عيشوا بالسلام – الموضوع الدراسى الأساسى لعام 2022 م
هذا هو شعار مهرجان الكرازة المرقسية لعام 2022، إن شاء الله، فقد اجتمعت اللجنة المركزية لمهرجان الكرازة المرقسية، والمكونة من الآباء الأساقفة، والكهنة، وأمناء الخدمة، لإختيار شعار المهرجان، وبعد عرض الإقتراحات، تم الإتفاق على أن يكون شعار مهرجان 2022 هو: “عِيشُوا بِالسَّلاَمِ” (2كو 11:13).
جاء شعار هذا العام ليتناسب مع الهجمة الشرسة لعدو خفى على البشرية، وهو وباء فيروس “الكورونا”، وما أحدثه من خسائر كبيرة فى صحة البشر، والإقتصاد العالمى، والنشاط الإنسانى كله.. والتى أفقدت البعض السلام الداخلى والإطمئنان.
– ويكمن معنى السلام فى رسم فنان لوحة لمجموعة من الجبال المتشابكة، التى تفتقد للجمال فى كل تكويناتها، وليس فيها ما يوحى بأى أثر لجمال الطبيعة، مع سماء مكفهرة ملبدة بالغيوم ورياح وعواصف، وطقس كئيب غير مستقر. وعلى أحد جوانب الجبال شلال مياه، يسقط بعنف من الجبل، محدثًا رغوة كثيفة، لشدة إندفاع المياه، منظر لا يوحى بأى سلام على الإطلاق، لكن رسم الفنان خلف شلال المياه المندفع فرعًا صغيرًا لشجيرة برية ناميًا على جانب الجبل، وفوق هذا الفرع البرى يعشش طائر مع فراخه، فى عش صغير، يعيش فى هدوء وسلام، بالرغم من صخب المياه المندفعة، وشدة قوتها.
– فالسلام لا يعنى مكانًا بدون قلق أو مشاكل أو متاعب، بل السلام الحقيقى هو أن نحيا فى قلب العواصف، ونحن لا نزال نحتفظ بهدوئنا وسلامنا الداخلى. تمامًا مثل الطائر. هذا هو “سلام الله الكامل، الذى يفوق كل عقل”، وهذا ما قاله الكتاب المقدس: “عِيشُوا بِالسَّلاَمِ، وَإِلَهُ الْمَحَبَّةِ وَالسَّلاَمِ سَيَكُونُ مَعَكُمْ” (2كو 11:13). فالسلام وصية إنجيلية، يطالبنا بها الرب يسوع كما أمرنا وقال:
“أَىُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَقُولُوا أَوَّلاً: سَلاَمٌ لِهذَا الْبَيْتِ” (لو 5:10).
“طُوبَى لِصَانِعِى السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللَّهِ يُدْعَوْنَ” (مت 9:5).
“لاَ تَقْلَقُوا” (لو 29:12): فالقلق علامة تعظيم وتقدير المخاطر، دون إيمان
بقدرة الخالق، اللانهائى غير المحدود، وكلىّ المحبة… القادر أن يهزم كل هذه المخاطر.
“حِدْ عَنِ الشَّرِّ، وَاصْنَعِ الْخَيْرَ. اطْلُبِ السَّلاَمَةَ، وَاسْعَ وَرَاءَهَا” (مز 14:34).
– والسلام هو التحية التى يتبادلها الناس كل يوم.
– فالقديسة العذراء مريم عندما زارت القديسة أليصابات بدأت كلامها بالسلام:
“فَلَمَّا سَمِعَتْ أَلِيصَابَاتُ سَلاَمَ مَرْيَمَ ارْتَكَضَ الْجَنِينُ فِى بَطْنِهَا، وَامْتَلأَتْ أَلِيصَابَاتُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ” (لو 41:1)، ترى ما قوة ذلك السلام!!
– السيد المسيح هو الذى قال لتلاميذه القديسين: “سلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سلاَمِى أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِى الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ” (يو 27:14).
