دير مار متي
دير مار متى (بالسريانية: ܕܝܪܐ ܕܡܪܝ ܡܬܝ) وهو دير أثري يقع على جبل الألفاف شمال مدينة الموصل و يعد من المعالم السياحية المعروفة في العراق.
يتبع الدير مطرانية السريان الأرثوذكس، أسسه مار متي الناسك السرياني في القرن الرابع الميلادي. وإنضوى إليه بضعة آلاف من الرهبان والمتوحّدين من نواحي نينوى.
يقع دير مار متى الناسك شمالي شرق موصل بمسافة 30 كلم. أسسه القديس مار متى في أواخر القرن الرابع الميلادي بمساعدة سنحاريب (وهذا خطا لأن مملكة آشور انتهى قبل سبعة قروون) الملك، وضـم كنيسة، وصهاريج، وصوامع لسكن الرهبان، وأحيط بسور كبير، ثم عبـد الطريـق المؤدي إلى الدير ويعرف (بالطَّبكي) وهو كلمة سريانية معناها المرتقي . في عام 480 أثار النساطرة والفرس اضطهادا على الأرثوذكـسيين في كنيـسة المشرق، ومن جراء ذلك وصل الاضطهاد إلى الدير حيث أضرم فيه النا ر فالتهمت كل ما فيه من آنية كنسية وأثاث ولا سيما مكتبته، وتشرد رهبانه هنا وهناك، وبعد عـام 544 عاد الرهبان ثانية إلى الدير واستأنفوا أعمالهم النسكية ورمموا الدير، ولقد اشتهر الدير في أواخر القرن السادس والقرن السابع إذ أصبح مركزاً هامـاً في كنيسة المشرق، كما اشتهر بمعهده الديني ومكتبته الذائعة الصيت، وامتـدت حقبـة الشهرة هذه حتى نهاية القرن الثالث عشر حيث تعرض لهجمـات الفـرس والمغـول إذ تدمّر المبنى تدميراً كاملاً وهجر مدة طويلة من الزمن. كما ويعتبر هذا الدير من الأماكن المقدسة لدى المسيحيين ويعتبر شفيع للكنيسة في العراق.
الوصف
سيبدو من الصعوبة أن ترصد مشهد أبنية الدير الراسخة هناك فوق قمة جبل مقلوب من عند سفحه، بدا دير مار متى بأبنيته الموغلة في القدم، والمشيدة من صخور الجبل ذاته، والأبنية الحديثة الأخرى المنسوجة مع القديمة، بناء ضخم ومهيب يشكل في مظهره تاجا فوق قمة الجبل الذي يختلف في طبيعته الجيولوجية بين بقية الجبال المحيطة به، فهو الجبل الوحيد الذي تتجه صخوره نحو الأسفل على العكس من اتجاهات صخور الجبال الأخرى التي تتجه نحو الأعلى، ولهذا سمي بجبل مقلوب ،كما سمي بجبل (الفاف) وهي مفردة سريانية تعني بالعربية (ألوف أو آلاف) نسبة إلى بلوغ عدد الرهبان الذين تقاطروا على هذا الدير منذ بنائه وحتى القرن السابع سبعة آلاف راهب، وارتفاع قمته 3400 قدم عن سطح البحر، والدير مبني على مساحة ثلثي الجبل باتجاه القمة، حسبما يوضح احد الرهبان المقيم هناك والذي رافقنا في رحلة اكتشاف الدير.
ما إن نصل إلى البوابة الرئيسية الخارجية للدير، ستتهيأ للزائر فرصة ثرية لمشاهدة امتدادات أبنية الدير عمقا في المشهد الماثل أمامنا، وارتفاعا باتجاه قمم الجبال المحيطة، وسنتأكد من ضخامة هذا التكوين المعماري الذي تعمد من بناه أن يجعله متسلطا بقوة دينية على بقية التكوينات التي أنشأتها الطبيعة، مانحا شعورا بالمهابة والاحترام.
