دير القدّيس جاورجيوس – صيدنايا البطريركيّ
المصدر: كتاب “أديار الكرسي الأنطاكي”، منشورات جامعة البلمند، 2007.
عند المدخل الجنوبيّ لصيدنايا وعلى تلّة مقابلة لدير السيّدة العذراء يرتفع هذا الدير القديم على ألف ومائتي متر عند سطح البحر. وإذا وقفتَ على شرفة دير القدّيس جاورجيوس يمكنك رؤية بلدة صيدنايا بكاملها.
في العام 1985، شهد دير القدّيس جاورجيوس حركة إحياء، إذ أُلحق بدير سيّدة صيدنايا وجُدّدت أقسامه القديمة. وفي العام 1995، عُيّن الأرشمندريت يوحنا التلّي رئيسًا فعمل على توسيعه بكلّ عزم وإيمان. فاستصلحت الأراضي المحيطة بالدير، وبالإضافة إلى التين والعنب والسرو زُرعت مؤخّرًا مائتا شجرة زيتون.
تأسّست بوادر الرهبنة في الدير، في العام 1995 وتثبّت النظام الرهبانيّ فيه بشكل نهائيّ في العام 1999. بالإضافة إلى الرئيس، يقيم في هذا الصرح سبعة رهبان يسعون معًا إلى عيش حياة روحيّة تحدّدها القوانين الرهبانيّة. يبدأ يومهم عادةً في الساعة الرابعة صباحًا، ويقيمون الصلاة الجماعيّة في الساعة السادسة. ثمّ ينطلقون إلى أعمالهم المختلفة بين الساعة الثامنة ووقت الغداء. تلي ذلك فترة استراحة ودراسة أو عمل، تستمرّ حتّى الساعة الرابعة من بعد الظهر، ثمّ يشترك الرهبان بصلاة الغروب، ويؤدّون صلواتهم الشخصيّة، كي يتابعوا من بعدها العمل، من الساعة السادسة مساءً حتّى موعد العشاء. الصلوات الليليّة بعد العشاء يتبعها حديث روحيّ مع رئيس الدير، ويختم الرهبان نهارهم بالقراءة في صوامعهم. ويعلن عن بدء الصلاة في اليوم التالي، عبر قرع التالندو، وهو لوح خشبيّ يطرق عليه بإيقاع معيّن، بواسطة مطرقة خشبيّة، ثلاث مرّات قبل نصف ساعة من الصلاة.
يسعى الرهبان إلى توسيع الدير وقد التزموا تلبية الحاجات الروحيّة لدى شباب ضواحي دمشق. فينظّمون الخلوات التي تتراوح مدّتها بين ثلاثة وسبعة أيّام، كما يستقبلون مجموعات مختلفة من الرهبان والعلمانيّين في الصيف. وينظّم الدير مرّة في الشهر لقاءً عامًّا لأصدقائه الذين يأتون بمجملهم من ضواحي دمشق.
تاريخ الدير
كما هو شأن معظم الأديار اللبنانيّة والسوريّة، فإنّ أصل نشأة دير القدّيس جاورجيوس غير معروف. يروي التقليد الشعبيّ أنّ نسّاكًا أسّسوه في القرون المسيحيّة الأولى، ولكنّ الدليل التاريخيّ أو الأثريّ غير موجود رغم أنّ قدم عهد الجدران السفليّة للكنيسة واضح جدًّا.
يرد أوّل ذكر للدير في العام 1727، لدى الرحّالة الروسيّ بارسكي الذي يؤكّد قدم الدير بقوله إنّ “الكنيسة صغيرة جدًّا وهي رغم قدمها صلبة وبناؤها حجريّ. بجانبها تقوم القلاليّ الأحدث عهدًا منها والتي يتألّف منها “الدير الصغير” إلى الجهة الجنوبيّة. في هذا الجزء يعيش راهب واحد فقط يهتمّ بالكنيسة”[1]. ومن جهته وجد الرحّالة الإنكليزيّ الأسقف ريتشارد بوكوك راهبًا واحدًا فقط في الدير، عندما زاره في العام 1737. بالإضافة إلى ذلك، تفيد كتابات لاحقة أنّ الدير شيّد في الصخر وأنّه قائم جزئيًّا في مغارة، ما يدلّ على أنّه كان ملجأً للنسّاك الذين سكنوا المغاور والكهوف. أمّا القبور التي وُجدت حول الدير، فهي على الأرجح قبور هؤلاء النسّاك.