وواضح أن الرب يحدثنا عن عطية متميزة هى “سلامه” الشخصى، حيث قال: “سلاَمِى” أعطيكم، ثم أكد هذا التميز حين قال: “لَيْسَ كَمَا يُعْطِى الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا” (يو 27:14).
– ومن أهمية السلام أيضًا أنه من ثمار الروح القدس “أَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ، فَرَحٌ، سَلاَمٌ..” (غل 22:5). وقيل فى المعاملات “وَثَمَرُ الْبِرِّ يُزْرَعُ فِى السَّلاَمِ مِنَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ السَّلاَمَ” (يع 18:3).
سمات السلام المسيحى :
لاشك أن السلام المسيحى مختلف عن أنواع السلام الأخرى الممنوحة من البشر،
ذلك لأن السلام المسيحى:
1- غير محدود : لأنه نابع من الرب يسوع غير المحدود… هو سلام لا نهائى، لا ينفذ أبدًا.
2- فوق الصعاب : فالسلام المسيحى يتحدى الصعاب القادمة من عدو الخير, أو البشر, أو الأحداث, أو الأمراض والتجارب والأحزان والمشاكل… هو سلام يتحدى الصعاب.
3- ثابت : بثبات من أعطاه لنا, فهو سلام راسخ فى أعماق القلب, لا يستطيع أحد أن ينزعه، فالرب كان لمريم أخت لعازر: “النَّصِيبَ الصَّالِحَ الَّذِى لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا” (لو 42:10).
4- فائض : بحيث يرفعنا فوق الضيقات والآلام, فنتعزى ويكون عندنا العزاء الفائض الذى نعزى به كل أحد, فالرب هو “الَّذِى يُعَزِّينَا فِى كُلِّ ضِيقَتِنَا، حَتَّى نَسْتَطِيعَ أَنْ نُعَزِّىَ الَّذِينَ هُمْ فِى كُلِّ ضِيقَةٍ بِالتَّعْزِيَةِ الَّتِى نَتَعَزَّى نَحْنُ بِهَا مِنَ اللهِ” (2كو 4:1).
وسوف نتناول الموضوع من خلال عدة نقاط رئيسية:
1- السيد المسيح هو رئيس السلام.
2- السلام على المستوى الشخصى (الفرد).
3- السلام على مستوى الكنيسة (جماعة المؤمنين).
4- السلام على مستوى العالم
كيف نحيا السلام؟
أولاً: السيد المسيح هو رئيس السلام
فهو “رئيس السلام وإله السلام وملك السلام” وفى نبوءة إشعياء النبى، قبل مولده بثمانية قرون قال:
– “لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا مُشِيرًا… رَئِيسَ السَّلاَمِ” (إش 6:9). أعطته النبوة عدة ألقاب، ومنها: رئيس السلام.
– والسلام هو الأنشودة التى غنت بها الملائكة يوم ميلاد السيد المسيح. فقالت: “الْمَجْدُ لِلَّهِ فِى الأَعَالِى، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ” (لو 14:2).
– ولقد دعى “رئيس السلام” لأنه – بالفعل – جاء بالسلام إلى الأرض، ونشر رسالته بطريقة سلمية، وكان يوصى تلاميذه قائلاً: “حِينَ تَدْخُلُونَ الْبَيْتَ سَلِّمُوا عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ مُسْتَحِقًّا فَلْيَأْتِ سَلاَمُكُمْ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا فَلْيَرْجِعْ سَلاَمُكُمْ إِلَيْكُمْ” (مت 12:10-13).
وهكذا انتشرت المسيحية فى ربوع الأرض بأسلوب سلمى، مجرد كرازة بالكلمة، دون نزاع أو عنف، بل إن الرب قال لتلاميذه:
– “هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ كَغَنَمٍ فِى وَسَطِ ذِئَابٍ” (مت 16:10)، مشيرًا إلى الآلام والإضطهادات
التى سيتحملها الآباء الرسل من أجل اسم المسيح، سواء من اليهود أو الوثنيين وغيرهم.. وكما قال القديس أغسطينوس: “أكلت الذئاب الحملان، فتحولت إلى حملان”!!
