الإرشاد الرسوليّ
ما بعد السينودس
فرح الحبّ
من البابا فرنسيس
إلى الأساقفة والكهنة والشمامسة الإنجيليّين
والمكرّسين
وإلى الأزواج المسيحيّين
وإلى جميع المؤمنين العلمانيّين
حول الحبّ في العائلة
2016
- فرح الحبّ الذي يُعاش في العائلات هو أيضًا فرحُ الكنيسة. كما أشار آباء السينودس، فعلى الرّغم منتعدّد علامات أزمة الزواج، “إنّ الرغبة في العائلة لا تزال حيّة، لاسيّما بين الشباب، وهي تحفّز الكنيسة”[1] . وكجواب على هذا التطلّع، “البشارة المسيحية الخاصة بالعائلة هي حقًّا بشارة سارة”[2] .
- لقد سمحتمسيرة السينودس بوضع حالة العائلات في عالم اليوم على بساط البحث، كما سمحت بتوسيع نظرتنا وبإحياء وعينا لأهمية الزواج والعائلة. في الوقت عينه، قد أظهرت لنا تعقيدات المواضيع التي تمّ معالجتها ضرورة مواصلة التعمّق بحريّة في بعض المسائل العقائديّة، والأخلاقية، والروحيّة، والرعويّة. وتفكير الرّعاة واللاهوتييّن، إن كان أمينًا للكنيسة، وصادقًا، واقعيًّا، وخلّاقًا، فسوف يساعدنا لنبلغ قدرًا أكبر من الوضوح. فالمناقشات التي تجري عبر وسائل الإعلام، أو عبر المنشورات وحتّى ما بين خدّام الكنيسة، تتراوح بين الرّغبة الجامحة في تغيير كلّ شيء دون تفكير كاف أو أساس، والموقف الذي يدّعي حلّ كلّ شيء من خلال تطبيق قواعد عامة أو من خلال استنتاجات مبالغ بها لبعض الأفكار اللاهوتيّة.
- مّذكِّرًا بأنّ الزّمن أسمى من المساحة، أودّ أن أكرّر بأنّه ليس من الضروريّ حلّ كلّ المناقشات العقائديّة، الأخلاقية أو الرعويّة عن طريق مداخلات السلطة التعليميّة. بطبيعة الحال،إنوحدة العقيدة والممارسةأمرٌ ضروريّفي الكنيسة، ولكنّ هذا لا يمنع من وجود طرق مختلفة لتفسير بعض جوانب العقيدة أو بعض النتائج التي تنجم عنها. وهذا ما سيحدث حتّى يبلّغنا الرّوح إلى الحقيقة الكاملة (را. يو 16، 13)، أي عندما يُدخلُنَا كليًّا في سرِّ المسيح فيمكننا أن نرى كلّ ذلك من خلالِ نظرته. علاوة على ذلك، من الممكن البحث في كلّ بلد أو منطقة عن حلول أكثر انثقافًا، تأخذ بعين الاعتبار التقاليد والتّحديات المحليّة. في الواقع، “الثقافات متنوّعة جدّا فيما بينها، وكلّ مبدأ عام […] يحتاج إلى الانثقاف، إن أراد أن يكون محترمًا ومطبَّقًا[3] “.
- على أيّ حال، لا بدّ لي من القول بأنَّ مسيرة السينودس حملت في ذاتِهَا جمالاً كبيرًا، وقدّمت نورًا كبيرًا. وأشكر على المساهمات العديدة التي ساعدتني على التأمل في مشاكل العائلات في العالم بكل أبعادها. إنَّ مجمل مداخلات الآباء، والتي قد استمعت إليها باهتمام دائم، بدا لي ثمينًا في تعدّد وجوهه، المكوّن من عدّة اهتمامات مشروعة ومن أسئلة نزيهةٍ وصادقة. لذا وجدت أنّه من المناسب كتابة إرشاد رسوليّ لما بعد السينودس يجمع مشاركات السينودسَينالأخيرين حول العائلة، مضيفًا اعتبارات أخرى من شأنها أن توجّه التفكير، الحوار أو الممارسة الرعوّية، وفي الوقت عينه تمدّ العائلات بالشجاعة، والتحفيز والعضد في التزامهما وفي صعوباتها.
- يكتسب هذا الإرشاد أهميّة خاصّة في سياق يوبيل سنة الرحمة هذا. أوّلا، لأني اعتبره كاقتراحٍ للعائلات المسيحيّة، يحفّزها على تقدير عطايا الزواج والعائلة، والحفاظ على حبٍّ قويٍّ ومفعم بقِيَم الكَرَمِ والإخلاصِ والصّبر. ثانيًا، لأنّه يستهدف تشجيع كل واحد على أن يكون علامة رحمة وقرب حيثما لا تتحقّق الحياة العائليّة بشكل كامل أو حيث لا تسير بسلام وفرح.
- من خلال التوسّع في النصّ، سوفأبدأ بافتتاحيّة مستوحاة من الكتب المقدّسة، تمنحه نبرَةً مناسبة. انطلاقًا من هذا سأقدم اعتبارات بشأن الوضع الحاليّ للعائلات، بغية”إبقاء الأقدام على الأرض”. ثمّ سأذكّر ببعض العناصر الأساسيّة لتعاليم الكنيسة بشأن الزواج والعائلة، تاركاالمجال هكذا، للفصلين المركزيين، والمكرّسين للحب. ومن ثمَّ، سوف أعرض بعض الطرق الرعويّة الّتي توجّهنا لبناء عائلات قويّة وخصبة وفق تدبير الله، وسأكرّس فصلا لتربية الأبناء. ثمسأتوقّف عند الدعوة إلى الرحمة والى التمييز الرعوي أمام حالات لا تتجاوب تمامًا مع ما يقترحه الرب علينا، وسوفأرسمأخيرًا خطوطًا مقتضبة في الروحانيّة العائليّة.
- نظرًا للغني المكتسب من مسيرة السينودس التي استغرقت عامين من التفكير، سيتناول هذا الإرشاد، بأنماطمختلفة، موضوعات متعدّدة ومتنوّعة. وهذا ما يفسر توسّعه الذي لا مفرّ منه. لذلك لا أنصح بقراءة عامة سريعة. فالعائلات والعاملون في مجال الرعويّة العائليّة سيجنون منه فائد أكبر إن تعمّقوا فيه بشغف قسمًا تلو الآخر، أو إذا رجعوا إليهعندحاجاتهمفي كلّ حالة واقعيّة. لربما، على سبيل المثال،أن يشعر الزوجانبأنهما مَعنِيّان أكثر بالفصلين الرابع والخامس، وقد يلقى الفصل السّادس اهتمامًا خاصًا من قِبِلَالعاملين الرعويين، بينما سيشعر الجميع أنّالفصل الثامن يعنيهمللغاية. وأتمنى أن يشعر كلّ واحد، من خلال القراءة، بأنّه مدعو لرعاية حياة العائلاتبحب، لأنها “ليست مشكلة، بل هي أوّلًافرصة.[4] “
- الكتاب المقدّس مليء بالعائلات والأجيال وبقصص الحبّ وبالأزمات العائليّة، من الصفحة الأولى، حيث تظهر على مسرح الأحداث عائلة آدم وحواء، مع عبء العنف ولكن أيضًا مع قوّة الحياة التي تستمرّ (را. تك 4)، حتّى الصفحة الأخيرة حيث يظهر عرس العروس والحمل (را. رؤ 21، 2. 9). والبيتانالمبنيّان على الصّخر أو على الرّمل، اللذان يصفهما يسوع، (را. متى 7، 24- 27)، ما هما إلا تعبير رمزي عن العديد من الأوضاع العائليّة، المتأتّيةمن حريّة أولئك الذين يعيشون فيهما، لأنّه، كما يقول الشّاعر: “كلّ بيت هو شُعلة”[5] . فلندخل الآن في أحدهذه المنازل، بصحبة كاتب المزمور، من خلال نشيد لا يزال يُرفع في ليتورجيا الزواج اليهوديّ والمسيحيّ على حدّسواء:
“طوبى لِجَميعِ الَّذينَ يَتَّقونَ الرَّبّ وفي سُبُلِه يَسيرون.
إِنَّكَ تأكُلُ مِن تَعَبِ يَدَيكَ فالطّوبى والخَيرُ لَكَ!
إِمرأتُكَ مِثلُ كَرمَةٍ مُثمِرَة في جَوانِبِ بَيتكَ.
بَنوكَ كغِراسِ الزَّيتون حَولَ مائِدَتِكَ.
هكذا يُبارَكُ الرَّجُلُ الَّذي يَتَّقي الرَّبّ.
لِيُبارِكْكَ الرَّبّ مِن صِهْيون
فتَرى أُورَشَليمَ تَنعَمُ بِالخَيرات جَميعَ أَيَّامِ حَياتِكَ
وترى بَني أَبْنَائِكَ! والسَّلامُ على إِسْرائيل!” (مز 128، 1- 6).
- فلنعبُر إذًا عتبة هذا البيت الهادئ، مع العائلة السّاكنة فيه، الجالسة حول مائدة العيد. في الوسط نجد الزّوجين الأب والأمّ مع كل قصة حبّهما. فيهما يتحقّق ذلك التّصميم الأوّليّ الّذي يُذكِّر بهالمسيح نفسه بشدّة: “أَما قَرأتُم أَنَّ الخالِقَ مُنذُ البَدءِ جَعلَهما ذَكَراً وَأُنثى” (متّى 19، 4). ويكرّر التفويض الذي جاء فيكتاب سفر التّكوين: “لِذَلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباهُ وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه ويصيرُ الاثْنانِ جسَدًا واحدًا” (تك 2، 24).
- يقدم لناالفصلان العظيمان في بداية سفر التّكوين صورة عن الزّوجين البشرييّن في واقعهما الأساسيّ. في هذا النصّالأول من الكتاب المقدّس،تتألّق بعض التأكيدات الحاسمة.التأكيد الأوّل، يستشهد به يسوع كاملا: “َخَلَقَ اللهُ الإِنسانَ على صُورَتِه على صُورَةِ اللهِ خَلَقَه ذَكَرًا وأُنْثى خَلَقَهم” (1، 27). المثير للدهشة، أنَّ “صورة الله” تُفسَّر بالتوازيفيالزّوجين”ذكر وأنثى”. هلهذا يعني أن الله نفسه له جنس أو أن له رفيقة إلهيّة، كما كانت تعتقد بعض الديانات القديمة؟ بالطبع لا، لأننا نعلم بوضوح مدى رفض الكتاب المقدس لهذه المعتقدات باعتبارها وثنيّةومنتشرة بين الكنعانيين في الأرض المقدسة. تبقى طبيعة الله المتسامية مُنزّهة، ولكن، ولكونه هو في ذات الوقت الخالق، فإن خصوبة الزوجين البشريين هي “صورة” حيّة وفاعلة، وعلامة منظورة لفعل الخلق.
- الزوجان اللذان يتحابان ويعطيانِ الحياة هما “المنحوتة” الحقيقيّة الحيّة (ليست كتلك التي من حجر أو من ذهب والتي تنهى عنها الوصايا العشر)، القادرة على إظهار الله الخالق المخلّص. لهذا فإنّ الحبّ الخصبَيصبح رمزًا لحقائق اللهالحميمة (را. تك 1، 28؛ 9، 7؛ 17، 2- 5. 16؛ 28، 3؛ 35، 11؛ 48، 3- 4). لهذا السبب تتخلل رواية سفر التكوين، والتي تتبع ما يُطلق عليه “التقليد الكهنوتي”، العديد من حلقات الأنساب المتنوّعة(را. 4، 17- 22. 25- 26؛ 5؛ 10؛ 11، 10- 32 ؛25، 1- 4. 12- 17. 19- 26؛ 36): في الواقع، إنّ قدرة الزوجين على التكاثر هي الطريق التي عبرها ينموتاريخ الخلاص. في ضوء ذلك، فإنّ العلاقة الخصبة بين الزوجين تصبح صورة لاكتشاف ووصف سرِّ الله، وهو أمر أساسيّ في الرؤية المسيحيّة للثالوث والتي تتأمل في الله الآب والابن وروح الحب. فالله الثالوث هو شركة حبّ، والعائلة هي انعكاسه الحيّ. إنّ كلمات القديس يوحنّا بولس الثّاني تنيرنا: “إلهنا في سرّه المكنون، ليس وحيدًا، ولكنّه عائلة، لأنه في ذاته الأبوّة والبنوّة، وجوهر العائلة، الذي هو الحبّ. هذا الحبّ، في العائلة الإلهيّة، هو الرُّوح القدس”[6] . إن العائلة ليست منفصلة بالتمام عن كيان الله العميق[7] . هذا الجانب الثالوثيّ للزوجينلهتوضيح جديد في اللاهوت البولسيّ عندما يضعه الرّسول في علاقةٍ مع سرّ وحدة المسيح والكنيسة. (را. أف 5، 21- 33).
- لكنّ يسوع، في سياق حديثه عن الزواج، يأخذنا إلى صفحة أخرى من كتاب سفر التكوين، إلى الفصل الثاني، حيث تظهر صورة رائعة للزوجين بتفاصيل مضيئة. نختار من هذه التفاصيل اثنين فقط. الأوّل هو كرب الرجل الذي يبحثعن”عون مناسب له” (الآياتان 18. 20)، قادر على ملء فراغ تلك الوحدة التي تؤرقه والتي لم تُملأْ بفعل قرب الحيواناتوالمخلوقات بأسره. ويعيدنا النص العبريّ الأصليّإلى علاقة مباشرة –في ما يشبه المواجهة بلغة العيون- وفي حوار صامت أيضًا، لأنهفي الحبّ غالبًا ما يكون الصمت أكثر بلاغة من الكلمات. إنّه اللقاء بوجه، بأَنت (الآخر) الذي يعكس الحبّ الإلهي والذي هو”رَأسُ الغِنى وعَونٌ يُشبِهُه وعَمودٌ يَستَنِدُ إِلَيه”(سير 36، 24)، كما يقول حكيم في الكتاب المقدّس. أو كما تهتف العروس في نشيد الأناشيد في اعتراف حبّ رائعوهبة متبادلة: “حبيبي لي وأنا له […] أنا لحبيبي وحبيبي لي” (2، 16؛ 6، 3).
- مِن هذا اللّقاء الذي يقضي على العزلة تنبثقُ الذرية والعائلة. هذا هو الأمر الثّاني الذي يمكننا التركيز عليه: آدم، والذي هو أيضًا رجل كلّ العصور وكلّ أرجاء كوكبنا، يقيم مع زوجته عائلة جديدة، كما يردّد يسوع مستشهدًا بسفر التكوين: “يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ الاِثْنَانِ جَسَدًا وَاحِدًا” (متى 19، 5؛ را. تك 2، 24). يشير الفعل “اتّحد” في الأصل العبريّ إلى وجود تناغم وثيق، إلى ارتباطٍ جسديٍّ وباطني، لدرجة استخدامه في وصف الاتحاد بالله، فينشد صاحب المزامير “تتوقُ نفسي إليك” (مز 63، 9). هكذا يُشار إلى الاتحاد الزوجيّ ليس فقط في بُعده الجنسيّ والجسديّ، بل أيضًا في هبته الطوعيّة للحبّ. وثمرة هذا الاتحاد هو “أن يصيرا جسدًا واحدًا”، سواء في الاحتضان الجسديّ، أم في اتحاد القلبين والحياة، وربما في الطفل الذي سيولد منهما، والذي سيوحّد، في جسده، “الجسدينِ” على الصعيدين الوراثيّ والروحيّ.
- لنَعُد مجددًا إلى نشيدِ صاحب المزامير. فيه نجد، داخل المنزل، حيث يجلس الرّجل وزوجته على المائدة، الأبناءَ الذين يرافقونهم “كغراس الزيتون” (مز 128، 3)، ممتلئين نشاطًا وحيويّة. فإن كان الوالدان يُعتبران كأساس للمنزل، فالأطفال هُمُ “الحجارة الحيّة” للعائلة (را. 1 بط 2، 5). إنّه لمن المُلفت، أنّ الكلمة التي تَرِدُ عدّة مرّات في العهد القديم بعد الكلمة الإلهيّة، (“يهوه”، “الربّ”) هي “إبن” وهو تعبير يشير إلى الفعل العبريّ الذي يعني “بنى”. لذا في المزمور 127 تُمدَحُ عطيّة إنجاب البنين عبر تشبيهات تشير سواء إلى بناء المنزل، أو إلى الحياة الاجتماعيّة والتجاريّة التي تجري أحداثها بالقرب من باب المدينة: “إِن لم يَبْنِ الرَّبُّ البَيتَ فباطِلاً يَتعَبُ البَنَّاؤون […] ها إِنَّ البَنينَ ميراثٌ مِنَ الرَّبّ وثَمَرَةَ البَطْنِ ثَوابٌ مِنه. كالسِّهامِ في يَدِ الجبَّار هكَذا يَكونُ أبْناءُ سِنِّ الشَّباب. طوبى لِلرَّجُلٍ الَّذي مَلأَ جَعبَتَه مِنهم! فإِنَّهم لا يَخزونَ إِذا رافَعوا ضِدَّ أَعْدائهم عِندَ الأَبْواب” (آيات 1. 3- 5). صحيح أنّ هذه الصور تعكس ثقافة مجتمع قديم، ومع ذلك، فإن وجود الأبناء، في أي حال، هو علامة على كمال الأسرة في استمرارية تاريخ الخلاص عينه، من جيل إلى جيل.
