من كتاب ثمار الروح – الفصل الثاني
كالينيكوس مطران بيريا
نقلته عن اليونانية: ماريّــا قبارة
ثمرة المحبة
إنّ ما يجدّد الإنسان روحياً أولاً المحبة كمال الفضائل. فهي زهرة النُبل لنفس الإنسان. إنّها الفضيلة التي تجعله يماثل الله لأنّ “الله محبة” (1يو8:4). المحبة عذوبة حياة الإنسان، وبلسم المأساة الدنيوية ودواء القلب الموجوع.
إنّها الوسيلة لجعل ميل الشخص إنسانيّ. فهي سلاح السلام الذي يجتثّ كلّ أمر صعب. هي الطريقة الفريدة التي تجعل الأمر ميسّراً فيكون الأفراد متوافقين منسجمين بها. المحبة هي الدواء الشافي الذي يجففّ دموعنا، ويحلّي بالنعمة نفوسنا، ويهدّئ قلوبنا ويؤنس مزاجنا الموحش.
تملأ المحبة بالنعمة نفوسنا العالمية وتحولّ أرضنا إلى قطعة فردوسيّة. فما هو الفردوس إن لم يكن بشركة المحبة؟ فعندما تقدّم المحبة تشعر بلذّة روحيّة لا توصف، وإن تلقى محبة من قريبك فأنت تتذوّق بلسمها. فالإنسان دوماً رابح بإعطائه المحبة أو تلقيه إيّاها. فإن أحببت، تلين نفسك، وإن أحبوك تهدأ روحك وتسكن. فالمحبة تضفي في داخلك شعوراً من السعادة والراحة، فهي التربة التي تنمو بانتظام. وهي الفضيلة التي تجمّل حياتنا. فمن دون المحبة نختنق ونغرق، ونصير عصبيي المزاج وكثيريّ الظنون. فالنفس التي لا تحبّ فقيرة جدباء، يابسة وعاقرة، موحشة وغريبة عن “الله المحبة”.
المحبة أعظم فضيلة للحياة، وهدية خالقنا الثمينة. إنّها الثمرة الأولى التي تنمو في النفس ويندّيها نسيم الروح القدس. “إذا أحبّ بعضكم بعضاً، عرف الناس جميعاً أنّكم تلاميذي” (يو35:13). إنّ المعرفة الحقيقية ونهضة نفوسنا لا تكون إلاّ بالمحبة “لأنّ المحبة من الله وكلّ محبّ مولود لله وعارف بالله”، “فلنحبّ بعضنا بعضاً” (1يو7:4).
لهذا يجب على المؤمن أن يحاول اقتناء فضيلة المحبة. “اسعوا إلى المحبة” (1كور1:14). وتثمر كلّ أموره وتتأتى بختم المحبة. “لتكن أموركم كلّها بمحبّة” (1كور14:16). فلنعش بمزيد من المحبة التي هي الحلقة التي تشدّ وتربط كلّ الفضائل بجملتها برزمة واحدة. “البسوا فوق ذلك كلّه ثوب المحبة فإنّها رباط الكمال” (كول14:3).
يقول القدّيس باسيليوس الكبير إنّ: “الثمرة الأولى الفضلى للروح القدس…….هي المحبة”. فيضع القديس بولس الرسول بحسب القديس باسيليوس الكبير المحبة أساساً لسلّم الثمار الروحية.
محبة الله أولاً
يجب أن توجّه محبتنا أولاً إلى الله الذي هو نبع كلّ كمال “أحبب الربّ إلهك”(تث20:11). إلى الله الذي تنبع من لدنه كلّ محبة “لأنّ المحبة من الله” (1يو7:4). إلى الله لأنّه أبانا، أبانا السماوي الذي أحبّنا منذ الدهور “ومحبة أبدية أحببتك” (إرميا3:31). “فإنّنا نحبّ لأنّه أحبّنا قبل أن نحبّه” (1يو19:4). الذي اقتبل أن يعتبرنا أبناءه “انظروا أي محبّة خصّنا بها الآب لندعى أبناء الله” (1يو1:3). والذي قدّم ابنه الوحيد كفارة عنّا وعن خطايانا “وإنّما عرفنا المحبة بأن ذاك قد بذل نفسه في سبيلنا. فعلينا نحن أيضاً أن نبذل نفوسنا في سبيل إخوتنا” (1يو16:3). وأيضاً يقول تلميذ المحبة في (1يو10:4): ” وما تقوم عليه المحبة هو أنّه لسنا نحن أحببنا الله بل هو أحبّنا فأرسل ابنه كفّارة لخطايانا”.
