الوداعة
كتاب ثمر الروح – البابا شنوده الثالث
الوداعة:
-
تطويب الوداعة
-
صفات الوديع
-
هل تتنافى الوداعة مع الشجاعة والشهامة؟!
تطويب الوداعة
* ما أجمل الوداعة. إنها من ثمار الروح (غل 5: 23). وقد جعلها الرب في مقدمة التطويبات، فقال: “طوبى للودعاء، لأنهم يرثون الأرض” (مت 5: 5).
وقد فسر بعض الآباء عبارة “يرثون الأرض” هنا، بأن المقصود بها أرض الأحياء، كما ورد في المزمور “وأنا أؤمن أن أعاين خيرات الرب في أرض الأحياء” (مز 27: 13).. كما أنه يمكن أن يضاف إلى ذلك أرضنا الحالية. لأن الشخص الوديع يكون غالبًا محبوبًا من الجميع على هذه الأرض أيضًا. فيكسب الأرض هنا، وأرض الأحياء هناك.
* ومن أهمية الوداعة، أن الرب دعانا أن نتعلمها منه، فقال: “تعلموا منى، لأني وديع ومتواضع القلب” (مت 11: 29).
كان يمكن أن يدعونا لأن نتعلم منه الكرازة والتعليم والخدمة، والحب، والرحمة، والحكمة في التصرف… بل كل فضيلة كمال، إذ تتمثَّل فيه كل الكمالات والفضائل. ولكنه ركز على الوداعة والتواضع، وقال لمن يتعلمونها “فتجدون راحة لنفوسكم”. ألا يدل هذا على أهمية خاصة للوداعة في حياة الناس..؟
ومن أهمية الوداعة، أن الكنيسة تضعها أمامنا في بدء صلوات النهار.
فتضع أمامنا في بدء صلوات باكر، في مقدمتها قبل المزامير، جزءًا من رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل أفسس، يقول فيها “أطلب إليكم أنا الأسير في الرب، أن تسلكوا كما يليق بالدعوة التي دُعيتم إليها: بكل تواضع القلب والوداعة وطول الأناة محتملين بعضكم بعضًا بالمحبة..” (أف 4: 1، 2). إذن هي في مقدمة السلوك الروحي المسيحي، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ومن النصين السابقين نرى ارتباط الوداعة بالتواضع.
* وقد اهتم الآباء الرسل بالحديث عن الوداعة في المعاملات:
فقال القديس بولس الرسول “أيها الأخوة، إن انسبق إنسان فأخذ في زلة، فأصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح الوداعة، ناظرًا إلى نفسك لئلا تجرب أنت أيضًا..” (غل 6: 1) وقال القديس يعقوب الرسول “من هو حكيم وعالم بينكم، فلير أعماله بالتصرف الحسن في وداعة الحكمة..” (يع 3: 13). وشرح كيف أن هذه الوداعة الحكيمة تكون بعيدة عن التحريف والتشويش، وعن الغيرة المرة وكل أمر رديء.
والقديس بطرس الرسول عندما تحدث عن الزينة، ذكر “زينة الروح الوديع الذي هو قدام الله كثير الثمن” (1بط 3: 4).
وقال القديس بطرس أيضًا “مستعدين في كل حين، لإجابة كل من يسألكم عن سر الرجاء الذي فيكم، بوداعة وخوف” (1بط 3: 15)
* وقد كانت الوداعة هي سمة المسيحيين منذ البدء.
حتى أنه كما قيل عن تاريخ الكنيسة في العصر الرسولي في القرن الأول: إنه حينما كان أحد الوثنيين يقابل زميلًا له، ويجده وديعًا بشوشًا هادئًا، يقول له “لعلك قابلت مسيحيًا في الطريق”. ويقصد بذلك إن لقاءه مع أحد المسيحيين في وداعته، كان بالتأثير يطبع الوداعة على وجهه.
* ولعل من أهمية الوداعة، مدح الكتاب للودعاء:
حيث يقال في المزامير “يسمع الودعاء فيفرحون” (مز 34: 2). وأيضًا “أما الودعاء فيرثون الأرض، ويتلذذون في كثرة السلامة” (مز 37:11). وقد قيل كذلك “الرب يرفع الودعاء، ويذل الخطاة إلى الأرض” (مز 147: 6) “يدرب الودعاء في الحق، ويعلم الودعاء طرقه” (مز25: 9). إن عرفنا كل هذا المديح للوداعة والودعاء، فليتنا نتأمل معًا: ما هي الوداعة؟؟ وما هي صفات الشخص الوديع:
صفات الوديع
الإنسان الوديع هو الإنسان الطيب المسالم.
وكثير من الناس يستخدمون صفة (الطيب) بدلًا من صفة (الوديع). وهو بهذا يكون إنسانًا هادئًا بعيدًا عن العنف.
هو إنسان هادئ في كل شيء.
الوديع هادئ في طبعه، هادئ الأعصاب، هادئ الألفاظ، هادئ الملامح،، هادئ الحركات. الهدوء يشمله كله داخليًا وخارجيًا. فهو هادئ في قلبه ومشاعره، وهو هادئ في تعامله مع الآخرين… هو إنسان حليم. كما قيل عن موسى النبي “وكان الرجل موسى حليمًا جدًا، أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض” (عد 12: 3).
