القربان الأقدس كيف نفهمه ونعيشه؟
يتكلم مرقس الإنجيلي عن تأسيس سر القربان الأقدس في العشاء الفصحي الأخير، وهذا القربان يدل على المعنى العميق لحياة يسوع وموته: حين أعطى ذاته لله وللبشر من خلال سر القربان، ودعا تلاميذه أن يصنعوا ما صنعه يسوع كعلامة عهد حب، وغذاء للخلاص، وبداية لحياة جديدة للجميع وحضور وسط أحبائه (مرقس 14: 12-16، 22-26). ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته.
أولاً: وقائع النص الإنجيلي (مرقس 14: 12-16، 22-26)
12 وفي أَوَّلِ يَومٍ مِن الفَطير، وفيه يُذبَحُ حَمَلُ الفِصْح، قال له تَلاميذُه: “إِلى أَينَ تُريدُ أَن نَمضِيَ فنُعِدَّ لَكَ لِتَأكُلَ الفِصْح؟
تشير عبارة “أَوَّلِ يَومٍ مِن الفَطير” إلى اليوم الأول من الأيام السبعة التي كان اليهود يأكلون فيه الفطير، أي اليوم الرابع عشر من نيسان وهو اليوم المعروف بيوم الجمعة العظيمة الذي تُذبح فيه الحملان (يوحنا 18: 28)، ولكن حسب التقويم اليهودي بدأ ذلك اليوم عند غروب اليوم الذي قبله أي يوم الخميس. ويؤكد القديس يوحنا الذهبي الفم ذلك بقوله “أول أيام الفطير هو اليوم السابق لأيام الفطير، لأن العدّ يبدأ دائماً من المساء. ويشار إلى اليوم الذي يُذبح فيه الفصح في المساء، أي جاؤوا في يوم الخميس”. وفي أول يوم من الفطير يستعمل فيه خبز فطير أي خبز بلا خمير. حيث يعتبر الخمير علامة الفساد والنجاسة. كما جاء في تعليم بولس الرسول “فلْنُعيِّدْ إِذًا، ولكِن لا بِالخَميرةِ القَديمة ولا بِخَميرةِ الخُبْثِ والفَساد، بل بِفَطيرِ الصَّفاءِ والحَقّ” (1 قورنتس 5: 8). ومنذ مساء اليوم الرابع عشرمن نيسان (يوم التهيئة) كان لا بد من إبعاد كل خمير عن البيوت وكان أكل الخمير محرّما مدة سبعة أيام (خروج 2: 15-20). وكان العيد يدوم ثمانية أيام، بما فيها 14 نيسان، يوم التهيئة. فكان الفصح ليلة واحدة، ووجبة واحدة، ولكن عيد الفطير الذي كان مربوط به يستمر أسبوعا كاملا. وكان إسرائيل باحتفاله بعيد الفصح أي بالتحرير القديم من مصر، يتذكر ويؤوّن نعم الله راجيا الخلاص المسيحاني. كان هذا العيد هو أحد الاعياد الكبرى الثلاثة الذي يذهب الحجاج فيه إلى هيكل أورشليم كما في عيد العنصرة وعيد الاكواخ. باختصار العشاء تمّ مساء الخميس حسب التقويم اليهودي الذي يقع 14 نيسان عند غروب اليوم الذي قبله. إن يسوع وهو عالم أنه لا يمكنه أن يمارس الفصح في الوقت المعين، قد عمله مسبقا بيوم واحد “ذُبِحَ حَمَلُ فِصْحِنا، وهو المسيح” (1 قورنتس 5: 7) في الساعة عينها التي فيها كانت حملان الفصح تذبح في الهيكل. أما عبارة “يُذبَحُ حَمَلُ الفِصْح” فتشير إلى العادة في أورشليم حيث كانت تُذبح الحملان في الهيكل بعد ظهر الرابع عشر من نيسان، في اليوم الأخير قبل ليلة البدر. وكانت الحملان تؤكل في المساء في داخل المدينة، في الأسرة أو الجماعات المؤلفة من عشرة أشخاص إلى عشرين (خروج 12: 1-14). قد أسلم يسوع للموت عشية عيد الفطر (يوحنا 18: 28، أي يوم تهيئة الفصح، بعد الظهر (يوحنا 19: 14)، في الساعة ذاتها التي تفرض الشريعة ذبح الحملان في الهيكل أمَّا عبارة “حَمَلُ الفِصْح” باليونانية πάσχα فتشير إلى حمل صحيح، ذكر، حولي الذي أمر الله العبرانيين أن تقوم كل أسرة منهم بذبحه، وتأكله ليلاً، وتنضح بدمه عضادتي بابها. بفضل هذه العلامة يفتديهم ملاك الهلاك عندما يأتي ليضرب كل أبكار المصرّيين (خروج 12: 5). وإن التقليد المسيحي قد رأى في المسيح “حمل الفصح الحقيقي، الحمل (يوحنّا 1: 29) الصحيح (خروج 12: 5)، أي بلا عيب ولا دنس (1 بطرس 1: 19) الذي يفدي البشر بثمن دمه (عبرانيّين 9: 12 -15)؛ أمَّا عبارة “عيد الفِصْح” و”عيد الفطير” فتشير إلى أن العيدان كانا مختلفين في الأصل. عيد الفصح لدى اليهود هو في الأصل عيد الرُّعاة الذين يذبحون حملا ويقدمونه إلى الله طالبين البركة من أجل القطيع. وأمَّا عيد الفطير فهو عيد المزارعين الذين يقدّمون البواكير طلبا للبركة من اجل الغلال. ولكن العيدان أصبحا عيداً واحداً (التكوين 16: 1-8) كما يؤكد ذلك لوقا الإنجيلي “قَرُبَ عيدُ الفَطيرِ الَّذي يُقالُ له الفِصْح” (لوقا 22: 1)؛ وسُمي عيد الفطير لأنه كان مطلوبا من اليهود أن يعزلوا كل الخمير من بيوتهم قبل بدء العيد (الخروج 12: 15). أمَّا سؤال تَلاميذُ الى يسوع: “إِلى أَينَ تُريدُ أَن نَمضِيَ فنُعِدَّ لَكَ لِتَأكُلَ الفِصْح؟” فيشير إلى مبادرة يسوع في الاستعداد للوليمة الفصحيِّة؛ فهو يخاطب تلاميذه كما يخاطبون رئيس الأسرة أو الجماعة التي تحتفل بعشاء الفصح يُسأل عمّا يفعل فيجيب ويقدّم التعليم. إذ كان على الحجاج أن يجدوا غرفة في داخل مدينة اورشليم. ويفترض مرقس الإنجيلي أن عشاء يسوع الأخير كان عشاء الفصح إذ تمّ في أجواء عيد يؤوًّن التحرير والعهد الموسوي ويبعث الرجاء المسيحاني (يوحنا 14: 24-25). ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم “بينما كان يهوذا يخطط كيف يسلمه، كان بقية التلاميذ يهتمون بإعداد الفصح”؛ أمَّا عبارة ” لِتَأكُلَ الفِصْح ” إلى احتفال اليهود بعيد الفصح بواسطة عشاء طقسي في مساء يوم 14 من شهر نيسان. وفي نفس الوقت يقدم يسوع نفسه، جسده ودمه كغذاء لكي يتمكن التلاميذ من تناول طعام الحياة الأبدية، وهو طعام جديد كما وعدهم سابقا “مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير” (يوحنا 6: 54).
13 فأَرسَلَ اثنَينِ مِن تَلاميذِه وقالَ لَهما: اِذهَبا إِلى المدينة، فَيَلقاكُما رَجُلٌ يَحمِلُ جَرَّةَ ماءٍ فاتبَعاه
تشير عبارة “اثنَينِ مِن تَلاميذِه” إلى بطرس ويوحنا كما هو واضح في إنجيل لوقا “أَرسَلَ بُطُرسَ ويوحَنَّا وقالَ لَهما: اِذهبَا فأَعِدَّا لَنا الفِصْحَ لِنَأكُلَه” (لوقا 22: 8). حيث أن رقم 2 يشير إلى الحب، كان بطرس يمثل الإيمان ويوحنا يمثل المحبة، فإن السيد أرسل الإيمان العامل بالمحبة ليهيئ العلية للعشاء الفصحي. أمَّا عبارة “رَجُلٌ يَحمِلُ جَرَّةَ ماءٍ” فتشير إلى أمر غير مألوف، لأنَّ النساء هن اللواتي يذهبن إلى العين ليستقين ماء كما هو الحال مع المرأة السامرية (يوحنا 4:7). أمَّا هنا فالمستقي هو رجل، واضح أن الرجل كان خادماً، يقوده اثنين من تلاميذ يسوع إلى صاحب المنزل الذي يبدو أن يسوع كان قد رتَّب معه أمر استعمال الغرفة، لأن يسوع لم يرد أن يعرف أحدٌ أين يأكل الفصح خوفا من اليهود. وقد أجمع الآباء الأولون أن حامل جرة الماء هذا كان القديس مرقس الإنجيلي.
