بساطة الإيمان
كتاب حياة الإيمان – البابا شنودة الثالث
بساطة الإيمان، كثير من المفكرين يشتهونها ولا يجدونها.
مَرَّ أحد الفلاسفة على فلاح بسيط، يصلي في حرارة شديدة وهو ساجد في خشوع، يكلم الله بلجاجة ودالة، كأنه واقف أمامه… فقال: أنا مستعد أن أتنازل عن كل فلسفتي، مقابل أن أحصل على شيء من إيمان هذا الرجل البسيط، الذي يكلم من لا يراه، بكل هذه الثقة…
لقد شعر الفيلسوف بأن هذا الرجل البسيط، يمتلك شيئًا ثمينًا لم يستطع هو بكل فلسفته أن يحصل عليه… وهو الإيمان.
بساطة الإيمان (تصدق كل شيء) يختص بالله، ويقبله لا فحص وبلا جدال… أعني ذلك الجدال الذي يشتهر به العقلانيون…
وهذه البساطة تذكرنا بإيمان الأطفال، الذين يؤمنون بكل الحقائق اللاهوتية والروحية، في ثقة كاملة لا تشك ولا تكذب، ولا تقدم أي اعتراض من العقل. ولعل هذا من الأسباب التي دعت السيد المسيح يقول لتلاميذه (إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال، فلن تدخلوا ملكوت السموات) (مت3: 18). قد يكون إيمان الطفل أكثر براءة وبساطة وصدقًا. إيمان حقيقي لا شك فيه. ليت إيمانك يكون قويًا، كإيمان طفل.
أنا لست أوافق الذين يقولون إن الأطفال غير مؤمنين…
هوذا بولس الرسول يقول لتلميذه تيموثاوس (إنك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تحكمك للخلاص، بالإيمان في المسيح يسوع المسيح) (2تي15: 3). وما أعظم امتداح الرب للطفل الذي أممه وسط تلاميذه (مت17: 2،3).
الذي يسلك في بساطة الإيمان، يعيش بعيدًا عن تعقيدات العقل.
ويعيش بعيدًا عما يقدمه العقل من شكوك وأفكار، وربما من أضاليل. حقًا إن العقل من الله. ولكنها كثيرًا ما تضل إن تعدت عن الإيمان.
الإيمان هو نوع من التجلي، يقدمه الله للعقل لكي يستنير .
وإن وقف العقل وحده، فإنه يتعب صاحبه بأفكاره… لو كان الصبي داود يعتمد على عقله وفكره لخاف من جليات مثلما شاول وكل الجيش ولكنه اعتمد على الإيمان البسيط، الذي قال به جليات (اليوم يحسبك الرب في يدي) (1صم46: 17) (اقرأ مقالًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات). ولكن كيف يحسبه الرب في يده؟ هذا شيء لم يفكر فيد داود، وإنما تركه إلى الله نفسه، لأن الحرب للرب ما قال (1صم46: 17). هذا هو الإيمان. وبه انتصر داود أكثر من الذين كانوا يستخدمون العقل ميزانًا للأمور…
في الإيمان البسيط، المسألة ليست تفكير، إنما مسألة ثقة.
وحتى إن قال العقل إن الحرب لا بُد أن تبحث ما مدى توازن القوي في القتال، وكيف تتفوق إحداها؟ فالإجابة بسيطة: هي أن الله إذا دخل المعركة فإنه سيغير الفكرة البشرية عن ميزان القوي، فيصبح الطفل داود ومعه قوة الله أقوى بكثير من جليات الجبار بدون هذه القوة. وهنا نرى أن الإيمان – مع بساطته لا يتعارَض من العقل وموازينه…
الذي يحيا بالإيمان البسيط، يعيش بلا هَم.
لأن الهمّ غالبًا ما يأتي نتيجة التفكير الكثير، الذي يفكر في المشاكل بطريقة عقلانية. ولكن في بساطة الإيمان يعمل الإنسان ما يستطيعه، ويترك العنصر الأهم لله نفسه، ولا يحمل همًا. وإيقانه بأن الله يعمل، يعطيه سلامًا في القلب، ولا يسمح للهم بالسيطرة على مشاعره.
