الصلاح
كتاب ثمر الروح – البابا شنوده الثالث
الصلاح:
نتابع حديثنا عن ثمر الروح كما ورد (غل 5: 22، 23). فنتحدث عن الصلاح. ولكن كيف يمكن أن يتصف إنسان بالصلاح، بينما يقول الكتاب “ليس أحد صالحًا إلا واحد وهو الله” (مت 19: 17)؟!
المقصود طبعًا هو صلاح النسبي، ليس الصلاح المُطْلَق الذي هو من صفات الله وحده.
والمقصود بالصلاح النسبي، أية نسبة لمدى عمل الروح القدس في الإنسان، ومدى استجابة الإنسان لعمل الروح وشركته مع الروح القدس. تمامًا مثلما نفسر قول الرب “كونوا كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل” (مت 5: 48) بأن المقصود هو الكمال المطلق هو من صفات الله وحده…
وحينما نتكلم عن الصلاح، نذكر أنه على نوعين: صلاح سلبي، وصلاح إيجابي.
الصلاح السلبي هو البعد عن الخطايا، وتمثله غالبية الوصايا العشر، مثل: لا تكن لك آلهة أخرى أمامي. لا تصنع لك تمثالًا منحوتًا… لا تنطق باسم الرب إلهك باطلًا… لا تقتل. لا تزن. لا تسرق. لا تشته مال قريبك…
أما الصلاح الإيجابي، فتمثله التطويبات في العهد الجديد: طوبى للمساكين بالروح، للودعاء، لأنقياء القلب، لصانعي السلام، للرحماء. ويمثله في العهد القديم: “تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك” (تث 6: 5). وتمثله أيضًا ثمار الروح التي نتحدث عنها.
والمطلوب من الإنسان أن يسلك في الأمرين معًا: البعد عن كل أنواع الخطايا من الناحية السلبية والسلوك في كل الفضائل إيجابيًا.
الإنسان الذي يصل إلى كمال الصلاح، يشمئز من الخطية وينفر منها فإن قل صلاحه، يكون بينه وبين الخطية آخذ ورد. أما إن فقد صلاحه. فإنه يلتذ بالخطية ويستسلم لها، بل قد يسعى إليها.
إذن لكي يحيا الإنسان في حياة الصلاح، ينبغي أن يصل إلى المرحلة التي ينفر فيها من الخطية، كما قال يوسف الصديق “كيف افعل هذا الشر العظيم، وأخطئ إلى الله؟!” (تك 39: 9). ويعبر عن هذا أيضًا قول القديس يوحنا الرسول في رسالته الأولى أن المولود من الله لا يستطيع أن يخطئ (1يو 3: 9). وفعلًا، هناك أشياء لا يستطيع الإنسان الروحي أن يفعلها… لا يستطيع أن يلفظ كلمة نابية بذيئة، لا يستطيع أن يكذب بل إنه يحتقر نفسه إن فعل ذلك. لا يستطيع أن يقوم بأي عمل غير مهذب… وبالتالي كلما نما في الصلاح يجد أنه عمومًا لا يستطيع أن يخطئ.
هناك عيب من جهة السلوك في الصلاح أن يحكم الإنسان على بعض الخطايا بأنها خطايا بسيطة!! فيتساهل معها!!
الخطية هي الخطية سواء حكم عليها الشخص بأنها بسيطة أو كبيرة. وهكذا يقول الرب: من قال لأخيه يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم (مت 5: 22). هكذا في باقي خطايا اللسان، يقول “بكلامك تتبرر، وبكلامك تدان” (مت 12: 37).
حقا، إنه توجد خطية أبشع من الخطية. ولكن كلًا منها تتنافى مع الصلاح. الإنسان الصالح لا يرتكب هذه ولا تلك. فالرسول يأمرنا أن نسلك بتدقيق (أف 5: 15)
ما معنى أن الصلاح من ثمر الروح؟
له بلا شك معنى مزدوج. فهو من ثمر عمل الروح القدس في قلب الإنسان. ومن ثمر روح الإنسان في استجابتها لعمل الروح القدس فيها. أو هو ثمر لشركة الروح القدس، أي لمشاركة روح الإنسان لروح الله القدوس، في الرغبة وفي العمل…
ماذا إذن عن صراع الإنسان مع الخطية؟
هل نقول عن مثل هذا الإنسان إنه صالح؟ إن القديس بولس الرسول يدعو إلى هذا الصراع، ويسميه جهادًا. فيلوم العبرانيين قائلًا “لم تقاوموا بعد حتى الدم، مجاهدين ضد الخطية” (عب 12: 4). إذن فالصراع ضد الخطية أمر صالح يقود إلى الصلاح، حينما ينتصر الإنسان على الخطية، ويصل إلى محبة الخير التي لا تحتاج إلى صراع…
على أننا ينبغي أن نفرق بين نوعين من الصراع.