14 وحَيثُما دَخَل فَقولا لِرَبِّ البَيت: يَقولُ المُعَلِّم: أَينَ غُرفَتي الَّتي آكُلُ فيها الفِصْحَ مَعَ تَلاميذي؟
تشير عبارة “رَبِّ البَيت” إلى تلميذ لم يُذكر اسمه ولا اسم ذلك الغرفة رغبة في الأمن. أمَّا عبارة “غُرفَتي” باليونانية κατάλυμα إلى العلية الكبيرة التي احتاج يسوع إليها ليستخدمها من أجل عشاء الفصح؛ بمعنى أن يسوع قام بكل الترتيبات مع رب البيت، فصارت الغرفة كأنها غرفته. وهنا يؤكد يسوع سلطانه على ما يختص بالآخرين.
15 فيُريكُما عُلِّيَّةً كبيرَةً مَفْروشَةً مُهَيَّأَةً، فأَعِدَّاهُ لَنا هُناك. 16فذهَبَ التِّلميذانِ وأَتَيا المَدينة، فوجَدا كما قالَ لَهما وأَعدَّا الفِصْح
تشير عبار “عُلِّيَّةً” باليونانية ἀνάγαιον إلى مكان الذي أكل فيه يسوع مع تلاميذه العشاء الأخير، وأسّس سرّ الافخارستيا. وهي عبارة عن غرفة واسعة مفروشة مجهّزة في أعلى البيت (لوقا 22: 12). وتقع في الطابق الأعلى مفروشة بالأثاث اللازم مثل منضدة وأريكة للاستراحة في الجلوس وطشت ماء ومنشفة (يوحنا 13: 4)؛ ويُشار إليها اليوم في كنيسة علية صهيون في القدس. وفي كثير من المنازل الفلسطينية هناك طابق يحتوي على مكان رحب للاجتماعات والخدمات هو نوع من صالون يُدعى “علّية”.
أما عبارة “وجَدا كما قالَ لَهما” فتشير إلى مبادرة يسوع في تهياه العشاء الفصحى مع انه يبدو أنها مبادرة تلاميذه، إذ سألوه إِلى أَينَ تُريدُ أَن نَمضِيَ فنُعِدَّ لَكَ لِتَأكُلَ الفِصْح؟ (مرقس 14: 12). وأمَّا عبارة “فأَعِدَّاهُ لَنا هُناك” فتشير إلى إعداد العشاء من الخبز الفطير والنبيذ والأعشاب المُرّة للاحتفال بذكرى خروج شعب العهد القديم من مصر. ومن المحتمل أنه كان هناك حمل، لكنه لم يرد ذكره، لأنّ حمل الله الحقيقي كان حاضراً، وهو المسيح. وقد دعا يوحنا المعمدان الرب يسوع “حَمَلُ اللهِ” (يوحنا 1: 29).
22 وبَينما هم يَأكُلون، أَخذَ خُبزاً وبارَكَ، ثُمَّ كَسَرَه وناوَلَهم وقال: خُذوا، هذا هُوَ جَسَدي
تشير عبارة “وبَينما هم يَأكُلون” إلى خلال أكلهم الفصح اليهودي، وهو تقليد طقسي الشكل والأصل، قدَّم يسوع الفصح الجديد، الفصح الحق: جسده ودمه المبذولين من أجل العالم كله! إذ كان رب الأسرة يقدم أربع كؤوس خمر للحاضرين، وكانت الكؤوس الأولى والثانية من طقوس عشاء الفصح عند اليهود، وإنجيل لوقا وحده أشار للكأس الثانية (لوقا 22: 17)، وكانت الكأس الثالثة تسمى كأس البركة (لوقا 22: 20). وهذا يعني أن المسيح اتبع في هذه الليلة طقوس الفصح اليهودي، لكنه بدلا من خروف الفصح قدم الخبز الذي حوَّله إلى جسده. والمعنى أن المسيح صار هو فصحنا (1 قورنتس 5: 7). فهو ذبيحة الفصح الجديد، وصارت الافخارستيا هي نفسها ذبيحة الصليب. إنَّ الافخارستيا ليست ذبيحة جديدة بل هي نفسها ذبيحة الصليب. هي ليست تكرار لذبيحة الصليب بل هي استمرار لذبيحة الصليب. وهكذا تحقق سرّ الفصح في جسد الرب، حيث سيق الى الذبح كحمل، مخلصًا إيانا من عبودية العالم. أمَّا عبارة “خُبز” باليونانية ἄρτος (معناها الخبز المختمر أي مصنوع من عجين خمير) فتشير الى الخبز المختمر المستخدم في الكنيسة الارثوذكسية في الذبيحة الإلهية، في حين الكنيسة الكاثوليكية تستخدم الفطير بدعوى أن السيد المسيح بلا خطية والخمير يشير للخطية. وللكنيسة الارثوذكسية لها رأي آخر أن المسيح حمل خطيتنا، وبآلامه وصليبه وموته قتل خطيئتنا. أما عبارة “بارَكَ، ثُمَّ كَسَرَه وناوَلَهم” فتشير إلى طقس معروف عند اليهود في ولائم أعيادهم: حيث أن المترأس يأخذ الخبز ويرفع إلى الله صلاة بركة ويوزِّع لقمة لكل مدعوّ. وحين يأكلونها، يعترفون كلهم أنها عطية من الله “مبارك الله إلى الأبد”. إن أفعال “أخذ”، “بارك وكسر”، “ناول”، لها طابع رسمي وليتورجي. وقد وردت هذه الأفعال أيضاً في معجزة الخبز والسمكتين “فأَخَذَ يسوعُ الأَرغِفَةَ وشَكَر، ثُمَّ وزَّعَ مِنها على الآكِلين” (يوحنا 6: 11). وقد اتخذت الكنيسة من هذه المعجزة نموذجاً أولياً لسر تأسيس القربان الأقدس. أمَّا عبارة “خُذوا، هذا هُوَ جَسَدي” فلا تشير الى مجرد تشبيه بين الخبز والجسد أي كما يُكسر الخبز كذلك يُكسر جسد المسيح؛ بل هو مطابقة بين الخبز والجسد. هذا هو جسدي أي بذل يسوع جسده وذاته. وهنا السيد المسيح أسس سر الافخارستيا. ولا بد من الانتباه الى الأجواء الفصحية التي سادت هذه العشاء لما فيه من قيمة ذبائحيه (الدم المقرّب من أجل جماعة الناس). ويعلق العلامة ترتليانوس “لقد أخذ يسوع خبزاً وقدَّمه الى رسله محوِّلا إياه الى جسده بقوله: هذا هُوَ جَسَدي” (ضد مرقيون 4: 40). أمَّا عبارة “جَسَدي” فتشير الى الشخص، وبهذا المعنى يسوع يعطي ذاته.
23 “ثُمَّ أخَذَ كأَساً وشَكَرَ وناوَلَهم، فشَرِبوا مِنها كُلُّهم”
تشير عبارة “أخَذَ كأَساً” الى كأس البركة وهو الكأس الثالث حيث كان رب البيت يقدِّم أربع كؤوس على الحاضرين أثناء عشاء الفصح. أمَّا عبارة “شَكَرَ” باليونانية εὐχαριστήσας (معناها الشكر) فتشير إلى الشكر لذلك يسمى القداس الالهي سر الافخارستيا أي الشكر. فسر الشكر هو نفسه ذبيحة الصليب. وبفضل ذبيحة المسيح أدخلت المسيحية كلمة الشكر على لغة الأمم الوثنية. هذا هو المعنى الأساسي الذي ترمز إليه فريضة العشاء الرباني المعروفة بالافخارستيا” أي خدمة “الشكر”.