الذي له الإيمان البسيط لا يحمل همًا، لأنه قد ترك تدبير أموره إلى الله. وإذ وثق بحسن تدبير الله لحياته، صار لا يهتم بالغد، لأن إله الغد هو المهتم به. وكل ما يحدث له في حياته يتلقاه بعبارة (كله للخير)، (كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله) (رو8: 28).
أما الذي يضع تفكيره مكان التدبير لإلهي، فإنه يتعب كثيرًا ويحمل همومه بدلًا من ان يحملها الله عنه.
كذلك مما ينزع الهم، ثقة الإيمان البسيط باستجابة صلاته.
ولعلك جميعكم تعرفون قصة تلك البلدة التي أتعبها الجفاف لعدم سقوط المطر فقرر أهلها إقامة يوم للصلاة من أجل أن يسقط الله مطر على الأرض. وذهب الكل لكي يصلوا. ولكن طفلة ذهبت وهي تحمل معها مظلة (شمسية) فلما سألوها عن ذلك، قالت: أننا سنصلي من أجل المطر؟ ماذا نفعل إذن، حينما يستجيب صلاتنا ويسقط المطر، وليست معنا شمسيات؟! لقد كان لها الإيمان باستجابة الصلاة. ومن أجل إيمانها انزل الله المطر.
هذا الإيمان البسيط، له قوته بالنسبة إلى المعجزات والرؤى.
لقد حدث المعجزة بالنسبة إلى شخص، ولا تحدث بالنسبة إلى شخص آخر لأن الأول في بساطة الإيمان يصدقها ويقبلها. أما الآخر فإن الصعوبات التي يقدمها عقله، تجعله يشك في داخله من جهة إمكانية حدوثها.
ونفس الوضع يحدث بالنسبة للرؤى. البعض يرى المناظر الإلهية والاستعلانات ببساطة إيمان. والبعض لا يراها بتعقيدات عقله. والأمر واضح جدًا كما حدث في ظهور السيدة العذراء بكنيستها في الزيتون بالقاهرة.
العقل يحاول أن يحلل كل شيء علميًا، وإلا فإنه لا يصدق. بينما الإيمان يحتاج إلى تصديق، في بساطة بعيدة عن تعقيدات العقل…
لذلك فالمعجزات والرؤى تحدث بالأكثر مع البسطاء. أما (العقلاء كثيرًا!!) الذين ينكرونها ويستهزئون بمصدقيها، فإنها لا تحدث لهم إلا نادرًا، لكيما تجذبهم إلى الإيمان، أو لتكون شاهدًا عليهم (يو22: 15).
إن اليهود لم يصدقوا حتى معجزة منح البصر للمولود أعمي، وقالوا له إن الذي شفاه رجل خاطئ!! (يو 9: 24). كان العقل يضع أمامهم مشكلة الشفاء في يوم السبت، لكي يضيع بها إيمانهم (يو 9: 16).
لذلك حسنًا قال السيد المسيح عن هؤلاء وأمثالهم، وممجدًا للبسطاء “أحمدك أيها الآب… لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفُهماء. وأعلنتها للأطفال” (مت11: 25). حقًا هؤلاء الأطفال يقصد بهم البسطاء في إيمانهم. أما هؤلاء الحكماء والفهماء في هذه الآية، فهم المعتزون بإدراكهم وفهمهم، والمعتمدون على عقلهم وحده بعيدًا عن الإيمان. حتى أن بعض الروحيين أمسك رأسه بين يديه وقال: “إن هذه هي الثمرة التي أكل منها آدم وحواء”… يقصد المعرفة البعيدة عن الله….
في إحدى الليالي، قبل رهبنتي، كنت راجعًا من زيارة أحد الآباء في الجبل. وكان الظلام قد أنتشر فقيل لي (لا ترجع وحدك إلى الدير لئلا تضل الطريق) وكنت أعرف الطريق جيدًا. وأؤمن بإرشاد الله فيه، ومع ذلك قلت (إن ضللت طريقي، سأبيت في الصحراء حتى الصباح. وكنت مؤمنًا من أعماق بستر الله في هذا، وبخاصة لأن كثيرًا من الأعراب يبيتون في الصحراء بلا خوف، ولكن قيل لي أنك بسيط أزيد مما يجب، ولا تعرف الجبل. لأن الجبل مملوء بالحشرات والدبيب، وهناك خطر الوحوش أيضًا، وأخطار أخرى من جهة الجو… وظل (العقل). ينصب في أذني، ليزيل ما في قلبي من بساطة الإيمان. ورجعت ليلتها إلى الدير مع أحد الآباء. ولم يعطني (العقل) وقتذاك فرصة أختبر فيها عمل الله مع السائرين ليلًا في الصحاء، ولا حتى اختبار الإعرابي الذي يبيت كل ليلة هناك، وتبيت معه عناية الله وستره…
أشكر الله إنني عوضت ذلك فيما بعد حينما سكنت في الجبل وحدي.