– وإذا كان السيد المسيح قد قال: “طُوبَى لِصَانِعِى السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللَّهِ يُدْعَوْنَ”
(مت 9:5)، فكم بالحرى أن يكون هو “صانع السلام”. بل أن الكتاب المقدس يدعوه: “هُوَ سَلاَمُنَا، لِكَىْ يَخْلُقَ الاِثْنَيْنِ فِى نَفْسِهِ إِنْسَانًا وَاحِدًا جَدِيدًا، صَانِعًا سَلاَمًا، وَيُصَالِحَ الاِثْنَيْنِ فِى جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ بِالصَّلِيبِ، قَاتِلاً الْعَدَاوَةَ بِهِ (أى بالصليب)، فَجَاءَ وَبَشَّرَكُمْ بِسَلاَمٍ، أَنْتُمُ الْبَعِيدِينَ وَالْقَرِيبِينَ” (أف 14:2-18).
ثانيًا: السلام على المستوى الشخصى
والسلام الداخلى مرهون بعمل الله فى داخل الإنسان, فهو “يَهْدِىَ أَقْدَامَنَا فِى طَرِيقِ السَّلاَمِ” (لو 79:1). لكى يعيش الإنسان فى سلام دائم مهما حدث حوله من اضطرابات ومتاعب و.. إلخ، عليه أن يتمتع بالسلام الثلاثى:
أ- السلام مع الله :
– فالسلام كان قد انقطع من الأرض منذ السقطة الأولى لأبينا آدم وأمنا حواء، وورث البشر الخطية الجدية، فدخل التعب، وحل الانقسام، وانشق الأخ على أخيه وقتله، وذهب السلام، وحلت البلبلة والتناحر، وتفاقمت الحروب والكروب..
– فتأصلت العداوة، بسبب سقوط الإنسان فى الخطيئة ومخالفة الوصية الإلهية، فصار تحت حكم الموت. حتى أن أيوب الصديق صاح فى مرارة قائلاً: “لَيْسَ بَيْنَنَا مُصَالِحٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا” (أى 33:9)، فالله فى السماء: قدوس، وخالق، وأزلى، بينما الإنسان على الأرض: خاطئ، ومخلوق، وجسدانى!! فكيف تتم المصالحة؟!
بمجئ السيد المسيح، كانت البداية الحقيقية لصنع صلح وسلام حقيقى..
سلام صادق، وثابت، وأكيد.. سلام لا يُنزع أبدًا!! فميلاد السيد المسيح، ميلاد للسلام، وبه حل السلام على كل الأرض.
– والسلام مع الله يكون بطاعة وصاياه، والسلوك فى حياة الفضيلة والبِرّ. ذلك لأنَّ الإنسان الذى يحيا فى الخطيئة والإثم، ويبتعد عن أركان العبادة: الصلاة، والصوم، والصدقة، إنما يُبرهِن عمليًا على أنه فى خصومة مع الله، ومع كل سكان السماء.
ولكى يصلح موقفه، ويكون فى سلام حقيقى مع الله، عليه بالرجوع إلى الله بالتوبة، ونقاوة القلب “لاَ سَلاَمَ، قَالَ الرَّبُّ لِلأَشْرَارِ” (إش 22:48).
ب- السلام مع النفس (السلام القلبى الداخلى) :
فيكون بالبُعد عن كل أسباب الإضطراب والقلق والخوف، مع الاطمئنان من جهة حياتنا ومستقبلنا، حيث تتم المصالحة بين مكونات الكيان الإنسانى فلا يعيش الإنسان فى صراع بين الروح والجسد، إذ يقول معلمنا بولس الرسول: إنه بسبب الخطيئة “الْجَسَدَ يَشْتَهِى ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ، وَهَذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ” (غل 17:5).. لكن أولاد الله ينطبق عليهم القول: “اسْلُكُوا بِالرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ” (غل 16:5).