24 وقالَ لَهم: هذا هو دَمي دَمُ العَهد يُراقُ مِن أَجلِ جَماعَةِ النَّاس
تشير عبارة “هذا هو دَمي” الى إضفاء يسوع معنى جديداً على العمل الطقسي في مباركة الخبز والخمر حيث ربط هذا العمل بموته الذي كان على وشك ان يتم. وذكر الدم يضيف فكرة الذبيحة، فيسوع يقدم حياته ذبيحة. ويعلق القديس كيرلس الاورشليمي” حوَّل يسوع قديما في قانا الجليل الماء الى خمر بمجرَّد إرادته، أفلا يكون حريا بالتصديق إذأ حوَّل الخمر الى دمه؟” (التعليم المسيحي عن الأسرار 4: 2). يسوع الذي أدرك معنى موته، إذ شعر بأنه يبذل دمه لمغفرة خطايا البشر، وعلى التلاميذ ان يعملوا ذلك لذكره كما ورد في انجيل لوقا “إِصنَعوا هذا لِذِكْري “(لوقا 22: 19) ورسائل بولس (1 قورنتس 11: 24). وليس المطلوب هنا مجرد ذكر الحدث وتكرار العشاء السرِّي، بل تأويين ذبيحته على الصليب، واستباقاً للوليمة السماوية. أمَّا عبارة “دَمُ العَهد” فتشير الى قول موسى النبي “هُوَذا دَمُ العَهدِ الَّذي قَطَعَه الرَّبُّ معَكم”. يوحّد موسى بصفته الوسيط بين الرب والشعب بينهما رمزيا برش دم ذبيحة واحدة على المذبح الذي يُمثِّل الرب، ثم على الشعب (خروج 24: 8). فالميثاق يُبرم بالدم (احبار 1:5) كما سيُبرم العهد الجديد بدم المسيح “دَخَلَ يسوع القُدْسَ مَرَّةً واحِدَة، لا بِدَمِ التُّيوسِ والعُجول، بل بِدَمِه، فحَصَلَ على فِداءٍ أَبَدِيّ” (عبرانيين 9: 12-26)، وحقّق العهد الذي قُطع قديما في جبل سيناء بدم الضحايا “هُوَذا دَمُ العَهدِ الَّذي قَطَعَه الرَّبُّ معَكم” (خروج 24: 8)، ويُخبر ضمنا بتحقيق العهد الجديد الذي تبنَّا به الانبياء “ها إِنَّها تَأتي أَيَّام، يقولُ الرَّبّ، أَقطعُ فيها مع بَيتِ إِسْرائيلَ (وبَيتِ يَهوذا) عَهداً جَديداً” (ارميا 31: 31). ان موت يسوع فتح “العهد الجديد” أي عهد النعمة التي تنبأ عنه ارميا وكشف شروطه، وهي الغفران الالهي وسكنى الله في الناس. في دم المسيح خُتم العهد بطريقة نهائية بين الله والبشر. أمَّا عبارة “العَهد” فلا تشير الى ميثاق أي اتفاق بين طرفين متكافئين، ولكنها هبة شرعية يمنحها عظيم او غني لمصلحة آخر، وحيث ان صورة هذه الهبة كانت تتم بالتعهد او بالوصية صار للكلمة هذه “عهد”. وكلمة للعهد الجديد مأخوذة من نبوءة ارميا النبي “ها إِنَّها تَأتي أَيَّام، يقولُ الرَّبّ، أَقطعُ فيها مع بَيتِ إِسْرائيلَ (وبَيتِ يَهوذا) عَهداً جَديداً” (إرميا 31:31)، فهذا العهد هو عهد الغفران بالدم. وخَتم أي عهدٍ يكون بالدم فاستخدم الذبائح في العهد القديم، ودم المسيح في العهد الجديد. أمَّا عبارة “يُراقُ” باليونانية ἐκχυννόμενον (اسم الفاعل والمستعمل في صيغة الحاضر المستمر)، يشير إلى ذبيحة الصليب التي تشكل عملاً مستمراً غير دموي يتمم في الكنيسة. فذبيحة يسوع وفديته من اجل الناس هي تحقيق لنبوءة اشعيا “هو حَمَلَ خَطايا الكثيرين وشَفَعَ في مَعاصيهم” (اشعيا 53: 12) وتتكلم النبوءة عن عمل العبد المتألم ليفدي الناس من الشر. لقد جاء يسوع ليضع حياته كثمن الفدية حتى يستردَّ الخاسرون حياتهم من جديد. والمراد بالفدية الانقاذ عن طريق دفع الثمن. وأمَّا عبارة “جماعة الناس” باليونانية πολλῶν (ومعناها كثيرين) قد تكون اشارة الى اشعيا “يُبَرِّرُ عَبْديَ البارُّ الكَثيرين” (اشعيا 52: 11)، والمقصود منها تحديد مجال عمل يسوع التكفيري كأنه عن كثيرين فقط وليس الكل. ان كثيرين سيحصلون على بركة الذبيحة الواحدة لذلك الواحد “ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس” (مرقس 10: 45). العهد الجديد سيختمه هو بدم نفسه. فقد ذكر يسوع ان موته ذبيحة بديلة عن البشر. كان موت يسوع على الصليب ختماً لاتفاق جديد بين الله والبشر. كان اتفاق العهد القديم يتضمن غفران الخطايا بدم ذبيحة حيوانية (خروج 24: 6-8) ولكن عوضا عن تقديم حمل بلا عيب على المذبح، جاء يسوع كحمل الله، ليقدّم نفسه ذبيحة لغفران الخطيئة مرة واحدة والى الابد. فقد كان يسوع الذبيحة الإلهية الكاملة عن الخطايا، وقد ختم بدمه الاتفاق الجديد بين الله وبيننا، ويُسمى العهد الجديد، والآن يستطيع كل منا ان يأتي الى الله في كامل الثقة بواسطة يسوع الذي يخلصنا من خطايانا.
25 “الحَقَّ أَقولُ لَكم: لن أَشرَبَ بَعدَ الآنِ مِن عَصيرِ الكَرمَة، حتى ذلك اليَومِ الَّذي فيه أَشرَبُه جديداً في مَلَكوتِ الله”
تشير عبارة “عَصيرِ الكَرمَة” إلى الفرح ويدل هذا الفرح على مستوى جديد في السماء. أمَّا عبارة “ذلك اليَومِ” فتشير الى اليوم الأخير أي عندما يجيء الرب ثانية في المجد. أمَّا عبارة “أَشرَبُه جديداً” فتشير الى تطلع يسوع الى ما بعد موته، الى حياته الممجدة، والى الشركة الكاملة في ملكوته فيشرب عصير الكرمة، أي يفرح حين يكمل المختارون في ملكوت الله. وهذا يرمز لفرح الله بأن كنيسته، عروسه، معه في الملكوت وللأبد، وفرح الكنيسة بوجودها مع الله في ملكوته. والفرح الذي نحصل عليه الآن هو العربون. ويعلق القديس كيرلس الإسكندري “من عادته أن يدعو ملكوت الله التبرير بالإيمان، التطهير بالمعمودية والاشتراك بالروح القدس والعبادة بالروح، لذلك يقول لن أذوق مثل ذلك الفصح، الظاهر نموذجاً بصورة الطعام، حتى يتمّ في ملكوت الله اي في الوقت الذي فيه يُبشر بملكوت السماوات”. فمائدة الرب لها بُعدان: بُعد ماضي يشير الى الصليب، وبُعد مستقبلي يُشير نحو التكامل في الملكوت السماوي. وقد قام يسوع بأمرين على مائدة الفصح هما: تمرير الخبز وشرب الكأس وأعطاهما معنى جديداً بأنهما يشيران الى جسده ودمه. وقد استخدم الخبز والخمر لإيضاح أهمية ما كان يوشك ان يفعله على الصليب كما جاء في تعليم بولس الرسول” فإِنِّي تَسَلَّمتُ مِنَ الرَّبِّ ما سَلَّمتُه إِلَيكُم، وهو أَنَّ الرَّبَّ يسوع في اللَّيلَةِ الَّتي أسلِمَ فيها أخَذَ خُبْزًا وشَكَرَ، ثُمَّ كَسَرَه وقال: هذا هو جَسَدي، إِنَّه مِن أَجْلِكُم. اِصنَعوا هذا لِذِكْري. وصَنَعَ مِثلَ ذلكَ على الكَأسِ بَعدَ العَشاءِ وقال: هذه الكَأسُ هي العَهْدُ الجَديدُ بِدَمي. كُلُّمَا شَرِبتُم فاصنَعوه لِذِكْري. فإِنَّكُمَ كُلَّمَا أَكَلتُم هَذا الخُبْز وشَرِبتُم هذِه الكَأس تُعلِنونَ مَوتَ الرَّبِّ إِلى أن يَأتي” (1 قورنتس 11: 23-26). ويعتبر القديس يوحنا الذهبي الفم أن كلمات يسوع هذه تحققت بعد قيامته عندما أكل وشرب مع تلاميذه: “إني لا أشرب… لأنه كان يكلمهم عن آلامه وصليبه، فيضيف كلاماً عن القيامة أيضاً. عندما يذكر الملكوت يقصد سوف ترونني قائماً”. اما عبارة “مَلَكوتِ الله” فتشير الى وصفه بصورة الوليمة المسيحانية (أشعيا 25: 6).