أيّ طفل ذو كرامة لا يحبّ أباه العطوف؟ فكيف يمكننا نحن أن لا نحبّ الله- الآب، الذي اقتنينا منه كل ما هو حسن جداً؟ “فكلّ عطيةّ صالحة وكلّ هبة كاملة تنزل من علُ من عند أبي الأنوار” (يع17:1). وكيف نستطيع أن لا نحبّ الله الذي هو خالقنا الكليّ الصلاح، الذي جهّزنا بالمواهب الإلهية، بالعقل والإدراك والمشيئة والسلطة والنفس الخالدة، وسلّطنا على كلّ الخليقة؟. “ألإنسان أبرُّ من الله أم الرجل أطهر من خالقه؟” (أيوب17:4). أي ما الذي يؤهّل الإنسان، الذي أنت مجّدته وأعطيته كامل الرعاية والاهتمام؟، “أنقصته قليلاً عن الملائكة، بالمجد والبهاء كللّته، سلّطته على أعمال يديك، جعلت كلّ شيء تحت قدميه” (مز5:8-6). وكما يتساءل الحكيم سليمان عن هذا الأمر العظيم الذي تمّ في خليقة الله والذي دعاه “إنساناً”، يسمّيه هو “الإنسان العظيم” في (أمثال 6:10).
أنستطيع نحن إذاً الذين حصلنا على المواهب الغنيّة من الخالق- أبينا، خالق السماء والأرض، الساكن في الأعالي أن لا نحبّ خالقنا الكليّ القدرة؟. بالحقيقة كم شحيحٌ حبّنا لله! وعاقرٌ قلبنا من العواطف النبيلة تجاه خالقنا المُحسن!. ليس فقط حبٌ شحيح بل أيضاً هناك أناس يكرهون الله ويهينوه. فهؤلاء البشر للأسف كما نعرف، هم عميان روحياً، هذا إن كنّا نعتبرهم بشراً!
من كلّ القلب
وليس فقط علينا أن نحبّ الله بهذه السهولة، بل وأيضاً أن نحبّه من كلّ قلوبنا ونفوسنا “أحبب الرب إلهك من كلّ قلبك، ومن كلّ نفسك، ومن كلّ فكرك ومن كلّ قدرتك” (مر30:12) هذا ما تقوله الوصيّة الإلهية. “من كلّ قلوبنا” يعني أنّه عليك أن تحبّ الرب من كلّ قدرة النفس الداخليّة التي تحصد المشاعر. “من كلّ النفس” تعني من كلّ إرادتنا. “من كلّ الفكر” تعني من كلّ الذهن. “من كل قدرتك” تعني من كلّ قدرة الإنسان الداخليّة والخارجيّة أي النفسيّة والجسديّة.
يريد الله محبتنا، يريد أن يكون هو سيّد نفوسنا “يا بنيّ أعطني قلبك”. يريد أن نكون بكليتنا عطاءً لله ليكون هو ملك نفوسنا العالمية، لكي لا تتهشّم قلوبنا من رغبة ومحبة هذا العالم. “أما تعلمون أن محبة العالم عداوة الله” (يع4:4).
هذه المحبة الحارة والتامة تجاه الربّ، كانت عند القدّيسين الذين أرضوا الربّ، فالملايين منهم استشهدوا بالإيمان، احتملوا الأحزان والعذابات وأرهقوا دماءهم في سبيل محبّة المسيح. إحصاءات لا تعدّ من البشر، نساءً ورجالاً، الذين انتصروا على الحسد، وتحرروا من سِحر وفتنة هذه الحياة الوقتية “ليجعلوا المسيح محور قلوبهم”. مثل هذه المحبة نحو الربّ امتلكها القدّيس اغناطيوس المتوشح بالله، الذي بادر بفرح نحو الشهادة، مع عريس قلبه الملتهب بالمحبة. “لا أغار أبداً من العالم المنظور واللامنظور، فقط أريد أن أظفر في قلبي المسيح، فلتأتِ عليّ عذابات الشهداء، ما يكفيني فقط أن أنال مسيحي، فأنا أطلبه فوق كلّ الموجودات ليقيمني معه”. يسمى القديس اغناطيوس المتوشح بالله “المولود” فهو سيولد في غبطة وحياة جديدة في الحياة الأبدية. كان يقول بفرح:”ولادتي تقترب” . لم يخف من العذابات ولا من الموت الذي سبب له الفرح لأنّ به سيكون قريباً من الرب الذي اشتهاه قلبه وعشقه بشدة. ولهذا كان يخبر الكثيرين من حوله أن لا يعيقوه عن موت الشهادة “لا تعيقوني يا إخوتي، لا تعيقوني عمّا أطلبه”. هذا الموت الذي سيضمن له الحياة الحقيقية بدلاً من هذه الحياة الوقتية، فهنالك في السماء سيكون إنساناً حقاً. هذا هو مقياس “من كلّ القلب” محبة الله. المحبة الكليّة من دون حدود ودون أيّ مصلحة وخوف.