وأرجو أن يلاحظ القارئ الحبيب “حرف الفاء” “فَلاَ تُكَمِّلُوا”، لأن السلوك الروحى نتيجته الطبيعية هى ضبط الجسد!! فالمسيحية ديانة إيجابية لا تحاول قمع الجسد بطريقة سلبية ضارة، لتضعف ما فيه من شهوات، بل هى تنمى الروح، فينضبط الجسد بالقليل من الجهد، حيث يجتهد الإنسان بالصوم والنسك السليم، فى حفظ حواسه، التى هى مداخل الخطيئة! وحينئذ يسير الجسد مع الروح فى طريق واحد، هو طريق القداسة، والفرح والسلام فيشترك مع الروح فى أسهار وأصوام وصلوات وميطانيات، بفرح عظيم، كذبيحة حب لله، وكإخضاع من الروح للجسد، فيطيع الجسد الروح، مجاهدًا معها فى طريق الملكوت.
ج- السلام مع الأخرين :
وما أكثر ما يقوله الأب الكاهن عبارة: “السلام لجميعكم”. يقولها فى بدء كل صلاة طقسية، وفى بدء الأواشى، مرات عديدة جدًا فى كل قداس، يصلى أن يكون السلام فى قلوب الجميع، لأنهم إن فقدوا سلامهم، فقدوا العنصر الأساسى لحياتهم ولتعاملهم مع الآخرين وما لم يكن فى النفس سلام, ستضطرب الحياة مع الناس, والعلاقات الأسرية والاجتماعية حتمًا! لهذا لابد من سلام داخلى, يسود جنبات النفس, ليظهر السلام الخارجى فى العلاقات مع الآخرين… ويوصينا الكتاب المقدس:
– “إِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ. وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ.. لاَ يَغْلِبَنَّكَ الشَّرُّ بَلِ اغْلِبِ الشَّرَّ بِالْخَيْر” (رو20:12-21).
– “إِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى الْمَذْبَحِ، وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئًا عَلَيْكَ، فَاتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ، وَاذْهَبْ أَوَّلاً اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَك”
(مت 23:5-24).
– “إِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَاذْهَبْ وَعَاتِبْهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ وَحْدَكُمَا. إِنْ سَمِعَ مِنْكَ فَقَدْ رَبِحْتَ أَخَاكَ” (مت 15:18).
– كما أن القديس يوحنا يوصينا بصنع السلام بين الإنسان وأخيه الإنسان: “مَنْ قَالَ:
إِنَّهُ فِى النُّورِ وَهُوَ يُبْغِضُ أَخَاهُ، فَهُوَ إِلَى الآنَ فِى الظُّلْمَةِ، منْ يُحِبُّ أَخَاهُ يَثْبُتُ فِى النُّورِ.. مَنْ يُبْغِضُ أَخَاهُ فَهُوَ فِى الظُّلْمَةِ..” (1يو 9:2-11).
فالمسيحية ديانة سلام، تطالب كل البشرية: “عِيشُوا بِالسَّلاَمِ، وَإِلَهُ الْمَحَبَّةِ وَالسَّلاَمِ سَيَكُونُ مَعَكُمْ” (2كو 11:13). لقد كان كونفوشيوس الزعيم الروحى للصين، يعلم تلاميذه قائلاً: “كل ما لا تريدون أن يفعل الناس بكم لا تفعلوا أنتم أيضًا بهم”.. ولكن رب المجد يسوع جاء يطلب منا إيجابية الحب، حينما قال لنا: “كُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ” (مت 12:7). وشتان بين إنسان لا يؤذى أخاه حتى
لا يؤذيه أخوه، وبين إنسان يسلك بالحب الإيجابى، فينشر روح المحبة بين البشر كقول معلمنا بولس: “بِالْمَحَبَّةِ اخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا” (غل 13:5).
