أيقونة والدة الإله “كيكّوس” العجائبيّة
أقرب رسم لأيقونة والدة الإله “كيكّوس”
القدّيس إشعياء مؤسّس دير كيكّوس في قبرص وأيقونة والدة الإله العجائبيّة.
إنّ دير كيكّوس في قبرص هو من أهمّ الأديار وأشهرها، فالدّير مكرّس لوالدة الإله “إليوسا” الحنونة. في الدّير أيقونة عجائبية لوالدة الإله رسمها القدّيس الرّسول لوقا. وصلت هذه الأيقونة إلى الدّير بفضل الشّيخ النّاسك القدّيس المغبوط “إشعياء” وسعيه الحثيث للحصول عليها.
نجهل أين وُلد هذا القدّيس أو من هما أبواه، وما كانت ثقافته. ما نعرفه عنه أنّه، في موضعِ الدّير الحالي، كان يعيش في القرن الحادي عشر حياةً نسكيّة في كهفٍ صغير.
في التّقليد، أنّه عندما كان راكعًا يصلّي، ذات مرّةٍ، سمع تغريد عصفورٍ غريب يشدو مكرّرًا هذه الكلمات: “كيكو، كيكو، سيُولَد دير الجبل، والسّيّدة الذّهبيّة ستدخل إليه ولن تغادره”. سمع النّاسك هذا الكلام ولكنّه لم يفهمه.
كان حاكم قبرص، في ذلك الحين، “الدّوق مانويل فوتوميتيس”، خاضعًا لوصاية الأمبراطوريّة البيزنطيّة، ومقرّه في “نيقوسيا”.
وكما جرت العادة، كان سكّان السّاحل يرتحلون إلى الجبال في فصل الصّيف هربًا من الحرارة المرتفعة. لذلك كان الدّوق يغادر “نيقوسيا” في الصّيف ويصعد إلى الجبل، إلى قرية إسمها “ماراثاسا”. في ذلك الزّمن، كان يعيش في جبال قبرص عدد من النّسّاك بينهم القدّيس “إشعياء”.
ذات يوم، خرج الدّوق مع بعض أصدقائه ليتصيّدوا الغزلان، وإذ ابتعد عنهم، أخذ يجول في الغابة وحيدًا… جال كثيرًا حتى تعب وشعر بالضّيق وإذ به أمام مغارةٍ… فاقترب من مدخلها ورأى هناك إنسانًا فقيرًا بثيابٍ رثّة.
ترجّل عن حصانه وسأله ما هويّته وماذا يفعل في هذا المكان. لم يتكلّم النّاسك محاولاً أن يبقى مجهولاً وغادر المكان بسرعة. اعتبر الدّوق هذا التّصرّف مهينًا له ولَحِق بهذا الشّيخ الوسخ وشتمه وضربه بضرواة ورماه أرضًا وركله من دون رحمة.
ولكنْ، رغم أوجاعه، قال الرّاهب للدّوق بصوت هادئ وبدموع من قلبه المجروح أنّه خادمٌ للمسيح وأنّ الرّبّ سيجازي الشّيطان أصل كلّ الشّرور على فعلته. لكنّ الدّوق غادره غاضبًا دون أن يكترث لكلامه.
وانقضى الصّيف، وعاد “فوتوميتيس” إلى نيقوسيا. بعد أيّام قليلة، أُصيب بمرضٍ خطير ولم يعد باستطاعته أن يحرّك أطرافه وانشلّ بكليّته. إذ ذاك تذكّر أقوال القدّيس “إشعياء”، وبألمٍ ودموع صلّى إلى الله وطلب الغفران. نظرَ الإله الرّحوم إلى توبته وأعاد له صحته. وما إن استردّ “فوتوميتيس” عافيته حتّى قام وذهب مع خدّامه إلى الجبل حيث التقى النّاسك لأوّل مرّة، راغبًا أن يسأله المغفرة. في تلك اللّيلة، عندما كان النّاسك جاثيًا يُصلّي، اتكأ قليلاً لينام، وقبل أن يغفو سمع هذا العصفور الغريب عينه، خارج كهفه، يزقزق مردّدًا: “كيكو، كيكو، سيُولد دير الجبل، والسّيّدة الذّهبيّة ستدخل إليه ولن تغادره”. وعلى هذه النّغمة أغلق عينه وغفا.