- في هذا المنظور يمكننا أن نضع بُعدًا جديدًا للعائلة. إنّنا نعلم أنّ العهد الجديد يتحدث عن “الكنيسة التي تجتمع في المنزل” (را. قور 16، 19، روم 16، 5؛ قول 4، 15؛ فل 2). كان من الممكن تحويل المساحة المعيشيّة للعائلة إلى كنيسة بيتية، إلى عرش للإفخارستيّا وإلى حضور المسيح الجالس على نفس المائدة. لا يمكننا نسيان المشهد المصوّر في سفر الرؤيا: “هاءَنَذَا واقِفٌ على البابِ أَقرَعُه، فإِن سَمِعَ أَحَدٌ صَوتي وفَتَحَ الباب، دَخَلتُ إِلَيه وتَعَشَّيتُ معه وتَعَشَّى معي” (3، 20). هكذا يتجلّى البيت الّذي يحمل في داخله حضور الله، والصلاة المشتركة، وكذلك بركة الربّ. وهذا ما يؤكّده المزمور 128 الذي اتخذناه كأساس: “هكذا يُبارَكُ الرَّجُلُ الَّذي يَتَّقي الرَّبّ. لِيُبارِكْكَ الرَّبّ مِن صِهْيون” (آيات 4- 5).
- يَعتبر الكتابُ المقدس العائلة أيضًا كموضع تلقين الأبناء التعليمَ المسيحيّ. ويبرز هذا في وصف الاحتفال الفصحيّ (را. خر 12، 26- 27؛ تث 6، 20- 25)، وتم التعبير عنه بوضوح لاحقًا في الـ “هاغادا” اليهودية (مجموعة روايات ربّينية)، وفي النصّ الحواري الّذي يرافق رتبة العشاء الفصحيّ. وأكثر من ذلك، يمتدحُ أحدُ المزامير الإعلانَ العائليّ للإيمان: “ما سَمِعْناه وعَرَفْناه وما أَخبَرَنا به آباؤنا لا نَكتُمُه عن بَنيهم بل نُخبِرُ بِه الجيلَ الآتي: تَسابيحَ الرَّبِّ وعِزَّتَه وعَجائِبَه الَّتيِ صنَعَها لِأَنَّه أَقامَ شَهادةً في يَعْقوب ووَضعَ شَريعةً في إِسْرائيل وأَوصى آباءَنا أَن يُعَلِّموها أَبناءَهم لِكَي يَعلَمَ الجيلُ الآتي البَنونَ الَّذينَ سيُولَدون. فيَقوموا ويُخبِروا أَبْناءَهم” (مز 78، 3- 6). إنّ العائلة هي المكان الذي ينبغي على الأهل أن يصبحوا فيه أوّل معلمي الإيمان لأبنائهم. إنه عمل “مِهَّني”، يتواتر أبًا عن جدّ: “وإِذا سأَلَكَ ابنُكَ غداً قائلاً […] تَقولُ لَه …” (خر 13، 14).هكذا فإن الأجيال سوف تنشد للربّ: “الشبانُ والعَذارى والشُّيوخُ والأَحْداث” (مز 148، 12).
- على الوالدين واجب الوفاء بجديّة لرسالتهما التربوية كما يُعَلِّمه مرارًا حكماء الكتاب المقدّس (را. مثل 3، 11- 12؛ 6، 20- 22؛ 13، 1؛ 29، 17). الأبناء هم مدعوّون لقبول وممارسة وصيّة “أكرم أباك وأمك” (خر 20، 12)، حيث الفِعل “كرّم” يشير إلى القيام بالالتزامات العائليّة والاجتماعيّة في كمالها، دون إهمالها بذرائع دينية (را. مر 7، 11- 13). في الواقع: “مَن أكرَمَ أَباه فإِنَّه يُكَفر خَطاياه ومَن عَظمَ أُمَّهَ فهو كَمُدَّخِرِ الكُنوز”. (سي 3، 3- 4).
- يذكّرنا الإنجيل أيضًا بأن الأولاد ليسوا ملكية للعائلة، بل أمامهم مسيرتهم الشخصيّة في الحياة. إن كان صحيحًا أنّ يسوع يظهر كمثال في الطاعة لأبوية الدنيويين، بخضوعه لهم (لو 2، 51)، فمن المؤكد أيضًا أنّه أظهر أن اختيار حياة الابن ودعوته المسيحية الخاصة، يتطلّبان انفصالا بهدف تحقيق تكرّسه لملكوت الله (را. متى 10، 34- 37؛ لو 9، 59- 62). علاوة على ذلك، هو نفسه، في سن الثانية عشرة، أجاب مريم ويوسف بأنّ لديه رسالة أسمى ينجزها تتخطّى عائلته التاريخيّة (را. لو 2، 48- 50). لذلك فهو يمتدح ضرورة وجود روابط أخرى أكثر عمقًا في العلاقات العائليّة: “إِنَّ أُمِّي وإخوَتي هُمُ الَّذينَ يَسمَعونَ كَلِمَةَ اللهِ ويَعملونَ بِها” (لو 8، 21). ومن ناحية أخرى، في الانتباه الّذي يَخصُّ به الأطفال -المعتبرين في منطقة الشرق الأدنى القديم كأفراد محرومين من حقوقهم الخاصّة أو كأنّهم جزءٌ من ممتلكات العائلة- يذهب يسوع إلى حدّ تقديمهم للكبار تقريبًا كمعلّمين، بسبب ثقتهم البسيطة والعفوية تجاه الآخرين، “الحَقَّ أَقولُ لَكم: إِن لم تَرجِعوا فتَصيروا مِثلَ الأَطفال، لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّمَوات. فمَن وضَعَ نفسَه وصارَ مِثلَ هذا الطِّفل، فذاك هو الأَكبرُ في مَلَكوتِ السَّموات” (متى 18، 3- 4).
- المؤلف الشعري الذي يقدّمه المزمور 128 لا ينفي واقعًا مريرًا يطبع الكتب المقدسة كافّة. إنه وجود الألم، والشرّ، والعنف الّذي يمزّق حياة العائلة وحميميّة الشركة في الحياة والحبّ. وليس مصادفةً أن يأتي كلام المسيح عن الزواج (را. متى 19، 3- 9) في إطار جدل حول الطلاق. إن كلام الله هو شهادة ثابتة لهذا البعد المظلم الذي يبرز في البدء عندما، من خلال الخطيئة، تتحوّل علاقة الحب والنقاء بين الرّجل والمرأة إلى سيطرة: “إلى زوجك تَنقادُ أشواقُكِ وهو يسودُ عليكِ” (تك 3، 16).
- إن دربًا من المعاناة والدّم يجتاز صفحات كثيرة من الكتاب المقدس، بدءًا بعنف قايين الأخوي القاتل، ومن الصراعات المختلفة بين الأبناء، وبين زوجات الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب، مرورًا بالمآسي التي تلطخ بالدم عائلة داود، وصولا إلى العديد من المشاكل العائليّة التي تعجُّ بها قصّة طوبيا، أو الاعتراف المفعم بالمرارة لأيوب المتروك وحيدًا: “أبعَدَ إِخْواني عنِّي فاعتَزَلَتْني مَعارِفي […] قد صارَ نَفَسي خَبيثًا عِندَ امرَأَتي وأَمسَيتُ مُنتِنًا لأَبْناءِ أَحْشائي” (أي 19، 13. 17).
- قد وُلِدَ يسوع نفسه في عائلة متواضعة، وسرعان ما أُجبر على الفرار إلى أرض أجنبية. دخل بيت بطرس حيث كانت حماته مريضة (را. مر 1، 30- 31)؛ تأثّر بمأساة الموت في بيت يائيرُس وفي بيت لعازر (را. مر 5، 22- 24. 35- 43؛ يو 11، 1- 44)؛ وسمع صرخة أرملة نائين اليائسة أمام ابنها الميت (را. لو 7، 11- 15)؛ واستجاب لوالد الشخص المصاب بِداءِ الصّرع في قرية ريفيّة صغيرة (را. مر 9، 17- 27). إلتقى بعشّارين كمتّى وزكّا في بيوتهم (را. متى 9، 9- 13؛ لو 19، 1- 10)، كما التقى بخطأة، كالمرأة التي اقتحمت بيت الفرّيسي (را. لو7، 36- 50). إنه يعلم قلق العائلات وتوتّراتها ويضمِّنها في أمثاله: من الأولاد الذين يغادرون المنزل بحثا عن المغامرة (را. لو 15، 11- 32) وصولًا إلى الأبناء صعبي المراس ذوي التصرّفات غير المبرَّرة (را. متّى 21، 28- 31) أو ضحايا العنف (را. مر 12، 1- 9). كما أنّه يهتمّ بالعرس المعرّض للإحراج بسبب نقص النبيذ (را. يو 2، 1- 10) أو إلى تقاعس المدعوّين (را. متى 22، 1- 10)، كما أنّه يعرف الكابوس الذي يسببه فقدان قطعة نقود في عائلة فقيرة (را. لو 15، 8- 10).
- نجد في هذه اللمحة القصيرة أن كلمة الله لا تبدو كسلسلة فَرَضيّاتٍ مجردة، إنما أيضًا كرفيقة سفر للعائلات التي تَمُرّ بأزمة أو التي تجتاز بعض المعاناة، وتبيّن لها هدف المسيرة، عندما سيَمسَحُ الله “كُلَّ دَمعَةٍ مِن عُيونِهم. ولِلمَوتِ لن يَبْقى وُجودٌ بَعدَ الآن، ولا لِلحُزنِ ولا لِلصُّراخِ ولا لِلأَلَمِ” (رؤ 21، 4).
- في متسهلّ المزمور 128، يتم تقديم الآب كأنّه عامل يستطيع، من خلال عمل يديه، أن يضمن رفاهية عائلته الجسدية وطمأنينتها: “إِنَّكَ تأكُلُ مِن تَعَبِ يَدَيكَ فالطّوبى والخَيرُ لَكَ” (آية 2). وكون العمل جزءًا أساسيّا من كرامة الحياة البشريّة، هو أمر نستنتجه من أولى صفحات الكتاب المقدّس، حين يؤكّد: “وأَخَذَ الرَّبُّ الإِلهُ الإنسانَ وجَعَلَه في جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَفلَحَها ويَحرُسَها” (تك 2، 15). إنها صورة العامل الذي يحوّل المادّة ويستغلّ طاقات الخلق منتجًا “خبز التعب” (مز 127، 2) إضافة إلى تنمية ذاته.
- في الوقت عينه، العمل يجعل ممكنًا تطوّر المجتمع، والعناية بالعائلة، واستقرارها، وخصبها: “لِيُبارِكْكَ الرَّبّ مِن صِهْيون فتَرى أُورَشَليمَ وتَنعَمُ بِالخَيرات جَميعَ أَيَّامِ حَياتِكَ وترى بَني أَبْنَائِكَ!” (مز 128، 5- 6). يقدّم لنا سفر الأمثال أيضًا مهام الأم في العائلة، حيث يتم وصف عملها في أدق تفاصيله اليوميّة، مما يدفع الزوجَ والأبناءَ إلى مديحها (را. 31، 10- 31). ويتفاخر بولس الرسول نفسُّه بكونه قد عاش دون أن يكون عبئًا على الآخرين، لأنّه عمل بيديه كي يؤمّن، بهذا الشكل، رزقه (را. رسل 18، 3؛ 1 قور 4، 12؛ 9، 12). كان مقتنعًا كلِّيًّا بضرورة العمل، فوضع قواعد صارمة لجماعاته: “إِذا كان أَحدٌ لا يُريدُ أَن يَعمَل فلا يَأكُل” (2 تس 3، 10؛ را. 1 تس 4، 11).
- بقولنا هذا، يُفهم أنّ البطالة وانعدام الاستقرار الوظيفي يمثلان معاناةً، كما قد ورد في سفر راعوت الصغير، وكما يذكّر به يسوع في مثل العَمَلَة الذين كانوا جالسين، وهم في بطالة قسرية، في ساحة البلدة (را. متى 20، 1- 16)، أو كما قد اختبر واقعيًّا حين كان محاطًا، في الكثير من الأحيان، بأشخاص محتاجين وجائعين. وهذا ما يعيشه المجتمع حاليًّا بطريقة مأساويّة في بلدانٍ عديدة، فيضرب هذا النقص في العمل صفاءَ العائلات بأشكال مختلفة.
- كما لا نستطيع أن ننسى الانحطاط الذي أدخلته الخطيئة إلى المجتمع، عندما يتصرّف الكائن البشريّ كطاغية تجاه الطبيعة، ويفسدها، مستعملاً إيّاها بشكل أنانيّ وحتّى وحشيّ. فالنتائج هي، في الوقت عينه، تصحير التربة (را. تك 3، 17- 19) والاختلالات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، والتي ارتفع ضدها، وبوضوح، صوتُ الأنبياء، انطلاقًا من إيليّا (را. 1 مل 21) وحتّى كلمات يسوع نفسه ضدّ الظلم (را. لو 12، 13-21؛ 16، 1- 31).
- لقد أدخل المسيحُ قبل كل شيء كعلامةٍ مميّزةٍ لتلاميذهِ شريعةَ الحبّ وهبة الذات للآخرين (را. متى 22، 39؛ يو 13، 34)، وقد قام بهذا من خلال مبدأ الأبوالأمّ من خلال حياتهما الشخصيّة: “لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذِلَ نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه” (يو 15، 13). فالرحمة والمغفرة هما من ثمار المحبّة أيضًا. ويبدو رمزيّا للغاية، في هذا الصدد، مشهدُ الزانية في باحة هيكل أورشليم، محاطة بمتّهمِيها، ومن ثمّ وحدها مع يسوع الذي لا يُدِينها، بل يدعوها إلى حياة أكثر كرامةً (را. يو 8، 1- 11).
- في منظور الحبّ، هناك فضيلة أخرى أيضًا، وهي أساسية في الاختبار المسيحيّ للزواج وللعائلة، وهي فضيلة مجهولة بعض الشيء في زمن العلاقات المسعورة والسطحيّة هذا: ألا وهي الحنان. نعود هنا للمزمور 131 الرقيق والمليء بالعذوبة. كما نلاحظ أيضًا في نصوص أخرى (را. خر 4، 22؛ أش 49، 15؛ مز 27، 10)، حيث يتم التعبير عن الاتّحاد بين المؤمن وربّه بسمات الحبّ الأبويّ والأموميّ. هنا تظهر الحميمية المفعمة بالحنان واللطف القائم بين الأمّ وطفلها، الرضيع الذي ينام بين ذراعي أمّه بعد أن أرضعته. هو طفل مفطوم -كما تدلّ الكلمة العبريّة غَمول-، يتمسّك، عن وعي، بالأمّ التي تحمله بين ذراعيها. هي إذًا علاقة حميميّة واعية وليست مجرّد علاقة بيولوجيّة. مع هذا، فالمرتّل ينشد: “بل أُسَكِّنُ نَفْسي وأُسكِتُها مِثْلَ مَفْطوم عِندَ أُمِّه، مِثْلَ مَفْطوم هكذا نَفْسي علَيَّ” (مز 131، 2). يمكننا بالتوازي، أن نعود إلى مشهد آخر، حيث يضع النبيّ هوشع على لسان الله، كأبٍ، هذه الكلمات المؤثّرة: “لَمَّا كانَ إِسْرائيلُ صَبيّاً أَحبَبتُه […] أَنا دَرَّجتُ إفْرائيمَ وحَمَلتُهم على ذِراعي […] بِرَوابِطِ الحُبِّ اجتَذَبتُهم وكُنتُ لَهم كمَن يَرفَعُ الرَّضيعَ إِلى وَجنَتَيه وانحَنَيتُ علَيه وأَطعَمتُه” (11، 1. 3- 4).
- إننا، بهذه النظرة المجبولة بالإيمان والحبّ، والنعمة والالتزام، والعائلة البشريّة والثالوث الإلهيّ، نتأمّل بالعائلة التي اودعتها كلمةُ الله بين يَدَي الرجل والمرأة والأبناء كي يُكَوِّنوا شَرِكة أشخاص تكون على صورة وحدة الآب والابن والروح القدس. والنشاط المرتبط بالإنجاب والتربيّة هو بدوره انعكاس لعمل الآب الخلاّق. فالعائلة مدعوّة للتشارك في الصلاة اليوميّة، وقراءة كلمة الله والمناولة الإفخارستيّة، كي تجعل الحبّ ينمو، وتتحوّل أكثر فأكثر إلى هيكلٍ لسكنى الروح القدس.
- تظهر، أمام كلّ عائلة، أيقونة عائلة الناصرة، بواقعها اليوميّ المُكَوَّن من متاعب وحتى من كوابيس، كما حدث حين فُرض عليها أن تعاني من عنف هيرودس غير المبرّر، وهي خبرة تتكرّر بطريقة مأسوية اليوم أيضًا في الكثير من عائلات المهجرين المرذولة والتي لا أحد يدافع عنها. إن العائلات، على مثال المجوس، مدعوّة إلى التأمّل بالطفل وأمّه، وإلى السجود أمامه وعبادته (را. متى 2، 19. 51). وعلى مثال مريم، هي مدعوّة بشدة لأن تعيش، بشجاعة وصفاء، التحدّيات العائليّة، الحزينة منها والمُشَجِّعة، وأن تحفظ عظائم الله وتتأمّلها في القلب (را. لو 2، 19. 51). في كنز قلب مريم توجد أيضًا أحداث كلّ عائلة من عائلاتنا، وهي تحفظها بعناية. لذا، فهي تستطيع أن تساعدنا على فهمها كي ندرك رسالة الله في التاريخ العائلي.
الفصل الثّاني
واقع العائلات وتحدّياتها
- إن خير العائلة هو مصيريٌّ لمستقبل العالم والكنيسة. وهنالك عدد لا يحصى من التحليلات التي أجريت حول الزواج والعائلة وحول صعوباتهما وتحدياتهما الحاضرة. ومن الجيد تركيز الانتباه على الواقع المحسوس، لأنّ “مطالب ونداءات الروح تتعالى أيضًا في الأحداث التاريخية نفسها”، والتي من خلالها “يمكن للكنيسة الاهتداء إلى فَهْم أكثر عمقًا، لسرّ الزواج والأسرة اللامتناهي”[8] . ولا أدّعي هنا عرض كلّ ما يمكن قوله حول مختلف القضايا المتعلّقة بالأسرة في السياق الراهن. ولكن، لأنّ آباء السينودس قدّموا نظرة عن واقع العائلات في كل العالم، أرى مناسبًا أن أجمع بعض المداخلات الرعويِّة، مضيفًا اهتمامات أخرى تنبع من رؤيتي الخاصة.