“من كلّ القلب” تعني المحبة الكاملة التي توجّه إلى الله فقط، ومنها ستنبع كلّ محبة أخرى، محبة جوّادة تجاه الأهل، ومحبة عظمى نحو الأطفال. أمّا محبة الله فهي لا تقبل المزايدة عليها “لأنّي أنا الربّ إلهك إله غيور” (تث9:5).
عطش الله
عندما تنمو في النفس هذه المحبة التامة تجاه الله، عندئذٍ يشتاق الإنسان ويعطش إلى الله، فيشتهي الله وحده. لا أحد غير الله يمكن أن يريحه. فهو الذي يستحوذ تفكيره، ويكون سرور قلبه ولذة نفسه الوحيدة. وحينها يجتثّ بشكر كلّ ما هو دنيوي وفاسد وباطل من حياته وينتصر على قوة الجسد ويقاوم الشهوات “فما من أحد يجنَّد يشغل نفسه بأمور الحياة” (2تيم4:2)، يشتهي فقط أن يصعد دوماً إلى العلاء، وأن يكون حراً ومستقلاً عن كل ّمحبة عالمية، حينها يستطيع أن يتغلب على صعوبات ويوميات الحياة الحاضرة، ولن يجرف من “الشهوات الخادعة” (أفسس22:4) في هذا الدهر.
لن يهتم بالأمور الزمنية الوقتية، اهتمامه هو الله. ورغبته الوحيدة هي كيف يرضيه، عندئذٍ “كلّ شيء خسراناً من أجل المعرفة السامية، معرفة يسوع المسيح” (فيلي8:3). يتذكر دوماً الله ويبتهج به. يركض إليه عطشاناً كما يركض الأيل إلى ينابيع المياه “عطشت نفسي إلى الله إلى الإله الحيّ”(مز2:41). فالله هو مركز أفكاره، وبهجة حياته التي لا توصف، وسموّ نفسه، فهو مخلصه الحلو ، وحبيبه العروس (نشيد الأناشيد 13:5-16).
نبع القوة
أيضاً المحبة نحو الله ليست شعوراً عاطفياً. إنّما قوة فائقة الوصف تحرّك ما بداخل الإنسان. إنّها قوة تنظّم حياته وتوجهه مباشرة إلى أعماله وتروّي أحلامه. تظهر بالطاعة الكليّة لمشيئة الله. الإنسان الذي يحبّ الله لا يعيش كما يريد هو بل كما يريد الله. ناموس الله ووصاياه مرشد وبوصلة حياته. “الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبنّي، والذي يحبنّي يحبّه أبي وأنا أحبّه وأظهر له ذاتي” (يو21:14). ويحاول دوماً أن يعيش كما يريد الله. لهذا يجاهد بصدقٍ ضدّ أهوائه وزلاته، ضدّ إنسانه القديم. ويبتر كل رباط للخطيئة الضالة.، وينظر أن يمتثل دوماً لمشيئة الله ويتقدم في الفضيلة والكمال. تتملكه نعمة الله وتجدّد قلبه، حينها ينسجم مع كلام الرب ويصير مسكناً للثالوث القدّوس. “إن أحبني أحدٌ يحفظ كلامي ويحبّه أبي وإليه تأتي وعنده تصنع منزلاً” (يو23:14). فيصير الغنسان مستنيراً بالله ويكشف له الله ذاته “أُظهر له ذاتي” (يو21:14). فهو الذي يسنده ويقوّيه، يصعده إلى السماء ويمنحه الإمكانية أن يتلمّس في الحياة الحاضرة ندى الفردوس. عندئذٍ يشعر ذاك الإنسان بحلاوة داخلية لاتوصف وبحضور الرب قربه. ويحسّ بنسيم سماوي يطفي على قلبه، ويدرك أنّه لا يوجد حلاوة أو جمال أو قداسة أو قوة أو علّو أو غبطة تفوق محبّة الله.