صراع ضد خطية تحاربه من الخارج. وهذا يحدث للقديسين من حسد الشيطان وحروبه. وهو صراع لا يتنافى مع الصلاح، بل أنه يدل على صلاح الإنسان، وعدم قبوله الخطية التي تحاربه. المهم أنه لا يستسلم، بل يقاوم حتى الدم مجاهدًا ضد الخطية. النوع الثاني من الصراع أن يُصارع الإنسان ضد خطية تأتيه من داخله، من قلبه، من فكره، من مشاعره. وهذا يدل على أن الداخل لم يصل إلى النقاوة بعد. لم يصل إلى الصلاح بعد، بل يجاهد لكي يصل إليه. إنه صراع صالح، من قلب يريد أن يكون صالحًا. الخطية بشعة، الأبرار يشمئزون منها. لذلك يحترس الخاطئ من ارتكابها أمام الصالحين. بل يرتكبها في الظلام، في الخفاء.
فإن كان الصالحون يشمئزون من الخطية، فكم بالأكثر الملائكة!
لذلك حينما ترتكب الخطية، كأنما تطرد الملائكة من حولك، أو على الأقل الملاك الحارس، الذي “في مجلس المستهزئين لا يجلس”. إنه يحاول أن يصدك عن الخطية، فإن أصررت عليها، يبتعد عنك. وحينئذ ينفرد بك عدو الخير. فإن كانت الخطية بشعة هكذا أمام الأبرار وأما الملائكة، فكم بالأكثر تكون بشعة أمام الله الكلى القداسة!!
لذلك من بشاعة الخطية، إننا نرتكبها أمام الله.
وهكذا يقول داود النبي في المزمور الخمسين مزمور التوبة: يقول لله “إليك وحدك أخطأت، والشر قدامك صنعت”، إذن فهي ليست فقط خطية أما الله، إنما بالأكثر خطية إلى الله… خطية نحزن بها روح الله القدوس (أف 4: 30). ولأنها خطية ضد الله، لذلك قال يوسف الصديق “كيف افعل هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله” (تك 39: 9).
إذن فالإنسان الصالح ينفر من الخطية، لأنه يوقن أنه بها يخطئ إلى الله، ويخطئ قدام الله، ويحزن روح الله…
قطعًا إن الإنسان -أثناء ارتكابه للخطية- يكون قد نسى أنه أمام الله، الذي يراه وهو يرتكب الخطية. لذلك فإن داود النبي قال للرب عن أمثال هؤلاء الخطاة “لم يجعلوا الله أمامهم” (مز 54: 3). هؤلاء صنعوا الشر أمام الله ولم يبالوا، أو أنهم لم يسبقوا أن يجعلوا الله أمامهم.
أما الإنسان الصالح، فإن الله أمامه باستمرار، يخشى أن يخطئ قدامه. ما أعمق قول إيليا النبي “حي هو رب الجنود الذي أنا واقف قدامه” (1 مل 18: 15).
لذلك فالذي يقول “اعترف بخطاياي أمام الله مباشرة”! قد نسى أنه ارتكب تلك الخطايا أمام الله ولم يخجل! فالأفضل له الاعتراف بها أمام الكاهن، لكي يخجل منه فلا يعود إلى ارتكابها…
هناك أناس يفقدون صلاحهم، لأنهم يستغلون طيبة الله بطريقة خاطئة.
إن طيبة الله، ينبغي أن يوضع أمامها صلاح الله وقداسة الله، ودعوته لنا إلى حياة القداسة والبر. بل ينبغي أن يتذكر هؤلاء قول الرسول “أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته، غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة! ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب” (رو 2: 4، 5).