- “أمناء لتعليم المسيح، ننظر الى واقع الأسرة اليوم بكلّ تعقيداتها، في كل إشعاعها وظِلالها […] . إن التغير الأنثروبولوجي والثقافي يؤثّر اليوم على جميع مناحي الحياة ويتطلّب مقاربة تحليليّة ومتنوّعة”[9] . فمنذ عدة عقود، لاحظ أساقفة إسبانيا، بأن الواقع العائلي يتمتّع بمجالٍ أكبر من الحرية، “مع توزيع متناسب للمهام، والمسؤوليّات والواجبات […] فتعزيز التواصل الشخصي بين الأزواج، يساهم في أنسنة الحياة العائلية بكاملها. […] فلا يسمح المجتمع الذي نعيش فيه ولا ذاك الذي نسير نحوه، ببقاء أشكال ونماذج من التمييز تعود للماضي”[10] . ولكن “كلّنا نعلم أن التوجّه الرئيسي للتغيّرات الأنثروبولوجية والثقافية، يقود الأفراد في حياتهم الشخصية والعائلية، إلى تلقّي دعم أقل مما كانوا يحصلون عليه في الماضي، من قِبَلِ الهياكل الاجتماعية”[11] .
- من ناحية أخرى، “يجب علينا أيضًا أن نأخذ بعين الاعتبار الخطر المتزايد الذي تشكّله النزعة الفردية المبالغ فيها والتي تشوّه الروابط الأسرية، وتنتهي باعتبار كلّ فرد من أفراد الأسرة “كجزيرة”، مُعطيةً الأولوية، في بعض الحالات، إلى فكرة الفرد الذي يبني ذاته وِفقًا لرغباته التي تُعتَبَر مُطلَقَة”[12] . “إن التوترات الناجمة عن الثقافة الساخطة للاستحواذ والاستمتاع الفردانية، تُوَلّدُ داخل الأسر ديناميات عدم التسامح والعدوان”[13] . وأود أن أضيف إيقاع الحياة الحديثة، والتوتر، والتنظيم الاجتماعي والمرتبط بالعمل، لأنها العوامل الثقافية التي تعرّض للخطر إمكانية القيام بخيارات ثابتة. في الوقت عينه، نجد أنفسنا أمام ظواهر مبهمة. على سبيل المثال، يمكننا أن نقدر التصرفات الشخصية التي ترمي إلى الأصالة عوضًا عن تلك التي تتبع سلوكيات مُحدّدة سابقًا. إنها قيمة بإمكانها أن تساهم في تعزيز المهارات المختلفة والعفوية، ولكن، إن تم توجيهها بطريقة خاطئة، فقد تخلق مواقف مستمرة من انعدام الثقة، والهروب من الالتزامات، والانغلاق في رغد العيش، والغطرسة. إن حرية الاختيار تسمح للمرء بتصميم حياته وتنمية الأفضل في الذات، لكن، إن غابت لديها الأهداف النبيلة والانضباط الشخصي، فهي تتحول إلى عدم قدرة على هبة الذات بسخاء. في الواقع، في العديد من البلدان، التي يتناقص فيها عدد الزيجات، يتزايد بها عدد الأشخاص الذين يقرّرون العيش بمفردهم، أو الذين يتعايشون دون أن يتساكنوا معًا. ويمكننا أيضًا إبراز حسّ العدالة الجدير بالإطراء؛ إنما، إذا أُسيءَ فهمه، فإنه يحوّل المواطنين إلى مجرد عملاء يطالبون بتوفير خدمات وحسب.
- إذا أفضت هذه المخاطر إلى التأثير في مفهومنا للأسرة، فقد تتحوّل هذه الأخيرة إلى محطّة عابرة، نتوجه إليها حين يبدو الأمر مناسبا لنا، أو إلى مكان نذهب إليه للمطالبة بحقوقنا، في حين أن العلاقات تبقى رهنَ هشاشةِ تَقَلّبِ الرغبات والظروف. في الحقيقة، إنه لمن السهل اليوم الخلط بين الحرية الحقيقية والفكرة التي بها يحلم المرء كما يحلو له، كما لو لم يكن ما وراء الأفراد حقائق وقيم ومبادئ توجهنا، كما لو كان كل شيء سيان، وأن كل شيء مباح. في هذا السياق، النموذج الزواجي، القائم على الالتزام والحصرية والاستقرار، يتحطم تحت وطأة المجاملات الظرفية وأهواء المشاعر العابرة. هناك أيضًا الخوف من الوحدة، والرغبة في بيئة أمان وإخلاص، ولكن، في نفس الوقت، يتزايد الخوف من الوقوع في أَسر علاقة قد تتسبب في تأجيل التطلعات الشخصية.
- كمسيحيين لا يمكننا التخلي عن التمسك بالزواج، كي لا نتعارض مع الحساسية الحالية، ومن أجل اتباع الموضة السائدة، أو بسبب الشعور بعقدة النقص إزاء التدهور الأخلاقي والإنساني. لأننا إن فعلنا هذا فسوف نحرم العالم من القيم التي يمكننا، بل ويجب علينا، أن نقدمها. بطبيعة الحال، إنه من غير المنطقي أن نكتفي بفضح الشرور الحالية من خلال الخطابات البليغة، كما لو كان باستطاعتنا أن نغير شيء ما بهذه الطريقة. كما أنه من غير المجدي فرض قواعد بقوّة السلطة. ينبغي علينا القيام بجهد أكثر مسؤولية وسخاء، والذي يَكمُنُ في تقديم الأسباب والدوافع لاختيار الزواج والأسرة، بطريقة تجعل الناس أكثر استعدادًا للإجابة على النعمة التي يمنحها الله لهم.
- وفي الوقت عينه يجب علينا أن نكون متواضعين وواقعيين، فنعترف أن طريقتنا في تقديم القناعات المسيحية وفي معاملة الناس، قد ساهمت أحيانًا في خلق ما نشكو منه اليوم. ولذا فإننا بحاجة إلى ردّة فعل “صحيّة” من النقد الذاتي. من جهة أخرى، غالبًا ما قدّمنا الزواج بطريقة تحجب غايته الوحدوية، والدعوة إلى النمو في الحبّ وهدف المساندة المتبادلة، مُصرّين بشكل حصري تقريبًا على واجب الإنجاب. كما أننا لم نقم بمرافقة الأزواج الجدد، في سنواتهم الأولى، باقتراحات تتناسب مع أوقاتهم، ولغاتهم، واهتماماتهم الفعليّة. وعرضنا، أحيانًا أخرى، نموذجًا لاهوتيّا للزواج بطريقة تجريديّة للغاية، وتقريبًا شبه مصطنعة، بعيدة عن واقع العائلات الحقيقي وعن إمكانيات العائلة الفعلية، كما هي في الواقع. هذه المثاليّة المبالغة بها، وخاصة عندما لم نوقظ الثقة في النعمة، لم تجعل الزواج مرغوبًا به أو جذّابا أكثر، بل على العكس.
- واعتقدنا لوقت طويل أنه بتركيزنا على المسائل العقائديّة، والاخلاقيّة والخلقية، بدون تحفيز الانفتاح على النعمة، فإننا قد ساندنا فعلا العائلات بشكل كاف، وثبّتنا الرباط بين الزوجين وأعطينا معنى لحياتهما المشتركة. لدينا صعوبة في تقديم الزواج كمسيرة نمو وتحقيق ذات ديناميكيّة، أكثر منه كعبءٍ يجب تحمّله طوال الحياة. كما يصعب علينا أيضًا إعطاء المجال لضمير المؤمنين، والذين يبذلون قصارى جهدهم، في الكثير من الأحيان، ليتجابوا مع الانجيل في حدود المُستطاع، ويستطيعون أن يتقدّموا للأمام عبر تمييزهم الشخصيّ حيال الأوضاع غير المألوفة. إننا مدعوون إلى تكوين الضمائر لا الادعاء بالحلّ مكانها.
- علينا أن نكون شاكرين لواقع أن القسم الأكبر من الناس يقدّر العلاقات العائلية التي تتوق للاستمرار في الزمن والتي تؤمّن احترام الآخر. لذا فهناك تقدير لكون الكنيسة تفسح مجالًا للمرافقة والمساعدة في الأسئلة المتعلّقة بنموّ الحبّ، وبتَخطّي المشاكل أو بتربية الأبناء. كثيرون يقدّرون قوّة النعمة التي يختبرونها في سرّي المصالحة والإفخارستيا، والتي تسمح لهم بتحمل تحدّيات الزواج والعائلة. لم تنجح العلمانيّة، في بعض البلدان، خاصة في مناطق مختلفة من أفريقيا، في إضعاف بعض القيم التقليدية، وينتج عن كلّ زواج اتحاد قوي بين عائلتين موسعتين، حيث ما زال قائمًا نظامٌ محدّدٌ لحل المشاكل والصعوبات. في عالمنا المعاصر، يُقَدَّرُ أيضًا شهادة الزيجات التي لم تدم في الزمن وحسب، بل تستمر أيضًا في دعم مشروع مشترك وتحافظ على الحب. هذا يفتح الباب لرعائية إيجابية، ومضيافة، تمنح إمكانية التعمق التدريجي في متطلبات الإنجيل. غير أننا غالبًا ما تصرفنا بطريقة دفاعيّة، مهدرين الطاقات الرعائية، مكثرين من التهجم على العالم المتدهور، مع تقصير في توظيف القدرة الديناميكية للإرشاد لدروب السعادة. ويرى الكثيرون أن تعليم الكنيسة حول الزواج والعائلة لا يعكس بوضوح بشارة يسوع ومواقفه، الذي بتقديمة نموذجًا متطلّبا لم يتخلَّ أبدًا، في الوقت عينه، عن قُرب شغوف تجاه الأشخاص الضعفاء كالسامرية والمرأة الزانية.
- هذا لا يعني الكف عن الاكتراث بالتدهور الثقافي الذي لا يشجع الحبّ وهبة الذات. وقد أظهرت الاستشارات السابقة، خلال السينودسين الأخيرين، أعراضًا مختلفة “لثقافة المؤقت”. أشير، على سبيل المثل، إلى السرعة التي ينتقل بها الأشخاص من علاقة عاطفية إلى أخرى. يعتقدون أن الحب، كما في شبكات التواصل الاجتماعية، يمكن أن يتصل أو أن ينفصل حسب مزاج المستهلك أو أن يُوَقّف سريعًا. أفكر أيضًا في الخوف الذي تثيره فكرة الالتزام الدائم، وهاجس الوقت الحرّ، والعلاقات التي تحسب التكاليف والفوائد والتي تستمرّ فقط إذا كانت وسيلة لمعالجة الوحدة، أو من أجل الحصول على الحماية أو على خدمة ما. فيتم نقل ما يحدث مع الأشياء ومع البيئة إلى العلاقات العاطفية: يمكن الاستغناء عن كلّ شيء، وكلّ واحد يستعمل الشيء ثم يرميه، ويهدر ويكسر، ويستغلّ ويسحق ما دام صالحًا للاستعمال. وبالنهاية، وداعًا. إنها النرجسية التي تجعل الأشخاص غير قادرين على أن ينظروا إلى أبعد من ذواتهم، ومن رغباتهم وحاجاتهم. لكن مَنْ يستخدم الآخرين عاجلا أم آجلا سوف يُستعمل هو أيضًا، وسيُستَغَل وسيُترَك وفقا للمنطق عينه. جدير بالذكر، أن واقع فسخ العلاقات يحدث في كثير من الأحيان بين أشخاص متقدمين في السن، يبحثون عن نوع ما من “الاستقلالية” ويرفضون نموذج التقدّم نحو الشيخوخة سويًّا، معتنين ومساندين أحدهم الآخر.
- “يمكننا أن نقول، من باب تبسيط الأمور لأقصى مدى، إننا نعيش في ثقافة تدفع الشباب إلى عدم تأسيس أسرة، إذ ليس لديهم آفاق مستقبلية. ومع ذلك، هذه الثقافة نفسها تقدّم إلى آخرين الكثيرَ من الفرص، وهم أيضًا يُثنَون عن تأسيس أسرة”[14] . في بعض البلدان، “غالباً ما يصلون الى رفض الزواج بسبب الصعوبات الاقتصادية المتعلقة بالعمل أو الدراسة، وأحيانًا لأسباب أخرى نابعة من تأثير الأيديولوجيات التي تحط من قيمة الزواج والعائلة، أو نتيجة لفشل أزواج آخرين، أو لكونهم يخشون خيار الحياة الزوجية، إذ يعتبرونه أمرًا عظيمًا ومقدسًا. أضف الى ذلك ما تقدِّمه سهولة المساكنة من فرص اجتماعية ومنافع اقتصادية، وتوجُّه الشباب نحو مفهوم عاطفي ورومنسي للحب، وخوفهم من فقدان الحرية والاستقلالية، ورفضهم لرابط يعتبرونه مجرد مؤسَّساتي وبيروقراطي بحت”[15] . نحتاج إلى إيجاد التعابير، والحوافز والشهادات التي تساعدنا على لمس الشباب في العمق، حيث هم أكثر قدرة على السخاء والالتزام والحب والبطولة أيضًا، كي ندعوهم إلى قبول تحدي الزواج بفرح وشجاعة.
- أشار آباء السينودس إلى الانتشار الحالي “للميل الثقافي الذي يبدو أنه يفرض عاطفة بلا حدود، عاطفة نرجسية، غير ثابتة، […] لا تساعد دائمًا الأفراد على الوصول لنضج أكثر”. كما عبروا عن قلقهم من “انتشار الجنس الإباحي وتجارة الجسد، المعززة بالاستعمال الشَرِه للأنترنيت”، كما من “حالة الأشخاص المجبرين على ممارسة الدعارة”. في هذا الإطار، “يصبح الازواج غير واثقين أحيانًا، ومترددين، ويجدون صعوبة في إيجاد سبل للنمو. وكثيرون هم الذين يميلون إلى البقاء في المراحل الأولى من الحياة العاطفية والجنسية. أزمة الأزواج تزعزع استقرار الأسرة وقد تصل، من خلال الانفصال والطلاق، إلى خلق عواقب وخيمة على الأشخاص البالغين، والأبناء والمجتمع، فتضعف الفرد والعلاقات الاجتماعيّة”[16] . وغالبًا ما تواجَه المشاكل الزوجية “بتسرّع وبدون جرأة الصبر، والتحقق، والغفران المتبادل، والمصالحة، وأيضًا التضحية. وهكذا يُوَلّد الفشل علاقات جديدة، وأزواج جدد؛ وروابط جديدة، وزيجات جديدة، وينتج أوضاعًا عائلية معقدة وإشكالية بالنسبة للاختيار المسيحي”[17] .
- “كذلك الانخفاض الديموغرافي، الناتج عن عقليّة «ضد-الإنجاب» تشجعها السياسات العالميّة للصحّة الانجابيّة، سياسيات لا تنتج فقط حالة من عدم ضمان تناوب الاجيال، ولكن تهدد مع مرور الوقت بالدفع نحو فقر اقتصادي وفقدان الرجاء في المستقبل. كذلك تطور البيو-تكنولوجيا قد أثّر بقوة على معدل الولادات”[18] . يمكن إضافة عوامل أخرى مثل “التصنيع، والثورة الجنسية، والخوف من الزيادة السكَّانية، والمشاكل الاقتصادية […] . إن مجتمع الاستهلاك قد يُثني الأشخاص عن إنجاب الأولاد وذلك، بكل بساطة، بهدف المحافظة على حريتهم وعلى مستوى العيش به”[19] . صحيح أنّ ضمير الزوجين المستقيم، عندما يكونان سخيّين في منح الحياة، يمكن أن يقودهما الى قرار تحديد عدد الأطفال لأسباب جديّة بما فيه الكفاية، إنما دومًا، “تشجبُ الكنيسةُ بكل قوتها، محبةً بكرامةِ الضمير، كلّ ما تمارسه بالإكراه الدول الكبرى من تدخلات وضغوطات لصالح منع الحمل والتعقيم أو الإجهاض”[20] . إن هذه التدابير هي غير مقبولة حتى في الأماكن التي ترتفع فيها نسبة الإنجاب، وهنا تجدر الإشارة إلى أن السياسيين يشجعونها أيضًا في بعض الدول التي تعاني من أزمة انخفاض كبير في نسبة الولادات. وكما نوّه أساقفة كوريا، إنما هذا يشير إلى “تصرّف متناقض ومخالف للواجب الشخصي”[21] .
- إن ضعف الإيمان والالتزام الديني في بعض المجتمعات له تأثيرات على العائلات، ويتركها أكثر وحدة إزاء صعوباتها. وقد أكّد الآباء أنّ “الشعور بالوحدة هو أحد أكبر آفات الحضارة الحاليّة، إنه ثمرة غياب الله في حياة الاشخاص وضعف العلاقات. يوجد أيضًا شعور عام بعدم القدرة على مواجهة الواقع الاجتماعي-الاقتصادي الذي غالبًا ما ينتهي بسحق العائلات. […] وغالبًا ما تشعر العائلات بأنّها متروكة بسبب عدم اكتراث المؤسسات وقلّة اهتمامها. فالنتائج السلبية من جهة التنظيم الاجتماعي هي واضحة: انطلاقًا من المشكلة الديموغرافية وصولا إلى الصعوبات التربوية، من صعوبة قبول حياة جديدة إلى اعتبار وجود المسنين كحمل، حتى تفشّي ضيقٌ عاطفي يصل أحيانًا الى العنف. فمِن مسؤولية الدولة أن تخلق أوضاعًا قانونية وظروفَ عمل لضمان مستقبل الشباب ومساعدتهم على تحقيق مشاريعهم وبناء عائلة”[22] .