حتّى العام 1924 كان دير القدّيس جاورجيوس – صيدنايا مقرّ مطرانيّة سلفكيا السابقة والتي كانت تشمل قرى عدّة محيطة، وتمتدّ عبر سلسلة جبال لبنان الشرقيّة لتصل إلى وادي البقاع[2]. رمّم المطران جرمانوس شحادة الدير في العام 1905، وأسّس فيه مقرًّا أسقفيًّا في العام 1912، كما خطّط لبناء متحف تُعرض فيه الإيقونات الثلاثون، التي يملكها الدير والتي تعود بمعظمها إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر. ولكنّ أبرشيّة سلفكيا حُلّت في العام 1924 وأُلحقت منطقة صيدنايا بأبرشيّة دمشق. تاليًا، هُجر دير القدّيس جاورجيوس لقرون عدّة إلى أن بدأت حركة إحيائه الحديثة في العام 1985.
هندسة الدير
يتألّف الدير من أبنية عدّة شيّدت في حقب زمنيّة مختلفة. فقط الجدران السفليّة للكنيسة أصليّة. ويبدو أنّ الأجزاء المبنيّة بالحجر الأبيض المقصوب والمرصوف بترتيب تعود إلى العهد البيزنطيّ المبكّر، أمّا القبّة المشيّدة بالباطون والمغطّاة بالقرميد الأحمر، وبرج الجرس المرتفع، فقد أضيفا حديثًا.
يتّخذ داخل الكنيسة شكل مربّع يعلوه سقف مسطّح وقبّة وتحوط به جدران من الباطون. وحده القسم الغربيّ المحفور في الجرف الصخريّ لم يُطلَ بالجصّ؛ أمّا الطرف الشرقيّ فيحتوي على الهيكل، وقبّة نصف دائريّة وتزيّنه إيقونة جداريّة حديثة للعذراء والطفل.
إبّان بناء المقرّ الأسقفيّ في العام 1912، اكتشف العمّال كهفًا أمامه مدخل مدرّج. وعلى غرار الكهوف الموجودة في دير الشاروبيم المجاور، ربّما كان النسّاك المسيحيّون القدماء يستخدمون هذه المغاور، وقد حوّلها المتروبوليت جراسيموس شحادة إلى مزار مكرّس على اسم القدّيس جاورجيوس، يقع على بعد عشرين مترًا جنوب-شرق الكنيسة، ويمكن دخوله عبر ممرّ محفور في الصخر وبضع درجات حجريّة. ومؤخرًا زوّد بقبّة قرميديّة حمراء وبمائدة هيكل وإيقونسطاس ورصفت أرضه بالرخام.
شيّد بناء الدير القديم في العام 1085 وجدّد في العام 1905، وهو يشبه، من حيث هندسته، دير صيدنايا لكونه يتألّف من طابقين وممرّ مقنطر. وثمّة غرفتان في الطابق الأرضيّ تتصل إحداهما بالأخرى لتشكّلا قاعة كبيرة. يحتوي الطابق الأوّل، المخصّص للرهبان، على شرفة ومطبخ وغرفة جلوس وثلاث صوامع. كما شيّدت أبنية عدّة يطلّ أحدها على البستان، وهو يصلح كمكتبة ومشغل وقبو. والبناء الآخر يتألّف من طابقين وبُني على المنحدر الجبليّ أسفل الطريق. يضمّ الطابق العلويّ قاعة محاضرات ومكتبة كبيرة ومكتبًا وغرفة طعام وقسمًا سكنيًّا خاصًّا؛ وفي الطابق السفليّ سبع صوامع وملحقاتها مطبخ وقاعة طعام ومشغل خياطة وغرفة كمبيوتر وقبو. في الدير أيضًا مبنًى ثالث شُيّد خلف الجدار الشماليّ للكنيسة وهو مخصّص لاستضافة الزوّار: فالطابق الأوّل يحتوي على قاعة هي مدخل مزوّد بممرّ مقنطر، وعلى غرفة استقبال كبيرة. تزيّن الطابق العلويّ النوافذ المقنطرة. أخيرًا ثمّة بناء تعلوه قبّة يحتوي على متجر صغير لبيع التذكارات، وقد شيّد مباشرة عند أسفل السلّم المؤدّي نزولاً إلى المزار السفليّ. ويمكن من فوق رؤية القبّة التي رصفت بالقرميد الأحمر، والتي ترتكز على قاعدة من الرخام الأبيض، تزيّنها نوافذ من الزجاج الملوّن وأعمدة إيونيّة أنيقة.