فيا لسعادة الإنسان المغبوط آنذاك! وكم يشعر بالراحة والغبطة!. فلا هوى يزعجه ولا رباط يحجزه ولاخوف يستولي عليه. لايجذبه سِحر العالم ولا يفتنه الجسد وروح الموضة. فالحزن لا يغلبه وتجارب الحياة لا تخيفه والقلق لا يتملكّه لأنّه يعرف أنّ “آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا” (رو18:8). وينشد قلبه “أنا لحبيبي وحبيبي لي” (نشيد الأنشاد 3:6).
إن لم تكن جاهزاً أن تعمل كلّ شيء بنعمة الربّ، وأن تقدّم له كلّ تضحية وتسلّم نفسك لمشيئة “حبيبك”، فلست مستحقاً أن تدعى “عشيق الله”.
محبّة القريب
للمحبّة فرعان، الفرع الأول هو محبّة الله والثاني محبّة القريب. فذاك الذي يحبّ الله يحبّ أبناء الله أيضاً. فلا نستطيع أن نحبّ الله ولا نبالي لمخلوقات الله العاقلة.
الفرع الأول للمحبّة مرتبط بالآخر ارتباطاً جذرياً، ولا يكون الأول دون الآخر، فمحبّة الله جذر محبّة القريب ونبعه واندفاعه “لأنّ المحبّة هي من الله” (1يو7:4) كما يقول تلميذ المحبّة. وإذا كنّا نتحدث ونقول أنّنا نحبّ الله بينما نكره أخانا فنحن نقول الأكاذيب، لأنّه كيف يمكننا ألاّ نحبّ أخانا من هو على صورة الله، وابنه، والذي نراه كلّ يوم، بينما نحبّ الله من لا نراه بأعيننا الجسديّة “إن قال أحدٌ إنّي أحبّ الله وأبغض أخاه فهو كاذب، لأنّ من لا يحبّ أخاه الذي أبصره كيف يقدر أن يحبّ الله الذي لم يبصره” (1يو20:4). إن أحببنا بعضنا بعضاً وطبّقنا محبة الله فعلياً نثبت أننا أبناء الله، أمّا من لا يحبّ أخاه فهو ليس ابناً لله بل غريباً عنه “بهذا أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس كل من لا يفعل البرّ فليس من الله وكذا من لا يحبّ أخاه” (1يو10:3).
هذا الذي لا يحبّ أخاه ليس ابناً لله، لأّنه ينقض وصية الله التي فُرضت علينا أن يحبّ الواحد الآخر ” لأنّ هذا الخبر الذي سمعتموه من البدء أن يحبّ بعضنا بعضاً” (1يو11:3). وما هو معروف أن وصيّة العهد القديم الأساسية ومن بعد محبّة الله هي محبّة القريب “تحبّ قريبك كنفسك” (مت39:22)، وصارت “الوصيّة العامة” التي لم يعرفها العالم المسيحي قبل المسيح، فقد سادَ الكره قبل المسيح وانتشر الانتقام والخصام والوحشيّة. فقد كانت المحبّة مخصصة للأقارب والأصدقاء فقط ضمن العائلة الواحدة، فلم تحتضن المحبّة البشر عامّة كأبناء لله. ولكن عندما جاء المخلّص إلى الأرض وجسّد المحبّة نشر عطر شذاها الذكي، وكان أول من أعطى مثالاً عظيماً للمحبّة بتبيانه لنا محبته لأعدائه “لكن الله بيّن محبّته لنا لأنّه ونحن بعد خطأة مات المسيح لأجلنا” (رو8:5)، ولن يوجد أسمى وأعلى من هكذا محبّة “ليس لأحدٍ حبٌّ أعظم من هذا” (يو13:15)، وطبّق الرب وصية المحبة وضمَّ الأرض كلّها إليه بتسمير يديه على الصليب، وقبل آلامه الخلاصية بقليل قال لتلاميذه هذا: “وصيّة جديدة أن أعطيكم أن تحبّوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم أنا تحبّون أنتم أيضاً بعضكم بعضاً” (يو34:13)، ويدرك الآخرون أنّكم خاصيتي إن كانت المحبّة بينكم “وبهذا يعرف الجميع أنّكم تلاميذي إن كان لكم حبٌ بعض لبعض” (يو35:13)، “وبهذا أوصيكم حتى تحبّوا بعضكم بعضاً” (يو17:15).