- غالبًا ما يحمل عدمُ توفُّر المسكن اللائق أو المناسب، على تأجيل إعطاء طابع رسمي للعلاقة. ولا بدَّ من التذكير بأنّ “العائلة لها الحقّ بمسكنٍ لائق، يصلح لحياة العائلة، ويتماشى مع عدد الأفراد، في مناخٍ يؤمن الخدمات الأساسيّة لأجل حياة العائلة والجماعة”[23] . العائلة والمسكن هما أمران لا غنى لأحدهما عن الأخر. إن هذا المثل يبيِّن أنّه يجب علينا الإلحاح على حقوق العائلة، وليس فقط على الحقوق الفرديّة. فالعائلة هي خير لا يستطيع المجتمع أن يتخطاه، إنما بحاجة إلى أن يُحافَظ عليها[24] . الدفاع عن هذه الحقوق هو “نداء نبويّ لصالح المؤسَّسة العائليّة، التي يجب أن تنال الاحترام وأن تصان من كلّ الاعتداءات”[25] ، خصوصًا في الإطار الحاليّ حيث تحتلّ العائلة عادةً مكانة ضئيلة في المشاريع السياسيّة. يحقّ للعائلات، من بين الحقوقٍ الأخرى، أن “تتمكن من الاعتماد على سياسة عائليّة ملائمة من قِبَل السلطات العامّة في المجال القضائيّ، الاقتصاديّ، الاجتماعيّ والضريبيّ”[26] . أحيانًا، تكون ضِيقات العائلات مأساوية عندما، إزاء مرض شخص عزيز، لا يمكنها الحصول على الخدمات الصحّيّة الملائمة، أو عندما يطول الوقت دون الحصول على عمل لائق ومستمر.”وبسبب الصعوبات الاقتصادية تغدو العائلات مستبعدة عن الاستفادة من الخدمات التربوية والحياة الثقافية والاجتماعية الناشطة. إن النظام الاقتصادي الراهن يُنتج أشكالا عدّة من الإقصاء الاجتماعي. فالعائلات تعاني خصوصًا من الصعوبات المتعلقة بالعمل. ويشكو الشباب من قلة فرص العمل، ومن أن العروض تبقى نخبوية وهشَّة، وأيام العمل طويلة ومثقلة في أغلب الأحيان بقطع مسافات بعيدة. وهذا لا يساعد العائلات على اللقاء فيما بينها وحول أبنائها لبناء العلاقات اليومية”[27] .
- “كُثر هُمُ الأولاد الذين يُولَدون خارج الزواج، لا سيما في بعض البلدان، وكُثُرٌ مِن هؤلاء ينمون في ما بعد مع أحد الوالِدَين فقط أو في إطارٍ عائليّ موسَّع أو جديد كليًّا. […] يشكِّل الاستغلال الجنسيّ للأطفال واحدًا من أكثر الوقائع المأسوية والمنحرفة في المجتمع الحاليّ. كما تشهدُ المجتمعات التي يجتاحها العنف بسبب الحرب، والإرهاب أو بسبب وجود الجريمة المنظَّمة، حالات عائليّة متدهورة، وينمو، خاصة في المدن الكبرى وفي ضواحيها، ما يُسمَّى بظاهرة أولاد الشارع”[28] . أما التعديات الجنسية على الأطفال فهي أكثر خِزيًا عندما تحدث في الأماكن التي يجب أن يكونوا بها محميِّين بشكلٍ أفضل، وخصوصًا في العائلات، والمدارس، والجماعات والمؤسّسات المسيحيّة[29] .
- إن الهجرة “تُشكِّل علامةً أخرى من علامات الأزمنة التي ينبغي مواجهتها وفهمها بكل عبء تأثيراتها على الحياة العائليّة”[30] . لقد أعطى السينودُس الأخير أهمّيّةً كبرى لهذه المسألة، مؤكِّدًا أنّها “تطال، وإن بطرق مختلفة، شعوبًا بأكملها وفي مناطق عديدة من العالم. وقد لعبت الكنيسة دورًا متقدمًا في هذا المجال. واليوم، وأكثر من أي وقت مضى، أصبحت المحافظة على هذه الشهادة الإنجيلية وتطويرها أمرًا ضروريًا وملحًا (را. متى 25، 35). […] إن حركة الأشخاص، والتي تتلاءم مع حركة تاريخ الشعوب الطبيعية، يمكن أن تظهر لنا كغنى حقيقي سواء بالنسبة للعائلة المهاجرة أو للبلد الذي يستقبلها. أمر أخر هو الهجرة القسرية للعائلات بسبب أوضاع حروب واضطهادات وفقر وظلم. إنها مطبوعة بصعوبات السفر ومخاطره، وتصيب الأشخاص بصدمة وتهدِّد بتدمير استقرار هذه العائلات. تتطلّب مرافقة المهاجرين رعويةً خاصة، تكون موجهة الى العائلة المهاجرة كما الى أفرادها الباقين في بلدهم الأم. وينبغي أن تتمّ هذه المرافقة باحترام لثقافة الأشخاص المهاجرين ولتنشئتهم الدينية والإنسانية، وللغنى الروحي في طقوسهم وتقاليدهم، من خلال عناية رعوية متخصصة. […] الهجرات تبدو بشكل خاص مأسوية ومدمّرة للعائلات وللأفراد، عندما تتم خارج إطار الشرعية وبدعم من شبكات عالمية منظمة للإتجار بالبشر. ذات الشيء يمكن قوله بالنسبة للنساء والأطفال المتروكين لذاتهم والمجبرين على الخضوع لفترات إقامة مطوَّلة في أماكن للعبور أو مخيّمات للاجئين، يستحيل فيها تصوُّر البدء في أي خطة للاندماج. وفي بعض الأحيان، إضافة الى الفقر المدقع واستحالة الاندماج في المجتمع المضيف، تدفع هذه الأوضاع بالعائلة حتى الى بيع أبنائها بهدف الدعارة أو تجارة الأعضاء”[31] . “إن الاضطهادات التي يتعرَّض لها المسيحيُّون، وكذلك الأقلّيّات الإتنيّة والدينيَّة الأخرى، في أماكن مختلفة من العالم، وخاصة في الشرق الأوسط، تمثِّل محنة كبرى: ليس فقط للكنيسة، لكن أيضًا للمجتمع الدولي بأسره. لذا يجب تعزيز كلّ جهد كي يؤمِّن استمراريَّة العائلات والجماعات المسيحيّة في مواطنهم الأصليّة”[32] .
- قد كرّس الآباء انتباهًا خاصًا أيضًا تجاه “العائلات التي لديها أفراد مصابون بإعاقة. فالإعاقة التي تظهر في حياتهم تشكِّل تحديًّا عميقًا وغير منتظر، وتقلب كل التوازنات والرغبات والتطلعات. […] تستحق كلّ التقدير العائلات التي تتقبَّل بمحبّة هذه المحنة الصعبة، أي محنة أن يكون لها ابن معاق، إنها تُقدِّم للكنيسة وللمجتمع شهادة وفاء ثمينة لعطية الحياة. بإمكان العائلة، مع كلّ الجماعة المسيحية، أن تكتشف تعابيرَ ولغات جديدة، أشكالًا جديدة للتفاهم والهوية، خلال مسيرة احتضان سرِّ الضعف والاعتناء به. والأشخاص المصابون بإعاقة يشكلون، بالنسبة للعائلة، عطية وفرصة للنمو في الحب وفي التعاون المتبادل والوحدة. […] العائلة التي ترتضي، بنظرة إيمان، وجود الأشخاص المصابين بإعاقة في كنفها، يمكنها أن تعترف بنوعية وقيمة كلّ حياة وتضمنها، مع حاجاتها وحقوقها وفرصها. إنها سوف تلتمس للشخص المصاب الخدمات والعلاجات وتحث على المرافقة والعطف في كلّ مراحل حياته”[33] . أودّ أن أشير إلى أنّ الانتباه المُقدم للمهاجرين وللأشخاص المعوَّقين هو علامة من الروح القدس. في الواقع، كل من الحالتين يمثل نموذجًا عمليًّا: لأنهما يظهران بشكل خاص طريقة عيشنا اليوم لمنطق “الاستقبال الرحوم” وإدماج الأشخاص الضعفاء.
- “العدد الأكبر من العائلات يحترم الأشخاص المسنِّين، ويحيطهم بالعاطفة ويرى فيهم مصدرًا للبركة. ومن الواجب تقديم شهادة عرفان وتقدير خاص للجمعيات والحركات العائلية التي تعتنى بالمسنين على الصعيدين الروحي والاجتماعي […] . في المجتمعات الصناعية المتقدمة، حيث يميل عدد الأشخاص المسنِّين الى الزيادة مقابل التراجع في عدد الولادات، يوجد خطر النظر إليهم كعبءٍ. من جهة أخرى، العناية التي غالبًا ما يحتاجون إليها تُدخِل المقرَّبين منهم في محنة”[34] . “إن إعطاء قيمة لمرحلة الحياة الأخيرة قد أصبح ضرورة قصوى في أيامنا هذه حيث يحاول الجميع، بكل الوسائل، تجاهل لحظة الموت. ويتم أحيانًا استغلال ضعف الأشخاص المسنِّين وعدم استقلاليتهم بإجحاف ولأسباب اقتصادية بحتة. إن الكثير من العائلات تعلمنا أنه من الممكن مواجهة مراحل الحياة الأخيرة من خلال إظهار معنى اكتمال الوجود، وإدماج هذا الوجود بأسره في السرِّ الفصحي. عدد كبير من الأشخاص المسنِّين يُستقبلون في بنى كنسيَّة، حيث يمكنهم العيش في جو هادئ وعائلي، على الصعيدين المادي والروحي. “الموت الرحيم” و”الانتحار المُساعَد” يشكلان تهديدين خطيرين لكل العائلات في العالم بأسره. وقد اكتسبت ممارستهما شرعيتها القانونية في دول كثيرة. أما الكنيسة، إذ تشجب بصرامة هذه الممارسات، تشعر بواجب مساعدة العائلات التي تعتني بأفرادها المسنَّين والمرضى”[35] .
- أريدُ أن أسلّط الضوء على وضع العائلات التي يسحقها البؤس، والمتضررة بأشكالٍ شتَّى، حيث يتم عيش “متطلبات الحياة” بطريقة مؤلمة للغاية. فعندما يواجه الجميع صعوبات، فإن تلك الصعوبات في البيت المدقع فقرًا تصبح أكثر قساوة[36] . على سبيل المثال، إذا كان على امرأة أن تربّي ابنها بمفردها، بسبب الانفصال أو لأسباب أخرى، وعليها أن تعمل، وليس لديها إمكانيَّة تركه لدى شخصٍ آخر، فإن هذا الابن ينمو في إهمال يعرِّضه لكل أنواع الخطر، ويبقى نضجه الشخصيّ على المحك. في الأوضاع الصعبة التي يعيشها الأشخاص الأكثر عوزًا، على الكنيسة أن تقدم عناية خاصة كي تفهم، وتعزِّي، وتضمّ، متجنِّبةً أن تفرض عليهم سلسلة من القوانين، كما لو كانوا حجارة، فتجعلهم بهذا يشعرون أنّه محكوم عليهم ومتروكون من قِبَلِ تلك الأمّ المدعوّة بالتحديد إلى حمل رحمة الله إليهم. وبالتالي، بدل تقديم قوّة النعمة الشافية ونور الإنجيل، يريد البعض “تلقين” الإنجيل، محوِّلين إيَّاه إلى “حجارة ميتة معدّة ليرمي بها الآخرون”[37] .
- إن الأجوبة التي وردت نتيجة الاستشارات التي تمت خلال مسيرة السينودس، قد ذكَرَت الحالات الأكثر تباينا التي تشكّل تحدِّياتٍ جديدة. عدا تلك المذكورة، أشار العديد منهم إلى المهمَّة التربويّة، التي تواجه صعوبات، لأنّ الأهل،من بين أمور أخرى، يعودون إلى البيت متعبين ولا رغبة لديهم في الكلام؛ وقد اندثرت في العديد من العائلات عادة أن يأكلوا معًا؛ هناك أيضًا تشكيلة واسعة من عروض التسلية التي تتزايد، عدا التعلُّق المفرط بشاشة التلفزيون. كل هذا يجعل نقل الإيمان من الوالدين إلى الأولاد أمرًا صعبًا. وأشار البعض الآخر إلى أنّ العائلات غالبًا ما تكون مصابة بقلق هائل. وكأنّهم أكثر انشغالًا بكيفية استباق المشاكل المستقبليّة من مشاركة الحاضر. إن هذا، وهو مسألة ثقافيّة، يزداد خطورة بسبب المستقبل المهنيّ غير الأكيد، وعدم الاستقرار الاقتصاديّ، أو الخوف على مستقبل الأولاد.
- تمت الإشارة أيضًا إلى الإدمان على المخدِّرات كجرح من جروح عصرنا التي تؤلم العائلات للغاية، وينتهي به المطاف إلى هدمها. وهذا ما يحدث مع إدمان الكحول، والقمار، والإدمانات الأخرى. يمكن للعائلة أن تكون مكان الوقاية والحماية السليمة، لكن المجتمع والسياسة لم يتوصلا إلى إدراك أنّ العائلة عندما تكون في خطر فهي “تفقد إمكانيّة التفاعل لمساعدة أعضائها […] إننا نرى عواقب هذا الانفصال الوخيمة: في العائلات المدّمرة، والأبناء المقتلعين من جذورهم، والمسنُّين المهملين، والأولاد اليتامى بينما أهلهم لا يزالون على قيد الحياة، والمراهقين والشباب التائهين وبدون مبادئ”[38] . وهناك حالات محزنة من العنف الأُسَريّ التي تمثل تربة خصبةً لأشكالٍ جديدة من العدوانيّة الاجتماعيّة، كما أشار أساقفة المكسيك، لأنّ “العلاقات العائليّة تفسّر أيضًا الميل نحو شخصيّة عنيفة. والعائلات التي تدفع في هذا الاتجاه، هي تلك التي ينقصها التواصل؛ والتي يسودها مواقف دفاعيّة، ولا يساعد أفرادها بعضهم البعض؛ والتي لا يوجد فيها نشاطات عائليّة تعزز المشاركة؛ وحيث علاقات الوالدين فيما بينهما هي غالبًا صراعيّة وعنفيَّة، والعلاقات بين الوالدين والأبناء تتميّز بمواقف عدوانية. العنف العائلي هو مدرسة للاستياء والكراهية في العلاقات الإنسانيّة الأساسيّة”[39] .
- لا يمكن لأحد أن يفكِّر بأن إضعاف العائلة، كمجتمع طبيعيّ قائم على الزواج، هو أمر يعود بالفائدة على المجتمع. بل يحدث العكس: يُضرّ بنضج الأشخاص، وبثقافة القيم الجماعيّة وبالتقدم الأخلاقي للمدن والقرى. لم يعد هناك إدراك واضح بأن وحده الاتّحاد الحصري بين رجل وامرأة، وغير القابل للانحلال، يؤدي وظيفة اجتماعية كاملة، بصفته التزامًا ثابتًا، منفتحا على الخصوبة. علينا أن نعترف بالتنوع الكبير في الحالات العائلية التي تستطيع أن توفّر نهج حامية ما للحياة، ولكنّ اتحادات الأمر الواقع، أو الاتحاد بين أشخاص من الجنس عينه، مثلًا، لا يمكن مقارنتها بكل بساطة مع الزواج. وما من اتّحاد محفوف بالمخاطر أو منغلق على نقل الحياة، يمكنه أن يضمن لنا مستقبل المجتمع. لكن مَنْ يهتم اليوم بدعم الأزواج، وبمساعدتهم على تخطِّي المخاطر التي تهدِّدهم، وبمرافقتهم في دورهم التربويّ، وبِالحَثّ على استقرار الاتّحاد الزوجيّ؟
- “لا تزال عادة تعدُّد الزوجات قائمة في بعض المجتمعات. ولا يزال «الزواج المدبَّر» سائداً في أماكن أخرى. […] وفي مناطق عديدة، لا تنحصر في الغرب فقط، نشهد انتشارًا واسعًا للمساكنة الحرة قبل الزواج أو حتى للمساكنة التي لا تتجه نحو الوصول إلى ارتباط شرعي”[40] . كما يسهِّل التشريعُ في بلدانٍ مختلفة، تطوُّر مجموعة من البدائل، بحيث أن الزواجٍ المتَّسم بالحصرية، وبعدم الانحلال وبالانفتاح على الحياة يبدو كاقتراحٍ قد عفا عليه الزمن ضمن اقتراحات أخرى كثيرة. وفي العديد من الدول، يتطوّر التفكيك القانونيّ للعائلة، التي تميل إلى تبنّي أشكال ترتكز بشكل حصري تقريبًا على نموذجٍ استقلاليّة الإرادة. وإن كان شرعيًّا وعادلا أن تُرفَض الأشكال القديمة للعائلة “التقليديّة”، التي كانت تتميز بالاستبداديّة وبالعنف أيضًا، فلا ينبغي أن يحمل هذا إلى الحط من قيمة الزواج، إنما على إعادة اكتشاف معناه الحقيقيّ وتجديده. إنَّ قوّة العائلة “تكمن في طاقتها وقدرتها على الحب والتنشئة عليه. فمهما كان جرحها، يمكنها أن تنمو دومًا وتكبر انطلاقًا من الحب”[41] .