إن الله من أجل محبته للصلاح، وقيادتنا إلى الصلاح، وضع أمامنا إمكانيات كثيرة تقودنا إلى الصلاح منها:
* أولًا خلقنا على صورته ومثاله، في البر والصلاح، والعقل والفهم والحكمة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. … ولما فقدنا بالخطية هذه الصورة الإلهية، قدمها لنا في شخص الرب يسوع المسيح “الذي كما سلك ذاك، ينبغي أن نسلك نحن أيضًا” (1يو 2: 6). طبعًا العمل الأساسي للتجسد الإلهي هو الفداء، ولكن من الأغراض الإضافية تقديم الصورة الإلهية والقدوة المثالية للإنسان.
* أيضًا لما فسدت طبيعتنا البشرية، قدم لنا تجديدًا في المعمودية
فيها يصلب الإنسان العتيق، ويقوم إنسان جديد على صورة الله، لكيما نسلك في جدة الحياة (رو 6: 4، 6). شخص جديد يخرج من جرن المعمودية مولودًا من الماء والروح. وما أجمل وأعمق قول القديس بولس الرسول في هذا “لأن جميعكم الذين اعتمدتم للمسيح، قد لبستم المسيح” (غل 3: 27) أي لبستم البر الذي في المسيح. كل هذا يقدمه لنا، لكي نستطيع أن نسلك في الصلاح.
* وأيضًا لنسلك في الصلاح، جعلنا هياكل لروحه القدوس:
وهكذا قال الكتاب “أما تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم” (1كو 3: 16).
تنال هذا بالمسحة المقدسة في سر الميرون. فيحل روح الله في داخلك. ويكرر الرسول نفس المعنى في نفس الرسالة فيقول “أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم، الذي لكم من الله، وأنكم لستم لأنفسكم” (1كو 6: 19).
هذا الروح القدس الذي فيك “يبكتك على خطية… ويرشدك إلى جميع الحق” (يو 16: 8، 13). ويعلمك كل شيء، ويذكرنا بكل ما قاله الرب (يو 14: 26). وهكذا يساعدك على عمل الخير، ويقودك إلى حياة الصلاح. وماذا أيضًا.
* أرسل الله لك نعمته، لكي تعينك على الخير والصلاح.
وهذه النعمة ضمن البركة التي تختم بها الكنيسة كل اجتماع. فنقول “محبة الله الأب ونعمة ابنه الوحيد وشركة الروح، تكون مع جميعكم” (2كو 13: 14)
ونلاحظ أن كثيرًا من رسائل القديس بولس الرسول تبدأ بهذه النعمة أو تنتهي بها. فيقول “نعمة لكم وسلام من الله أبينا..” (1كو 1: 3) في بداية رسالته الأولى إلى كورنثوس. ويختمها أيضًا بعبارة “نعمة الرب يسوع المسيح معكم” (1كو 16: 23).. وهكذا في باقي الرسائل.
هذه النعمة لا تقودك فقط إلى صلاح نفسك، إنما تساعد أيضًا في الخدمة لأجل صلاح الآخرين.
وهكذا يقول القديس بولس الرسول “ولكن بنعمة الله، أنا ما أنا. ونعمته المعطاة لي لم تكن باطلة. بل أنا تعبت أكثر من جميعهم. ولكن لا أنا، بل نعمة الله التي معي” (1كو 15: 10).
فلا تنس كل هذه الإمكانيات، وتقول طريق الصلاح صعب.
حقًا إن الباب الموصل إلى الملكوت هو باب ضيق (مت 7: 14) “وبضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله” (أع 14: 22). ولكن نعمة الله قادرة أن توصلنا إلى كمال الحياة مع الله. كما قال القديس بولس الرسول إلى رعاة كنيسة أفسس “والآن استودعكم يا أخوتي لله ولكلمة نعمته القادرة أن تبنيكم وتعطيكم ميراثا مع جميع القديسين” (أع 20: 32).
* الرب يسوع المسيح نفسه معنا، يعيننا في طريقه.
إنه يقول “ها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر” (مت 28: 20). ومادام يقول “بدوني لا تقدرون أن تعملوا شيئًا” (يو 15: 5). إذن اطلب منه القوة لكي تكون إنسانًا صالحًا. قل له “توبني فأتوب” (أر 31: 18). ألم يقل: اطلبوا تجدوا. اقرعوا يفتح لكم” (مت 7: 7).
* أيضًا من أجل قيادتنا إلى الصلاح، أوجد الله فينا الضمير.