26 “ثُمَّ سَبَّحوا وخَرَجوا إِلى جَبَلِ الزَّيتون”
تشير عبارة “سَبَّحوا” الى التسبيح بالمزامير (115-118) التي كان اليهود يُنشدونها كصلاة شكر في نهاية وليمة الفصح. وكانت هذه المزامير تبدأ بكلمة “هللويا” أي سبّحوا الرب! لقد أكل الرب يسوع وتلاميذه وليمة الفصح، ورنَّموا بعض المزامير وقرأوا من الكتاب المقدس، وصلوا. وباختصار، سجل مرقس الإنجيلي كيف أنَّ عشاء الرب، الذي سُمِّي: “أفخارستيا”، والذي ما زال يُمارس في الاجتماعات المسيحية حتى اليوم. أمَّا عبارة “جَبَلِ الزَّيتون” بالعبرية הַר הַזֵּיתִים فتشير الى جبل مغطّى بزيتون كثير (نحميا 8 :15)، يقع شرقيّ أورشليم وخلف وادي قدرون (يوحنا 18 :1). وكان يسوع يذهب يسوع إليه مرارًا ولا سيّما في الأيّام السابقة لآلامه (مرقس 11 :1؛ 13 :3؛ 14 :26). وإن لوقا الإنجيلي جعل صعود يسوع من على جبل الزيتون (أعمال 1 :12).
ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 14: 12-16، 22-26)
بعد دراسة وقائع النص الانجيلي (مرقس 14: 12-16، 22-26)، يمكن ان نستنتج انه يتمحور حول نقطتين: مفهوم القربان الاقدس وكيف نعيشه.
أ) مفهوم القربان الأقدس
القربان الأقدس هو سر يَحضر فيه المسيح حقيقة بجسده ودمه تحت شكلي الخبز والخمر ليقرِّب نفسَه للآب السماوي بصورة غير دموية، وليهبَ نفسَه قوتاً لنفوس المؤمنين. وهو ليس كباقي الأسرار يمنحها المسيح لتولي النعمة، بل القربان الأقدس هو المسيح نفسه، ينبوع النعم كما يقول القديس توما الاكويني (3/ 65: 3). القربان بالعبرية קָרְבָּן أي الذي يُقَرَّب لله، وفي اليونانية δῶρόν، والقربان في اللغة العربية الفصحى مشتق من فعل قَرُبَ تعني دنا منه وإليه. أمَّا في الالفاظ العامية فكلمة القربان مشتقة من السريانية. ومن هنا جاء فعل قرّب ومعناه أعطاه القربان المقدس وتقرّب المؤمن أي تناول القربان. فنحن نقدم لله قربانة من الدقيق والماء وهو يقدم لنا هدية، وهي جسد ابنه المحيي. ولا يزال سر القربان لغزًا يحتاج إلى وقت لقبوله وإدراكه.
وللقربان الأقدس تسميات أخرى مثل عشاء الرب، والافخارستيا، وكسر الخبز، والذبيحة الالهية، والشركة، والقداس. ويُسمَّى عشاء الرب “لأنه يُذكرنا بالفصح الذي أكله الرب مع تلاميذه. والافخارستيا لفظة يونانية εὐχαριστέω (معناها الشكر) وتدل على عطية ونعمة مقبولة من يد الرب بالفرح والشكر والعرفان، وتذكرنا بالبركات التي تُشيد بأعمال الله: الخلق والفداء والتقديس (لوقا 22:19، 1 قورنتس 11:24، متى 26:26). وبها نُعبِّر عن شكرنا لله ولأجل عمل المسيح في سبيلنا. أمَّا “كسر الخبز” فهي عبارة استعملتها الجماعة المسيحية الاولى للدلالة على اجتماعاتهم الافخارستيا “كانوا يُواظِبونَ على تَعليمِ الرُّسُل والمُشاركة وكَسْرِ الخُبزِ والصَّلَوات” (اعمال الرسل 2: 42)؛ وهم يعبّرون بذلك عن ان جميع الذين يتناولون من هذا الخبز الواحد المكسور أي المسيح، يدخلون في الشركة معه “أَلَيسَ الخُبْزُ الَّذي نَكسِرُه مُشارَكَةً في جَسَدِ المسيح؟” (1 قورنتس 10: 16). وأمَّا عبارة “الذبيحة الالهية” فتشير الى الافخارستيا التي تجسّد في الحاضر ذبيحة المسيح المخلص “لْنَقَرِّبْ للهِ عن يَدِه ذَبيحَةَ الحَمْدِ في كُلِّ حين” (عبرانيين 13: 15).
ويدعى سر القربان أيضا “شركة”، كما يقول الرسول “شركة جسد المسيح وشركة دم المسيح” (1 قورنتس 10: 16) وكلمة شركة باليونانية κοινωνία، وتعنى الاتحاد. لأننا بهذا السر نتحد بالمسيح الذي يجعلنا شركاء في جسده وفي دمه ومع المؤمنين الآخرين لنكون جسداً واحدا “فلمَّا كانَ هُناكَ خُبزٌ واحِد، فنَحنُ على كَثرَتِنا جَسَدٌ واحِد، لأَنَّنا نَشتَرِكُ كُلُّنا في هذا الخُبْزِ الواحِد” (1 قورنتس 10: 17). إن كلمة “شركة”، التي نستعملها للإشارة إلى الافخارستيا، تلخص في ذاتها البعد العامودي والبعد الافقي لهبة المسيح، إذ ندخل في شركة مع حياة المسيح بالذات ومع الأشخاص الذين هم قريبين منا. ويعلق البابا بندكتس السادس عشر” من يتعرف على يسوع في القربان المقدس، يتعرف عليه في الأخ المتألم، في الجائع والعطشان، في الغريب، والعريان، في المريض والسجين؛ وهو ينتبه لكل إنسان، ويلتزم بشكل ملموس، بجميع الذين يعانون الحاجة”. وأمَّا عبارة “القداس” فتعني تقديس النفس بالقداسات الإلهية التي نتناولها (الجسد والدم)، لذلك يقول الكاهن القداسات للقديسين. وتعني أن الناس الذين تقدسوا بالتوبة والاعتراف ونقُّوا أنفسهم ينالوا القداسات الإلهية. وفي اللغة اللاتينية Missa معناها إرسال المؤمنين Missio في نهاية القداس وذلك ليحققوا إرادته تعالى في حياتهم اليومية.
وأهم رموز القربان المقدس في الكتاب المقدس هي: المن في البرية، (يوحنا 6: 46) ذبائح العهد القديم: ذبيحة المحرقة للتكفير عن الخطيئة (خروج 29: 38)، ذبيحة السلامة للشكر والتكريس للرب (تثنية 12: 18)، ذبيحة الخطية للتكفير عن الخطايا (الاحبار 4،5) ذبيحة الإثم للخطايا الشخصية (الاحبار 5:15)، وتقدمة الدقيق (احبار 2: 4) وأشهرها ذبيحة حمل الفصح (خروج 12: 5) التي ترمز إلى المسيح، فصحنا الحقيقي الذي ذُبح لأجلنا على خشبة الصليب. وعليه فإن المسيحيين الآن هم في غنى عن هذه الذبائح، لانَّ المسيح رُفع عن الصليب ذبيحة طاهرة كاملة لأجلهم “تَأَلَّمَ يسوعُ أَيضًا في خارِجِ الباب لِيُقَدِّسَ الشَّعْبَ بِذاتِ دَمِه” (عبرانيين 13: 11). فهم يقدمون ذبيحة الالهية ذبيحة الافخارستيا التي وعد بها يسوع وأسسها.
ب) الوعد بالقربان الأقدس (يوحنا 6: 22-71)
بعد معجزتي تكثير الخبز والمشي على البحر، اللتين مهَّد بهما يسوع للوعد بالافخارستيا، قال يسوع لليهود: “لا تَعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَفْنى بلِ اعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَبْقى فَيَصيرُ حَياةً أَبَدِيَّة ذاكَ الَّذي يُعطيكموهُ ابنُ الإِنسان” (يوحنا 6: 27). تكلم يسوع عن الخبز الحقيقي الذي ينزل من السماء ويعطي العالم الحياة الابدية ثم دّل على نفسه بانه هو هذا الخبز السماوي الذي يعطي الحياة، وطلب الايمان بذلك (يوحنا 6: 35-51). واخيراً، أعلن ان الخبز الحقيقي النازل من السماء هو جسده، وان نيل الحياة الابدية مرتبط بأكل جسده وشرب دمه ” الخُبزُ الَّذي سأُعْطيه أَنا هو جَسَدي أَبذِلُه لِيَحيا العالَم” (يوحنا 6: 51-58). وحينئذ خاصَمَ اليَهودُ بَعضُهم بَعضاً وقالوا: كَيفَ يَستَطيعُ هذا أَن يُعطِيَنا جسدَه لِنأكُلَه؟ فقالَ لَهم يسوع: الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: إِذا لم تَأكُلوا جَسدَ ابنِ الإِنسانِ وتَشرَبوا دَمَه فلَن تَكونَ فيكُمُ الحَياة. مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير. لأَنَّ جَسَدي طَعامٌ حَقّ وَدمي شَرابٌ حَقّ مَن أَكَلَ جَسدي وشَرِبَ دَمي ثَبَتَ فِيَّ وثَبَتُّ فيه (يوحنا 6: 52-56). كلمات يسوع “مأكل حقيقي”، “مشرب حقيقي”. لا تفسر مجازيا انما حرفياً، لان عبارة “أكل جسده وشرب دمه “تعني في لغة الكتاب المقدس بالمعنى المجازي المطارد الدموية والفتك به (المزمور 2:26؛ اشعيا 20:9؛ ميخا 3:3). بالإضافة الى ذلك فهم السامعون معنى الكلام ولم يُصحِّحهم يسوع، كما كان يفعل عاده كلما التبس عليهم كلامه وأخطأوا فهمه (يوحنا 3:3).
