دير الشاروبيم صيدنايا البطريركيّ
المصدر: كتاب “أديار الكرسي الأنطاكي”، منشورات جامعة البلمند، 2007.
دير الشيروبيم دير أثري ومعلم ديني وسياحي يقع في محافظة ريف دمشق بالقرب من صيدنايا، سوريا على ارتفاع 2000 متر عن سطح البحر. بني بالقرب من الدير تمثال للسيد المسيح، يعتبر الأكبر في الشرق الأوسط.
التسمية والموقع
تعني كلمة (شيروبيم) بالآرامية القديمة الملائكة وتتكون من مقطعين «الشيروب» أي الملاك والـ «بيم» علامة الجمع وقد سمي الدير بهذا الاسم وفي هذا المكان المرتفع بحيث يكون هيكلا للرب ومكان للعبادة في أعلى القمم الجبلية في سلاسل الجبال القريبة من دمشق، ومن قمة هذا الدير التاريخي يستطيع الزائر مشاهدة دمشق وجبل صنين وجبل الشيخ ومناطق كثيرة بعيدة من سوريا ولبنان.
يرتفع دير الشاروبيم ألفي متر عن سطح البحر وذلك على أعلى قِمم جبل قَلمون شمال دمشق وعلى بعد ثمانية كيلومترات من صيدنايا. ويحتلّ هذا الدير أحد أروع المناظر الطبيعيّة في سورية، إذ يشرف على صيدنايا وعلى منظر بانوراميّ من الجبال والتلال والسهول، بما في ذلك منطقة دمشق بكاملها وسهل البقاع وحوران. ويمكن رؤية قبب الدير وأبراجه من بعيد.
المنظر الطبيعيّ المحيط بالدير قاحل بجملته، ما خلا طبقة رقيقة من العشب والأشجار الخفيضة. في فصل الشتاء تتدنّى الحرارة في جبل قلمون إلى حدود الصفر فتتغطّى قممه بالثلج، ولكنّ الهواء النقيّ يمنّ على المنطقة بمناخ غاية في اللطف على باقي فصول السنة. غدا هذا الدير في السنوات الأخيرة محجّة معروفة ومقصدًا سياحيًّا، وذلك بفضل تحسين الطريق المؤدّي إليه من صيدنايا وتعبيدها.
“دير مار شاروبين”، كما يسمّيه الأهالي المحلّيّون، مكرّس للملائكة الشاروبيم والسيرافيم، أعلى طبقات الملائكة الذين يتربّعون على عرش الطغمات السماويّة. الذكر الأوّل لهم في الكتاب المقدّس يرد في الآية 24 من الفصل الثالث من سفر التكوين والوصف الأكثر تفصيلاً لهم يرد في سفر النبيّ حزقيال (1: 5-10). يعكس الشاروبيم، عبر علاقتهم القريبة جدًّا من الله، صورة مجد الإله الكلّيّ القدرة، ولذلك صوّر ملاكان من الشاروبيم على تابوت العهد (مزامير 66: 2، 103: 29؛ حزقيال 21: 2؛ 1 بطرس 1: 12). الإله الكلّيّ القدرة موصوف بأنّه متربّعٌ عرشَ الشاروبيم (1 ملوك 4: 4؛ مزامير 17: 11؛ أشعياء 37: 16)؛ أخيرًا، الشاروبيم واقفون أمام عرش الله السماويّ (رؤيا 4: 1-8، أشعياء 66: 15، حزقيال 1: 4، 43: 2-4).
لم تكن ثمّة حياة رهبانيّة في دير الشاروبيم قبل العام 2003. ففي العام المذكور، وتحت وصاية دير القدّيس جاورجيوس صيدنايا ورعاية رئيسه الأب يوحنّا التلّي، قدِم أربعة مبتدئين إلى الدير يرئسهم الأخ نكتاريوس دحدل. وهم الآن يعملون، إلى جانب الرهبان السبعة المقيمين في دير القدّيس جاورجيوس، على إعادة بناء الدير. وفي فترة لا تتجاوز عقدًا من الزمن، تحوّل دير الشاروبيم إلى مركز دينيّ مهمّ، يستقطب أعدادًا كبيرة من الشباب المتوافدين إليه من أنحاء سورية كافّة، ويستقبل مخيّماتهم الصيفيّة.