وهدوء الوديع يكون في صوته أيضًا.
فهو يبعد عن الصوت العالي، وعن الصوت الحاد. لا يكون شديد الألفاظ ولا شديد اللهجة. وقد قيل عن إلهنا الوديع، حينما قابل إيليا النبي، أثناء هرب إيليا من الملكة الظالمة إيزابل: هبت عاصفة شديدة، ولم يكن الرب في العاصفة. ثم زلزلة، ولم يكن الرب في الزلزلة. ثم نار، ولم يكن الرب في النار. ثم إذا “صوت منخفض خفيف” (1 مل 19: 11-13)، وكان الرب يتكلم. فقال له “مالك ههنا يا إيليًا؟” هذا الصوت المنخفض الخفيف هو بعض ما يتصف به الوديع.
* ولذلك قيل عن السيد المسيح في وداعته: “لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ، وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي الشَّوَارِعِ صَوْتَهُ. قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ” (مت 12: 19، 20).
هكذا يكون الوديع، بعيدًا عن الصخب والضوضاء. لا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته… حينما يتكلم يتصف كلامه بالهدوء واللطف، كأنما قد اختار كل ألفاظه، بكل دماثة وأدب. لا يجرح بها شعور أحد، مهما كانت صفته. حتى إن كان أمام “فتيلة مدخنة” لا يطفئها… ربما تمر عليها ريح فتشعلها…
يعمل كل ذلك: لا عن ضعف، وإنما عن لطف.
يذكرني هذا بقصيدة أنشدتها في الأرشيدياكون حبيب جرجس، في يوم الأربعين لوفاته سنة 1951 قلت فيها:
يا قويا ليس في طبعه عنف.:. ووديعًا ليس في ذاته ضعف
يا حكيمًا أدب الناس وفي.:. زجره حب، وفي صوته عطف
لك أسلوب نزيه طاهر.:. ولسان أبيض الألفاظ عف
لم تنل بالذم مخلوقًا ولم.:. تذكر السوء إذا ما حل وصف
إنما بالحب والتشجيع قد.:. تصلح الأعوج، والأكدر يصفو
الإنسان الوديع بعيد عن العنف وعن الغضب.
هو إنسان هادئ، لا يثور ولا يثار. لا يغضب بسرعة ولا ببطء. ولا ينفعل الانفعالات الشديدة، ولا تغلبه النرفزة (العصبية)، لأنه باستمرار هادئ، في أعصابه وفي ملامحه، التي تتصف بالطيبة والبشاشة. إنه لا ينتقم لنفسه. ولا يحل مشاكله بالعنف. بل إن أساء أحد إليه، يقابل ذلك بالاحتمال والصبر.
انظروا كيف قيل عن السيد المسيح أثناء محاكمته وقيادته للصلب: كشاة تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها. فلم يفتح فاه” (أش 53: 7). وكما قال بولس الرسول عن نفسه وعن زملائه في الخدمة: نشتم فنبارك. نضطهد فنحتمل. يفترى علينا فنعظ” (1كو 4: 12، 13).
الإنسان الوديع لا يقيم نفسه رقيبًا على الناس.
لا يقيم نفسه قاضيًا، ولا يتدخل في أعمال غيره. لا يعطى نفسه سلطة مراقبة الآخرين والحكم على أعمالهم. لا يدين أحدًا، ولا يحكم على أحد. وإن اضطرته الضرورة إلى الحكم، لا يقسو في أحكامه.
وقد يغلبه الحياء، فلا يرفع بصره ليملأ عينيه من وجه إنسان.
لا يفحص ملامح شخص، ليحكم منها على مشاعره ماذا تكون… أو ما مدى صدقه في كلامه. إن حورب بذلك يقول لنفسه “وأنا مالي. خليني في حالي”. هو بطبيعته الوديعة لا يميل إلى فحص أعمال الناس.
وإن تدخل في الإصلاح بهدوء ووداعة ورقة.
حسبما قال الرسول “.. أصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا” (غل 6: 1).
* وهكذا فعل السيد المسيح في وداعته مع المرأة السامرية (يو 4).
لم يجرح شعورها بكلمة واحدة، ولم يبكتها. بل اجتذبها إلى الاعتراف في وداعة ولطف. ووجد فيها شيئًا يمتدحه “حسنًا قلت إنه ليس لك زوج… هذا قلت بالصدق” (يو 4:17: 18).
وبهذه الوداعة أمكنه أن يجتذبها إلى التوبة، وإلى الإيمان أنه المسيح، وتبشير أهل مدينتها بذلك” (يو 4: 29).
وفي وداعة أيضًا تصرف مع المرأة الخاطئة المضبوطة في ذات الفعل. لم يبكتها. بل أنقذها من الذين أرادوا رجمها. فلما انصرفوا قال لها “أين هم أولئك المشتكون عليك؟ أما دانك أحد؟.. ولا أنا أدينك. اذهبي ولا تخطئي أيضًا” (يو 8: 10، 11).
* وبنفس الوداعة عاتب بعد القيامة تلميذه بطرس.
ذلك الذي أنكره ثلاث مرات، وحلف ولعن وقال لا أعرف الرجل (مت 26: 74).. فقال له الرب ثلاث مرات: أتحبني أكثر من هؤلاء؟.. ومعها ثلاث مرات ثبته في عمل الرعاية، بقوله له: ارع غنمي… أرع خرافي” (يو 21: 15 –17).