فهل من الممكن أن نحبّ الله عندما ننقض وصيته الأساسية؟ كلا بالتأكيد، فلدينا إجبار بـ”اسلكوا في المحبّة كما أحبّنا المسيح وأسلم نفسه لأجلنا قرباناً وذبيحة لله رائحة طيبة” (أف2:5). وإن طبقنا وصيّة المحبّة نظهر مرضيين أمام المسيح مخلصنا، متشبهين به وحافظين وصيته الأساسية التي تستند عليها كلّ الوصايا الأخرى “المحبّة هي تكميل الناموس” (رو10:13). تبدو محبّـتنا لله في محبتنا للقريب وبحسب رسول المحبّة: “لنا هذه الوصية منه أن من يحبّ الله يحبّ أخاه أيضاً” (1يو21:4). فالمحبّة التي نقدّمها للآخرين كأنّنا نقدّمها لله وهي لائقة ومرضية لديه. “بما أنّكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم” (مت40:25). نجد محبة الله حركة مستمرة داخلية نبيلة في محبّة القريب، وهذه المحبة المسيحية تجاه القريب تبرهن مركزية الله، وتظهر محبّة نقيّة صادقة ولا تعرف تمايزاً بين البشر ومراكزهم وعلاقاتهم الاجتماعية.
تنمو المحبّة المسيحيّة في النفوس المتحدّة بالله؛ والمتجددة من محبّة الله، فهي زهرة المسك الطيبة التي تزرع وتسقي داخلنا نعمة الروح القدس لهذا تراها هادئة جوّادة سخيّة لا تنضب مطلقاً، وترى الإنسانيّة فقيرة أمامها ومستسلمة.
الآخرون ليسوا غرباء
تنظر المحبّة المسيحيّة للجميع بعطف وحنان وأيضاً للغرباء، ولا تعتبر أحداً غريباً عنها بل تعرف أنّ الجميع بشرٌ وأنّهم أولاد الآب السماوي الواحد، وهم أيضاً إخوتنا، فالله أبونا المشترك “هذه أبّوة الله المشتركة تخلق بيننا وبين الآخرين قرابة حميمية ورباط دائم”.وفوق هذا الآخر ليس غريباً عنّا بل أخونا ولذا محبتنا له يجب أن تكون طبيعية، فنشعر بمحبته كمحبتنا وفرحه فرحنا وحزنه حزننا، وأن نملّكه قلوبنا ونحبّه محبّة فائقة.
والآخرون الذين يؤمنون بالمسيح هم أعضاء في جسد المسيح، ويكوّنون جسداً واحداً في المسيح، وكلّ واحد عضو في الآخر “نحن في كثرتنا جسدٌ واحد في المسيح لأنّنا أعضاء بعضنا لبعض” (رو5:12) هذا ما يعلّمه القديس بولس الرسول؛ فهل من المنطق أنّ عضواً واحداً من هذا الجسد أن يكون مختلفاً عن الآخر؟ “فإذا تألّم عضو تألمت معه سائر الأعضاء” (1كور26:12). عضو الجسد الواحد الذي لا يشترك بألم الجسد الواحد فاسدٌ ميت نتن، لهذا فعلى المسيحي أن يشعر بألم الآخر كألمه الشخصي، والمسيحي من لا ينجح بإعطاء محبّة وميلاً للقريب ميت روحي، وليس من الممكن أن يكون عضواً حياً في جسد المسيح بل ميتاً ومندثراً وغير نافع.
الآخرون قطعة منّا
الآخرون إخوتنا وأعضاء في الجسد الواحد-هم ونحن- بل هم جزءٌ من نفوسنا، ليسوا “آخرين” بل هم “نحن”. هذه الفكرة تسّهل علينا أن نفهم بشكل أفضل كُنْه المحبّة واتساعها، وهي تشرح جملة ربّنا يسوع “كنفسك”، “أحبب قريبك كنفسك”، وتعني أن أشعر بالآخر وأن أحسّ به كأنّه جزءٌ منّي، ومن نفسي؛ فالمحبّة لا تعني أن أُعطي الآخر إحساناً لكي أُنزل عن عاتقي مسؤولية أو أن يرتاح ضميري بأنّي عملت واجبي. بل تعني أن أتألم مع الآخر وألاّ أتمكّن أن آكل إن علمت أنّ الآخر جائع، وألاّ أستطيع أن أتذوّق وأتحسس دفئاً عندما أعلم أنّ الآخر لا مأوى له، وألاّ أنال هدوء البال إن كان الآخر يعوي من الألم.