أبصر في نومه حلمًا أقلقه. رأى والدة الإله في كهفه تقول له إنّه في الصّباح سيزوره الدّوق مرّة ثانية ليسأله المغفرة. سيقول له إنّه مستعدٌّ أن يكفّر عن ذنبه بإعطائه كلّ ما يطلبه منه، لذلك على الشّيخ أن يطلب أيقونة والدة الإله الّتي في قصر الأمبراطور في القسطنطينيّة والّتي رسمها الرّسول لوقا، ويأتي بها إلى قبرص.
نهض إشعياء من نومه، قبل بزوغ الفجر، كما اعتاد، يتمّم قانونه وسجداته وليباشر عمله اليدويّ. عند المساء سمع جلبةً، فخرج من كهفه وانتظر وهو يصلّي. وما هي سوى لحظات، حتى بانت من بين الأشجار مجموعة من الرّجال يقتربون منه. لم يتعرَّف النّاسكُ إلى الدّوق فورًا ولكنّه عرفه لما بلغ إليه وترجّل عن حصانه، وطلب منه أن يسامحه على ما جرى سابقًا.
لم يتردّد النّاسك، بل هرع إليه وقال له إنّه مسامحه من البدء ومن كلّ قلبه. وعندما أبدى “فوتوميتيس” عن استعداده بتقديم أيّ شيء للنّاسك تكفيرًا عن ذنبه، تذكّر هذا الأخير الحلم وسأله أن يحضر له أيقونة والدة الإله الّتي رسمها البشير لوقا والّتي هي في القصر في القسطنطينيّة.
رغم أنّ “فوتوميتيس” اعتبر هذا الطّلب مستحيلاً تحقيقه، لأنّ الأيقونة هي من أثمن كنوز الأمبراطور، غير أنّه وعد بأن يحاول، واقترح عليه أن يرافقه إلى القسطنطينيّة، فوافقه النّاسك على ذلك.
وصل الإثنان بعد بضعة أيّام إلى القسطنطينيّة. وإذ لم يشأ النّاسك “إشعياء” أن يغيّر نمط حياته بالعيش في بيوت التّرف، أقام في دير هناك، في حين ذهب “فوتوميتيس” لزيارة الأمبراطور “ألكسيوس كومنينوس” ليعلمه عن المستجدّات الحاصلة في قبرص. زاره مرتَين أو ثلاث مرّات دون أن يجرأ على التّطرّق إلى موضوع الأيقونة لأنّه خشي جواب الأمبراطور.
وبعد أن طالَ الوقت، لم يعد القدّيس إشعياء يحتمل العيش في دير في المدينة، لذلك قرّر العودة إلى قبرص. وإذ علم الدّوق بالأمر أسف كثيرًا، لأنّ مجرّد الظّنّ أنّ الشّيخ النّاسك سيعود دون أن يحقّق بغية سفره كانت تحزنه. لكنّه لم يشأ أن يبقيه عنوةً. لذلك طلب الدّوق من أحد كتّاب الأيقونات أن يرسم له أيقونتَين: واحدة للرّب يسوع المسيح على العرش وأخرى للثّالوث القدّوس في مضافة إبراهيم وفي أسفلها رسمٌ لوالدة الإله والشّيخ إشعياء إلى يمينها و”مانويل فوتوميتيس” إلى يسارها.
عندما أصبحت الأيقونتان جاهزتَين، أعطاهما الدّوق للنّاسك مع مبلغٍ كبيرٍ من المال وأذن له بالعودة. وقد فارقه دامعًا طالبًا منه الصّلاة، واعدًا إيّاه بأن يفعل ما بوسعه لإحضار الأيقونة العجائبيّة إلى قبرص. على هذا الوعد افترق الإثنان.
عاد الشّيخ إلى قبرص بمعونة الله. ومن دون أن يستريح ذهب مباشرةً إلى كهفه. كانت فرحته كبيرة لاستعادته هدوءه ونمط عيشه، لكنّه كان حزينًا إذ لم يحصل على الأيقونة. ولمّا غفا، في تلك اللّيلة، رأى الحلم عينه الّذي أبصره قبل أن يغادر إلى القسطنطينيّة وسمع الصّوت عينه مجدَّدًا يقول له ألّا يحزن لأنّه قريبًا ستوافيه الأيقونة العجائبيّة.