وبنفس الوداعة، قابل نيقوديموس ليلًا.
ولم يوبخه على “خوفه من اليهود”.. بل أتاه ليلًا حتى لا ينكشف أمره لهم… وبهذه الوداعة التي تنازل بها إلى ضعفه… اقتاده فيما بعد إلى أن يجاهر بالاشتراك في تكفين المسيح بعد صلبه.
الإنسان الوديع سهل التعامل مع الناس.
يستطيع كل شخص أن يأخذ معه ويعطي.
إنه سهل في نقاشه وحواره. لا يحتد ولا يشتد. ولا يستاء من عبارة معينة يقولها محاوره. فيشعر المتناقش معه براحة مهما كان معارضًا له. يعرف أنه سوف لا يغضب عليه، وسوف لا يحاسبه على ما يقول. ولعل أفضل الأمثلة على ذلك:
حوار الرب -في وداعته- مع إبراهيم، ومع موسى:
* من فرط وداعته استطاع أبونا إبراهيم أن يناقشه في موضوع حرق سدوم، ويقول له “أديان الأرض كلها لا يصنع عدلًا؟ أتهلك البار مع الأثيم؟ عسى أن يكون في المدينة خمسون بارًا… حاشًا لك أن تفعل مثل هذا الأمر: أن تميت البار مع الأثيم، فيكون البار كالأثيم حاشا لك” (تك 18: 23 – 25). ويصبر الرب على هذه العبارات، ولا يعاتبه. بل يقول له في وداعته “إن وجدت في سدوم خمسين بارًا، فإني أصفح عن المكان كله من أجلهم”. ويستمر معه في الحوار حتى يصل العدد إلى عشرة.
* وبنفس الوداعة، لما عبد الشعب العجل الذهبي وأراد الله أن يفنيهم، سمح لموسى أن يقول له: أرجع يا رب عن حمو غضبك، واندم على الشر بشعبك… لماذا يقولون أخرجهم بخبث (من أرض مصر) ليفنيهم في الجبال ويهلكهم؟” (خر 32: 11، 12).
سمح الله لموسى أن يتكلم هكذا. وفي وداعة استجاب لطلبته ولم يفنهم.
مَنْ منا يحتمل من أحد خدامه أن يقول له: ارجع عن حمو غضبك واندم على الشر؟ ولكنه الله الوديع…
الإنسان الوديع حليم، واسع الصدر، طويل البال.
كما وُصِفَ بذلك موسى النبي (عد 12: 3). حتى أنه حينما تَقَوَّلَت عليه أخته مريم ووبَّخها الله وعاتبها، تشفَّع فيها موسى وهو في موقف المُسَاء إليه منها “وصرخ إلى الرب قائلًا: اللهم اشفها” (عد 12: 13). ومن الأمثلة الجميلة أيضًا أن ما قيل عن سليمان الحكيم أن الرب منحه رحبة قلب كالرمل الذي على شاطئ البحر (1 مل 4: 29).
والوديع إنسان بشوش، لا يعبس في وجه أحد.
له ابتسامه حلوة محببة إلى الناس، وملامح سمحة مريحة لكل من يتأملها. لا تسمح له طبيعته الهادئة أن يزجر أو يوبخ أو يحتد ويشتد. أو أن يغير صوته في زجر إنسان.
ومهما عومل، لا يتذمر ولا يتضجر ولا يشكو.
بل غالبًا ما يتلمس العذر لغيره، يبرر في ذهن مسلكه، ولا يظن فيه سوءًا، وكأن شيئًا لم يحدث. فلا يتحدث عن إساءة الناس إليه. ولا يحزن بسبب ذلك في قلبه. فإن تأثر لذلك أو غضب، سرعان ما يزول ذلك، ولا يتحول حزنه أو غضبه إلى حقد… بل سرعان ما يصفو…
الوديع يتميز بأنه بطئ الغضب.
كما قال معلمنا الرسول “ليكن كل إنسان مسرعًا إلى الاستماع، مبطئًا في التكلم، مبطئًا في الغضب. لأن غضب الإنسان لا يصنع بر الله” (يع 1: 19). وما أكثر ما قيل عن إلهنا الوديع إنه “بطيء الغضب” (يون 4: 2)، وإنه “طويل الروح، وكثير الرحمة، (مز 103: 8).
كذلك فإن الوديع، لا يغضب لأي سبب.
إذا غضب الوديع، فاعرف أنه لا بُد من أمر خطير دعاه إلى ذلك. وغالبًا ما يكون غضبه لأجل الرب، ليس لأجل نفسه، أو بسبب كرامته أو حقوقه كما يفعل غير الودعاء. وإذا انفعل لا يشتعِل.
والوديع إنسان مسالم، لا ينتقم لنفسه.
لا يقاوم الشر، كما أمر الرب (مت 5: 39). أي لا يقابل الشر بمثله، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وإنما هو كثير الاحتمال. لا يدافع عن نفسه، بل غالبًا ما يدافع عنه غيره موبخين من يسئ إليه بقولهم “ألم تجد سوى هذا الإنسان الطيب لتسئ إليه”؟!
الإنسان الوديع لا يؤذى أحدًا، ويحتمل الأذى من المخطئين.