المحبّة تعني الاهتمام بالآخر والقلق عليه، كما أهتم بنفسي وأقلق عليها. لهذا لا تسكن المحبّة في قلوب أنانية محبّة لذواتها؛ فالمحبّة تعني إخلاء ذواتنا، تعني حناناً وعطفاً على الآخر. فمن هو بجوارنا أحياناً كثيرة لا يكون بحاجة إلى مساعدتنا الماديّة بل يريد محبتنا، يريد اهتمامنا به، وأن يشعر بدفء قلوبنا نحوه عندما ننتبه عليه ونفكّر به. مرات كثيرة لا يهمّنا الآخرون بل نريد نحن أن نحبّ فقط وهذا يكفينا ويريحنا، فالتفكير بأنّ الآخر يحبّنا بصدقٍ يريح نفوسنا ويملؤنا شعوراً بالراحة ويخلق في نفوسنا بهجةً وفرحاً. هذه المشاعر علينا أن نقدّمها أيضاً للآخرين كما نحن نأخذها إن أردنا أن نكون أناس المحبّة، فقط أن نحبّهم بصدقٍ وأن نملكهم قلوبنا عندئذٍ نقدّم لهم عطية كبيرة وهدية من أجمل ما يكون، ونهب لهم المساعدة المرجّوة فيتعزّوا في الحياة ولا يشعروا بأنّهم لوحدهم فيها.
يقاسي الإنسان العصري من نقص العطف والحنان، فقد انتشرت اليوم أعمال الرحمة بكثرة بالإضافة إلى المؤسسات الإنسانيّة. فالإصلاح الاجتماعي اليوم معلّم من الدرجة الأولى ولكن ينقصه ويغيب عنه العطف والحنان، وهذا ما يطلبه عصرنا المنهك. فالمتألم والأرملة واليتيم المحروم من إرث الحياة، كلّ منهم يريد عطفاً وحناناً. الكثير يستطيع أن يقدّم لهم خبزاً للحياة ولكنّ قلّة من يعطي محبّة حقيقية الشيء الثمين الذي يطلبوه
لا يشبع الطعام الفاخر ولا تدفئ الملابس الباهظة الفقير أخونا إن لم يرافقها شفقة ومحبّة؛ فمن السهل على جيوبنا أن تعطي الفقير مالاً على أن تعطيه محبة وعطفاً؛ فالحنان والعطف يكلّفان كثيراً، عملتهما غالية وتقديمهما صعبٌ جداً. كم شدّد الرسول بولس في رسالته إلى رومية على المحبّة التي تتطلّب حناناً من الواحد للآخر! “ليوّد بعضكم بعضاً بمحبّة أخويّة” (رو10:12)
الأخ الجيّد يقدّم لأخيه محبّة أخوي’ة صادقة صافية نقيّة؛ فالحنان النقي الذي تقدّمه الأم لابنها، والعطف الذي يخرج من النفس الصالحة ومن القلب النبيل والضمير المستنير ومن الإنسان الروحي ليست مشاعر سقيمة مريضة بل مشاعر سامية مرضيّة لله.
المحبّة تتطلب تعباً
المحبّة المسيحية ليست بالأمر السهل بل تتطلّب تعباً وتضحية، تتطلّب جهاداً من أجل الآخر واهتماماً ورعاية. فإن أردت أن تكون إنسان المحبّة ستضحي من راحتك ساعات كثيرة، ولا تعمل الذي يروق لك ويريحك بل ما يريح الآخرين ويسعدهم. فلتقف إلى جانب أحدٍ ما من بحاجة لاهتمامك تحتاج تعباً وتضحية، ولكي ترشد شخصاً شارداً عن طريق الله تحتاج تعباً أكثر وتضحية روحية كافية، ولكي تتحمّل شريكاً شرساً أوزوجاً حادّ الطِباع أو جاراً وقحاًوتظهر محبّة إنسانيّة عليك بتقدّيم قدرٍ من التعب والتضحية. ولكي تخدم شخصاً عليك أن تصعد معه سلالم كثيرة لتجد له عملاً، ولكي تقدّم بكرم من مالك وأملاكك لتوقف وجع الآخر يحتاج كلّ هذا لتعبٍ وتضحية.
المحبّة تقدمة مستمرة، فعل تضحية. أمّا نحن فننتظر تقدمات من الآخرين لنتمتّع بانشراح نفسي وسعادة ولا نحاول تقديم محبتنا لأي شخص كان بحاجة إليها، يقول “راؤول فوليرو”: “التعاسة الكبيرة ألاّ نكون نافعين لأحدٍ”.