وقد أكَّد القديس اوغسطينوس على الايمان بالحضور الحقيقي بقوله “هذا الخبز الذي ترونه على المذبح، وقد قدسه كلام الله، هو جسد المسيح؛ وهذه الكأس، او بالحري ما في هذه الكأس، وقد قدَّسه كلام الله، هو دم المسيح” (العظة 227). وقال ايضا: “كان المسيح يحمل نفسه بيديه حين قال وهو يقدِّم لنا جسده: هذا هو جسدي” (في تفسيره للمزمور 33، العظة 10:1). وكيف يتحول الخبز والخمر الى جسد الرب ودمه؟ بكلمة الله الكلي القدرة. كما خلق كل شيء من العدم بكلمته، فهو قادر ان يحوّل الخبز الخمر الى جسده ودمه. والكنيسة آمنت دوما بهذا التعليم.
ج) وضع القربان الأقدس أو الإفخارستيا
بدأ الرب يسوع خدمته بتأسيس سر المعمودية يوم اعتمد في الأردن. وبتأسيس سر الافخارستيا أنهى خدمته. وكما أننا في المعمودية ندفن معه ونقوم معه، كذلك في سر الافخارستيا نرى موته وقيامته ونشترك معه فيهما. لقد سبق الرب يسوع وهيَّأ أذهان تلاميذه بأنه سيُقدمِّ لهم جسده ودمه (يوحنا 51:6-58). وقد قدَّم لكنيسته عبر الأجيال جسده المصلوب والقائم من الأموات ودمه المبذول غفراناً للخطايا، قدًّم لكنيسته ذبيحة الصليب الواحدة غير المتكررة خلال سر الشكر في العشاء الاخير. “في العشاء الاخير، ليلة أُسلم، إن يسوع المسيح وضع ذبيحة جسده ودمه، لكي تستمر بها ذبيحة الصليب على مرّ الاجيال، الى ان يجئ، ولكي يُودع الكنيسة ذكرى موته وقيامته” (تعليم الكنيسة الكاثوليكية، 1323). واقوى برهان من الكتاب المقدس على الحضور الحقيقي هو في كلام وضع السر الذي أورده مرقس البشير (مرقس 14: 22-24) ومتى البشير (متى 26: 26-28) ولوقا بشير (لوقا 22: 15-20) وبولس الرسول (1 قورنتس 11: 23-25)، مختلفين في بعض الالفاظ، متفقين في الموضوع.
إن الكلام الذي يقال على الخبز، هو “هذا هُوَ جَسَدي” هي الصورة المعروفة بالبطرسية التي نقلها إلينا متى ومرقس”؛ وأمَّا الصورة المعروفة بالبولسية التي نقلها الينا بولس ولوقا، فهي “هذا هو جَسدي يُبذَلُ مِن أَجلِكُم”، فيكون معنى الكلام: ان ما أقدمه لكم هو جسدي الذي يُبذل لأجلكم. أمَّا الكلام الذي يُقال على الكأس فهو معروف بالصورة البطرسية، وهو حسب مرقس: “هذا هو دَمي دَمُ العَهد يُراقُ مِن أَجلِ جَماعَةِ النَّاس” (مرقس 14: 24) ومتى الإنجيلي يضيف “لمغفرة الخطايا”؛ ومعروف ايضا بالصورة البولسية حسب لوقا: “هذِه الكَأسُ هي العَهدُ الجَديدُ بِدمي الَّذي يُراقُ مِن أَجْلِكم ” (لوقا 22: 20)، ولا يوجد عند بولس الرسول عبارة” لمغفرة الخطايا”. فيكون معنى الكلام: ان ما في هذه الكأس هو دمي الذي ختم به العهد الجديد كما ختم العهد القديم ايضا بالدم على ما ورد في سفر الخروج “هُوَذا دَمُ العَهدِ الَّذي قَطَعَه الرَّبُّ معَكم “(الخروج 8:24) وهذا الدم يسفك لأجلكم.
وفي هذا العشاء الأخير وردت كلمة “عهد” بالعبرية הַבְּרִית وباليونانية διαθήκη في ظرف هو غاية في الأهمية. فبعد أن أخذ يسوع خبزاً وقسَّمه قال: “خُذوا، هذا هُوَ جَسَدي”، أخذ كأس خمر وباركها وناولها لتلاميذه. ويحفظ مرقس أوجز عبارة قالها يسوع في هذه المناسبة “هذا هو دَمي دَمُ العَهد يُراقُ مِن أَجلِ جَماعَةِ النَّاس” (مرقس 14: 24). ويضيف متى “لِغُفرانِ الخَطايا”، إذ قال “فهذا هُوَ دَمي، دَمُ العَهد يُراقُ مِن أَجْلِ جَماعةِ النَّاس لِغُفرانِ الخَطايا” (متى 26: 28). ويذكر لوقا وبولس الرسول: “هذِه الكَأسُ هي العَهدُ الجَديدُ بِدمي” (لوقا 22: 20، 1 قورنتس 11: 25). وينفرد لوقا بقوله “الَّذي يُراقُ مِن أَجْلِكم”. وتشكَل مناولة الكأس عملاً طقوسيا. والكلمات التي نطق بها تضعه في علاقة مع الأمر التي يوشك يسوع أن يتمّمه: أي موته “الذي يقبله طوعاً لفداء كثيرين.
يسوع يُقدِّم نفسه كذبيحة ينبئ بها عن آلامه باستخدامه الكلمات والألفاظ عينها التي كانت تتميز بها ذبيحة عبد الله المـتألم التكفيرية: إنه يأتي “ليخدم”، “ويبذل حياته”، و”يموت “فداء” عن كثيرين (مرقس 10: 45، لوقا 22: 37، اشعيا 53: 10-12). فضلاً عن ذلك، فإن الإطار الفصحي في عشاء الوداع” (متى 26: 2) يؤكد وجود علاقة مقصودة ومحدَّدة، بين موت المسيح وذبيحة الحمل الفصحي. ويُستشفّ من هذه الدلالة الأخيرة أن يسوع يعتبر نفسه عبد الرب المتألم (اشعيا 53: 10). وهكذا يصبح وسيط العهد الذي كانت تشير إليه رسالة التعزية “جَعَلتُكَ عَهداً لِلشَّعبِ ونوراً لِلأُمَم” (اشعيا 42: 6).
لكن دم العهد يذكرنا أيضاً بأن عهد سيناء قد ختم بالدم (خروج 24: 8): فتسْتبدَل بذبائح الحيوانات ذبيحة جديدة يحقق دمها فعلياً اتحاداً نهائياً بين الله والبشر. هكذا يتم الوعد “بالعهد الجديد” الذي تنبأ به كل من إرميا وحزقيال وبفضل دم يسوع سوف تتحوَّل قلوب البشر، ويمنح لهم روح الله. فموت المسيح الذي هو في نفس الوقت ذبيحة فصح، وذبيحة عهد، وذبيحة تكفير، سوف يُؤدي إلى تحقيق رموز العهد القديم، التي كانت تشير إلى هذا الموت بصور مختلفة. وسيظل هذا العمل حاضراً بيننا بفضل فعل طقسي وهو القداس الالهي الذي أمر به يسوع “إِصنَعوا هذا لِذِكْري” (لوقا 22: 19). والذكرى هنا ليست معناها أن نتذكر ما حدث في هذه الليلة كما لأمرٍ غائب عنا، بل إعادة دعوته أو تمثيله في معنى فعال. الكلمة اليونانية المستخدمة ἀνάμνησινتعني تذكر المسيح المصلوب والقائم من الأموات وتذكر ذبيحته لا كحدث ماضي بل تقديم ذبيحة حقة حاضرة وعاملة أي ذكرى فعَّالة. وهي كلمة طقسية تفيد تكرار الطقس مُحدد صنعه الرب يسوع معهم في تلك الليلة. ويُردد بولس الرسول أنه يصنع ما تسلمه من الرب يسوع “فإِنِّي تَسَلَّمتُ مِنَ الرَّبِّ ما سَلَّمتُه إِلَيكُم، وهو أَنَّ الرَّبَّ يسوع في اللَّيلَةِ الَّتي أسلِمَ فيها أخَذَ خُبْزًا وشَكَرَ، ثُمَّ كَسَرَه وقال: هذا هو جَسَدي، إِنَّه مِن أَجْلِكُم. اِصنَعوا هذا لِذِكْري. وصَنَعَ مِثلَ ذلكَ على الكَأسِ بَعدَ العَشاءِ وقال: هذه الكَأسُ هي العَهْدُ الجَديدُ بِدَمي. كُلُّمَا شَرِبتُم فاصنَعوه لِذِكْري. فإِنَّكُمَ كُلَّمَا أَكَلتُم هَذا الخُبْز وشَرِبتُم هذِه الكَأس تُعلِنونَ مَوتَ الرَّبِّ إِلى أن يَأتي” (1 قورنتس 11: 23-26).