وله سلام في داخله، فلا ينزعج ولا يضطرب.
كل المشاكل الخارجية لا تعكر صفوه الداخلى، قال مارإسحق: “سهل عليك أن تحرك جبلًا من موضعه. وليس سهلًا عليك أن تثير إنسانًا وديعًا”.
وهو لا يصطنع الهدوء. إنما كما خارجه، هكذا داخله أيضًا. إنه كصخرة أو جندل في نهر. مهما صدمت الأمواج تلك الصخرة، تبقى كما هي لا تتزعزع.
كثيرًا ما نرى الودعاء يصبرون ولا يدافعون عن حقوقهم.
ومن أمثله ذلك داود النبي، الذي قيل عنه في المزمور “اذكر يا رب داود وكل دعته” (مز 132: 1).. لقد مسحه صموئيل النبي ملكًا (1صم 16: 13). ثم ذهب إلى الرامة، ولم يسلمه من الملك شيئًا! وبقى داود ملكًا بلا مملكة، وعاد يرعى الغنيمات القليلات في البرية. ثم اختير ليخدم الملك شاول الذي كان عليه روح نجس: يعزف له على العود لكي يهدأ… ثم حسده شاول واضطهده اضطهادًا شديدًا. وكان يطارده من برية إلى أخرى لكي يقتله. كل ذلك وداود الوديع صابر ويحتمل. ولم يطالب خلال ذلك بحقوقه كملك ممسوح. ولم يتذمر. ولم يقل يومًا لصموئيل النبي: أين تلك المسحة التي مسحتني بها؟ وأين الملك الذي أعطيتني إياه… وبقى على هذه الحال حوالي 15 سنة، حتى مات شاول.
الوديع بعيد عن المجادلة والمحارنة.
كما قال الكتاب “افعلوا كل شيء بلا دمدمة ولا مُجادلة” (في 2: 14). يقصد بالمجادلة هنا: (المقاوحة في الكلام) أو المحارنة… ذلك لأن الوديع لا يجاهد لكي يقيم كلمته، ولكن ينتصر في المناقشات. إنما يبدى رأيه ويثبته، وليقبله من يشاء متى يشاء، دون أن يدخل في صراع جدلي أو في حرب كلامية. فهذا ضد هدوئه.
الوديع لا يوجد في تفكير خبث ولا دهاء ولا تعقيد.
لا يقول شيئًا، وفي نيته شيء آخر. بل الذي في قلبه، على لسانه. وما يقوله لسانه، إنما يعبر عن حقيقة ما في قلبه. ليس عنده التواء. ولا يدبر خططًا في الخفاء. هو إنسان واضح، يتميز بالصراحة. يمكن لمن يتعامل معه أن يطمئن إليه. إنه بسيط لا حويط، ولا غويط…
إنه يمر على الحياة، كما يمر النسيم الهادئ على السطح الماء.
لا يحدث في الأرض عاصفة ولا زوبعة، ولا يحدث في البحر أمواجًا ولا دوامات. ولا يحب أن يحيا في جو فيه زوابع ودومات. إن كل ذلك لا يتفق مع طبعه، ولا مع هدوئه، ولا مع لطفه.
ولا مع أسلوبه في الحياة. لذلك فإن كل من يعاشره، يلتذ بعشرته. فهو طيب هادئ لا تصطدم بأحد، ولا يزاحم غيره في طريق الحياة. وإن صادف مشاكل، فإنه يمررها، ولا يدعها تمرره.
هناك نوعان من الودعاء. أحدهما ولد هكذا. والثاني اكتسب الوداعة بجهاد وتداريب، وبعمل النعمة فيه.
من النوع الأول، القديس بولس البسيط. ومن النوع الثاني: القديس موسى الأسود، الذي كان في بدء حياته قاسيًا وعنيفًا، بل قاتلًا أيضًا. وعندما أتى إلى الدير للتوبة، حافة الرهبان أولًا. ولكنه بدأ يدرب نفسه، حتى تحول إلى إنسان وديع طيب، محب للأخوة، خدومًا ومضيافًا. وصار مرشدًا لكثيرين.
على أنه في حديثنا عن الوداعة، لا يفوتنا أن ننسى ما يعطلها.
أحيانًا تقف ضدها الرئاسة والسلطة. فما أن يصير البعض رئيسًا، ويمارس الأمر والنهي، والتحقيق والمعاقبة، ومراقبة الآخرين وتصريف أمورهم. حتى يفقد وداعته، ويرى في الحزم والعزم والحسم، ما يبرر له العنف أحيانًا، ويفقده وداعته وبساطته.
ولكن مغبوط هو الذي يحتفظ بالوداعة فيما يمارس عمل السلطة.
كذلك مَنْ يكون عمله هو حِفْظ النظام. وقد يجد نفسه في بعض الأوقات أمام جماعة من المشاغبين، أو من الذين تمنعهم كبرياؤهم من الخضوع لأي نظام. كيف يسلك مع هؤلاء؟.. طبعًا هناك من يحفظ النظام في رِقَّة ولطف. وهناك من يستخدم العنف في حفظه…
هل تتنافى الوداعة مع الشجاعة والشهامة؟!