- في هذه النظرة المختصرة على الواقع، أودّ أن أشير إلى أنّه بالرغم من وجود تحسينات بارزة فيما يخص الاعتراف بحقوق المرأة وبمساهمتها في المجال العام، ما زال الطريق طويلا في بعض البلدان. إن بعض العادات غير المقبولة لم تُنزَع تماما بعد. وقبل أيّ شيء العنف المخجِل الذي يُستعمل أحيانًا ضدّ النساء، والمعاملة السيئة داخل الأسرة، والأشكال المتنوِّعة من العبوديّة التي لا تشكِّل عرضًا للقوّة الذكوريّة، بل تدهورًا جبانًا. فالعنف الكلاميّ، الجسديّ والجنسيّ، الذي يُمارَس ضدّ النساء في بعض العائلات، يناقض طبيعة الاتّحاد الزوجيّ ذاته. أفكِّر بتشويه الأعضاء التناسليّة لدى المرأة في بعض الثقافات، ولكن أيضًا بعدم المساواة في الوصول إلى مراكز عملٍ لائقة أو المراكز حيث تُتَّخذ القرارات. يحمل التاريخُ تجاوزات الثقافات الذكورية، حيث المرأة كانت تُعتَبَر من الدرجة الثانية، لكن لنتذكَّرْ أيضًا ممارسة “تأجير الأرحام” أو “استغلال المرأة وتسليع الجسد الانثوي في الثقافة الحالية وفي وسائل الإعلام”[42] . هناك أيضًا مَنْ يعتبر أنّ العديد من المشاكل الحاليّة قد ظهرت انطلاقًا من تحرّر المرأة. ولكنّ هذه الذريعة غير صالحة، “هي نظرية مزيفة وكاذبة! إنها تمثل شكلا من أشكال الذكورية”[43] . إن الكرامة المتساوية بين الرجل والمرأة تحملنا على أن نُسَرّ بِتخطّي أشكال التمييز القديمة، وبِنُموّ نمط من التبادل في حضن العائلات. وإن ظهرت أشكالٌ من النسويّة لا يمكننا اعتبارها ملائمة، إننا نقدِّر على حد سواء عمل الروح (القدس) في الاعتراف بشكل أوضح بكرامة المرأة وحقوقها.
- إن الرجل “يلعب أيضًا دورًا مهمًا في حياة العائلة، بخاصة على صعيد الحماية ودعم الزوجة والأولاد […] ويدرك الكثير من الرجال أهمية دورهم في العائلة ويعيشونه بحسب المواصفات الخاصة بالشخصية الذكورية. إن غياب الأب يترك تأثيره العميق في الحياة العائلية، بخاصة على صعيد تربية الأولاد وقدرتهم على الانخراط في المجتمع. غياب الأب قد يكون جسديًا، عاطفيًا، فكريًا، أو روحيًا. وهذا النقص يحرم الأولاد من نموذج مناسب في السلوك الأبوي”[44] .
- هناك تحدٍّ آخر ينبثق من أشكال مختلفة لإيديولوجيَّة تسمَّى بشكلٍ عامّ “النوع” (Théorie du genre) “التي تنفي الفوارق والتبادل الطبيعي بين الرجل والمرأة. إنها تَعِدُ بمجتمع دون فوارق في الجنس، وتُفرغُ العائلة من الأساس الأنتروبولوجي. هذه الإيديولوجية تُفضي الى مشاريع تربوية وتوجُّهات تشريعية تعزِّز هويةً شخصيةً ذاتية وحميميةً عاطفية، منفصلة كليًّا عن المُعطى البيولوجي المختلف بين الذكورة والأنوثة. فالهوية الإنسانية الجنسية تصبح، مع هذه الإيديولوجية، خيارًا فرديًا يمكن أن يتطوَّر مع الوقت”[45] . إنّه لمن المقلق أنّ بعض الإيديولوجيَّات من هذا النوع، التي تدّعي الإجابة على بعض التطلُّعات التي يمكن أن نتفهمها أحيانًا، تحاول أن تفرض نفسها كفكرٍ أوحد يحدِّد أيضًا تربية الأولاد. ينبغي ألّا نجهل أنّه “يمكن التمييز بين الجنس البيولوجي (sex) والدور الاجتماعي للجسد (gender)، ولكن لا يمكن الفصل بينهما”[46] . من جهة أخرى، “قد ادخلت الثورة البيوتكنولوجية في مجال الإنجاب البشري، إمكانية التلاعب بعمل الإنجاب، بجعله مستقلاً عن العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة. وبهذه الطريقة، أصبحت الحياة البشرية والأبوة واقعين يمكن ربطهما كما يمكن فصلهما، حسب رغبات الأفراد والأزواج، الذين ليسوا بالضرورة مثليين أو متزوجين”[47] . إن تفهُّم الهشاشة الإنسانيّة وتعقيد الحياة هو شيء، لكن هو شيء آخر تقبُّل الإيديولوجيَّات التي تدّعي أنّها تقسم إلى جزأين جوانب الواقع غير القابلة للانفصال. دعونا لا نقع في خطيئة ادعاء أنَّنا نحلُّ مكان الخالق. فنحن خلائق، لسنا كلِّيِّي القدرة. فالخليقة تسبقنا، ويجب أن نقبلها كعطيّة. في الوقت عينه، نحن مدعوُّون إلى الحفاظ على إنسانيَّتنا، وهذا يعني قبل أيّ شيء أن نقبلها وأن نحترمها كما خُلِقَت.
- أشكرُ الله لأنّ العديد من العائلات، والبعيدة عن اعتبار نفسها كاملة، تعيش في الحبّ، وتحقّق دعوتها الخاصّة، وتذهب قُدُمًا حتى وإن سقطت مرّات عديدة في الطريق. إن ما يبقى من التفكير المجمعي ليس نموذجًا لعائلة مثاليّة، إنّما فسيفساء يدعو للتفكير، مكوَّن من حقائق عديدة متنوِّعة، مليئة بالأفراح، والمآسي والأحلام. الوقائع التي تشغلنا هي تحدِّيات. دعونا ألا نقع في فخّ الانهماك في رثاء دفاعيَّ، بدل أن نحثُّ على أبداع رسولي. في جميع الأحوال، “الكنيسة تنبِّه إلى ضرورة قول كلمة حق ورجاء. […] القيم الكبرى للزواج وللعائلة المسيحيّة تتطابق مع البحث الذي يجول الوجود البشريّ”[48] . إذا صادفتنا مشاكل عديدة، تكون -كما قد أكّده أساقفة كولومبيا- دعوة إلى “تحرير طاقات الرجاء التي فينا بترجمتها في أحلام نبويّة، وإلى أعمال قادرة على التغيير، وإلى تصوُّرات للمحبَّة”[49] .
الفصل الثّالث
النّظرُ موَجَّهٌ نحو يسوع: دعوة العائلة
- أمام الأُسَر وفي وسطها يجب أن تعود البشارة الأولى، ويرنّ صداها من جديد، تلك التي هي “أجمل وأعظم وأكثر جاذبية، وفي الوقت عينه أكثر ضرورة”[50] ، و”يجب أن تكون مركز النشاط التبشيري”[51] . إنها البشارة الرئيسية، “تلك التي يجب أن نسمعها على الدوام مجدّدًا بطرق مختلفة، والتي يجب أن تُعلن على الدوام مجدّدًا في أثناء تلقين التعليم المسيحيّ، تحت شكل أو آخر”[52] . لأنه ما من شيء “أمتن ولا أعمق ولا أكثر أمانًا وثباتًا وحكمة من هذه البشرى”، و”كلّ التنشئة المسيحيّة هي قبل كل شيء التعمّق في الكرازة.[53] “
- إن تعاليمنا حول الزواج والعائلة لا يمكنها أن تكف عن الاستلهام من بشرى المحبّة والحنان هذه وأن تتجلى في ضوئها، كي لا تصبح مجرّد دفاع عن عقيدة باردة وبلا حياة. لأنه لا يمكن فهم سرّ العائلة المسيحية في العمق إلا في ضوء محبّة الآب اللامتناهية، التي تجلّت في المسيح الذي بذل نفسه حتى النهاية وهو حيّ بيننا. لذا أريد أن أتأمل المسيح الحي الحاضر في الكثير من قصص الحب، واستدعي نار الروح القدس على جميع الأسر في العالم.
- في هذا الإطار، يتضمن هذا الفصل الوجيز ملخصًا لتعاليم الكنيسة حول الزواج والعائلة. وفي هذا الصدد، سأذكر عدة إسهامات قدّمها آباء السينودس في اعتباراتهم، على ضوء الإيمان. لقد انطلقوا من نظرة يسوع وأشاروا إلى أنه “نظر الى النساء والرجال الذين التقى بهم بمحبّة وحنان، ورافق خطاهم بالحق والصبر والرحمة، في إعلانه عن متطلبات ملكوت الله”[54] . بالطريقة نفسها، يرافقنا الرب اليوم في التزامنا كي نعيش وننقل إنجيل العائلة.
يسوع يسترجع التدبير الإلهي ويتمّمه
- إزاء أولئك الذين ينهون عن الزواج، يعلّم العهد الجديد “كُلُّ ما خَلَقَ اللهُ حَسَن، فما مِن شيء … مَرْذولٍ” (1 طيم 4، 4). الزواج هو “هبة” من الرب (را. 1 قور 7، 7). في الوقت نفسه، وبسبب هذا التقييم الإيجابي، يتمّ التشديد بقوّة على العناية بهذه الهبة الإلهية: “لِيَكُنِ الزَّواجُ مُكَرَّمًا عِندَ جَميعِ النَّاس، ولْيَكُنِ الفِراشُ بَريئًا مِنَ الدَّنَس” (عب 13، 4). وهبة الله هذه تشمل الحياة الجنسيّة: “لا يَمنَعْ أَحدُكُما الآخَر” (1 قور 7، 5).
- وأشار آباء السينودس أن يسوع “في إشارة إلى التدبير الأساسي حول الزوجين البشريّين، يعيد التأكيد على الاتحاد الأبدي بين الرجل والمرأة، قائلًا إنه «مِن أَجْلِ قساوَةِ قُلوبِكم رَخَّصَ لَكم موسى في طَلاقِ نِسائكم، ولَم يَكُنِ الأَمرُ مُنذُ البَدءِ هكذا» (متى 19، 8). إن عدم انحلال الزواج («فما جمَعَه الله فلا يُفرِّقنَّه الإِنسان»: متى 19: 6)، لا يجب اعتباره قبل كل شيء كـ “نير” مفروض على البشر، إنما ﻜ”هبة” مقدّمة الى الأشخاص الذين يتّحدون في الزواج. […] إن الأناة الإلهية التي ترافق دائمًا مسيرة البشرية، فتشفي وتغيّر القلوب المتحجّرة بنعمتها، موجّهة هذه المسيرة نحو أصلها، عبر درب الصليب. من الأناجيل يظهر جليًّا مثال يسوع، الذي […] أعلن الرسالة حول معنى الزواج على أنه ملء الوحي الذي يستعيد تدبير الله الأصلي (را. متى 19، 3)”[55] .
- إن “يسوع، الذي صالح كل شيء في ذاته، أعاد الزواج والعائلة إلى حالتهما الأصليّة (را. مر 10، 1- 12). وقد افتدى المسيحُ العائلةَ والزواج (أف 5، 21- 32)، وأعادهما على صورة الثالوث الأقدس، السر الذي منه تنبع كل محبّة حقيقيّة. إن العهد الزوجيّ الذي بدأ في الخلق وكُشف في تاريخ الخلاص، ينال ملء وحي معناه في المسيح وكنيسته. من المسيح وعبر الكنيسة ينال الزواج والعائلة النعمة اللازمة ليشهدا لمحبة الله ويعيشا حياة الشركة. وإنجيل العائلة يعبر تاريخ العالم منذ خلق الإنسان على صورة الله ومثاله (را. تك 1، 26- 27) حتى تحقيق سر العهد في المسيح في آخر الزمان مع عرس الحمل (را. رؤ 19، 9)”[56] .
- “إن مثال يسوع هو نموذج للكنيسة. […] فقد بدأ حياته العلنيَّة بأعجوبة قانا التي حقَّقها في سياق عرس (را. يو 2، 1- 11). […] وشارك لحظات صداقة يومية مع عائلة لعازر وأخواته (را. لو 10، 38)، ومع عائلة بطرس (را. متى 8، 14) وسمع بكاء الأهل على أولادهم مُعيدًا إليهم الحياة (را. مر 5، 41؛ لو 7، 14- 15)، مُظهِرًا بذلك المعنى الحقيقي للرحمة التي تفترض ترميم العهد (را. يوحنا بولس الثاني، Dives in misericordia, 4). ويبدو ذلك جليًّا في لقاءاته مع السامريَّة (را. يو 4، 1- 30) والمرأة الزانية (را. يو 8، 1- 11) اللتين أدركتا عمق خطيئتهما أمام حب يسوع المجَّاني”[57] .
- إنّ تجسّد الكلمة في عائلة بشريّة، في الناصرة، يثير بحداثته وجدان تاريخ العالم. إننا بحاجة إلى الغوص في سر ولادة يسوع، في “نَعم” مريم لبشارة الملاك، حين حبل بالكلمة في رحمها؛ وفي “نَعم” يوسف أيضًا، الذي أعطى اسمه ليسوع وتكفل بمريم؛ وفي احتفال الرعاة عند المذود، وفي سجود المجوس، وفي الهروب إلى مصر، والذي، من خلاله، شارك يسوع آلام شعبه المنفي والمضطهد والمُهان، وفي انتظار زكريا التقيّ وفي الفرح الذي رافق مولد يوحنّا المعمدان، وفي الوعد الذي تحقق لسمعان وحنة في الهيكل، وفي إعجاب العلماء وهم يستمعون إلى حكمة يسوع الصبي. ومن ثم الدخول في السنوات الثلاثين الطويلة، التي كسب خلالها يسوعُ خبزه بعمل يديه، وهو يهمس الصلوات ويمارس تقاليد إيمان شعبه متمرّسًا في إيمان آبائه، إلى أن يجعله يؤتي ثماره في سرّ الملكوت. هذا هو سرّ الميلاد وسرّ الناصرة، يفوح بعطر العائلة! إنه ذات السرّ الذي فتن فرنسيس الأسيزي، وتيريزا الطفل يسوع وشارل دو فوكو، والذي منه ترتوي الأسر المسيحية أيضًا كي تجدّد رجاءها وفرحها.
- “إن عهد الحب والأمانة الذي عاشته عائلة الناصرة يُنير المبدأ الذي يحدّد شكل كل عائلة، ويجعلها قادرة على مواجهة تقلُّبات الحياة والتاريخ بشكل أفضل. وعلى هذه الأسس تستطيع كل عائلة، رغم ضعفها، أن تصبح نورًا في عتمة هذا العالم: «إنه درس لنا في الحياة العائلية. وعسى الناصرة أن تذكرنا بمعنى العائلة وبمعنى شركة المحبة، وبساطة وزهد جمالها وطابعها المقدس غير القابل للاستبدال؛ عساها أن تُرينا كم هي عذبة ولا بديل لها، التنشئة التي تمنحنا إياها العائلة؛ ولنتعلَّم كذلك ما هو دور العائلة الأساسي من الناحية الاجتماعية» (بولس السادس، خطاب في الناصرة في 5 يناير / كانون الثاني 1964)”[58] .
- اهتمّ المجمع الفاتيكاني الثاني، في الدستور الرعوي فرح ورجاء، بتعزيز كرامة الزواج والعائلة (را. الأرقام 47- 52). “وقد حدد الزواج باعتباره شركة حياة ومحبة (را. 48)، ووضع المحبة في قلب العائلة […] . إن «الحب الحقيقي بين الزوج والزوجة» (49) يعني هبة الذات المتبادلة، ويتضمّن ويدمج البعد الجنسي والعاطفي المتوافق مع التدبير الإلهي (را. 48-49). ويؤكد أيضًا على تجذر الزوجين في المسيح فيقول: إن المسيح الرب «يأتي لملاقاة الأزواج المسيحيين في سر الزواج» (48) ويبقى معهما. في التجسد، يلبس المسيح محبة البشر، فينقّيها، ويقودها الى الكمال، ويهب الزوجين، بروحه القدوس، القدرة على عيشها، فيطبع حياتهما كلها بالإيمان والرجاء والمحبة. بهذه الطريقة يكون الزوجان وكأنهما مكرّسان، ويبنيان، بواسطة نعمة خاصة، جسد المسيح، ويكوّنان كنيسة بيتيّة (را. نور الأمم، 11)، بحيث أن الكنيسة، من أجل التوصل إلى فهمٍ كاملٍ لسرها، تنظر إلى العائلة المسيحية التي تتجلّى فيها المحبة بطريقة طبيعية”[59] .
- لاحقًا، “الطوباوي بولس السادس، على نهج المجمع الفاتيكاني الثاني، قد تعمَّق في العقيدة المتعلِّقة بالزواج والعائلة. وقد سلَّط الضوء، بشكل خاص، في رسالته البابوية الحياة البشرية (Humanae vitae) على العلاقة الحميمة بين الحب الزوجي وإعطاء الحياة: «يتطلَّب الحب الزوجي من الشريكين أن يدركا بوعي رسالتهما الأبوية المسؤولة، تلك التي يتم التشديد عليها اليوم، وعن حق، والتي يجب أن تكون مفهومة جيدًا. […] فالممارسة المسؤولة للأبوة تتطلَّب اعتراف الزوجين بواجباتهما تجاه الله، تجاه أنفسهما، وتجاه العائلة والمجتمع في تراتبية صحيحة للقيم» (10). وقد أبرز البابا بولس السادس في إرشاده الرسولي إعلان الإنجيل (Evangeliinuntiandi)، أهمية العلاقة بين العائلة والكنيسة”[60] .