وأما يوحنا الإنجيلي لم يورد تأسيس سر الافخارستيا وذلك لسببين: السبب الأول لأن السر كان يمارس في الكنيسة حوالي سبعين سنة قبل كتابة إنجيل يوحنا، حيث كتب الإنجيلي يوحنا إنجيله حوالي سنة 100 ميلادية، حيث لا داعي أن يشرح ماهية ما كانت تمارسه الكنيسة كل هذه المدة. هذا فضلًا عن أن الاناجيل الثلاثة التي أوردت تفاسير السر كانت قد انتشرت في العالم. والقديس يوحنا عموما نلاحظ أنه لم يكن يُكرر ما ورد في باقي الأناجيل الثلاثة، حيث كان تركيزه مُنصباً على ما يُثبت لاهوت المسيح، لذلك أورد معجزة الخبز والسمكتين وهي تشير أولا إلى لاهوته وثانيا فهي هي رمز للمسيح خبز الحياة، اما السبب الثاني فقد أورد القديس يوحنا حديث عن يسوع خبز الحياة (يوحنا 6: 22-66).
واختلف المسيحيون في تفسيرهم لمعنى تذكار عشاء الرب. فهناك ثلاثة آراء رئيسية: الرأي الأول يقوم بتحوّل الخبز والخمر فعليا الى جسد المسيح ودمه الحقيقيين. وهذه هي عقيدة الكنيسة الكاثوليكية، فقد حدد مجمع ترانت “ان كل جوهر الخبز يستحيل الى جسد المسيح وكل جوهر الخمر يستحيل الى دم المسيح، مع بقاء أعراض الخبز والخمر؛ فما نأكله هو جسد حقيقي، قال عنه السيد الرب: “لأَنَّ جَسَدي طَعامٌ حَقّ وَدمي شَرابٌ حَقّ” (يوحنا 6: 55) وحق تعني الشيء الذي لا يتغير ولا يزول وهذا ليس سوى الله. وردد بولس الرسول نفس المفهوم “أَلَيسَت كَأسُ البَرَكةِ الَّتي نُبارِكُها مُشارَكَةً في دَمِ المسيح؟ أَلَيسَ الخُبْزُ الَّذي نَكسِرُه مُشارَكَةً في جَسَدِ المسيح؟” (1 قورنتس 10: 16). إن الخبز والخمر يتحوّلان بطريقة سرّية إلى جسد المسيح ودمه.
والرأي الثاني يقوم على انَّ الخبز والخمر يظلان كما هما بلا تغيير إلا ان المسيح موجود روحيا بالإيمان فيهما ومن خلالهما، فالخبز والخمر هما رمزان في الافخارستيا؛ واما الراي الثالث فهو ان الخبز والخمر تذكار مستمر لذبيحة المسيح، وهما لا يتغيران. ولكن كل المسيحيين متفقون على ان عشاء الرب هو تذكار لموت المسيح على الصليب من اجل خطايانا، كما انه إشارة الى مجيء ملكوته في المجد. وعندما نشترك في عشاء الرب نبدي قبولنا لعمله، ويتقوى إيماننا.
وهناك سببان أساسيّان لإعطائنا الربّ يسوع سر القربان: لقد وعد الربّ يسوع أن يكون معنا حتّى انقضاء الدهر (متّى 28: 20). وفي سرّ القربان الأقدس يوفّر الربّ يسوع لنا علامة مرئيّة ووسيلة فعّالة لكونه موجوداً لنا ونحن موجودون وحاضرون أمامه. وأما السبب الثاني للسر القربان فهو يعطينا يسوع الحياة ويثبت فينا كما صرّح يسوع “أَمَّا أَنا فقَد أَتَيتُ لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاس وتَفيضَ فيهِم” (يوحنّا 10:10)، وفي موضع آخر قال “الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: إِذا لم تَأكُلوا جَسدَ ابنِ الإِنسانِ وتَشرَبوا دَمَه فلَن تَكونَ فيكُمُ الحَياة. مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير. مَن أَكَلَ جَسدي وشَرِبَ دَمي ثَبَتَ فِيَّ وثَبَتُّ فيه” (يوحنّا 6، 53-56).
كيف نعيش سر القربان الأقدس؟
إن الاحتفال بالقربان الأقدس إنما هو فعل إيمان بوجود يسوع كاملا، أي بلاهوته وناسوته، تحت اعراض الخبز والخمر، كما كان قبل ألفي سنة على الأرض، وكما هو الآن في السماء، وإن كنا لا نراه بأعيننا. يحوّل القربان المقدّس الأرضَ إلى سماء. وفي هذا الصدد يقول تعليم المسيحي الكاثوليكي: “ان سر القربان الاقدس هو سر تقوى، وعلامة وحدة، ورباط ووليمة فصحية، فيها نتناول المسيح غذاء، وتمتلئ النفس بالنعمة، ونعطى عربون الآتي” (تعليم الكنيسة 1323). وفي عظة يسوع عن خبز الحياة يقول “إِذا لم تَأكُلوا جَسدَ ابنِ الإِنسانِ وتَشرَبوا دَمَه فلَن تَكونَ فيكُمُ الحَياة. مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير” (يوحنا 6: 53-54).
نحن نعلم أننا عندما نأكل جسد الرب ونشرب دمه، ننال الحياة فينا، إذ نكون كما لو أننا واحد معه، نسكن فيه وهو يملك أيضًا فينا. نحن نُحوّل الطعام العادي إلى جسدنا ولكن طعام الإفخارستيّا يُحوّلنا إلى جسد المسيح الربّ. ويُعلق القدّيس أوغسطينوس “أنت لن تُحوّلني إلى ذاتك كما تُحوّل الطعام إلى جسدك؛ بل إنّك سوف تتحوّل إليّ”. (اعترافات 7، 10، 18). وبينما يتحول الخبز الجسدي في جسمنا ويسهم في إعالته، في الافخارستيا نحن بصدد خبز مختلف: لسنا نحن من نُحوِّله، بل هو يحوِّلنا، فنضحي بهذا الشكل مطابقين ليسوع المسيح، أعضاء في جسده، أمرًا واحدًا معه.
القداس هو فترة نحياها في السماء. بوجود السيد الرب وسطنا في الكنيسة وتصير الكنيسة سماء. لذلك يصرخ الكاهن “ارفعوا قلوبكم الى العلى”. ومن هنا لا بد من الاستعداد الروحي. وهذا الاستعداد يتطلب منا ان نكون في حالة النعمة والمصالحة الأخوية والصوم القرباني والشكر بعد المناولة.
أ) حالة النعمة مطلوبة لتناول القربان المقدس
النتائج العملية التي استنتجها القديس بولس من كلام وضع سر القربان هي أن تناول المرء القربان الأقدس على خلاف الاستحقاق يُعتبرُ جُرماً موجهاً الى جسد الرب، وان تناول القربان حسب الاستحقاق يعتبرُشركة في جسد المسيح ودمه “فمَن أَكَلَ خُبْزَ الرَّبِّ أَو شَرِبَ كَأسَه ولَم يَكُنْ أَهْلاً لَهما فقَد أذنَبَ إِلى جَسَدِ الرَّبِّ ودَمِه” (1 قورنتس 27:11). فليَختَبِرِ الإِنسانُ نَفْسَه، ثمَّ يَأكُلْ هكذا مِن هذا الخُبْز ويَشرَبْ مِن هذِه الكَأس. فمَن أَكَلَ وشَرِبَ وهو لا يُمَيِّزُ جَسَدَ الرَّبّ، أَكَلَ وشَرِبَ الحُكْمَ على نَفْسِه. “أَلَيسَت كَأسُ البَرَكةِ الَّتي نُبارِكُها مُشارَكَةً في دَمِ المسيح؟ أَلَيسَ الخُبْزُ الَّذي نَكسِرُه مُشارَكَةً في جَسَدِ المسيح؟” (1 قورنتس 16:10). وفي هذا الصدد قال القديس قبريانوس عن الذين يتناولون الافخارستيا دون توبة ولا مصالحة: “انهم يغتصبون جسد الرب ودمه، فهم يخطئون الآن اليه باليد والفم، فيأتون جرما أكبر من نكرانهم له” (في الساقطين 16). وهذا ما دعا الكنيسة إلى إصدار الأمر حتى مفاده أنه لا يجرؤ أحد على تناول جسد الرب إلا بعد أن يعترف بخطاياه، كي لا يثقل ضميره بخطيئة مميتة، بل من رأى انه في حال خطيئة جسيمة ان يمتنع عن تناول جسد الرب قبل الاعتراف السري اولا. ولهذا كله يقول الكاهن في القداس في الرتبة الشرقية قبل التناول المقدسات للقديسين، ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم “طهّروا إذًا نفوسكم وهيّئوا أرواحكم لاستقبال هذه الأسرار”.