هنا لا بد من أن نتقدم نحو الباب الداخلي للدير بخطواتنا متلمسين الصخور التي صقلتها خطوات الآلاف من الرهبان والزوار الذين قصدوا وما زالوا هذا المكان منذ أكثر من 16 قرنا. نتمشى بهدوء يتناغم مع هالة الصمت المتسيدة في عموم المكان.. شعور طاغ بالتحرر من الزمن الراهن، لا شيء يعكر صفو هذا الهدوء المتراكم منذ عصور عدة، لا إشارة، لا أصوات، لا لافتات، لا أجهزة أو آلات تذكرنا بصخب الحياة التي كنا قد تحررنا منها قبيل أقل من ساعة. هنا الصمت يهيئك للتأمل، لا شيء سوى صوت الصمت، سوى رائحة الريح، سوى لون ضبابي يغلف المكان والزمان على حد سواء.
لسنا بحاجة لأن نطرق البوابة المفتوحة على مدار ساعات النهار والمساء، يأخذنا رواق يذكرنا انحناء أقواس سقوفه بأبنية القصر العباسي ببغداد أو القصر المعشوق في سامراء وبعمارة العصر القوطي، بل أقدم من ذلك بكثير، بقصور نينوى التي تنتمي إليها منطقة الدير تاريخيا و حضاريا وجغرافيا، الأعمدة المرمرية المزخرفة بأشكال نباتية تحيط الزائر من الجانبين نحو باحة مفتوحة إلى السماء، نمر بباب عتيق يفضي إلى (المغارة الكبيرة)، وهي عبارة عن صهريج كبير وقديم لخزن المياه حيث كان الدير غالبا ما يتعرض لحصار القوات الغازية أو لحصار الطبيعة.
“عمر هذا الدير أكثر من 1600 سنة، وهو أقدم وأول دير في العراق، بناه الملك الآشوري (ملك نينوى) سنحاريب الوثني سنة 363 ميلادية، في غضون القرن الرابع الميلادي”، مستطردا في سرد تاريخ الشيخ مار متى (مار مفردة سريانية تعني القديس) الذي يعود أصله إلى “قرية في ديار بكر في تركيا، وهو من عائلة مسيحية سريانية ثرية وغنية، أحب التنسك والزهد فدخل إلى دير (سرجيس وباخوس) في قريته (ابجرشاد) سنة 361، حيث أمضى فيه سبع سنوات مع رفاقه الرهبان ليتعلموا أمور الدين، ثم انتقلوا إلى دير آخر مجاور لقريتهم يدعى (دير زقنين) للتوسع في المعارف اللاهوتية، في هذه الأثناء تنصب إمبراطور جديد اسمه لليانوس من سلالة الإمبراطور قسطنطين الكبير، وكان مسيحيا لكنه ترك المسيحية ورجع إلى الوثنية، فأطلقت عليه الكنيسة لقب الجاحد، فشن هجوما على المسيحيين خاصة في تركيا، وطاردهم في الأديرة والكنائس، وعندما بلغ خبر مطاردته للرهبان للقس مار متى هرب مع أصحابه وبنوا لهم كوخا صغيرا على ضفاف نهر الخابور، قبل أن يقصدوا هذا الجبل الذي يسمى جبل مقلوب.”
تحضر الأسطورة بكل سحرها وتأثيرها في السرد الذي يحفظه هذا الراهب عن ظهر قلب كجزء من تعاليمه الكنسية، فيقول:”الدير بني على أثر أعجوبة، إذ شفى مار متى سارة ابنة الملك سنحاريب (نمرود) من البرص، فدخلت مع أخيها بهنام و40 ضابطا الديانة المسيحية وتركوا الوثنية، مما دفع بأبيهم الملك نمرود إلى الأمر بقتلهم لتركهم الديانة الوثنية، فعاقبه الله بالصرع والجنون، فظهر الأمير بهنام في الحلم على والدته (شريني) وقال لها بأن تخبر والده الملك بأن يتوب ويعلن ندمه وأن يذهب إلى مار متى ويعتذر منه، وهذا ما فعله الملك في صباح اليوم التالي، إذ دعا القس مار متى، الله تعالى أن يشفي الملك، وشفي بالفعل وتحول إلى المسيحية، وصارت كل المملكة مسيحية وذلك سنة 363 ميلادية حيث أمر ببناء هذا الدير.”