استفاق الشّيخ فرحًا، ومن دون أن يضيع الوقت ذهب واستدعى بنّائين لبناء كنيسة مكرّسة للثّالوث القدّوس كما أُوعِز إليه في الحلم، كي يضع فيها الأيقونتَين هدية الدّوق، ناويًا أن يبني حول الكنيسة بضعة قلالٍ من أجل إنشاء ديرٍ.
أمّا في القصر الملكيّ، فقد شاء الله أن تمرض البِنتُ الكُبرى للأمبراطور “أليكسيوس” بالمرض عينه الّذي أُصيب به “فوتوميتيس”. رأى هذا الأخير في ذلك علامة من الله وفرصة ليطلب الأيقونة من الأمبراطور. استمع الأمبراطور لكلام “فوتوميتس” بكثير من الاهتمام، ووعده بأن يعطيه الأيقونة إذا شُفيت ابنته.
وللحال، تحسّنت حال الفتاة، لكنّ الأمبرطور نكث بوعده. والله لا ينسى وعدًا قُطع ولا يُسخر منه. لذلك، في عودة “فوتوميتيس” إلى الأمبراطور مذكّرًا إيّاه بوعده، كان الأمبراطور يهمُّ بمغادرة القسطنطينيّة إلى قبرص، لكنّه لم يستطع أن يُكمل سعيه إذ أُصيب بمرض ابنتِه.
وإذ رتع على فراش الألم، تذكّر الوعد الّذي قطعه لـ”فوتوميتيس”. لكنْ، إذ أحسّ بأنّه لا يستطيع أن يُقدِّم له هذه الأيقونة العجائبية، طلب من رسّام أيقوناتٍ بارع أن يرسم أيقونة مطابقة لتلك الأيقونة العجائبيّة ليرسلها إلى قبرص. آمن أنّه بهذه الطّريقة باستطاعته إرضاء “فوتوميتيس” وأن يُبقي الأيقونة الجليلة بحوزته. إلّا أنّه في تلك اللّيلة، ظهرت له والدة الإله في الحلم وذكّرته بالوعد الّذي قطعه. استفاق الأمبراطور مرتعبًا، ومن دون أن يضيّع الوقت، استدعى حاشيته، وطلب منهم أن يعدّوا السّفن الملكيّة على الفور، ويضعوا فيها الأيقونة المبجّلة، وأن يرافقها راهبٌ ورئيس دير تقيّان يمكثان معها في قبرص. وبعث معهما مالاً جزيلاً لبناء هيكلٍ لائقٍ بها. وما إن وصلت السّفينة إلى ميناء “تيليريا”، حتى أُعلم الدّوق والشّيخ النّاسك بذلك. وإنّ النّاسك رغم تقدّمه في السّن، ركض فرحًا جذلاً إلى المرفأ لاستقبال الأيقونة العجائبيّة. وكان إلى جانبه الدّوق وجموع من المؤمنين تركوا أعمالهم وأراضيهم وضيعهم لاستقبالها.
هناك سلّم “فوتوميتيس” الأيقونة والمال للشّيخ الّذي أتمّ بناء الدّير والكنيسة حيث وُضعت الأيقونة الجليلة. عاش المغبوط “فوتوميتيس” بقيّة حياته في الدّير ورحل بسلام. يُعيّد للقدّيس “إشعياء” في الأوّل من شهر أيلول.
يُنسب إلى الأيقونة عدد كبير من العجائب وتُعتبر حامية قبرص من كلّ مضادّ. وإنّ هذه الأيقونة لا يُنظر إليها البتّة، وهي دائمًا موضوعة خلف ستارٍ لحمايتها. يُقال إن من ينظر إليها تَلمُّ به النّكبات. يُكشف عنها في حالات نادرة، مثلاً عندما ضرب قبرص جفاف، كشف الرّهبان عنها وأقاموا خدمة الابتهال لوالدة الإله من دون أن ينظر أحدهم إليها، طالبين شفاعتها لاستسقاء الأمطار، الأمر الّذي لم تتأخّر عن تحقيقه.
تصوّر أيقونة والدة الإله حاملةً ابنها على ذراعها الأيمن ورجلاه العاريتان متدليتان. وُضع لها غطاء فضيّ في القرن السّادس عشر، استُبدل بغطاء فضيّ جديد في القرن الثّامن عشر، وهي منذ ذلك الحين لم يَنْظُرْ إليها أحد.
فبشفاعة والدة الإله والقدّيس إشعياء نطلب الخلاص لنا أجمعين آمين.