ب) المصالحة الأخوية مطلوبة لتناول القربان الأقدس:
لا يمكن أن يتناول القربان الأقدس من لا يكون في علاقة قويمة مع الآخرين. فيقول الكتاب “فإِذا كُنْتَ تُقَرِّبُ قُربانَكَ إِلى المَذبَح وذكَرتَ هُناكَ أَنَّ لأَخيكَ علَيكَ شيئاً، فدَعْ قُربانَكَ هُناكَ عِندَ المَذبح، واذهَبْ أَوَّلاً فصالِحْ أَخاك، ثُمَّ عُدْ فقَرِّبْ قُربانَك” (متى 5: 23). لا تكون التقوى حقيقية إلا إذا احببنا الله والقريب في آن واحد. “إِذا قالَ أَحَد: إِنِّي أُحِبُّ الله وهو يُبغِضُ أَخاه كانَ كاذِبًا” (1 يوحنا 4: 20). لذا نلاحظ في القداس أنه يبدأ بصلاة المصالحة، والصلح بين الناس وبعضهم، في القداس الشرقي؛ وأما في القداس الغربي فنجد رتبة المصالحة قبل التناول. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم “إن الرّب يسوع المسيح قد جاء ليبحث عنك، أنت يا من كان بعيدًا عنه، وهو يريد أن يتّحد بك، وأنت، ألا تريد أن تتّحد مع أخيك؟ ” (العظة 24 عن الرّسالة الأولى إلى أهل قورنتس).
ج) المشاركة في القداس الإلهي
إن القربان الأقدس هو ذكر لسر المسيح الفصحى بين البشر. لذلك فهو ينبوع النعمة كلها. فلا بد من الاستعداد الروحي للمتقدم إلى تناول جسد الرب بالمشاركة في القداس الإلهي فيتحد فكرا وقلبا بالقداس الإلهي، الذي يخلِّد ذبيحة الصليب، وبالوليمة المقدسة، حيث يتناول جسد المسيح ودمه، وينال بذلك خيرات الذبيحة الفصحية، ويُجدد العهد الذي قطعه الله بدم المسيح للبشر، ويتهيأ للوليمة الأبدية في ملكوت الآب، بإيمان ورجاء، مخبرا بموت الرب إلى أن يأتي.
وتساعد المناولة المؤمن للاستعداد للحياة الابدية “مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير” (يوحنا 6: 54) وفي هذه الصدد يقول القديس ايريناوس “جسدنا الذي يُغذِّيه جسد المسيح ودمه هو عضو من اعضائه ولذلك “فهو جدير بقبول عطية الله التي هي الحياة الابدية” (5: 2: 3). وفي هذا الصدد نجد في تعليم كنيسة أورشليم المسيحيّ للمعمّدين الجدد (القرن الرّابع (رقم 4) أهمية المشاركة في المناولة “عندما أعلن الرّب يسوع المسيح بنفسه عن الخبز: “هذا هُوَ جَسَدي”، من يَجرؤ بعد على التردّد؟ وعندمّا يؤكّد بنفسه بشكل قاطع: “هذا هُوَ دَمي”، من يستطيع أن يشكّ بذلك؟ إذًا نحن نتشارك بجسد الرّب يسوع المسيح ودمه بِملء اليَقين. لأنّه، تحت أعراض الخبز، هو الجسد الّذي يُعطى لك؛ وتحت أعراض الخمر، هو الدمّ الّذي يُعطى لك، حتّى إنّك باشتراكك بجسد الرّب يسوع المسيح وبدمه، تصبح جسدًا واحدًا ودمًا واحدًا معه. بهذه الطريقة، وبحسب القدّيس بطرس، نصبح “شُرَكاءَ الطَّبيعَةِ الإِلهِيَّة” (2 بطرس 1: 4).
د) الشكر بعد التناول
على المؤمن بعد التناول أن يقضي بعض الوقت في رفع صلاة حمدٍ وشكرٍ حتى يدرك سمو هبة التناول. فماذا نقدم لله على عطية جسده ودمه سوى التسبيح والشكر. وكان اليهود يسبحون المزامير 115-118 بعد أكل الفصح والتلاميذ سبحوا بعد أن أكلوا الفصح الجديد. هكذا بعد نهاية القداس وأثناء التناول يتوجب علينا ان نسبح الرب كما جاء في تعليم بولس الرسول “في وَسْطِ الجَماعَةِ أُسَبِّحُكَ” (عبرانيين 2: 12). فالإفخارستيا فعل حمد وشكر وهدفها الاتحاد بالمسيح اتحادا يدفع المتناول الى ان يجعل من حياته اليومية حياة حمد وشكر بقيادة الروح القدس وأن يأتي ثمار المحبة.
ه) التناول على الأقل مرة في السنة
أوصى سيدنا يسوع المسيح بالاحتفال بالقربان الأقدس بقوله “اعملوا هذا لذكري” والقديس بولس يطالب بتجديد العشاء تذكار موت الرب” فإِنَّكُمَ كُلَّمَا أَكَلتُم هَذا الخُبْز وشَرِبتُم هذِه الكَأس تُعلِنونَ مَوتَ الرَّبِّ إِلى أن يَأتي” (1 قورنتس 26:11). ومن هنا جاءت وصيَّة الكنيسة وهي ان يلتزم كل مؤمن، بعد قبوله المناولة الاولى، بواجب قبول المناولة المقدسة مرة واحدة في السنة على الاقل. وعليه ان يقوم بهذا الواجب خلال الزمن الفصحي، الاَّ اذا قام بإتمامه في وقت آخر من السنة، لسبب صوابي (الحق القانوني 920). وأمَّا المرضى فيحرصوا ان يتناولوا وهم لا يزالون بكامل وعيهم. ويجب الا يؤجل لمدة طويلة، منح القربان المقدس كزاد اخير للمرضى الموجودين في خطر الموت (الحق القانوني 921).
و) الصوم القرباني
يتوجب على المقبل على تناول الافخارستيا المقدسة أن ينقطع لمدة ساعة واحدة على الأقل قبل المناولة المقدسة عن كل طعام وشراب، عدا الماء والدواء. أمَّا المتقدمون في السن والمرضى والقائمون على رعايتهم يستطيعون قبول الافخارستيا المقدسة، وإن كانوا قد تناولوا شيئا ما خلال الساعة السابقة (الحق القانوني (919).
ز) السجود للقربان
السجود للقربان الأقدس هو السجود والصلاة الصامتة أمام القربان المعروض على المذبح. إنه بمثابة حوار روحي وسجود صامت مع المسيح الحاضر في القربان المقدّس. وقد نشا هذا السجود من عادة المحافظة على القرابين لإعطائها للمرضى. وظهرت في القرن الثالث عشر مع البابا أوربان الرابع، وهي امتداد لعيد خميس الجسد. وكانت جواباً على رغبة الشعب الذي يريد أن يرى الله. ويبدو واضحاً ان أهداف السجود للقربان مرتبطة باعتباره تكملةً للاحتفال – المناولة.
هذه العبادة أصبحت اليوم شائعة خاصة عند الشبيبة. إنسان اليوم بحاجة إلى علامات، ونحن في عالم المحسوس والملموس نحن بحاجة إلى الرؤية والاحساس بالسلام والفرح الداخلي. لان السجود للقربان المقدس يساعد الإنسان على الهدوء وتوحيد الشخصية وتهدئة العواطف. وكما الأيقونة الشرقية تساعد المؤمن بعد أن ينظر إليها أن يشعر أنها تنظر إليه، هكذا النظر إلى يسوع في القربان يُشعر المؤمن أن يسوع ينظر إليه. أن وجودنا في حضرة المسيح القرباني يساعدنا كي ندخل في نور المسيح. ومن هنا تأتي أهمية السجود للقربان بشكل متواتر وبقلب منفتح ومؤمنٍ.
ح) التطواف القرباني
يطوف المؤمنون بالقربان المقدس كشهادة إيمان وتقوى خاصة بمناسبة عيد جسد الرب ودمه. وفي سنة 1263 أوصى البابا أوربانوس الرابع جميع المسيحيين التطواف بالقربان المقدس في كل المدن والقرى بكل ما يقدرون عليه من الإجلال والتكريم نتيجة أعجوبة حصلت في القربان المقدس في تلك السنة في قرية بولسينا – إيطاليا. وهي أن الكاهن بينما كان يكمل خدمة القداس أمام الشعب في كنيسة القديسة كريستينا، شك بعد التقديس الجوهري في صحة وجود جسد المسيح. فلمِّا قسم القربان المقدس إلى جزأين جرى منه دمٌ حيٌّ وصبغ منديل المذبح. إن التطواف بالقربان “علامة حب” في العالم وإشارة لحضور المسيح حي الذي يسير في وسطنا ويقودنا نحو ملكوت السماوات.