مرت عملية بناء هذا الدير بمراحل امتدت إلى ما يقرب من 20 سنة، إذ أنتهي من بنائه سنة 381 ميلادية، وشارك في بنائه أكثر من 20 ألف عامل، وعين عليه أول رئيس وهو القديس مار متى الذي توفي سنة 411 ميلادية، وعاش أكثر من 90 سنة، ويسمى الشيخ متى نسبة إلى كونه كان طاعنا في السن، وكلمة الشيخ هنا لا علاقة لها بالدين أو المكانة العشائرية”، حسب إيضاح الراهب
على أن هذا لا يعني أن هذا الدير عاش في وضع مسترخٍ ومريح، بل عاش أيضا ظروفا قاسية للغاية، وتعرض للتهديم، إذ “قام برسوم النصيبيني، وكان نسطوريا، بمهاجمة الدير سنة 480 وأحرق مكتبته الثمينة وهدم أجزاء منه وقتل الرهبان”، ينبه الراهب، إلى أن “الدير مر بمراحل متعددة منها الساسانية والفارسية والتتار، وتم هجره لأكثر من 150 سنة على فترات متقطعة، حيث تعرض لأقصى اضطهاد، لكنه كان يعاد بناؤه باستمرار، ففي السبعينات من القرن الماضي تم تزويده بالطاقة الكهربائية بجهود بذلها المطران إسحاق، كما كان (الرئيس العراقي الأسبق) صدام حسين قد أمر بين عامي 1980 و1984 بتحسين وضع الدير ومد الشارع من مفرق مدينة عقرة صعودا إلى الدير، بكلفة مليونين ونصف المليون دولار، وذلك بعد أن قام بأول زيارة للدير عام 1980، وزيارته الثانية كانت بعد عام من ذلك التاريخ”، لافتاً إلى أن ” الرئيس مسعود بارزاني قام بآخر عملية إعادة بناء وترميم كاملة لأبنية الدير من الخارج والداخل عام 2006 .”
نخرج إلى فضاء الدير، نرصد الطريق المتعرج (الطبكي) بوضوح من السطح العالي، نتأمل البناء القديم، الأول المحفور في صخور الجبل والذي ما زال ماثلا هناك في القمة، حيث الصوامع التي كان يتعبد فيها الرهبان، ومنها صومعة مار متى، فالبناية تتكون من ثلاثة طوابق وتضم كنيستين والكثير من الغرف التي يقيم فيها بعض الزوار لعدة أيام، كما توجد هنا عدة صهاريج نحتت في بدء تأسيسه لخزن مياه الأمطار المنحدرة من الجبل. ولا يزال أربعة صهاريج قائمة، يبلغ سعة أكبرها 2420 مترا مكعبا. ولعل أجمل كهوف الدير هو كهف الناقوط الذي يعد أكبر الكهوف، وأكثرها سحرا وجمالا، ويقع غرب الدير على مسافة 200 متر. ويتكون من قسمين، الخارجي ومساحته 10م×15م، ورصف بالحجر المعروف بالبازي تتوسطه بركة ماء. والقسم الداخلي مساحته 6م×4م، حيث تتقطر خلاله المياه طوال السنة لتتجمع في حوض صغير وتنساب إلى القسم الخارجي حيث تصب في البركة، إذ يقضي هناك الزوار وقتا ممتعا في فصل الصيف. يتم حاليا تزويد الدير بالماء من عين في الجنينة بواسطة (ماطورات) كهربائية، إلى خزان في أعلى الدير ويتم توزيعه على عموم الأبنية.
“يزور الدير أبناء كل الأديان والطوائف في العراق، وهو كما ترون مفتوح أمام الجميع، ومن يزوره مرة سيعاود زيارته مرات”.