الوداعة هي الطيبة واللطف والهدوء، كما سبق وقلنا…
ولكن المشكلة هي أن البعض قد يفهم الوداعة فهمًا خاطئًا. وكأن الوديع يبقى بلا شخصية ولا فاعلية، وكأنه جثة هامدة لا تتحرك!! بل قد يصبح مثل هذا الوديع هزأة يلهو بها الناس!!
ويتحول هذا (الوديع) إلى إنسان خامل، لا يتدخل في شيء! كلا، فهذا فهم خاطئ للوداعة، لا يتفق مع تعليم الكتاب، ولا مع سير الآباء والأنبياء… حقًا إن الإنسان الوديع هو شخص طيب وهادئ. ولكن هذه هي أنصاف الحقائق.
النصف الآخر من الحقيقة أن الوداعة لا تتعارض مع الشهامة والشجاعة والنخوة، وإنما لكل شيء تحت السموات وقت (جا 3: 1).
نعم، “وللتكلم وقت..”. والمهم أن يعرف الوديع كيف يتصرف، متى؟.. ولقد سئل القديس الأنبا أنطونيوس عن أهم الفضائل: هل هي الصلاة، الصوم، الصمت… إلخ فأجاب عن أهم فضيلة هي الإفراز، أي الحكمة في التصرف، تمييز ما ينبغي أن يفعل.
فالطيبة هي الطبع السائد عند الوديع. ولكن عندما يدعوه الموقف إلى الشهامة أو الشجاعة أو الشهادة للحق، فلا يجوز له أن يمتنع عن ذلك بحجة التمسك بالوداعة…
لأنه لو فعل ذلك، وامتنع عن التحرك نحو الموقف الشجاع، لا تكون وداعته حقيقية، إنما تصير رخاوة في الطبع، وعدم فهم للوداعة، وعدم فهم للروحانية وبصفة عامة. فالروحانية ليست تمسكًا بفضيلة واحدة تلغى معها باقي الفضائل. إنما الروحانية هي كل الفضائل معًا، متجانسة ومتعاونة في جو من التكامل… وأمامنا مثلنا الأعلى السيد المسيح له المجد:
كان وديعًا ومتواضع القلب (مت: 29) “قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ” (مت 12: 20).. ومع ذلك:
فإنه لما رأى اليهود قد دنسوا الهيكل، وهم يبيعون فيه ويشترون، “أخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل، وقلب موائد الصيارفة كراسي باعة الحمام. وقال لهم: مكتوب بيتي بيت الصلاة يدعى، وأنت جعلتموه مغارة لصوص” (مت 21: 12، 13) (يو 2: 14 – 16). أكان ممكنا للسيد المسيح -باسم الوداعة- أن يتركهم يجعلون بيت الآب بيت تجارة؟! أم أنه مزج الوداعة بالغيرة المقدسة، كما فعل “فتذكر تلاميذ أنه مكتوب: غيرة بيتك أكلتني” (يو 2: 16، 17).
وكما قام المسيح الوديع بتطهير الهيكل، هكذا وبخ الكتبة والفريسيين.
حقًا، لكل أمر تحت السموات وقت. الهدوء وقت، وللغيرة وقت، للسكوت وقت، وللتعليم وقت. وقد كان الكتبة والفريسيون يضلون الناس بتعليمهم الخاطئ. فكان على المعلم الأعظم أن يكشفهم للناس، لا يبقيهم جالسين على كرسي موسى في المجتمع المسيحي الجديد. فقال لهم “وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُغْلِقُونَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ قُدَّامَ النَّاسِ، فَلاَ تَدْخُلُونَ أَنْتُمْ وَلاَ تَدَعُونَ الدَّاخِلِينَ يَدْخُلُونَ” (مت 23: 13). هل كان ممكنًا باسم الوداعة أن يتركهم يغلقون أبواب الملكوت؟!
الوداعة فضيلة عظيمة، ولكننا نراها هنا ترتبط بالغيرة المقدسة، وترتبط بالشهادة للحق، ومثالنا هو المسيح نفسه.
والشهادة للحق أمر هام يريده الله. ولعل أهميته تظهر من أقول الله على لسان أرميا النبي في العهد القديم “طوفوا في شوارع أورشليم، وانظروا واعرفوا وفتشوا في ساحاتها: هل تجدون إنسانًا أو يوجد عامل بالعدل طالب الحق، فاصفح عنها” (أر 5:1). قال الرب لتلاميذ ” … تكونون لي شهودًا” (أع 1: 8).
فهل الوداعة تمنع الشهادة للحق؟! حاشا. أمامنا بولس الرسول كمثال:
نرى ذلك في موقفه من القديس بطرس لما سلك في الأكل مع الأمم مسلكًا رآه بولس الرسول مسلكًا ريائيًا… فقال القديس بولس في ذلك “قاومته مواجهة لأنه كان ملومًا… وقلت لبطرس قدام الجميع: إن كنت وأنت يهودي تعيش أمميًا لا يهوديًا، فلماذا تلزم الأمم أن يتهودوا؟!” (غل 2: 11، 14). فعل هذا بولس الوديع، الذي في توبيخه لأهل كورنثوس، قال لهم ” اطلب إليكم -بوداعة المسيح وحلمه- أنا نفسي بولس، الذي هو في الحضرة ذليل بينكم، وأما في الغيبة فمتجاسر عليكم” (2كو 10: 1).. هذا الوديع الذي يقف أمام أبنائه الروحيين كذليل في حضرتهم، معتبرًا توبيخه لهم تجاسرًا عليهم!!.. هذا نفسه يرى وقت الضرورة أن يوبخ بطرس الرسول الذي هو أقدم منه في الرسولية وأكبر منه سنًا. ولكنه هنا يمزج الوداعة بالشهادة للحق.