ي) إضاءة شمعة أو قنديل أمام القربان
إن إضاءة شمعة او قنديل زيت ليل نهار أمام القربان المقدس في الكنائس ليست سوى فعل إيمان بوجود يسوع تحت شكلي الخبز والخمر. وعند إيقاد الشموع أو القناديل تُقال صلوات خاصة من بينها “لأنك أنت يا رب سوف تضيء شمعتي. أيها السيد الرب إلهي اجعل هكذا ظلمتي نورًا. واجعلني دائمًا أنير للآخرين. الرب نوري وخلاصي. ممن أخاف؟”.
ق) المناولة الروحية
يشدّد القديس ألفونس دو ليغوري كثيرًا على المناولة الروحية وكذلك البابا بندكتس السادس عشر. وتقوم المناولة الروحية على الرغبة بالمناولة كالصلاة التالية: “يا يسوع، أنا أؤمن بك بأنك موجود حقًا في سر القربان بجسدك ودمك ونفسك وألوهيتك. وبما أنني لا أستطيع حاليًا أن أتناول القربان، فأرجوك أن تأتي وتسكن روحيًا على الأقل في قلبي. تبارك يسوع في سر القربان الأقدس”.
ل) عيش الحياة المسيحية
ينتهي القداس بإرسال المؤمنين “اذهبوا بسلامك المسيح” وذلك ليحققوا إرادته تعالى في حياتهم اليومية ويوصلوا يسوع إلى كل البشرية كما جاء في قول البابا القديس يوحنا بولس الثاني “مِن القربان نستمد القوّة لكي نعيش الحياة المسيحية حتى نتشارك هذه الحياة مع الآخرين”.
واختصار، إن سر الافخارستيا هو الذي حافظ على الكنيسة عبر العصور بسبب وجود المسيح وسطها دائمًا، فهو وسط كنيسته كل الأيام وإلى انقضاء الدهر (متى 28: 20)، وكثير من الكنائس التي أنكرت هذا السر ضاعت مع الأيام. فالكنائس ليست فقط تعاليم، بل هي حياة يسكبها المسيح على كنيسته فتحيا، لذلك الافخارستيا هي سر الأسرار والمنبع الدائم الذي تنسكب منه حياة المسيح في الكنيسة على مر الأزمان وبه نتحد كلنا كشعب للمسيح جسد واحد وخبز واحد “فلمَّا كانَ هُناكَ خُبزٌ واحِد، فنَحنُ على كَثرَتِنا جَسَدٌ واحِد، لأَنَّنا نَشتَرِكُ كُلُّنا في هذا الخُبْزِ الواحِد” (1 قورنتس 10: 17).
الخلاصة
وصف مرقس الإنجيلي كيف بدأ عشاء الرب، الذي يسمى “أفخارستيا” أو القربان الأقدس أو القداس الإلهي، والذي ما زال يُمارس في كنائسنا حتى اليوم. لقد أكل يسوع وتلاميذه وليمة الفصح، ورنَّموا بعض المزامير وقرأوا بعض النصوص من الكتاب المقدس، وصلوا ثم قام يسوع بأمرين على مائدة الفصح هما تمرير الخبز وشرب الكاس وأعطاهما معنى جديداً وهما يشيران إلى جسده ودمه، وقد استخدم الخبز والخمر لإيضاح أهمية ما كان يوشك ان يفعله على الصليب (1 قورنتس 11: 23-29).
وكان موت يسوع على الصليب ختما لعهد جديد بين الله والبشرية، فكان العهد القديم يتضمن غفران الخطايا بدم ذبيحة حيوانية (خروج 24: 6-8) وجاء يسوع كحمل الله، ليقدم نفسه ذبيحة لغفران الخطايا مرة واحدة وإلى الأبد فقد كان نفسه الذبيحة النهائية الكاملة عن الخطايا، وقد ختم بدمه العهد الجديد بين الله وبين الناس. والآن يستطيع كل منا أن يأتي إلى الله بواسطة يسوع. ويؤكد يسوع لتلاميذه نصرتهم على الموت وان يستقبلهم معه قائلا لهم ” لَن أَشرَبَ بعدَ الآن مِن عَصيرِ الكَرْمَةِ هذا حتَّى ذلك اليَومِ الَّذي فيهِ أَشرَبُه مَعَكُم جَديداً في مَلكوتِ أَبي ” (متى 26: 29).
يحوِّلنا يسوع إلى ذاته من خلال الخبز والخمر المقدسين، الذين يحضر فيهما حقيقة يجسده ودمه الاقدسين، فلا نهمله بل ينبغي ان تناول القربان الاقدس، بل نُقبل عليه بالاستعداد الواجب ليكون غذاء لحياتنا الروحية وغذاء طريق الحياة الطويلة تجاه الحياة الحقيقيّة. إنه الزاد الأخير. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم “كي يجذبنا أكثر إلى محبّته، قدّم لنا الرّب يسوع جسده مأكلاً. لذا، فلنُقبل إليه بكثير من الحبّ والورع”. ويدعونا القدّيس أغناطيوس الأنطاكي الى “الخبز الواحد الّذي يُزوّد الدواء للخلود، والترياق للموت والغذاء الّذي يجعلنا نحيا في يسوع المسيح إلى الأبد”. فدعونا نقترب من القربان المقدّس بإيمان أكثر حيويّة في الوجود الحقيقي للربّ يسوع في سرّ القربان الأقدس، وحينها سوف نختبر قوّة الربّ ومحبّته المُحوّلة والرجاء لحياة جديدة.
دعاء
أيها ألآب السماوي، يا من جعلت ابنك يسوع كاهنا حقيقيا أزليا، يقرّب لك ذاته قربان خلاص، وذبيحة تسبيح واوصانا بان نقرِّب هذا القربان ذكرا له، امنحنا النعمة لكي نتناول جسده المبذول من أجلنا كي ننال قوة، ونشرب دمه المسفوك من أجلنا كي ننال قداسة، فنستنير بإيمان واحد ونجتمع على محبة واحدة على مثال أهل السماء فيصبح ملكوت الله قريب (مرقس 1: 15)، بالمسيح ربنا له المجد والقدرة والعزة ابد الدهور.
أعجوبة القربان المُقدّس
في القرن الثامن ميلادي: كانت الشكوك تنتاب أحد الرهبان حول الحضور الحقيقي للمسيح في القربان المُقدّس، فأخذ يصلي بحرارة للاستنارة طالباً من الله أن يرأف بضعفه. وفيما كان يحتفل بالذبيحة الإلهية في كنيسة القديس لونجينوس، وعند التلفّظ بكلام التقديس حصل ما سيُعتبر الأعجوبة القربانية الأشهر في العالم حتى اليوم: تحوَّلت القربانة إلى لحم، والخمر إلى دم بين يدي هذا الراهب، وظهر الدم بشكل خمس جلطات غير متعادلة.
وعلى مدى سنين طويلة، كان يُعاد إجراء تحاليل علمية على تلك القطع ودامت عشر سنوات، بين 1971-1981، بطلب من البابا القديس يوحنا بولس الثاني، قام فريق من المختصّين العالميين بعملية البحث والتحليل، برئاسة البروفسور أودواردو لينولي. وكانت النتائج مذهلة: اللحم والدم هما لحم ودم بشريّان. وبالرغم من أن الدم البشري، شأنه شأن اللحم، يتحول إلى مسحوق بعد مرور بضع سنوات، غير أن هذه القطع التي ثبت خلوها من أية مواد حافظة وبقيت سليمة. لا بل وجد مصل دم نضر في الجلطات وهي من فئة “أ ب” تماماً كفئة دم رجل كفن “تورينو”. وأما النقطة الأهم هنا أنه على الرغم من أحجام الجلطات الخمس المختلفة، إلا أن كل واحدة منها تزن 15:85 غ كما تزن الجلطات الخمس مجتمعة الوزن ذاته 15:85 غ. وهذا الامر يذكرنا هذه الواقعة بأن المسيح حاضر في الوقت نفسه في كل قربانة، ولكنه يبقى غير قابل للتجزئة، هذا الحبيب الذي يعطي ذاته لنا بكليتها في كل مناولة “مَن أَكَلَ جَسدي وشَرِبَ دَمي ثَبَتَ فِيَّ وثَبَتُّ فيه” (يوحنا 6: 56)؛ أما قطع اللحم فتعود الى الُبطين الأيسر من عضلة قلب كان حياًّ في لحظة الأعجوبة.
No Result
View All Result