- “أَوْلَى القديس يوحنا بولس الثاني العائلة اهتمامًا خاصًا من خلال تعاليمه المسيحية حول المحبة البشرية، في الرسالة إلى الأُسر (Gratissimamsane) وخصوصًا في الإرشاد الرسولي وظائف العائلة المسيحية. في هذه الوثائق، وصف البابا العائلة ﺑ «طريق الكنيسة» وقدم نظرة عامة حول دعوة الرجل والمرأة إلى المحبة. وقد اقترح الاتجاهات الأساسية لراعوية العائلة ولحضور العائلة في المجتمع. ووصف، على وجه الخصوص، في معالجته لموضوع المحبة الزوجية (را. وظائف العائلة المسيحية، 13)، الطريقة التي بها ينال الزوجين، في حبّهم المتبادل، هبة روح المسيح ويعيشان دعوتهما إلى القداسة”[61] .
- بِنِدِكْتُسْ السادس عشر، في رسالته البابوية الله محبة، تناول مجدّدًا موضوع حقيقة الحب بين الرجل والمرأة، الذي لا يُنار بشكل كامل إلا على ضوء محبّة المسيح المصلوب (را. 2). ويؤكد كيف «يصبح الزواج القائم على حب حصري ونهائي، رمزًا للعلاقة بين الله وشعبه، والعكس بالعكس: إن طريقة حبّنا لله تصبح مقياسًا لمحبة البشر» (11). كما يسلّط الضوء أيضًا في الرسالة البابوية المحبّة في الحقيقة على أهمية المحبة كمبدأ للحياة في المجتمع (را. 44)، المكان الذي فيه نتعلم اختبار الخير العام”[62] .
- “إن الكتاب المقدَّس والتقليد يمكِّناننا من التعرُّف على الثالوث الذي يتجلَّى لنا بسمات أُسريّة. فالعائلة هي صورة الله […] الذي هو شركة أقانيم. وفي المعمودية، يعلن صوت الآب أن يسوع هو الابن الحبيب، ومن خلال هذا الحب أعطي لنا أن نعرف الروح القدس (را. مر 1، 10- 11). فيسوع الذي صالح كل شيء في شخصه وخلَّص الإنسان من الخطيئة، لم يكتفِ بإعادة الزواج والعائلة الى صيغتهما الأصليّة، بل رفع الزواج وجعله علامة حُبِّه الأسرارية للكنيسة (را. متى 19، 1- 12؛ مر 10، 1- 12؛ أف 5، 21- 32). ففي العائلة البشرية، التي جمعها يسوع، قد استعيدت من جديد صورة الثالوث الأقدس ومثاله (را. تك 1، 26)، هذا السر الذي يتدفَّق منه كل حب حقيقي. فالمسيح، بواسطة الكنيسة، يمنح الزواج والعائلة نعمة الروح القدس كي يتحوَّل الزوجان الى شهود لإنجيل محبة الله”[63] .
- إن سر الزواج ليس عقدًا اجتماعيًا أو طقسًا فارغًا أو مجرد علامة التزام خارجيّة. فالسر هو هبة لتقديس وخلاص الزوجين، لأن “انتماء أحدهما للآخر إنما هو، بفضل العلامة الأسرارية، خير تمثيل لعلاقة المسيح نفسه بالكنيسة. لذا فالزوجان يُكَوِّنان، بالنسبة إلى الكنيسة، تذكيرًا دائمًا بما حدث على الصليب. إنهما شاهدان أحدهم للآخر ولأولادهما على الخلاص الذي، بفعل سرّ الزواج، قد أصبحا شريكين به”[64] . إن الزواج هو دعوة، حيث أنه استجابة للدعوة المحددة إلى عيش الحب الزوجي باعتباره علامة غير كاملة للمحبة التي تجمع المسيح بالكنيسة. لذا، يجب أن يكون قرار الزواج وتكوين عائلة، ثمرة تمييز دعواتيّ.
- “إن هبة الذات المتبادلة التي يقوم على أساسها الزواج الأسراريّ تتجذّر في نعمة المعمودية التي تُقيم العهد الأساسي لكلّ شخص مع المسيح في الكنيسة. في القبول المتبادل وبنعمة المسيح، يعد طالبا الزواج أحدهما الآخر بهبة الذات الكلّية والوفاء والانفتاح على الحياة، وهما يقرّان بأن الهبات التي يمنحها الله لهما هي عناصر مكونة للزواج، آخذَين على محمل الجد التزامهما المتبادل، باسمه وأمام الكنيسة. يمكن، والحالة هذه، في الإيمان تولي عيش خيرات الزواج على أنها التزامات يمكن الحفاظ عليها بمساعدة نعمة سر الزواج. […] لذا، فإن أنظار الكنيسة تتجه نحو الزوجين كما نحو قلب العائلة بأكملها، التي بدورها هي أيضًا توجه نظرها إلى يسوع”[65] . إن السر ليس مجرّد “شيء” أو “قوة”، لأن المسيح نفسه في الواقع “يلاقي الأزواج المسيحيين في سر الزواج. فهو يلازمهم، ويمنحهم القوة ليتبعوه، حاملين صليبهم، وينهضوا من كبواتهم، ويتبادلوا الصفح، ويحمل بعضهم أثقال بعض”[66] . إن الزواج المسيحي هو علامة لا تدلّ على كم أحب المسيح كنيسته في العهد الذي ترسّخ على الصليب فحسب، بل تجعل هذا الحب حاضرًا في شركة الزوجين. وهما إذ يتّحدان في جسد واحد يجسّمان زواج ابن الله بالطبيعة البشرية. وبالتالي، “في مباهج حبهم وحياتهم العائلية، يؤتيهم المسيح أن يتذوقوا، منذ الآن، طعم وليمة عرس الحمل”[67] . وعلى الرغم من أن “المقارنة بين الزوجين، الرجل والمرأة من جهة والكنيسة المسيح” من الجهة الأخرى، هي “مقارنة منقوصة”[68] ، إلا أنها تدعونا إلى التضرع للرب كي يسكب محبته في محدودية العلاقات الزوجية.
- إذا تمّ عيش الاتحاد الجنسي بطريقة إنسانية، وتم تقديسه بالسر، يكون بدوره سبيلا لنمو الزوجين في حياة النعمة. إنه اﻟ “سر الزوجيّ”[69] . ويُعبَرعن قيمة اتحاد الجسدين بكلمات الرضى، حيث يقبل الزوجان بعضهما البعض ويهبان أنفسهما كي يتشاركا بالحياة كلّها. وهذه الكلمات تعطي معنى للحياة الجنسية، وتحرّرها من أي التباس. في الواقع، إن حياة الزوجين المشتركة بأسرها، وشبكة العلاقات التي ينسجانها بينهما ومع أبنائهما والعالم، سوف تنطبع بنعمة السر وتتعزّز به، وهو سرّ يتدفق من سر التجسد، والفصح، حيث عبّر الله من خلاله عن حبه للإنسانية وارتباطه بها ارتباطًا وثيقًا. لن يكونا أبدًا وحدهما بقواهما الذاتية لمواجهة التحديات التي قد تعترضهما. فهما مدعوّان للإجابة على هبة الله من خلال التزامهما، وإبداعهما، ومقاومتهما ونضالهما اليومي، لكنهما يستطيعان أن يستدعيا دائمًا الروح القدس الذي قدس اتحادهما، كي تتجلّى النعمة التي نالاها مرة أخرى في كلّ حالة جديدة.
- وفقًا للتقليد الكنسي اللاتيني، خدّام سر الزواج هم الرجل والمرأة عاقدي الزواج[70] ، وهما في إعرابهما المتبادل عن موافقتهما وفي تعبيرهما عنها من خلال هبة الذات الجسدية المتبادلة، ينالان هبة عظيمة. فموافقتهما واتحاد جسديهما هما أداة العمل الإلهي الذي يجعلهما جسدًا واحدًا. وفي المعمودية تكرست قدرتهما على الاتحاد في الزواج كخدام الرب كي يجيبا على دعوة الله. لذا، عندما ينال زوجان غير مسيحيين المعمودية، فإنه ليس من الضروري أن يجدّدا الوعد بالزواج، يكفي ألا يرفضاه، إذ أنه بفعل المعمودية التي ينالانها، يصبح اتحادهما تلقائيًا سريًّا. كما ويقرّ القانون الكنسي بصحة بعض الزيجات التي يتمّ الاحتفال بها دون مشاركة خادم مكرَّس[71] . في الواقع، عمل يسوع المسيح الخلاصي قد اخترق النظام الطبيعي، لدرجة أن “الزواج الصحيح بين المعمّدين هو سرٌ بذات الفعل”[72] . قد تفرض الكنيسة بأن يكون الاحتفال علنيًا، وبحضور شهود، مع شروط أخرى تَغَيّرَت عبر التاريخ، ولكن هذا الأمر لا يُلغي ميزة العروسين المتمثّلة بكونهما خادمي السر، ولا ينقّص من الأهمية المركزية لموافقة الرجل والمرأة، الذي يثبّت في حد ذاته الرباط السرّي. في أي حال، نحن بحاجة إلى مزيد من التعمّق في العمل الإلهي عبر طقوس الزواج، الذي يبرز بشكل قوي في الكنائس الشرقية حيث تكتسبُ مباركةُ الطرفين أهميةً خاصة باعتبارها علامة لهبة الروح القدس.
- “إنجيل العائلة يغذّي أيضًا تلك البذور التي تنتظر أن تنضج، وعليه أن يُعنى كذلك بتلك الأشجار التي جفت والتي لا يجب أن تهمل”[73] ، بحيث أنه، انطلاقًا من هبة المسيح في السِّر، يمكنهما “السير بتأن إلى الأمام، متعمّقين في فهم هذا السرّ وعاملين على إدخاله كليًّا في حياتهما”[74] .
- قد ذكّر آباء السينودس، متبنّين تعاليم الكتاب المقدس الذي يقول بأن كل شيء خُلق بالمسيح وله (را. قول 1، 16)، أن “نظام الفداء يُنير ويتمِّم نظام الخلق. لذا يمكننا فهم الزواج الطبيعي بطريقة كاملة على ضوء تحققه أسراريًّا: حين يكون نظرنا مركَّزًا على المسيح، عندها فقط يمكننا أن نفهم عمق حقيقة العلاقات البشرية. «في الحقيقة فقط في سر الكلمة المتجسِّد يتجلى تمامًا سر الإنسان. […] فالمسيح، آدم الجديد، قد كشف لنا، في سر الآب ومحبته، ملء حقيقة الإنسان وقدسيَّة دعوته» (فرح ورجاء 22). ويبدو مناسبًا أن نفهم، من خلال محورية المسيح، الخصائص الطبيعية للزواج والتي تشكِّل خير الزوجين (bonum conjugum)”[75] ، الذي يتضمن الوحدة، والانفتاح على الحياة، والأمانة وعدم الانحلال، وفي إطار الزواج المسيحي، ويتضمّن أيضًا المساعدة المتبادلة في المسيرة نحو صداقة أكمل مع الرب. “إن تمييز حضور بذور الكلمة (seminaVerbi) في الثقافات الأخرى (را. Adgentes, 11) يمكن أن يطبَّق على واقع الزواج والعائلة. فبالإضافة الى الزواج الطبيعي الحقيقي، هناك عناصر إيجابية موجودة في أشكال الزيجات القائمة لدى تقاليد دينية أخرى”[76] ، رغم وجود بعض الظلال. ونستطيع أن نقول إن “كلّ شخص يريد إنشاء عائلة في عالمِنا هذا، تُعلِّمُ الأبناءَ أن يفرحوا بكلّ لفتةٍ تهدف إلى التغلّب على الشّر -عائلة تبيّن أن الروح حيّ ويعمل– فإنه سوف يحظى بالامتنان والتقدير؛ بغضّ النظر عن الشعب أو الدين أو المنطقة التي ينتمي إليها”[77] .
- “الاهتمام الرعوي للكنيسة تجاه المؤمنين الذين يمارسون المساكنة أو الذين تزوجوا زواجًا مدنيًا أو المطلَّقين والمرتبطين من جديد، ينبع من نظرة المسيح الذي ينير كلّ انسان (را. يو 1، 9؛ فرح ورجاء، 22). فالكنيسة تحنو بعطف على كل المشاركين في حياتها بشكل ناقص: تطلب معهم، انطلاقًا من نهج الله التربوي، نعمةَ التوبة، وتشجعهم على فعل الخير وعلى الاعتناء ببعضهم البعض بمحبة، والبقاء في خدمة الجماعة التي يعيشون ويعملون فيها. […] عندما يصل الاتحاد بين الشريكين الى استقرار فعلي عبر رباط علني، -وعندما يتميَّز هذا الاتحاد بعاطفة عميقة وبمسؤولية تجاه الأولاد وقدرة على مواجهة الصعوبات-، يصبح من المناسب مرافقة الثنائي نحو سر الزواج، إذا كان ذلك ممكنًا”[78] .
- “وأمام الظروف الصعبة والعائلات المجروحة، علينا أن نذكِّر دائمًا بمبدأ عام: «على الرعاة، حبًّا بالحقيقة، أن يعرفوا جيدًا أن عليهم التمييز بشكل عميق بين مختلف الأوضاع» (وظائف العائلة المسيحية، 84). فدرجة المسؤولية ليست نفسها في كل الحالات، نظرًا لإمكانية وجود عوامل تحدُّ من القدرة على القرار. لذا علينا أن نعبِّر بوضوح عن العقيدة، ونتحاشى في الوقت نفسه الأحكام التي لا تأخذ بعين الاعتبار تعقيدات الأوضاع المختلفة. ومن الضروري أن نتنبَّه الى الطريقة التي يعيش ويتألم فيها الأشخاص بسبب أوضاعهم”[79] .
- إن الزواج هو في الدرجة الأولى «شركة عميقة في الحب والحياة الزوجية»[80] ، ويشكل خيرًا للزوجين أنفسهما[81] ، والنشاط الجنسي “موجّه إلى الحب الزوجي بين الرجل والمرأة”[82] . لذا فإن “الزوجين اللذين لم يمنح الله لهما أن ينجبا أبناء يستطيعان مع ذلك أن يعيشا حياة زوجية مليئة بالمعنى، إنسانيًّا ومسيحيًّا”[83] . ورغم ذلك، فإن هذا الاتحاد يهدف إلى الإنجاب “بذات طبيعته”[84] . فالطفل الذي يولد “لا يأتي من الخارج لينضاف إلى حب الزوجين المتبادل؛ إنه ينبعث في الصميم من هذا العطاء المتبادل؛ إذ هو ثمرته وتتمّته”[85] . ولا يأتي كما في نهاية إجراء ما، بل هو موجود منذ بداية حبهما كميزة أساسية لا يمكن إنكارها دون تشويه الحب نفسه. فالحب يرفض منذ البدء أي علة تدفعه إلى الانغلاق على ذاته، وهو ينفتح على خصوبة تجعله يمتد الى ما بعد وجوده. بالتالي، ما من عمل تناسليّ يقوم به الزوجان بوسعه أن ينكر هذا المعنى[86] ، على الرغم من أنه، لأسباب مختلفة، لا يمكنه دائمًا في الواقع إنجاب حياة جديدة.
- يطلب الطفل أن يولد نتيجة حبّ كهذا وليس بأي شكل من الأشكال، نظرًا لأنه “ليس شيئًا من حقّ أحدٍ وإنما هو عطيّة”[87] ، وهو “ثمرة فعل حب والديه الزوجي الخاص”[88] . لأن “الحب الزوجي بين الرجل والمرأة وإعطاء الحياة قد جُعلا أحدهما للآخر، بحسب نظام الخلق (را. تك 1، 27- 28). وهكذا أشرك الخالق الرجل والمرأة في عمل خلقه، جاعلا منهما في الوقت نفسه أدواتٍ لحبِّه، موكلا إليهما مسؤولية مستقبل البشرية من خلال نقل الحياة الإنسانية”[89] .
- لقد أكّد آباء المجمع أنه “ليس من الصعب أن نستنتج انتشار عقلية تعتبر إعطاء الحياة مجرّد متغيّرة من متغيرات مشروع الفرد أو الزوجين”[90] . إن تعليم الكنيسة “يساعد على عيش الشركة بين الزوجين بطريقة متناغمة وواعية، بكل أبعادها، جنبًا إلى جنب مع مسؤولية الإنجاب. ولا بدّ من إعادة فهم رسالة البابا بولس السادس في رسالته العامة الحياة البشرية، التي تؤكد على ضرورة احترام كرامة الانسان في التقييم الأخلاقي لوسائل تنظيم النسل […] اختيار الحضانة والتبني يعبّر عن خصوبة مميّزة للخبرة الزوجية”[91] . وبامتنان خاص، “تدعم الكنيسة العائلات التي تقبل وتربي وتحيط بعطفها الابناء الذين يعانون من إعاقات”[92] .
- وفي هذا السياق، لا بدّ لي من القول إنه، إذا كانت العائلة هي ملاذ الحياة، والمكان الذي تُعطى فيه الحياة وتُصان، فهي تشكّل تناقضًا مفجعًا حين تصبح المكان الذي يتم فيه رفض الحياة وتدميرها. إن قيمة حياة الإنسان هي عظيمة جدًّا، والطفل البريء الذي ينمو في رحم أمه له حقّ مشروع بالحياة، غير قابل للتصرف، ولا يجوز بأيّ حال من الأحوال أن نعتبر إمكانيةَ اتخاذِ قرارات إزاء الحياة كحقّ لنا على جسدنا، فالحياة هي غاية في حد ذاتها ولا يمكن أبدًا أن تكون موضوع سيطرةِ إنسانٍ آخر. العائلة تحمي الحياة في كل مراحلها وحتى منذ بداياتها. لذلك، “تذكِّر الكنيسة العاملين في البنى الصحية بواجبهم الأخلاقي بالاعتراض الضميري. وبنفس الطريقة، فهي لا تؤكِّد على الحق بميتة طبيعية دون التعنت في العلاج أو القتل الرحيم وحسب” إنما ترفض أيضًا “بشدة حكم الإعدام”[93] .