– والسلام مع الناس له جانبان: سلبى وإيجابى، ففى الجانب السلبى لا يدخل الإنسان فى صراعات وإشتباكات وخصومات مع باقى الناس، ولا يحمل فى قلبه حقدًا
أو عداوة ضد أحد. أما العُنصر الإيجابى فهو بالتعاون معهم، بالحُبّ والمودة، وتقديم الخير والخدمة للكُل، والحِرص على مشاعر كل مَن يتعامل معهم…
ثالثًا: السلام على مستوى الكنيسة
“اللهُ فِى وَسَطِهَا فَلَنْ تَتَزَعْزَعَ” (مز ٥:٤٦).. هذا وعد الرب، من أيام داود الملك، وقبله وبعده، لأن الرب فى “وسط الكنيسة” والوسط يعنى القلب والرئة.. فهو يحييها ويحميها.
لذلك فالكنيسة جسد المسيح لن تتزعزع، لأن أبواب الجحيم لن تقوى عليها، والرب هو حارسها كل الأيام، ومهما كانت الأنواء والأعاصير والأوبئة..
وأكثر صلاة تتكرر فى طقوسنا، هى الصلاة من أجل سلام الكنيسة، والتى نقول فيها: “اذكر يارب سلام كنيستك الواحدة الوحيدة المقدسة الجامعة الرسولية…”، نصليها فى مقدمة الأواشى الصغار، وفى مقدمة الأواشى الكبار فى رفع بخور عشية، وباكر، وفى كل دورة يدورها الكاهن بالبخور حول المذبح مصليًا الأواشى.
وفى أول القداس، عند تقديم الحمل، نصلى قائلين: سلامًا وبنيانًا لكنيستك المقدسة. وفى سيامة الآباء الكهنة أيضًا.
ونذكر سلام الكنيسة أيضًا فى أوشية الملك والرئيس. قائلين: تكلم فى قلبه من جهة سلام كنيستك الواحدة الوحيدة المقدسة الجامعة الرسولية.
وكان سلام الكنيسة أيضًا أهم ما كان يشغل آبائنا الرسل، والقديسين، الكنيسة تمثل فى نظرهم جميعًا، ملكوت الله على الأرض الذى سيمتد فى الملكوت السماوى، إنها تمثل موطن الإيمان. ومسكن الله مع الناس.
وسلام الكنيسة وسلامتها هما موضع صلاة كل إنسان، أكثر مما يصلى من أجل طلباته الخاصة. إنها مركز تأملاته فى الصلاة الربانية التى يقول فيها “ليتقدس اسمك. ليأت ملكوتك. لتكن مشيئتك”..
والصلاة من أجل سلام الكنيسة، هى الصلاة التى عاشت على مدى الأجيال فى أفواه المؤمنين، رعاة ورعية، إكليروسًا وشعبًا، حتى فى طقس سيامة الرهبان الذين انقطعوا عن العالم، نصلى لأجل سلام الكنيسة.. وجميل أن الأنبا بولا أعظم المتوحدين والسواح، سأل الأنبا أنطونيوس عن سلام الكنيسة… أنها صلاة نصليها من عمق قلوبنا. لا كمجرد طقس، إنما كمشاعر حية متقدة.
والكنيسة تعطينا السلام وتطلب لأجل سلامنا: “يا ملك السلام أعطنا سلامك.. قرر لنا سلام.. واغفر لنا خطايانا”.. هو السلام الذى أخذته من الرب يسوع نفسه
“سلامى أعطيكم”.. وأكثر كلمة نسمعها فى الكنيسة “السلام لجميعكم.. Irhnh paci”.. ومعها الرشم بالصليب لكى يكون السلام بركة من الله، لذلك فالكنيسة تزود أولادها بالسلام فى كل وقت.
ويأتى السلام لجميع من يشتركون فى عضوية جسد المسيح (الكنيسة) من خلال:
الإيمان بالمسيح، إلهًا ومخلصًا، والإيمان أن يسوع المسيح هو ابن الله، الذى تجسد لخلاصنا، هو حجر الزاوية “مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ” (مر 16:16)، “فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ..” (رو 1:5).