الإيقونات
في العام 1905، رُفع في الكنيسة إيقونسطاس خشبيّ يمتدّ من شمالها إلى جنوبها. وقد رُسمت إيقوناته بمعظمها في العام 1961. لكنّنا نجد، إلى يمين الإيقونسطاس ويساره، إيقونتي التجلّي الإلهيّ والمعموديّة، وكلاهما من تنفيذ اليد عينها في العام 1707. شخصيّات هذه الإيقونات رُسمت على خلفيّة داكنة وعبّر عن الفضاء بطريقة رمزيّة، ما يجعل هذه الرسوم أحاديّة البُعد. الخطوط بسيطة وأنيقة والوجوه بيضاويّة والأجساد نحيلة لكنّها مفتولة العضلات. والواقع أنّ أسلوب هذه الإيقونات شبيه بالنمط الباليولوجيّ، الذي بلغ ذروته في القرن الرابع عشر، وتابعه رسّامو العصر ما بعد البيزنطيّ من كريت وسورية. ويعتبر بدء القرن الثامن عشر العصر الذهبيّ لفنّ رسم الإيقونات الملكيّة ومن أهمّ وجوهه الرسّام الحلبيّ الكبير نعمة المصوّر. تنتمي هذه الرسوم إلى أسلوب نعمة الخاصّ وقد تكون من تنفيذه هو أو من تنفيذ أحد تلاميذه المقرّبين. ثمّة إيقونات أخرى تعود إلى حقب زمنيّة مختلفة عُلّقت أيضًا على جدران الكنيسة. فعلى الجدار الجنوبيّ، إلى يمين الإيقونسطاس، نجد إيقونة البشارة التي رسمت في القرن الثامن عشر. صُوّر موضوع هذه الإيقونة على خلفيّة باروكيّة النمط، تتألّف من الأبراج العالية ذات السقوف الحمراء، والأفاريز والقناطر المزوّدة بالأعمدة الكورنثيّة. وتشكيل الرسم غير مألوف: إذ ترتفع شجرة في الوسط قاطعةً المشهد إلى اثنين، ما يرمز إلى شجرة يسّى وأصل يسوع الملكيّ، أو ربّما أيضًا إلى شجرة ممرا، حيث استقبل إبراهيم الزوّار الإلهيّين الثلاثة، رمز الثالوث المقدّس.
ثمّة إيقونة أخرى تحمل تاريخ السنة 1882، وتوقيع الرسام الفلسطينيّ الشهير ميخائيل القدسيّ. إلى اليمين، وعلى خلفيّة من اللون الأزرق الفاتح نرى القدّيسين نيقولاوس وخريستوفوروس مصوّرَين بألوان نضرة، ضمن خطوط مبسّطة ومنحنيات دائريّة. إلى اليسار، وعلى خلفيّة من اللون الأخضر الزيتيّ الملاك ميخائيل والقدّيس جاورجيوس مرسومين كليهما بألوان داكنة مع ثياب وملامح أنيقة، وهذا أسلوب خاصّ بالقرن التاسع عشر المبكّر.
من بين الإيقونات الأكثر إثارة للاهتمام، في مجموعة الدير، إيقونة للقدّيس جاورجيوس معلّقة إلى يمين مدخل الكنيسة. راسم هذه الإيقونة غير معروف ولكنّها قُدّمت إلى الدير في العام 1828. وكما هو معهود في الإيقونوغرافيا البيزنطيّة التقليديّة، نرى القدّيس ممتطيًا صهوة جواد وهامًّا بذبح التنّين، طفل جزيرة ميتيلن راكبًا خلفه، بينما الملك والملكة والأميرة ينظرون إلى المشهد، وقد أخذهم الخوف والرعدة. قوّة الأسلوب وديناميّته، وتناقض النور والظلّ، تنمّ عن الأثر الغربيّ، وربما تشير إلى أنّ راسم الإيقونة كريتيّ أو يونانيّ.
[1] Barsky, p. 324.