- أراد الآباء التأكيد أيضًا على أن “أحد التحديات الأساسية التي تواجهها العائلات في أيامنا، هو حتمًا موضوع التربية، وقد أصبحت أكثر تحدّيًا وتعقيدًا نتيجة الواقع الثقافي الحالي، وبسبب التأثير الكبير لوسائل الإعلام”[94] . إن “الكنيسة تلعب دورًا هامًا في دعم الأسر، بدءًا من التربية المسيحية، من خلال مجموعات مضيفة”[95] . ومع ذلك يبدو لي من المهم جدًا أن أذكّر أن تربية الأبناء الشاملة هي “واجب خطير جدًّا”، وفي الوقت نفسه “حقّ أساسي” للوالدين[96] . إنها ليست مجرد مهمة أو عبء، ولكن أيضًا حقّ أساسيّ لا غنى عنه، وهم مدعوّون للدفاع عنه ولا ينبغي لأحد أن ينتزعه منهم. توفّر الدولةُ خدمةً تربويةً بطريقة تكميلية، وترافق وظيفة الأهل غير القابلة للتفويض، فالأهل لديهم الحق في حرية اختيار نوع التربية –تربية في متناول اليد وعالية الجودة- التي ينوون توفيرها لأبنائهم وفقًا لقناعاتهم. المدرسة لا تحل محل الوالدين ولكنها مكمّلة لهم. هذا هو المبدأ الأساسي: “أي مساهم آخر في العملية التربوية يجب أن يتصرف باسم الوالدين وبموافقتهما، وإلى حد ما، بتكليف منهما”[97] . ومع ذلك، فقد “فُتحت فجوة بين العائلة والمجتمع، وبين العائلة والمدرسة؛ وهكذا دخل العهد التربويّ بين المجتمع والعائلة في أزمة”[98] .
- إن الكنيسة مدعوّة للتعاون مع الوالدين، عبر عمل رعوي ملائم، كي يتمكنا من القيام برسالتهما التربوية. ويجب أن تفعل ذلك من خلال مساعدتهما على تعزيز دورهما الخاص، وعلى الاقرار بأن الذين ينالون سر الزواج يصبحون خدّامًا حقيقيّين للتربية لأنهم إذ يقومون بتنشئة أبنائهم يبنون الكنيسة[99] ، وبذلك يقبلون الدعوة التي يقترحها الله عليهم[100] .
- “تنظر الكنيسة بفرح وعزاء عميق، إلى العائلات الأمينة لتعاليم الإنجيل، وهي تشجعها وتشكرها على الشهادة التي تقدمها. بِفضلها، في الواقع، تكتسب روعةُ الزواج القائم على عدم الانحلالية والأمانة الدائمة، مصداقيتها. ففي قلب العائلة «التي يمكن أن نسميها الكنيسة البيتيّة» (نور الأمم، 11)، ينضج أول اختبار كنسي للشركة بين الأشخاص، حيث ينعكس بالنعمة الإلهية، سرّ الثالوث الأقدس. «في البيت يتعلّم الولد الصبر وبهجة العمل، والمحبّة الأخويّة، والسخاء في الصفح وإن تكرّر، وخصوصًا العبادة الإلهية بالصلاة وتقدمة الحياة» (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1657)”[101] .
- إن الكنيسة هي عائلة مكوّنة من عائلات، وتغتني باستمرار بحياة كل الكنائس البيتيّة. لذلك، “بفعل سر الزواج، تصبح كل عائلة بوجه كامل خيرًا للكنيسة. ومن هذا المنظار، سيمثل بالتأكيد عطية ثمينة لكنيسة اليوم مراعاة التبادلية بين العائلة والكنيسة: فالكنيسة هي خير للعائلة والعائلة هي خير للكنيسة. إن المحافظة على عطيَّة الرب الأسرارية، لا يتعلق بالعائلة الواحدة وحسب بل يمس الجماعة المسيحية بأسرها”[102] .
- الحب المعاش في العائلة هو قوّة دائمة لحياة الكنيسة. “إن هدف الاتحاد في الزواج هو دعوة دائمة ومتجدِّدة لتعزيز هذا الحب وتعميقه. فمن خلال اتحادهما في المحبة، يختبر الزوجان روعة الأبوة والأمومة؛ ويتشاركان في مشاريعهما وأتعابهما، في رغباتهما وهمومهما؛ إنهما يتعلّمان الاهتمام المتبادل كلٌّ بالآخر، والصفح المتبادل. ويحتفلان عبر هذا الحب باللحظات السعيدة ويتساندان في الصعوبات التي تعترض حياتهما. […] روعة الحب المجاني المتبادل، والابتهاج بولادة حياة جديدة، والاهتمام المُحِبّ بكل الأفراد، الصغار والكبار: تلك هي بعض الثمار التي تجعل من الإجابة على دعوة العائلة فريدة ولا غنى عنها”[103] ، سواء بالنسبة للكنيسة أم للمجتمع بأسره.
- كلّ ما قيل سابقًا لا يكفي للتعبير عن إنجيل الزواج والعائلة إن لم نتوقّف بطريقة خاصّة للتحدث عن الحبّ. لأنّه لا يمكننا أن نشجّع مسيرةً من الأمانة، ومن العطاء المتبادل، إن لم نحفّز نموّ، وتوطيد وتعميق الحبّ الزوجيّ والعائليّ. في الواقع، إنّ نعمة سرّ الزواج تهدف قبل كلّ شيء إلى “رفع الحبّ بين الزوجين إلى درجة الكمال”[104] . حتّى في هذه الحالة يبقى صحيحًا أيضًا أنّه “ولَو كانَت لي مَوهِبةُ النُّبُوءَة وكُنتُ عالِمًا بِجَميعِ الأَسرارِ وبالمَعرِفَةِ كُلِّها، ولَو كانَ لِيَ الإِيمانُ الكامِلُ فأَنقُلَ الجِبال، ولَم تَكُنْ لِيَ المَحبَّة، فما أَنا بِشَيء. ولَو فَرَّقتُ جَميعَ أَموالي لإطعامِ المَساكين، ولَو أَسلَمتُ جَسَدي لِيُحرَق، ولَم تَكُنْ لِيَ المَحبَّة، فما يُجْديني ذلكَ نَفْعًا” (1 قور 13، 2- 3). ولكن كلمة “حبّ”، وهي تُعدُّ من إحدى الكلمات الأكثر استعمالاً، غالبًا ما تبدو مشوَّهة.[105]
- نجدُ في النشيد المُسَمّى نشيد المحبّة الذي كتبه القدّيس بولس بعضَ خصائص المحبّة الحقيقيّة:
” المَحبَّةُ تَصبِر،
المَحبَّةُ تَخدُم،
ولا تَحسُدُ
ولا تَتَباهى
ولا تَنتَفِخُ مِنَ الكِبْرِياء،
ولا تَفعَلُ ما لَيسَ بِشَريف
ولا تَسْعى إِلى مَنفَعَتِها،
ولا تَحنَقُ
ولا تُبالي بِالسُّوء،
ولا تَفرَحُ بِالظُّلْم،
بل تَفرَحُ بِالحَقّ.
وهي تَعذِرُ كُلَّ شيَء
وتُصَدِّقُ كُلَّ شَيء
وتَرْجو كُلَّ شيَء
وتَتَحمَّلُ كُلَّ شيَء” (1 قور 13، 4- 7).
يتم عيش هذه المحبة وتنميتها في الحياةِ التي يتشارك بها الأزواج كلّ يوم مع بعضهم البعض ومع أولادهم. لذا، إنّه لمفيد للغاية التوقّف لتحديد معنى تعابير هذا النصّ، لمحاولة تطبيقها في الوجود الفعلي لكل عائلة.
- التّعبيرُ الأوّلُ المستعمل هو macrothymei. ترجمته ليست مجرّد “تحتمل كُلَّ شيءٍ”، لأن هذه الفكرة يأتي ذكرها في نهاية الآية السابعة. المعنى يتّضح في الترجمة اليونانيّة للعهد القديم، حيث يتم التأكيد أنّ الله بطيء عن الغضب (خر 34، 6؛ عدد 14، 18). يَظهرُ هذا عندما لا ينقادُ الإنسانُ لغرائزه ويتجنّب العدوان. هي ميزة من ميزات إله العهد الذي يدعو إلى التشبّه به في الحياة العائليّة أيضًا. النصوص التي يستعمل فيها بولس هذا التّعبير ينبغي أن تُقرأ على ضوء كتاب الحكمة (را. 11، 23؛ 12، 2. 15- 18): ففي الوقت الذي يُمدح فيه حنوّ الله الذي يصل إلى حدّ إعطاء مجال للتوبة، يتم التشديد على قدرته التي تظهر عندما يتصرف برحمة. صبر الله هو ممارسة للرحمة تجاه الخطأة، وهو يكشفُ قدرته الأصيلة.
- أن نكون صبورين لا يعني أن ندع الآخرين يسيئون إلينا باستمرار، أو أن نحتمل الاعتداءات الجسديّة، أو أن نسمح بأن يعاملوننا كأشياء. المشكلة تنشأُ عندما نزعم بأن العلاقات يجب أن تكون مثاليّة وأن على الأشخاص أن يكونوا كاملين، أو عندما نضع أنفسنا في الوسط وننتظر فقط أن تتحقّق إرادتنا. عندها كلّ شيء يفقدنا صبرنا، وكلّ شيء يقودنا إلى ردود فعلٍ عنيفة. إن لم ننمِّ الصبر، فسوف نجد دومًا الأعذار للإجابة بغضب، ونصبح في النهاية أشخاصًا لا يمكنهم العيش مع الآخرين، غير اجتماعيين، عديمي القدرة على السيطرة على ردود أفعالهم، وتتحوّل العائلة إلى ساحة معركة. لهذا السّبب فإنّ كلمة الله تحثّنا: “أَزيلوا مِن بَينِكم كُلَّ شَراسةٍ وسُخْطٍ وغَضَبٍ وصَخَبٍ وشَتيمة وكُلَّ ما كانَ سُوءًا” (أف 4، 31). ويتقوّى هذا الصبر عندما أدرك أنَّ الآخر لديه الحقّ في العيش على هذه الأرض معي، كما هو. ولا يهمّ إن كان هو مصدر إزعاج بالنّسبة إليّ، أو أنّه يُفسد مخطّطاتي، أو أنّه يضايقني بطريقة حياته أو بأفكاره، أو أنّه ليس كما أتوقّع في كلّ شيء. المحبّة تتضمّن دائمًا حِسًّا عميقًا من التعاطف، يؤدي إلى “قبول” الآخر كجزء من هذا العالم، حتّى عندما يتصرّف بطريقة مختلفة عمّا كنت قد أتمنّاه.
- يتبع ذلك كلمة chrestéuetai، الفريدة في الكتاب المقدّس كلّه، وهي مشتقّة منchrestós(شخص صالح، يُظهر طيبته في أعماله). ولكن نظرًا لموقعها في الجملة، في تواز وثيق مع الفعل السّابق، فإنّها تصبح مضافًا. يريد بولس بهذه الطريقة أن يوضح أنّ “الصبر” الموضوع في الموقع الأوّل ليس موقفًا سلبيًّا كليًّا، إنما مصحوبٌ بنشاط، وبردّة فعلٍ ديناميكيّة وخلاّقة في مواجهة الآخرين. وهي تشيرُ إلى أنّ الحبَّ يصنع الخير للآخرين ويرفع شأنهم. ولهذا تترجم كـ “الرّفق”.
- نرى في مجمل النصّ أن بولس يريد الإصرارَ على واقع أنّ الحب ليس شعورًا وحسب، إنما يجب فهمه بالمعنى العبري لفعل “أحبّ”، الذي يعني: “عمل الخير”. كما قال القديس اغناطيوس دي لويولا، “ينبغي أن يوضع الحبّ في الأفعال أكثر من الأقوال”[106] . بهذه الطريقة يمكن أن يظهر (الحبُّ) بكلّ ما فيه من خصب، ويسمح لنا أن نختبر سعادة العطاء، ونبل وعظمة هبة الذّات دون تحفظ، دون قياس، مجانًا، لمجرد متعة العطاء والخدمة.
- يتم بالتالي رفض ذاك الموقف الذي يخالف المحبّة، الذي يعبّر عنه في المصطلحzelos(الغيرة أو الحسد). ممّا يعني أنّه في الحبّ لا مجال للشعور بالاستياء بسبب الخير المتأتّي للآخر (را. رسل 7، 9؛ 17، 5). الحسد هو الحزن للخير الذي يحصل عليه الآخرون مما يدلّ على أننا لسنا مهتمين بسعادة الآخرين، لأنّنا نركّز بشكل حصري على المصلحة الذّاتيّة. في حين أن الحبّ يُخرجنا من ذواتنا، ويقودنا الحسد إلى التركيز على الـ “أنا”. الحبُّ الحقيقيّ يقدّر نجاحات الآخرين، ولا يعتبرها كأنها تهديد، ويتحرّر من طعم الحسد المرّ. يقبل أنّ يكون لكلّ شخص مواهب مختلفة وطرق متعدّدة في الحياة. ويحرص بالتّالي على اكتشاف طريقه الخاصّ ليكون سعيدًا، تاركًا الآخرين يجدونها هم أيضًا.
- في نهاية المطاف إنها مسألة تتميم ما تتطلّبه الوصيتان الأخيرتان من وصايا الله: “لا تَشتَهِ بَيتَ قَريبِكَ: لا تَشتَهِ امرَأَةَ قَريِبكَ ولا خادِمَه ولا خادِمَتَه ولا ثَورَه ولا حِمارَه ولا شَيئاً مِمَّا لِقَريبِكَ” (خر. 20، 17). يقودنا الحبّ إلى تقديرٍ صادق لكل كائن بشريّ، معترفين بحقّه في السعادة. أنا أحبّ هذا الشّخص، فأنظر إليه بنظرة الله الآب، الَّذي يُغْنِينَا بكُلِّ شَيءٍ “لِنَنْعَمَ بِهِ” (1 طيم 6، 17)، وبالتّالي أقبل في داخلي أنّه بإمكانه أن ينعم بلحظات سعيدة. جذور المحبة نفسها هذه، على أي حال، هي التي تدفعني إلى رفض الظّلم المتأتّي من أنّ البعض يملكون الكثير، والبعض الآخر لا يملكون شيئًا، أو التي تدفعني إلى جعل الذين يرفضهم المجتمع يعيشون قليلا من الفرح. وهذا ليس حسدًا إنما رغبة في الانصاف.
- تتبع العبارةperpereuetaiالتي تعني المجد الباطل، أي هَمّ الاستكبار بهدف لفت نظر الآخرين عبر موقف متحذلق أو بالحريّ عنيف. فمن يحبُّ لا يتجنب فقط التحدث كثيرًا عن نفسه، ولكنه أيضًا، ولأنه يركّز على الآخرين، يعرف أن يضع نفسه في مكانها، دون الادعاء أن يكون مركز الاهتمام. الكلمة التالية –physioutai– هي مشابهة جدًا، لأنها تدلّ على أن الحبّ ليس متعجرفًا. وتعني حرفيًّا أن المحبة لا تتكبّر في وجه الآخرين، وتشير إلى شيء أكثر لطفًا. إنها ليست مجرّد هاجس لإظهار المزايا الشخصيّة، ولكنها تُفقد أيضًا الواقعية. وهي تجعلنا نعتبر أنفسنا أكبر مما نحن عليه، لأننا نعتقد بأنّنا أكثر “روحيين” أو “حكماء”. يستخدم بولس هذا الفعل مرّات أخرى، على سبيل المثال، عندما يتكلّم بأن “الـمَعْرِفَة تَنْفُخ، أَمَّا المَحَبَّةُ فَتَبْنِي” (1 قور 8، 1). هذا يعني أن البعض يعتقدون بأنّهم كبار لأنهم يعرفون أكثر من غيرهم، فيستخدمونهم ويحاولون السيطرة عليهم، في حين أن ما يجعلنا عظماء في الواقع هو الحبّ الذي يتفهم الآخرين، ويعتني بهم ويتقبلهم، ويولي اهتمامًا بالضعيف. يستخدم بولس هذا الفعل في آية أخرى لانتقاد أولئك الذين “ينتفخون مِنَ الكِبْرِيَاء” (1 قور 4، 18)، ولكنهم في الواقع غزيرو الكلام أكثر منه “أقوياء” بالرّوح حقًّا (را. 1 قور 4، 19).
- إنّه لمهمٌّ أن يعيش المسيحيّون هذا الواقع في التعامل مع الأقرباء الذين لم يبلغوا كمال الإيمان، أو سريعي العطب، أو ليسوا أكيدين من قناعاتهم. في بعض الأحيان يحدث العكس، فالذين، في إطار عائلتهم، يفترضون بأنّهم بلغوا نضجًا، يصبحون متعجرفين، لا يطاقون. موقف التواضع يظهر هنا كجزء من الحبّ، لأنّه، كي نتمكّن من فهم الآخرين وعذرهم وخدمتهم من صميم القلب، من الضروريّ شفاء التكبّر وتنمية التواضع. يسوع ذكّر تلاميذه بأنّه في عالم السلطة، كلّ واحد يسعى للسيطرة على الآخر، ولهذا قال لهم: “لا يَكُنْ هذا فيكُم” (متّى 20، 26). إنّ منطق الحبّ المسيحيّ ليس منطق من يشعر بتفوّقه على الآخرين، وهو بحاجة ليشعرهم بسلطته، إنما منطق: “مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الأَوَّلَ بَيْنَكُم، فَلْيَكُنْ لَكُم عَبْدًا” (متّى 20، 27). في الحياة العائليّة، لا يمكن أن يسود منطق هيمنة البعض على الآخرين، أو المنافسة لمعرفة من هو أكثر ذكاء أو جبروتًا، لأن هذا المنطق ينفي الحبّ. تنطبق أيضًا على العائلة هذه النصيحة: “البَسوا جَميعًا ثَوبَ التَّواضُعِ في مُعامَلةِ بَعضِكم لِبَعْض، لأَنَّ اللهَ يُكابِرُ المُتَكبِّرين وُينعِمُ على المُتَواضِعين” (1 بط 5، 5).