المعمودية على اسم الثالوث القدوس، والمعمودية بالتغطيس طبعًا، فهى “صبغة”، وهى “موت مع المسيح ودفن” (رو 4:6) “دُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ، حَتَّى كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ، بِمَجْدِ الآبِ، هَكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضًا فِى جِدَّةِ الْحَيَاةِ؟ (أى الحياة الجديدة)”.
ممارسة الأسرار المقدسة، والأعمال الصالحة “الإِيمَانَ بِدُونِ أَعْمَالٍ مَيِّتٌ” (يع 20:2).
رابعًا: السلام على مستوى العالم
السلام عنصر هام لحياة الناس، بدونه لا يستقر مجتمع ولا ينمو ولا يتقدم، ولا يهدأ إنسان. والسلام هو شهوة الدول والشعوب حتى تعمل فى هدوء. وبدونه يعيش العالم فى شريعة الغاب، والله يريد لنا السلام “هَأَنَذَا أُدِيرُ عَلَيْهَا سَلاَمًا كَنَهْرٍ” (إش 12:66)، ويمنحنا إياه فهو الذى قال: “سلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سلاَمِى أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِى الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ” (يو 27:14). وفى هذه الآية: المتحدث هو الرب نفسه، وهو ضابط الكل، والقادر على كل شئ والمملوء حنانًا. فالسلام عطية مجانية من إلهنا، الخالق المحب، وقيل عنه: “أَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا” (أف 14:2).
والسلام المسيحى هو سلام “بالـرغم من”، وليس سلامًا “لأن”!! بمعنى أنه سلام فوق الأنواء، ووسط التجارب والحروب، ثقة فى الفادى، “البُرْجٌ الحَصِينٌ” الذى “يَرْكُضُ إِلَيْهِ الصِّدِّيقُ وَيَتَمَنَّعُ” (أم 10:18).
– “السلام” إحتياج عام، فإنسان القرن الواحد والعشرين، المتقدم علميًا، وقد يكون غنى ماديًا، يحيا القلق أحيانًا مع الصراع اليومى من أجل لقمة العيش، ومع الخوف من المستقبل المعلوم أو المجهول! وكذلك بسبب الحروب وأخبار الحروب. وزاد على ذلك هذه الأيام ونحن نشارك العالم كله، قلقه من “فيروس الكورونا”.
لذلك نثق أنه مهما حدث فى الماضى أو يحدث فى الحاضر أو سيحدث فى المستقبل، فلنا إله قدير، محب، وحكيم..
ولأهمية التسامح والسلام يحتفل العالم فى 16 نوفمبر من كل عام باليوم العالمى “للتسامح”، وذلك بعد دعوة الجمعية العامة للأمم المتحدة للاحتفال بهذا اليوم منذ عام 1996م، ويهدف الاحتفال بهذا اليوم إلى نشر ثقافة التسامح والحب والسلام، وتعليمها للأطفال فى المدارس كما يحتفل بيوم السلام العالمى فى يوم 21 سبتمبر من كل عام، والذى تقف فيه الحروب والإعتداءات.
– لذلك فلنشجع الحوار والتعايش السلمى ونشر التسامح، ومواجهة التطرف وآثاره السلبية. وإيجاد الفرصة لوقف إراقة الدم البرىء، وإنهاء الحروب والصراعات والانحدار الثقافى والأخلاقى.