تاريخ الدير
لا نعرف كيف نشأ هذا الدير، ولكن من المؤكّد أنّه يرقى إلى عصر قديم جدًّا. إذ عُثر بين أنقاضه على بقايا من العصور الجاهليّة المتأخّرة؛ ويروي التقليد المحلّيّ أنّ الدير تأسّس في القرن الخامس. على التلّة المجاورة، عدد من الكهوف يدخل إليها بواسطة الأدراج. ويُظنّ أنّها تعود إلى حقبة ما قبل التاريخ، ولكنّها على الأرجح استُعملت كمخبأ ومكان خلوة للمسيحيّين الأوائل. وكما في حالة دير القدّيس جاورجيوس الحميراء في سورية، وديرَي حمَطورة وكفتون في لبنان، فإنّ وجود عدد كبير من الرهبان في هذه الكهوف هو الذي أدّى إلى تأسيس الدير.
الذكر الأوّل والأقدم لهذا الدير يرد لدى الأديب العربيّ شهاب الدين العمريّ من القرن الرابع عشر، الذي يقول إنّ هذا الدير بناه البيزنطيّون ويصف بناءه المتكوّن من الحجر الكلسيّ وهندسته[1]. في العام 1737، وجد الزائر الإنجليزيّ الأسقف ريتشارد بوكوك راهبًا واحدًا فقط، يعيش في دير الشاروبيم الذي يسمّيه دير القدّيس سرجيوس؛ ولكنّه رغم ذلك كتب قائلاً، إنّ الكنيسة في حالة جيّدة وما تزال صالحة لإقامة الخدم والصلوات[2]. ولكن، وفقًا للمؤرّخ أسد رستم، آخر ثلاثة رهبان مسنّين دير الشاروبيم تركوا في منتصف القرن الثامن عشر، وانتقلوا إلى دير سيّدة صيدنايا. ومنذ ذلك الوقت، بدأ الدير يتهدّم تدريجيًّا، إذ يشير رستم، الذي زار المنطقة في عشرينيات القرن العشرين، إلى ركام من الحجارة والأعمدة وبقايا منحوتات مشتّتة في أرجاء المكان.
عندما زارت الأمّ كاترين أبو حيدر، رئيسة دير سيّدة صيدنايا، الموقع في العام 1945 خطرت لها فكرة ترميم دير الشاروبيم وإحياء الحياة الرهبانيّة فيه[3]. ولكن أربعين سنة مرّت قبل أن يتحقّق هدفها. إذ إنّ عمل البناء بدأ في العام 1983 والكنيسة كُرّست بعد ذلك بفترة وجيزة، ثمّ بوشر العمل على إضافة مبانٍ جديدة.
هندسة الدير
كلّ ما نعرفه عن شكل الدير، في الزمن القديم، يأتينا من وصف بوكوك الموجز، والذين وضعوا تصميم الدير الحديث، تبنّوا هذه المعلومات كأساس لإعادة بناء الكنيسة، مستخدمين الحجارة التي كانت تتكوّن منها الكنيسة القديمة، وحاولوا قدر المستطاع إعادة ترميم الموقع، محافظين على التصميم والهندسة الأصليّين.
للكنيسة مظهر جليل ومؤثر عن بعد، فهي تشبه كنائس جبل لبنان المبنيّة في العصر الوسيط. يتكوّن المدخل المسقوف من ثلاثة أعمدة يستند إليها سطح من الإسمنت، وسقف تبرز عليه عناصر زخرفيّة قديمة. أمّا باقي البناء فيتألّف من الحجارة القديمة الأصليّة التي رُصفت بانتظام لافت. غير أنّ الإسمنت الذي يجمع بينها، والظاهر بوضوح للعيان، يقلّل من جماليّة المنظر، كما هو حال المثلّث الحجريّ الحديث في الواجهة.
القسم الداخليّ بسيط ومتماسك. فالجدران غير المزخرفة تكشف للناظر حجارة قديمة تتعارض بوضوح مع السقف الإسمنتيّ المسطّح. أمّا الإيقونسطاس الحجريّ ذو الطراز الحديث، فيحجب الطرف الشرقيّ بكامله، وقد رفعت عليه إيقونات معاصرة؛ والجدران مزيّنة جزئيًّا بمراحل من حياة يسوع.
شيّدت حديثًا قبّة جرس على شكل برج مرتفع خلف الكنيسة وعلى مقربة من منحدر شاهق، تتألّف من كتل عدّة مكعّبة الشكل، تتقلّص حجمًا كلّما صعِدَت لتكوّن هرمًا ممتدًّا نحو العُلى. الأجزاء السفلى الضخمة تفتقر إلى النوافذ، أمّا الجزء الأعلى فتحفّ به القناطر من جميع الجهات. يقع هذا البرج في أعلى نقطة من الأراضي التابعة للدير ويمكن رؤيته من بعيد. وينتصب على مقربة منه صليبان حجريّان بحجمين مختلفين. وثمّة سلالم نُحتت في الصخر تؤدّي إلى هذه المعالم، عبرها يتمكنّ الزائر من أن يمتّع ناظريه بمشهد رائع من التلال والسهول ينكشف أمامه.