ففضيلة الوداعة لا يجوز لها أن تعطل الفضائل الأخرى.
أمامنا مثل آخر هو ابرام (إبراهيم) أبو الآباء، في مزج الوداعة بالشهامة والنخوة.
لاشك أن أباء الآباء إبراهيم كان وديعًا. هذا الذي سجد لِبَنِي حث حينما أخذ منهم أرضًا ليدفن فيها سارة مع أنهم كانوا يبجلونه قائلين “أنت يا سيدي، رئيس من الله بيننا. في أفضل قبورنا ادفن ميتك” (تك 23: 6، 7). مع ذلك سجد لهم…
إبراهيم الوديع الذي لما أخبروه بسبي لوط ضمن سبى سدوم في حرب أربعة ملوك ضد خمسة، يقول الكتاب “فلما سمع ابرام أن أخاه (لوطا) قد سبى، جر غلمانه المتمرنين، ولدان بيته ثلاثمائة وثمانية عشر، وتبعهم إلى دان… وكسرهم وتبعهم إلى حوبة… واسترجع كل الأملاك، واسترجاع لوطًا أخاه أيضًا وأملاكه والنساء أيضًا والشعب” (تك 14: 14 –16). أكانت شهامة إبراهيم ونخوته، ضد وداعته وطيبته؟! حاشا.
أمامنا مثل آخر في امتزاج الوداعة بالشجاعة والقوة، وهو الصبي داود، في محاربته لجليات الجبار.
لاشك أن داود كان وديعًا، يقول عنه المزمور “اذكر يا رب داود وكل دعته” (مز 132: 1).. داود راعى الغنم الهادئ صاحب المزمار، الذي يحسن الضرب على العود (1صم 16: 16، 22). داود الحسن المنظر، الأشقر مع حلاوة العينين (1صم 16: 12). داود هذا لما ذهب إلى ميدان الحرب يفتقد سلامة أخوته، وسمع جليات الجبار يعير الجيش كله ويتحدّاه، والكل ساكت وخائف… تملكته الغيرة المقدسة. وبكل شجاعة وقوة وإيمان، قال “لا يسقط قلب أحد بسببه” (1صم 17: 32). وتطوع أن يذهب ليحاربه وتقدم نحوه، وقال له “اليوم يحبسك الرب في يدي..” (1صم 17: 46). هنا الوداعة ممتزجة والشجاعة والإيمان…
وعلى الرغم من قوة داود وشجاعته، لم تفارقه وداعته، بل قال لشاول الملك فيما بعد لما طارده “وراء من خرج ملك إسرائيل؟ وراء من أنت مطارد؟ وراء كلب ميت! وراء برغوث واحد!!” (1صم 24: 14).
نضرب مثلًا آخر للإنسان الوديع، الذي يغضب غضبة مقدسة للرب، وينتهر ويوبخ… هو موسى النبي.
لا يستطيع أحد ينكر وداعة موسى النبي، هذا الذي قال عنه الكتاب “وكان الرجل موسى حليمًا جدًا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض” (عد 12: 3).
فماذا فعل موسى الوديع لما نزل من الجبل ووجد الشعب في رقص وغناء حول العجل الذهبي الذي صنعوه وعبدوه؟ يقول الكتاب “فَحَمِيَ غَضَبُ مُوسَى، وَطَرَحَ اللَّوْحَيْنِ مِنْ يَدَيْهِ وَكَسَّرَهُمَا فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ. 20 ثُمَّ أَخَذَ الْعِجْلَ الَّذِي صَنَعُوا وَأَحْرَقَهُ بِالنَّارِ، وَطَحَنَهُ حَتَّى صَارَ نَاعِمًا، وَذَرَّاهُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ..” (خر 32: 19، 20). ووبخ موسى هارون أخاه رئيس الكهنة، حتى ارتبك أمامه هارون وخاف، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وقال له “لاَ يَحْمَ غَضَبُ سَيِّدِي. أَنْتَ تَعْرِفُ الشَّعْبَ أَنَّهُ فِي شَرّ..” وقال في خوفه وارتباكه عن الذهب الذي جمعه من الناس “طَرَحْتُهُ فِي النَّارِ فَخَرَجَ هذَا الْعِجْلُ!!” (خر 32: 22، 24). وعاقب موسى الشعب. ومات في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف… إذن الوداعة لا تمنع الغضب المقدس ولا المعاقبة…
الوداعة أيضًا لا تمنع قوة الشخصية، ولا قوة التأثير.
كان السيد المسيح وديعًا. وفي نفس الوقت كان قوى الشخصية، وكان قويًا في تأثيره على غيره. ولكنني أريد هنا أن أضرب مثلًا في مستوى البشر، وهو القديس بولس الرسول. بولس الذي شرحنا من قبل وداعته… يقول سفر أعمال الرسل عن القديس بولس، وهو أسير: “وبينما كان يتكلم عن البر والتعفف والدينونة العتيدة أن تكون، ارتعب فيلكس (الوالي). وأجاب “أما الآن فاذهب ومتى حصلت على وقت أستدعيك” (أع 24: 24، 25).