تعالوا نصنع سلامًا مع أخوتنا:
– باهتمامنا بالفقير، والمطحون، والمظلوم، والمضطهد…
– وبتقديم الرعاية للمريض، والعريان، والمسجون…
– ومد يد المعونة للمُعاق جسديًا وذهنيًا، والكفيف…
– ونكون الملجأ لعابر السبيل، والجائع، والمشرد…
خامسًا: كيف نحيا ونعيش السلام ؟
– هناك مَن يفقد سلامه واطمئنانه بسبب الخوف من: ظروف المرض والأوبئة، ومن الميكروبات والفيروسات، وتلوث الجو، والماء، وإمكانية العدوى، ومن المستقبل المجهول، ومن ضغوط وصراعات الحياة.. وفى كل ذلك لا يُفكِّر فى نعمة الله الحافظة، التى تمنح السلام والإطمئنان! وأيضًا الشك يسبب للإنسان نوع من القلق، والإضطراب، والتردد، وبالتالى فقدان السلام الداخلى والشك مما يجعل الإنسان فى حالة من عدم الهدوء والاستقرار.. وأيضًا الخطية تسبب فقدان السلام.
ولكن لكى نحيا فى سلام واطمئنان علينا:
1- أن ندرك أن هناك إله عظيم يسوس الكون ويدبره، وهو سر الحياة والوجود. وأن نؤمن بحفظه لنا ورعايته وعنايته، وأنه يهتم بنا أكثر من إهتمامنا بأنفسنا.
– “الرَّبُّ يَحْفَظُكَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ. يَحْفَظُ نَفْسَكَ. الرَّبُّ يَحْفَظُ خُرُوجَكَ وَدُخُولَكَ مِنَ الآنَ وَإِلَى الدَّهْرِ” (مز 8:121).
2- وأنه ضابط الكل، فهو قادر على كل شىء، وفى قدرته يمكن أن يُخلِّصنا من كل متاعبنا ويحل كل مشاكلنا. وأنه أقوى من كل قوى الشر التى قد تحاربنا “وَالْقَادِرُ أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَىْءٍ أَكْثَرَ جِدًّا مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ، بِحَسَبِ الْقُوَّةِ الَّتِى تَعْمَلُ فِينَا” (أف 20:3).
3- أن نتأكد أن حياتنا فى يد الله، وليست فى أيدى الناس يتصرَّفون فيها كما يشاءون. وأنه محب البشر، ولا يشاء موت الخاطئ، بل يحب أن يرجع إليه ويحيا.. إن إيماننا بذلك، فإنه يُدخِل الاطمئنان والسلام إلى قلوبنا.. ونقول مع داود النبى:
– “اَلرَّبُّ نُورِى وَخَلاَصِى، مِمَّنْ أَخَافُ؟ الرَّبُّ حِصْنُ حَيَاتِى، مِمَّنْ أَرْتَعِبُ؟” (مز 1:27).
– “الرَّبُّ لِى فَلاَ أَخَافُ. مَاذَا يَصْنَعُ بِى الإنسان؟” (مز 6:8).
– وأيضَا “إِذَا سِرْتُ فِى وَادِى ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرًّا لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِى” (مز 4:23).
ختامًا :
نصلى ونلجأ إلى الله ضابط الكل، قائلين: “ارفع عن العالم كله: الموت والوباء والجلاء والغلاء وسيف الأعداء” ولنا ثقة ورجاء أن نفرح ونقول مع موسى النبى: “الوَبَأُ قَدِ امْتَنَعَ” (عد 50:16)، ومع معلمنا بولس: “أَخِيرًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ افْرَحُوا. اِكْمَلُوا. تَعَزَّوْا. اِهْتَمُّوا اهْتِمَامًا وَاحِدًا. عِيشُوا بِالسَّلاَمِ، وَإِلهُ الْمَحَبَّةِ وَالسَّلاَمِ سَيَكُونُ مَعَكُم” (2كو 11:13).
الرب يعطينا مهرجانًا مشبعًا لأرواحنا، ومنميًا لحياتنا الروحية، والممتلئة بالسلام لنصير أغصانًا مثمرة فى كرم الرب، ويشبع بالخير عمرنا، لنحيا له، ولنشهد لإسمه القدوس كل الأيام، بصلوات راعينا الحبيب قداسة البابا تواضروس الثانى، وأحبار الكنيسة الآجلاء والآباء الكهنة والأمناء والخدام..
لربنا كل المجد إلى الأبد أمين