يقع شمال الكنيسة بناء كبير مخصّص للزوار والحجّاج. الطابق الأرضيّ مبنيّ من الحجارة القديمة، والطوابق الثلاثة العليا تقابلها أروقة مزدانة بالقناطر. وكما في قبّة الجرس، فإنّ هذه الطوابق تتقلّص حجمًا كلّما ارتفع مستواها لتكوّن شكلاً هرميًّا لافتًا. على مستوى الطابق الأرضي أقيمت قاعتان كبيرتان تحتويان عددًا من الكراسي والأرائك. وهكذا، تنعم الأعداد الغفيرة من الضيوف، التي تجتمع في هذه الغرف بانتظام، بضيافة سخيّة قوامها فاكهة الموسم مع الشاي والقهوة والحلوى والبسكويت. أمّا الطوابق العليا، فتحتوي اثنتين وعشرين غرفة نوم تغصّ جميعها بالضيوف، في فصل الصيف.
على الجانبين يقوم مبنيان شيّدا تبعًا للشكل الهرميّ ذاته. أحدهما يحتوي مكتبة وغرفًا أخرى مخصّصة للرهبان، والآخر يحتوي على صوامع للرهبان. خلفهما بناء مؤلّف من طوابق عدّة ما يزال قيد البناء، على أن يضم، مستقبلاً، صوامع للرهبان وغرف استقبال ومنامة للضيوف.
يملك الدير حوالى سبعمائة هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة في جهتيه الشماليّة والغربيّة. وزرعت أشجار التفّاح والكرز والمشمش وغيرها في قسم صغير من هذه الأرض، كما تنمو بجانب الدير أشجار السرو وتحوط الحدائق بمبنى الزوّار. أخيرًا، ثمّة منسك بُنيَ حديثًا من حجارة قديمة إلى جانب البستان. وعلى موضع مهدّم، أُسّس دير أرثوذكسيّ للرهبان والحجّاج والزوّار الذين يرغبون بالصلاة والتأمّل، أو بمجرّد التمتّع بالهدوء والجمال الأخّاذ الذي يتّصف به هذا الموقع العريق المميّز.
حامي الشرق
يبلغ ارتفاع تمثال السيد المسيح (تنفيذ النحات الروسي الكسندر روكافيشنيكوف) 29 مترًا: 16مترًا ارتفاع القاعدة، و13 مترًا طول التمثال. يضمّ نصبين لآدم وحواء لحظة طلب الغفران عن الخطيئة البشرية. بحسب صحيفة “آرافوت” الأرمنية تم تجميع أجزاء من التمثال ونحتها في أرمينيا. يعدّ ثاني أكبر تمثال في العالم، بعد تمثال المسيح الملك في ريو دي جانيرو (يبلغ ارتفاعه 38 مترًا).
يمكن مشاهدة التمثال من سهول القلمون السوري الممتدة حتى دمشق وغوطتها الشرقية جنوبًا، مدينة النبك على الطريق الدولي بين دمشق ومدينة حمص ، كذلك يمكن رؤيته من جبل صنين ومنطقة بعلبك وصولا إلى جبل الشيخ عند المثلث السوري اللبناني مع الجولان المحتل أقصى جنوب غرب سوريا.
تعود فكرة تمثال السيد المسيح إلى العام 2008، بمبادرة من “صندوق التراث الروحي للحواري بولس”، وأشرفت “أكاديمية موسكو اللاهوتية في الثالوث- سرجيوس لافرا” على التنفيذ، بمباركة بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، آنذاك، اغناطيوس الرابع هزيم، وبطريرك موسكو وعموم روسيا السابق أليكسي الثاني، من ثم يوحنا العاشر بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الارثوذكس، وأنجز التمثال في 2013.
لمناسبة إطلاق العمل في تنفيذ التمثال عام 2008، أكد البطريرك هزيم أن “العمل الذي يجري بمباركة البطريرك أليكسي الثاني سيكون لبنة أخرى في صرح العلاقات الروحية الموغلة في أعماق القرون بين كنيستينا”، وعبر عن الأمل في أن يصبح الدير قبلة للحجاج المسيحيين وغيرالمسيحيين من أنحاء العالم.
[1] مسالك الأبصار في جملة ديارات الشام، 356.
[2] بوكوك، ريتشارد، وصف الشرق (لندن 1745) المجلّد الثاني، القسم الأوّل، ص 134.
[3] أزر الزهر، دير الشاروبيم في صيدنايا (دمشق، 2004)، 11