ولما وقف بولس الرسول -وهو أسير أيضًا- أمام أغريباس الملك، قال له أيضًا بعد أن ترافع أمامه “أتؤمن أيها الملك أغريباس بالأنبياء؟ أنا أعلم أنك تؤمن”. فقال أغريباس لبولس “بقليل تقنعني أن أصير مسيحيًا” (أع 26: 27، 28).
وحينئذ في قوة وعزه أجابه القديس بولس: كنت أصلى إلى الله، أنه بقليل وبكثير -ليس أنت فقط- بل أيضًا جميع الذين يسمعوني اليوم، يصيرون هكذا كما أنا ما خلا هذه القيود” (أع 26: 29).. أترى تتعارض الوداعة مع هذه القوة؟! كلا، بلا شك.
ووقت الضرورة، لا تتنافى الوداعة مع الدفاع عن الحق…
ويتضح هذا الأمر من قصة بولس الرسول مع الأمير كلوديوس ليسياس، لما أمر أن يفحصوه بضربات ليعلم لأي سبب كان اليهود يصرخون عليه. يقول الكتاب “فلما مدوه للسياط، قال بولس لقائد المئة الواقف: أيجوز لكم أن تجلدوا رجلًا رومانيًا غير مقضي عليه؟! وإذ سمع القائد هذا أخبر الأمير، الذي جاء واستخبر من بولس عن الأمر وحينئذ تنحى عنه الذين كانوا مزمعين أن يجلدوه. واختشى الأمير لما علم أنه روماني” (أع 22:24 –29).
ما كان القديس بولس الرسول يهرب من الجلد. فهو الذي قال: “من اليهود خمس مرات قبلت أربعين جلدة إلا واحدة” (2كو 11: 24). ولكنه هنا دافع عن حق معين، وأظهر للأمير خطأ كان مزمعًا أن يقع فيه. وما كان هذا يتنافى مع وداعة القديس بولس. وبنفس الوضع لما أراد فستوس الوالي أن يسلمه لليهود ليحاكم أمامهم، وبهذا يقدم منه (أي جميلًا) لهم فقال له بولس في حزم -مدافعًا عن حقه- “أنا واقف لدى كرسي ولاية قيصر، حيث ينبغي أن أحاكم. إلى قيصر أنا رافع دعواي”. فأجابه الوالي “إلى قيصر رفعت دعواك، إلى قيصر تذهب” (أع 25: 9 – 12) لم يكن القديس بولس خائفًا من اليهود. ولكنه -في حكمة- طلب هذا ليذهب إلى روما -حيث يوجد قيصر- ويبشر هناك. لأن الرب كان قد تراءى له قبل ذلك، وقال له “ثِق يا بولس، لأنك كما شهدت بما لي في أورشليم، هكذا ينبغي أن تشهد في رومية أيضًا” (أع 23:11). وهكذا دافع عن حقه في وداعة وحكمة، ودون أن يخطئ في شيء بل تكلَّم كلامًا قانونيًا.
الوداعة لا تمنع من أن تنبه خاطئًا لكي تنقذه من خطأ أو من خطر.
كما قال يهوذا الرسول غير الأسخريوطى “خَلِّصُوا الْبَعْضَ بِالْخَوْفِ، مُخْتَطِفِينَ مِنَ النَّارِ” (يه 23). هل إن رأيت صديقًا أو قريبًا، على وشك أن يتزوج زواجًا غير قانوني، من قرابة ممنوعة، أو بعد طلاق غير كنسي، أو بتغيير المذهب والملة، أو أنه مزعم أن يتزوج زواجا مدنيًا أو عرفيًا… أو ما شاكل ذلك… هل تمتنع باسم الوداعة عن تنبيهه إلى أن ما ينوى عمله هو وضع خاطئ؟!.. كلا، بل أن من واجبك أن تنصحه… ولكن بأسلوب هادئ. تنبهه، ولكن في غير كبرياء وفي غير تجريح. أما إن سكت، فإن سكوتك سيكون هو الوضع الخاطئ. ليست الوداعة أن تعيش كجثه هامدة في المجتمع. بل تتحرك، وتكون لك شخصيتك، إنما في أسلوب وديع… ولو بكلمة واحدة، كقول المعمدان “لا يحل… لك” (مت 14: 4)
أمامنا أيضًا مثال القديس بولس الرسول “اسْهَرُوا، مُتَذَكِّرِينَ أَنِّي ثَلاَثَ سِنِينَ لَيْلًا وَنَهَارًا، لَمْ أَفْتُرْ عَنْ أَنْ أُنْذِرَ بِدُمُوعٍ كُلَّ وَاحِدٍ” (أع 20: 31).. وداعته لم تمنعه من أن ينذر كل واحد. لكن أسلوبه الوديع، هو انه كان ينذر بدموع…
حتى إن اضطر أن يقول كلمة شديدة…
لقد اعتاد الناس على سماع كلمة شديدة من إنسان وديع. فإن سمعوه يومًا يقول كلمة شديدة، سيدركون داخل أنفسهم أنه لابد أن سببًا شديدًا قد ألجأه إلى هذا. ويكون للكلمة وقعها وتأثيرها في أنفسهم… هل تظنون أن الوديع، قد أعفى من قول الرب لتلاميذه ” … وتكونون لي شهودًا” (أع 1: 8). كلا، فلا شك فحينما يلزم الأمر أن يشهد للحق، لابد أن يفعل ذلك…
هل إذا أتيحت فرصة له، لكي ينقذ شخصًا معتدى عليه، ألا يفعل ذلك باسم الوداعة؟!