المحبّة طيبة لا متناهية
المحبّة طيبة لا متناهية، صلاح دون حدود. فمن يحبّ يراه الجميع بعين حسنة ” المحبّة لا تظن السوء” (1كور5:13)، ولا يفكرّ بالسوء تجاه أخيه ولا يشكّ فيه ولا ينظر إليه بدونية ولا يفرح مطلقاً عندما يمرّ الآخر بضيقة ما أو خسارة أو أنّه يتعثر في مكان ويسقط “المحبّة لا تفرح بالإثم”، ولا أن يغار منه ويحسد نجاحه “المحبّة لا تحسد” (1كور6:13، 4).
إنسان المحبّة يحبّ كلّ الناس ولا يفرّق بينهم ولا يقيس نفسه بهم ويعلو عليهم، بل يراهم بنظرة واحدة ويعطي الكلّ طيبة لا متناهية ويكون للكلّ كريماً ومحترماً ولديه حسن استعداد لخدمتهم وأن يكون متسامحاً ونافعاً لهم ولا يتعامل مع أحدٍ بقساوة وفظاظة “المحبّة لا تقبّح”
تشبه المحبّة نهراً لا حدود له يسقي ويندّي في طرقه كلّ الأماكن التي يمرّ فيها دون تمييز. وهكذا المحبّة تعمل ولا تعرف ما هي الكراهية والحسد والانتقام، بل تنسى الشرّ وتسامح الذي فعله الآخرون بسهولة، تعرف الصبر والاحتمال على سوء طباع الآخرين وتظفر بكلّ شيء، لا تجرح ولا تمسّ ولا تهين أحداً، لا تحتقر أو تستهين بالأخ الآخر أو تؤذيه، وإن وقعت المحبّة في مكانة رئاسة ما لا تضغط أو تضيّق على مرؤوسيها.
المحبّة لا تقطر سمّاً ولا تضرّ أو تؤذي بل تنثر بسمتها وطيبتها في كلّ مكان.
فلتكن محبتنا بالعمل والحق
المحبة ليست بالأقوال، بل هي حياة وتتوضح في العناية المستمرة مع الآخر، هذا الاهتمام الذي يفرض عملاً يتمه بالاحتياجات الماديّة والنفسية للقريب “يا بني لا تكن محبتنا بالكلام ولا باللسان بل بالعمل والحق” (1يو18:3). تحتاج المحبة أيضاً إلى اللسان عندما يكون القريب بحاجة إلى المشورة فيتعزى بالكلام، فهي تعلّم الجاهل وتصلح الشباب وتزامل الإخوة المتخاصمين المتعاركين…الخ، فتكون الأقوال هنا أفعالاً، وهي أعمال تضحية وتعب. لكن، عندما يجوع الآخر ويتعرى ويكون عاطلاً عن العمل أو مريضاً ولا يملك دواءً أو أجرة الطبيب ليتطبب لا تجد الأقوال لها مكاناً، فالمحبة بالأقوال في هذه الظروف سطحية باطلة، بل هنا تحتاج المحبة إلى أعمال، تحتاج تضحية بالمال أو تضحية بالراحة وهنا فقط نطبّق المحبة “فإن كان فيكم أخٌ عريان أو أخت عريانة ينقصهما قوتُ يومهما وقال لهما أحدكم: “اذهبا بسلام فاستدفئا واشبعا” ولم تعطوهما ما يحتاج إليه الجسد فماذا ينفع قولكم؟” (يعقوب15:2، 16).
القريب ليس فقط جسداً
محبتنا لا يجب أن تقتصر فقط على الاحتياجات الماديّة والدنيوية للقريب، بل أن تتحول أيضاً إلى احتياجات أخينا النفسية. قطعة صغيرة من الخبز الكل يقدر أن يعطيها، أمّا الاستنارة وخوف الله من يعلمّها؟ كم تثمر المحبة عندما تقود أحدهم للاعتراف من لم يتعلّم حتى اليوم غسل النفس، أو أن تحضر للمسيح شاباً زلَّ وعثر في متاهات الجهل وعدم المعرفة، أو أن تنير نفساً ماكثة في عالم ظلمة الخطيئة، أليس هذا عمل محبة، هو أفضل تقدمة وعمل للقريب.