الضمير صوت من الله فينا: يحكم ويشرع، يوبخ ويؤنب، ويقود إلى الخير، ويمنعنا من الخطأ. وإن استنار الضمير بالروح القدس الذي فيك، فإنه يكون مرشدًا قويًا إلى الصلاح، ورادعًا عن الشر. هذا إذا أطاع الإنسان ضميره…
ومن أجل الصلاح أيضًا، أعطانا الرب الوصايا.
هذه التي يقول عنها داود النبي “وصية الرب مضيئة، تنير العينين عن بعد” (مز 19) “وَتُصَيِّر الجاهل حكيمًا”، وأيضًا “سراج لرجلي كلامك، ونور لسبيلي” (مز 119: 105). فالذي يحرص على أن يسلك في طريق الصلاح، عليه أن يتمسك بكلمة الله التي تهديه.
كما قال الله ليشوع بن نون “لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك. بل تلهج فيها نهارًا وليلًا، لكي تتحفظ للعمل بكل ما هو مكتوب فيه. لأنك حينئذ تصلح طريقك، وحينئذ تفلح” (يش 1: 8).
وهكذا يقول الرسول “لأن كل الكتاب موحى به من الله، ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البر. لكي يكون إنسان الله كاملًا، متأهبًا لكل عمل صالح” (2 تي 3: 16، 17).
* ومن أجل الصلاح، أرسل لنا الله الأنبياء والرعاة والمرشدين.
أرسل، أعطاهم خدمة المصالحة لكي ينادوا أن اصطلحوا مع الله (2كو 5: 18، 20). وقال لنا “أطيعوا مرشديكم واخضعوا، لأنهم يسهرون لأجل نفوسكم” (عب 13: 17). وأعطانا الله الآباء الروحيين، الرعاة والكهنة كل هؤلاء لقيادتنا إلى الصلاح…
* ومن أجل أن نشتاق إلى هذا الصلاح، قدم لنا وعودًا جميلة.
“مَنْ يغلب فسأعطيه أن يأكل من شجرة الحياة”، “أن يأكل من المن المخفي”، “مَنْ يغلب فسأعطيه اسمًا جديدًا”، “ويلبس ثيابًا بيضاء، ويجلس معي في عرشي، كما غلبت أنا وجلست مع أبي في عرشه” (رؤ 2، 3). وأيضًا وعدنا بما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر” (كو 2: 9).
* فإن لم ينفع معنا كل ما ذكرناه، أوجد الله العقوبة.
ذلك لأن هناك نوعًا من الناس لا يقودهم إلى الصلاح، إلا الخوف. على الأقل في بداية الطريق. كما قيل “بدء الحكمة مخافة الله” (أم 9: 10). وكما قال الرسول “ارحموا البعض مميزين. وخلصوا البعض بالخوف، مختطفين من النار..” (يه 22: 23).
والعقوبة موجودة من بدء خلق الإنسان، منذ خطيئة آدم وحواء (تك 3). وله أمثلة كثيرة في العهد القديم. وفي العهد الجديد أيضًا مثلما حدث في خطية حنانيا وسفيرة الذي قيل بعد معاقبتهما “فصار خوف على جميع الكنيسة وعلى جميع الذين سمعوا بذلك” (أع 5: 11). مثل معاقبة بولس الرسول لخاطئ كورنثوس (1كو 5: 5). ليس انتقامًا وإنما “لكي تخلص الروح في يوم الرب”.
نشكر الله أنه لم يأخذنا، ونحن في ساعة غفلة، في خطايانا.
وإنما سمح أن نحيا حتى هذه اللحظة، معطيًا لنا فرصة حتى نتوب ونسلك في حياة صالحة كما ينبغي، ولا نقع تحت دينونة… هوذا الرسول يقول “لا دينونة على الذين هم في المسيح يسوع، السالكين ليس حسب الجسد، بل حسب الروح” (رو 8: 1). والسلوك حسب الروح هو الصلاح. أما السلوك حسب الجسد فهو الفساد. ذلك يقول الرسول أيضًا:
“الذي يزرعه الإنسان، إياه يحصد أيضًا. لأن من يزرع لجسده، فمن الجسد يحصد فسادًا. ومن يزرع للروح، فمن الروح يحصد حياة أبدية” (غل 6: 7، 8).
هذا هو إذن ثمر الروح: صلاح هنا. وحياة أبدية في العالم الآخر. لأن ملكوت السموات لا يدخله إلا الصالحون. أورشليم السمائية لن يدخلها دنس ولا رجس (رؤ 21: 27).
No Result
View All Result