للصلاة قبل المائدة وبعدها إلاّ شكلاً. الموضوعات الإلهية لا يعود لها مكان لأنّ أهل البيت لا يتحدّثون. فقط يكلّم أحدهم الآخر عبوراً. ثمّ لا وقت يبقى لا للصلاة المشتركة ولا لحكايات القدّيسين ولا لقراءة الكتاب المقدّس. التعوّد على مشاهدة صور الحياة تتداعى أمام الأعين بالألوان الزاهية لا يترك مجالاً للحوار بالكلمة. الكلمة تصبح ثقيلة، وسطحية.
الكلمة بحاجة إلى فكر واعتياد الذهن على الاكتفاء بالإنفعال دون التفاعل يجعل التعبير ذات المعنى صعباً وضامراً ومزعجاً.
أفراد العائلة يكلّمون بعضهم البعض، بالأحرى، إذا ما تكلّموا، بانفعال. ثمّ إذا كان أفراد العائلة، أحياناً، لا يُكلّم أحدهم الآخر في مسائل شخصية أو ذات أهمية إلاّ لدقائق في الأسبوع، كما تبيِّن الدراسات، مستعيضين عن الكلام بملازمة الصمت بإزاء برامج التلفزيون حتى لا يفوتهم شيء، فلا شكّ أنّ كشف الفكر أو كشف القلب والاستعانة بالآخرين لتضميد الجراح الداخلية في النفس وطلب النصح لا يعود له مكان. الاستنارة بما يقوله الكتاب المقدّس أو الآباء القدّيسون ومطالعة كيفية السلوك في الوصيّة الإلهية، في هذه الوضعية أو تلك، يصبح متعذّراً. كذلك لا يعود هناك مجال للقراءات الروحيّة ولا للصلوات الشخصية. كيف يصلّي مَن ذهنه مشحون بالصور والحركات والأصوات والانفعالات التي تتسقّط عليه من التلفزيون؟!
الصلاة بطبيعتها رقيقة حسّاسة. تفرّ من التلوّث الفكري، من الضجيج الداخلي. الصلاة بحاجة إلى هدوء الذهن، إلى صفاء النفس. فإذا ما اعتاد المرء الإثارة في ما يُعرَض عليه واستطلاعَ كل جديد وسرعةَ الحركة وكثرةَ الأصوات فلا شكّ أنّ الصمت الداخلي سوف يكون ثقيلاً عليه، وعملياً غير ممكن، وسوف تكون نفسه مشوّشة، تتجاذبها الصور والخيالات والأحاسيس. ثمّ الصلاة لا تأتي إلاّ من صمت داخلي، من سماع. “تكلّم يا ربّ فإنّ عبدك يسمع”. الصلاة تصبح في غير سياقها. مستحيل على مَن يُغرِق في مشاهدة التلفزيون أن يصلّي، إلاّ شكلاً أو عاطفياً. حتى الإلهيات يسعى مشاهدو التلفزيون ? المؤمنون بينهم ? إلى استمدادها، أحياناً كثيرة، من الشاشة الصغيرة: الصلوات والقداديس الإلهية والتراتيل والأفلام التقويّة والبرامج الدينية. التقوى يصير مقياسها، إلى حدّ بعيد، مشاهدة T L أو ما يعادلها. حتى صورة ملك الملوك على السيّارات تُستمدد من الأفلام. الذهاب إلى الكنيسة يصير ثقيلاً. التقوى المنفعلة (Passive) والاكتفاء بالاستجابة الشعورية العاطفية لما يُعرَض، هنا وهناك، يصير بديلاً عن الصلاة والسجود والركوع وعمل المحبّة والسلوك في فضائل الصبر والوداعة والاتضاع. هذا كلّه يجعل العائلة تكتفي ببعض الرموز الدينية في البيت، صورةً أو إيقونةً أو تمثالاً، هنا وهناك. ولا يعود لله، في العمق، مكان في المنزل. يُجعل الله، في الحقيقة، خارجاً كما في مذود البهائم. الله يصير أسيراً لمبنى الكنيسة التي قد يذهب إليه بعض أفراد العائلة متى عنّ على بالهم أو لحاجة يطلبونها من الله عند اللزوم، على طريقة الوثنيّين.