كيف تقدر أن تحبّ وتبقى هادئاً عندما يعيش الآخر بعيداً عن حضن وحنان الله؟ عندما يتمرّغ في وحل الشرّ؟ كيف تقدر على الصلاة بهدوء وكلّ ما حولك يجهل الإنجيل، ويجهل هدف الحياة ومعناها، أو يجهل أسرار الكنيسة الصحيحة وهو مشتبكٌ بحبال الشرير؟ أتستطيع العيش في راحة البال أمام نفسٍ مخنوقة تحتاج لمحبة الإنسان القريب؟
– لكن ستقول لي: نحن لسنا مرشدين ولسنا إكليريكيين، فماذا نستطيع أن نقدّم لنفوس الآخرين؟
القلب المحبّ يقدر ويستطيع فعل الكثير، يستطيع إخراج أساليب لمساعدة النفوس التي تحتاج للمساعدة. فعندما نقلق ونضطرب للحالات الوضيعة الروحية التي تحيط بنا سنجد أساليب لنقدّم المحبة تجاه الآخر، كأن نرشده إلى من يعطيه خبرة روحية أو نضع بين يديه كتاب للبناء الشخصي أو ندعوه لإحدى الوعظات ونحثه على ارتياد الكنيسة ونصلّي له بحرارة لينيره أن يثمر في طريقه.
ممكن أن لا تنجح محاولاتنا. ولكن نكون قد أظهرنا محبتنا، وإن لم يفهم ثمن هذه التقدمة.
” فاعلموا أنَّ من ردَّ خاطئاً عن طريق ضلاله خلَّص نفسه من الموت وسترَ كثيراً من الخطايا” (يع20:5) يقول الرسول يعقوب. أيوجد محبة أعظم من الاهتمام والمحاولة لاقتراب نفوس إخوتنا للمسيح المخلّص والعتق من حكم الموت الأبدي.
بولس الرسول مثال المحبة
نموذج الإنسان الممتلئ من المحبة هو الرسول بولس “الممتلئ من الروح القدس”(أع9:13). أحبب الرب من كل قدرتك. عش من أجل الله. “فما أنا أحيا بعد ذلك، بل المسيح يحيا فيَّ” (غلا20:2)، يتحرك ويعمل ويحيا من أجل الله، إن الله عند الرسول الهدف المستمر. نفسه تلهج بالله فقط، ويشتاق إليه نهاراً وليلاً. “لأنّي مستعدٌ ليس أن أربط فقط بل أن أموت أيضاً في أورشليم لأجل اسم الرب يسوع” (أع13:21)، كان يقول هذا في قيصرية فلسطين عندما تلاميذه وكلّ المسيحيين حاولوا منعه من الصعود إلى أورشليم بعد نبوءة “أغابوس” كما يرويها لوقا الرسول في أعمال الرسل في الإصحاح الثاني والعشرون. ولأنّ الرسول يحبّ الرب من كلّ حرارة نفسه لهذا اشتهى “أن ينطلق ويكون مع المسيح” (فيلبي23:1)، أي اشتاق أن يترك هذه الحياة ويذهب إلى السماء ليكون مع الرب.
وهذا بالضبط لأنّ بولس الرسول يحبّ الله كثيراً، يحبّه أكثر من أيّ شخص آخر. ليلاً ونهاراً اهتمامه وجهاده وتعبه في سبيل خلاص الآخرين لا يعبّر عنه. عانى بولس الرسول عن الكثيرين لأنه ملك محبة في داخله. كتب في رسالة كورنثوس: “من يضعف وأنا لا أضعف؟ من يعثر وأنا لا أحترق؟” (2كور29:11)، أي مَن من المسيحيين يكون مريضاً جسدياً ونفسياً ولا أشعر أنا به؟ من سقط في الخطيئة وأظلمت نفسه ولا أحترق أنا في أتون الحزن والخجل؟
“فصرت لليهود كيهودي لأربح اليهود. وللذين تحت الناموس كأنّي تحت الناموس لأربح الذين تحت الناموس…صرت للضعفاء كضعيف لأربح الضعفاء. صرت للكلّ كلّ شيء لأخلّص على كلّ حال قوماً” (1كور20:9-22).
بولس الرسول مثال المحبة بامتياز! وكان يقدّم هذه المحبة في المجتمع يومياً، في النهار وفي الليل.
يريد مجتمعنا مسيحيي القلب وليس مسيحيي مصلحة، يريد أناساً روحانيين متجددين في كلّ وقت وهم سيكونون “فرحاً مع الفرحين وبكاءً مع الباكين” (رو15:12)، مجتمعنا فيه حلاوات كثيرة والمحبة تحتاج حناناً. ويجب أن نعيش هذه المحبة بعمق كبير “في محبة بلا رياء” (2كور6:6)، لهذا نلتمس من الروح القدس أن يزرع المحبة لتثمر في دواخلنا.