إن العقل يمكنه يصور خطورة في كل مكان. وفي نفس الوقت لا يعطي مجالًا للتفكير في عمل الله. ووعلي العكس يطرح غير المؤمن في عقدة الخوف.
ليس معني هذا أن يلقي الإنسان بنفسه في التهلكة، بلا حكمة. وإنما إذا أحترس بقدر طاقته، ثم وجد فيما يسمونه خطرًا، فحينئذ بكل بساطة يثق في حفظ الله وستره. ويغني مع داود النبي (يسقط عن يسارك ألوف، وعن يمينك ربوات. وأما أنت فلا يقتربون إليك) (مز91).
الإيمان البسيط يثق بأن يد الله تتدخل للإنقاذ ولحل كل مشكلة.
هو يثق تمامًا أن الله كمحب للبشر، وكصانع للخيرات، لا بُد سيتدخل في المشكلة -حسب وعوده لأولاده- وتمتد يده لحلها.
أما كيف يحدث هذا؟ فهذا ما لا يسأل عنه الإيمان البسيط.
إنه يتقبل عمل النعمة في بساطة، دون أن يفحص كيف تعمل.
وكم من مرة حاولنا أن نحل مشاكلنا بطرق بشرية . ثم فشلت هذه الطرق جميعها. ولم تأت بنتيجة. وكانت بصمات الله واضحة، فوق كل فكر.
الإيمان البسيط يثق بعمل الله، عقيديًا، وعن طريق الخبرة.
الإيمان يُدْخِل الإنسان في دائرة الاختبارات. والاختبارات تعمق الإيمان وتنبيه على أسس واقعية وليس على مجرد أسس نظرية. والإيمان والاختبار يقولون بعضهما بعضًا. حتى يصل الإنسان إلى يقين بديهي وهو بساطة الإيمان.
الإيمان البسيط يثق أن كل شيء مستطاع، وليس هناك مستحيل.
إنه يوقِن تمامًا أن الله قادر على كل شيء، ولا يعسر عليه أمر (أي2:42). مهما كان صعب الفهم أو صعب الحدوث. إنه بقول الرب (غير المستطاع عند الناس، مستطاع عند الله (لو27:18).
وأنا لا تدهشني عبارة (كل شيء مستطاع عند الله) إنما تذهلني عبارة (كل شيء مستطاع للمؤمن) (مر23:9).
وهكذا فإن الإيمان البسيط الموقن بهذا، يرتفع فوق كل الشكوك.
إنه إيمان قوي، أقوَى من كل شط. لأن الشكوك هي من عمل العقل، والعقل معتز بمقاييسه. أما المؤمن اجتاز مرحلة العقل، وعاش في مجال ا‘لي منها وأعمق. فأعلي من الشكوك توجد بساطة الإيمان.
مشكلة الدين، أن البعض يحاول أحيانًا أن يحوله إلى فلسفة، وإن يخرجه من القلب، ومن الروح ليحصره في نطاق العقل.
وهذا هو الأمر الذي حاربه القديس بولس الرسول بكل قوته، فقال إن كرازته كانت (لا بحكمة كلام، لئلا يتعطل صليب المسيح) (1كو1: 17-20).
يقينًا أن المؤمن البسيط، الذي يكتنز إيمانه في أعماقه، فوق مستوى الفحص هو أقوى إيمانًا من بعض علماء اللاهوت، الذين يستمدون إيمانهم من الكتب التي يظنون أن أهم فيها حياة… وقد يكون إيمانًا يمكن أن تزعزعه أفكار عقلية مضادة…
دَرِّب نفسك على حياة الإيمان البسيط. وانتفع بما مر في حياتك أو حياة غيرك من خبرات. ولا تجعل كثرة التفكير تبعدك عن الإيمان!
No Result
View All Result