أمّا العلاقات بين العائلات المسيحية فقلّما تعود واردة إلاّ من باب الواجبات الاجتماعية، وهذه تكون ثقيلة ويميل الكثيرون إلى الاستغناء عنها حيثما أمكن. أصلاً، في كثير من الأحيان، حين يزور الناس بعضهم بعضاً يتفرّجون معاً على البرامج التلفزيونية ولا يتبادلون الكلام إلاّ تعليقاً عليها. لا يعود لديهم ما يقولونه خارج حدود ما يشاهدون ويسمعون إلاً قليلاً وسطحياً. استفقاد المريض والفقير والمضنوك لا يعود من صُلب الحياة. التوحّد بالناس من باب المحبّة المسيحيّة “المسيح معنا وفيما بيننا” لا يعود موضع اهتمام الناس. كل يؤثر الدفء والراحة أمام التلفزيون. والكل، نتيجة ذلك، ينتهي غارقاً في همومه، لا هو يبالي بغيره ولا غيره يبالي به. ثمّ صحو الذهن بالنسبة للمؤمن لا يعود موضع اعتبار. يصير المشاهد المدمن في موقع مَن تخدّر إحساسه وبات كأنّه نصف نائم. رصد الأفكار السمجة ومقاومتها لا يعود ممكناً. فمن كثرة ما تكون النفس مشحونة بالصور والخيالات تتداخل الأفكار، الغثّ والثمين منها، المقبول وغير المقبول، الجيّد والرديء ولا يعود إمكان تنقيتها أمراً واقعياً. ومن كثرة تعرّض المشاهد لما هو فاسد يصبح الفاسد مطبّعاً لديه. ثمّ من كثرة ما تتبلّد النفس تُصاب الإرادة بالضمور. القوّة الداخلية يصيبها الوهن، والقدرة على التمييز تضعف حتى الإضمحلال، وتعتور النفس حالة من اللامبالاة واللاحسّ.
المسألة السادسة
هي أنّ النظرة المسيحيّة إلى الوجود وكذلك الأخلاق المسيحيّة لا تتّفق ونظرة القابضين على دفّة الإعلام.
ونحن إذا ما تركنا أولادنا، بخاصة، لأخلاقية ما يشاهدونه على الشاشة الصغيرة نكون قد أسلمناهم للرذائل لا إلى الفضائل التي نرغب فيها لهم. أبطال الكنيسة هم الودعاء. “طوبى للودعاء فإنهم يرثون الأرض”. أبطال التلفزيون هم العنفاء الظرفاء الذين يقوون على أعدائهم، عن حقّ أو عن باطل لا فرق. الوصيّة الإنجيلية تعلّم العفّة. التلفزيون يستعمل الفتيات الحسان والشباب الوسيمين ليبثّ الرغبة في الفسق وروح الزنى. المسيحيّة تدعو إلى حفظ مضجع الزوجيّة. التلفزيون يشجّع على التفلّت باسم الحرّية ويجعل الخيانة الزوجيّة والطلاق أمرين عاديين. الوصيّة تعتبر أنّ الحرّية تتحقّق بالحبّ والأمانةِ لمَن تحبّ. التلفزيون يعتبر أنّ الإنسان يصير حرّاً إذا ما فعل كل ما ترغب فيه نفسه. الوصيّة تأتي من الله. أخلاقية التلفزيون تأتي من العدمية (Nihilism)، من تقديس الإنسان لأهواء نفسه. حتى حين يكون التلفزيون إنسانوياً، في بعض برامجه، لا يقيم أيّة علاقة بين أنسانوية الإنسان وعبادة الله.
الله، بعامة، يصير كأنّه خارج أفق الإنسان. الله، بعامة، يُعتبر اختصاصه العجائب. الحياة الروحيّة باعتبارها شاملة لكل ما للإنسان، من حيث هي حياة جديدة المسيح فيها هو القلب النابض، الحياة الروحيّة هذه لا محلّ لها من الإعراب في الإطار الإعلامي. بالعكس الصورة التي يعكسها الإعلام، وخصوصاً التلفزيون، عن المسيحيّة تصوِّر الإنسان المؤمن، عموماً، محدودَ الأفق أو متعصّباً أو أصولياً. المسيحيّة يصوِّرونها، في العادة، وكأنّها رجعية، إلى حدّ بعيد، وضدّ التقدّم وتعيق الحرّيات ولا تماشي التطوّر وتتدخّل فيما لا يعنيها. ثمّ هذه الصبغة السياسية الطاغية على صورة المسيحيّة عندنا مشوِّهة إلى حدّ بعيد. هناك دائماً مَن يريد أن يعرف رأي الكنيسة في تأليف الحكومة وفي المواقف السياسية الداخلية والخارجية. حتى عندما يعرضون ما قاله بطريرك أو أسقف في عظة الأحد يقتطعون ما له مغزى سياسي أو ما فيه تعرّض لفريق من الأفرقاء. التلفزيون، بعامة، لا يعتبر نفسه معنياً لا بالحياة الروحيّة ولا بالأخلاقيّة المسيحيّة. حتى عندما يعرض لموضوعات دينية يعرضها بشكل مُغرِض ومبتور أو حتى مشوّه.
Discussion about this post