هل من المعقول أن يقول “وما شأني بذلك؟!” أو يقول “وأنا مالي، خليني في حالي”!! أم في شهامة ينقذه، وبأسلوب وديع. كما أنقذ السيد المسيح من الرجم المرأة المضبوطة في ذات الفعل. وقال للراغبين في رجمها “مَنْ كان منكم بلا خطية، فليرمها بأول حجر” (يو 8: 7) وفعل ذلك بوداعة دون أن يعلن خطاياهم. بل “كان يكتب على الأرض”.
لعل البعض يسأل ههنا: هل يمكن للوديع أن يدين أحدًا؟ وهل هناك أمثلة في الكتاب لذلك؟
أمامنا السيد المسيح” (الوديع المتواضع القلب)” (مت 11: 29) هذا الذي كان يقول “لم يرسل الآب ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلص العالم” (يو 3: 17). وقد قال لليهود “أنتم حسب الجسد تدينون. أما أنا فلست أدين أحدًا” (يو 8: 15). ومع ذلك أكمل بعدها “وأن كنت أنا أدين، فدينونتي حق”. يسوع المسيح هذا، الذي قال للمرأة المضبوطة في ذات الفعل “ولا أنا أدينك” (يو 8: 11).. هو في مناسبات عديدة، أدان كثيرين… مثلما أدان الكتبة والفريسيين (مت 23). وأدان كهنة اليهود (مت 21: 43) قائلًا لهم “إن ملكوت الله ينزع منكم، ويعطى لأمة تصنع أثماره”. وأدان تلميذه بطرس لما أخطأ، وقال له من جهة الصليب “حاشاك يا رب” (مت 16: 23). كذلك فإن القديس بولس الرسول قال لتلميذه تيموثاوس “الذين يخطئون وبخهم أمام الجميع، لكي يكون عند الباقين خوف” (1تى 5: 20). فإن قلت هذا هو المسيح يدين وذاك رسول وذاك أسقف، أقول:
هناك مواقف يجد فيها الوديع نفسه مضطرًا أن يتكلم، ولا يستطيع أن يصمت. مثلما فعل أليهو في قصة أيوب الصديق وأصحابه:
كان هو الرابع من أصحاب أيوب. وقد ظل صامتًا طوال 28 إصحاحًا من النقاش بين أيوب الصديق وأصحابه الثلاثة إلى أن صمت هؤلاء إذ وجدوا أيوب بارًا في عيني نفسه (أي 32: 1).
وحينئذ يقول الكتاب “فحمى غضب أليهو بن برخئيل البويزي من عشيرة رام. على أيوب حمى غضبه، لأنه حسب نفسه أبر من الله. وعلى أصحابه الثلاثة حمى غضبه، لأنهم لم يجدوا كلامًا واستذنبوا أيوب” (أي 32: 2، 3).. كان أليهو إنسانًا وديعًا، ظل صامتًا مدة طويلة في نقاش بين أشخاص “أكثر منه أيامًا”. ولكنه أخير لم يستطيع أن يصمت. ورأى أنه لابد من كلمة حق ينبغي أن تقال. فقال لهم:
“أنا صغير في الأيام وأنتم شيوخ. لأجل ذلك خفت وخشيت أن أبدي لكم رأيي. قلت الأيام تتكلم، وكثرة السنين تظهر حكمة”. ولما لم يجد فيهم حكمة، تكلم ووبخ أيوب. وكانت كلمة الله على فمه. وهو الوحيد الذي لم يجادله أيوب (أي 32 – 37).
هناك أشخاص من حقهم -بل من واجبهم- أن يدينوا.
ولا تتعارض إدانتهم مع الوداعة. مثل الوالدين، والأب الروحي، والمدرس بالنسبة. إلى تلاميذ، والرئيس بالنسبة إلى مرؤوسيه… إن عالي الكاهن أدانه الله لأنه لم يحسن تربية أولاده ويدينهم (1صم 3). هوذا الكتاب يقول “لا تخالطوا الزناة” (1كو 6: 9). فهل تقول “أنا لا أدين هؤلاء”! إن عدم مخالطتهم، وعدم مخالطة مجموعات أخرى من الخطاة (1كو 6: 11)، تحمل ضمنًا إدانتهم. كذلك بالنسبة إلى المنحرفين في التعليم الديني، يقول الرسول “إن كان أحد يأتيكم ولا يجيء بهذا التعليم، فلا تقبلوه في البيت، ولا تقولوا له سلام. لأن مَنْ يسلم عليه، يشترك في أعماله الشريرة” (2 يو 1: 10، 11). فهل باسم الوداعة تقبل هؤلاء؟!
قال الرسول “خطايا بعض الناس واضحة تتقدم إلى القضاء” (1تى 5: 24). أنت لا تدين، بل أعمالهم تدينهم. وأنت بكل وداعة تبتعد عنهم.