- أن نحبّ يعني أيضًا أن نكون ودّيين، وهنا تجد عبارة aschemoneiمعناها. وهي تعني أنَّ الحبَّ لا يعمل بطريقة غير لبقة، ليس قليل التهذيب، وليس قاسيًا في التعامل. سلوكيّاته، كلماته، وأعماله، هي مرضية وليست قاسية أو خشنة. يكره جعل الآخرين يتألمون. اللّطف “هو مدرسة من الإحساس المتجرّد”، الذي يتطلب من الشخص “تنمية عقله وحواسه، وأن يتعلّم كيفيّة الاصغاء، والتحدّث، وأحيانًا الصمت”[107] . أن يكون المرء وديًّا ليس نمطًا يمكن للمسيحي أن يختاره أو أن يرفضه: إنه جزء من متطلّبات الحبّ الأساسية، لذا فإن “كل إنسان مدعوّ ليكون لطيفًا مع المحيطين به”[108] . كلّ يوم، “الدخول فيحياة الآخر، حتى عندما يكون جزءًا من حياتنا، يتطلّب لياقة موقف لا ينتهك خصوصيّة الآخر بل يجدّد الثقة والاحترام. […] عندما تكون المحبّة حميمة وعميقة فهي تتطلّب عندها احترامًا للحريّة وقدرة على انتظار الآخر لكي يفتح قلبه”[109] .
- كي نتحضر للقاء حقيقي مع الآخر، ذلك يتطلّب أن ننظر إليه بـ “نظرة محبّة”. هذا ليس ممكنًا عندما يسود التشاؤم الذي يسلط الضوء على عيوب وأخطاء الآخرين، ربما للتعويض عن العقد الشخصيّة. فالنظرة الودّية تسمح لنا ألّا نتوقّف كثيرًا عند محدوديّة الآخر، وهكذا يمكننا أن نتسامح ونتحد معه في مشروع مشترك، حتّى ولو كنّا مختلفين. الحبُّ الودّي يولد رباطات وينمّي علاقات، ويخلق شبكات اختلاط جديدة، ويبني نسيجًا اجتماعيًّا متينًا. وهو يحمي نفسه بهذه الطريقة، إذ أنه دون الشعور بالانتماء لا يمكن أن يهب الذات من أجل الآخرين، ويقودنا الأمر إلى البحث عما يلائمنا فيصبح التعايش مستحيلا. يعتقد الشخص المعادي للمجتمع أن الآخرين موجودون لتلبية احتياجاته، وأنهم عندما يفعلون ذلك إنّما يقومون بواجبهم. لذلك لا مجال لودّية الحبّ وللغته. من يحبّ هو قادر على قول كلمات التشجيع، التي تقوّي، وتعزّي، وتحفّز. ونحن نرى، على سبيل المثال، بعض الكلمات التي قالها الربّ يسوع إلى الأشخاص: “تشجّع يا بنيّ” (متى 9، 2). “عظيم هو إيمانك!” (متى 15، 28). “انهض!” (مر 5، 41). “إذهب بسلام” (لو 7، 50). “لا تخافوا” (متّى 14، 27). إنها ليست كلمات تذلّ، أو تحزن، أو تغضب، أو تحتقر. علينا أن نتعلم في العائلة، لغةَ يسوع الودودة.
101.لقد قلنا مراتٍ عديدة أنه، كي نحب الآخرين علينا أولاً أن نحب أنفسنا. لكن، نشيد المحبّة هذا، يؤكّد بأن المحبّة “لا تَسْعى إِلى مَنفَعَتِها”، ولا “إلى ما هو لها”. نجد هذه العبارة في نصٍ آخر: “لا ينظُرَنّ أحد إلى ما له، بل إلى ما لغيره” (فل 2، 4). إزاء تأكيد الكتاب المقدّس الواضح هذا، علينا تجنّب إعطاء أولويّة لحب الذات كما لو كان أنبل من هبة الذات للآخرين. كما أن أولوية حبّ الذات يمكن فهمها فقط على أنها حالة نفسية، لأنّ من لا يستطيع أن يحب نفسه يواجه صعوبات في محبّة الآخرين: “مَن أَساءَ إِلى نَفسِه فإِلى مَن يُحسِن؟ […] لا أَسوأَ مِمَن يَحسُدُ نَفْسَه. ذلكً جَزاءُ خُبثِه” (سي 14، 5- 6).
- كذلك يشرح توما الأكويني قائلاً: “المحبّة هي رغبة بأن تُحِب لا بأن تُحَب”[110] ، في الواقع “الأمهات، واللواتي يحببن كثيرًا، يرغبن بأن يُحبِبْن لا بأن يُحبَبنَ”[111] . لذا فالمحبة يمكنها أن تتجاوز العدالة وتفيض مجانًا، “غير راجيةً شيئًا” (لو 6، 35)، حتى تصل إلى الحبّ الأعظم، الذي هو “بذل الذات” في سبيل الآخرين (يو 15، 13). هل لا يزال ممكنًا هذا السخاء الذي يهب مجانًا ويعطي حتى المنتهى؟ بالطبع ممكن، لأن هذا هو ما يطلبه الإنجيل منّا: “مجانًّا أخذتم، مجَّانًا أعطوا” (متى 10، 8).
- إذا كانت العبارة الأولى من النشيد تدعونا إلى الصبر الذي يتجنّب الرّد بحدّة تجاه ضعف الآخرين وأخطائهم، تأتي الآن كلمة أخرى –paroxynetai – التي تشير إلى رد فعل داخلي غاضب بسبب حدث خارجي. يتعلق الأمر بعنف داخلي، وباستياء غير ظاهر، يضعنا في حالة الدفاع أمام الآخرين، كما لو أنهم أعداء مزعجون علينا تجنبهم. إن تغذية عدوان داخلي كهذا هو أمر غير مجدٍ أبدًا. إنه يؤلمنا ويقودنا إلى العزلة. فالاستياء يكون صحيحًا حين يقودنا إلى التصرف إزاء ظلم فادح، ولكنه يكون مضرًا عندما يسيطر على كل تصرفاتنا تجاه الآخرين.
- يدعونا الإنجيل إلى النظر إلى الخشبة التي في عيننا أولاً (متى 7، 5)، وكمسيحيين لا يمكننا تجاهل دعوة كلمة الله المستمرة كي لا نغذِّي الغضب: “لا تدع الشر يغلبك” (رو 12، 21). “ولا نملّ من فعل الخير” (غل 6، 9). أن نشعر بقوة العدوانية التي تتدفق هو شيء، وأن نوافق عليها ونتركها تتحكم بطبعنا بشكل مستمر شيء آخر: “إغضبوا، ولكن لا تخطأوا، لا تغربن الشمس على غيظكم” (أف 4، 26). لذا، لا يجب ابدًا أن ينتهي يوم دون التصالح في العائلة. “كيف يمكنني أن أصالح؟” هل أجثو على ركبتي وأطلب السماح؟ لا! يكفي لفتة صغيرة، أمر بسيط، ويعود التناغم إلى العائلة. تكفي لمسة حنان حتى بدون كلمات. فلا تنهوا أبدًا نهاركم في العائلة بدون أن تتصالحوا”[112] . رد الفعل الداخلي إزاء صعوبة تسبب بها لنا الآخرون، يجب أن يكون أولاً بركة من القلب، ورغبة بخير الآخر، والدعاء إلى الربّ كي يحرره ويشفيه: “بل باركوا، لأنكم إلى هذا دعيتم، لترثوا البركة” (1 بط 3، 9). إذا كان علينا أن نجاهد ضد الشر، فليكن، لكن علينا أن نقول دائمًا “لا” للعنف الداخلي.
- إذا سمحنا لشعور سيء بالدخول إلى أعماقنا، فإننا نعطي مجالا لهذا الغل الذي يتجذَّر في القلب. إن جملة “logizetai to kakon” تعني: “يبالي بالشر”، “يحفظه مُدَوَّنًا” وهذا يعني أنه حقود. العكس هو المسامحة، المسامحة المبنية على سلوك إيجابي يحاول أن يفهم ضعف الآخر، وأن يجد الأعذار للآخر، كما يقول الرب يسوع: “يا أبت إغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ما يفعلون” (لو 23، 34). ولكن غالبًا ما يكون الميل لإيجاد عدد أكبر من الأخطاء، ولتخيّل دائمًا السيئات، ولافتراض جميع أنواع النوايا السيئة، وهكذا تكبر الأحقاد وتتجذر. بهذه الطريقة، أي خطأ أو سقطة من شريك الحياة باستطاعتها أن تضر برباط المحبة والاستقرار العائلي. المشكلة هي أنه نعطي أحيانًا نفس القدر من الأهمية لكل الأمور، مع الخطر بأن نصبح قساة عند أي هفوة من قِبَلِ الآخر. وتتحوّل المطالبة العادلة بالحقوق الشخصية إلى عطش مستمر ومتواصل للانتقام أكثر منه إلى دفاع محق وصحيح عن الكرامة الشخصية.
- عندما نتعرض للإهانة أو لخيبة أمل، يبقى الغفران ممكنًا ومُحبَّذًا، ولا أحد يدّعي بأنه سهل. الحقيقة هي أنه: “لا تستمرّ الشراكة العائلية وتتكامل إلاّ إذا صاحبها عزم وتصميم على التضحية والتفاني. وهذا يتطلّب في الواقع، من الجميع ومن كل منهم، استعدادًا فوريًا وسخيًا، للتفهم، والتسامح، والغفران والمصالحة. وما من عائلة تجهل كيف أن الأنانية العمياء والخلافات والمشاحنات والخصومات تمزّق الشراكة العائلية وتقضي أحياناً عليها: من هنا تنشأ، في حضن العائلة، أسباب خصام كثيرة مختلفة”[113] .
- نحن نعلم اليوم أنه، كي نستطيع المسامحة، ينبغي علينا أن نمرّ عبر اختبار التحرر من أجل فهم ومسامحة أنفسنا. مراتٍ عديدةٍ، أخطاؤنا، أو النظرة النقدية من قِبَلِ الأشخاص الذين نحبهم، تجعلنا نفقد محبتنا لذاتنا. هذا يقودنا بنهاية المطاف إلى الحذر من الآخرين، والهروب من المودّة، والشعور بالخوف في علاقاتنا مع الأشخاص. لذا يصبح اتهام الآخرين مُسكِّنًا زائفًا. ينبغي أن نصلي مع ماضينا، ونقبل ذواتنا، ونعرف كيف نعيش مع محدوديتنا، كما يجب أن نسامح ذواتنا حتى نستطيع أن نقوم بالمثل مع الآخرين.
- هذا يفترض أن نكون قد ذقنا اختبار غفران الله وتبريره لنا مجانًا وليس بفضل مزايانا. لقد أتانا حبٌ يسبق كل عمل نقوم به، حبٌ يعزِّز، ويحفِّز ويعطينا دائمًا فرصةً جديدةً. إذا قبلنا بأن محبّة الله لنا غير مشروطة، وبأن حنان الآب لا يجب لا أن يُشترى ولا أن يُباع، عندها باستطاعتنا أن نحب فوق كل شيء، وأن نسامح الآخرين حتى ولو كانوا غير منصفين معنا. دون ذلك، لن تكون حياتنا العائلية بعد مكانًا للتفاهم والمرافقة والتشجيع، وتصبح مكانًا للتوتر الدائم أو للعقاب المتبادل.
- تشير العبارةchairei epi te adikiaإلى شيءٍ سلبي أُدخِل إلى عمق قلب الشخص. إنه التصرُّف المسموم لمن يبتهج عندما يرى الآخر يتعرض للظلم. والجملة تتوضح مع ما يتبع، حيث يعبّر عنه بطريقةٍ إيجابيةsynchairei te aletheia: يفرح بالحقيقة؛ يعني أنه يبتهج من أجل خير الآخر عندما ترفع كرامته وتقدّر مهاراته وأعماله الحسنة. هذا مستحيل لمن يقارن نفسه بالآخرين، حتى مع شريك الحياة إلى حد الابتهاج سرًّا بإخفاقاته.
- عندما يستطيع الشخص الذي يحب فعل الخير للآخر، أو عندما يرى بأن الأمور تعود بالخير على الآخر، يفرح له، وبهذه الطريقة يُمَجِّد الله لأن: “الله يحب من يعطي بفرح” (2 قور 9، 7)، ربّنا يقدِّر بطريقةٍ خاصة الذي يفرح لسعادة الآخر. إذا لم نغذِّ قدرتنا على الفرح لخير الآخر ونركّز بشكلٍ خاص على احتياجاتنا، نحكم على أنفسنا بالعيش مع القليل من الفرح، كما قال الربّ يسوع: “مَغْبُوطٌ هُوَ الْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ الأَخْذِ” (رسل 20، 35). يجب أن تكون العائلة دائمًا المكان حيث يعرف كل فرد من أفرادها، أنه عندما يقوم بعمل صالح في الحياة، سيتم الاحتفال به سويًّا.
- تكتمل القائمة بأربع عبارات تعبّر عن شمولية ما: “كل شيء”. تَعذُر كل شيء، وتصدّق كل شيء، وترجو كل شيء، وتتحمّل كل شيء. بهذه الطريقة، يتم التشديد بقوة على الديناميكية الخاصة بمضاد-ثقافة الحب، القادرة على مواجهة أي شيء يمكن أن يهددها.
- يتمّ التأكيد قبل كل شيء أنها: “تُعذر كلّ شيء” panta stegei. وهذا يختلف عن “لا تبالي بِالسُّوء”، لأن هذا المصطلح له علاقة باستعمال اللغة؛ وقد يعني “غض النظر والصمت” عن الأمور السلبية التي تكمن في الآخر. ويعني أيضًا الحد من الحكم واحتواء الميل لإطلاق الأحكام القاسية والصلبة. “لا تدينوا فلا تدانوا” (لو 6، 37). على الرغم من أنّه يتعارض مع استخدامنا اليومي للسان، كلمة الله تطلب منّا: “لا يَقولَنَّ بعضُكمُ السُّوءَ على بَعْض، أَيُّها الإِخوة” (يع 4، 11). فعل تشويه صورة الآخر هو وسيلة لتعزيز صورتنا من أجل التخلص من الغيرة والحسد دون الانتباه للضرر الذي نسبّبه. ننسى في معظم الأحيان أن التشهير يمكن أن يكون خطيئة عظيمة، وإهانة قوية إلى الله، عندما تجرح بشدة سمعة الآخرين مسببًا لهم أضرارًا من الصعب إصلاحها. لذا كلمة الله هي قاسية مع اللسان حيث تقول: “بأنه عالم الإثم” الذي “يدنِّس الجسم كلّه ويحرق كلّ حياتنا” (يع 3، 6)، “إنّه بَلِيّة لا تُضبط، ملؤُه سمٌّ قاتِل” (يع 3، 8). إذ “به نلعن الناس المخلوقين على صورة الله” (يع 3، 9)، الحبّ يعتني بصورة الآخرين، بلباقة تؤدي إلى المحافظة حتى على السمعة الجيدة للأعداء. في دفاعنا عن الشريعة الإلهية لا يجب أن ننسى أبدًا فرض المحبّة هذا.
- إنّ الأزواج الذينَ يتحابّون وينتمونَ إلى بعضهم البعض، يتكلّمون بالخير الواحد عن الآخر، ويحاولُ كلٌّ منهم أن يبحث عن الجانب الجيّد في الشريك متخطّيًا نقاط الضّعف فيه أو أخطاءه. وعلى كلِّ حال، يحافظون على الصمت كي لا يشوّهوا صورة الآخر. ولكن هذا ليس تصرفًا خارجيًّا وحسب، إنّما ينبع من سلوكٍ داخليّ. كما أنه ليس من قبل سذاجة الفرد الذي يتظاهر بأنّه لا يرَى الصعوبات ونقاط ضعف الطّرف الآخر، إنّما هذا يدلُّ على اتّساع وجهة نظر مَن يضع هذا الضعف وهذه الأخطاء في إطارها؛ ويتذكر بأنّ تلك العيوب تشكّل جزءًا من هذا الانسان فقط ولا تشكّل كامل كيانه. كما أن حدثًا مزعجًا في العلاقة لا يشكّل مجمل هذه العلاقة. لذلك، من الممكن القبول، بكلّ بساطة، بأنّنا جميعًا مزيج معقّد من النّور والظّلال. فالآخر لا يشكل فقط الطّرف الذي يزعجني. فهو أهمّ من ذلك بكثير. لنفس السبب، إنني لا أتوقّع بأن يكون حبه مثاليًا بغية ان أقدره. إنما هو يحبني على طريقته وبحسب مقدرته، ومحدوديته؛ إنما حقيقة كون حبه ليس كاملا، هذا لا يعني أن حبه كاذب أو غير حقيقي. إنه حقيقي ولكنه محدود، وأرضي. لذا، إذا كنت أتوقع منه الكثير، فسوف يفهّمني بطريقة ما، من اللحظة التي لا يستطيع، ولا يوافَّق فيها، أن يلعب دور الكائن الإلهي، ولا أن يكون قادرًا على تلبية كامل حاجاتي. الحب يتعايش مع النقص، ويعذره، ويعرف كيف يلزم الصمت أمام محدودية الشخص المحبوب.
- Panta pisteuei: “تَرْجو كُلَّ شيَء”. في هذا السياق، لا يجب فهم هذا “الرجاء” بمعناه اللاهوتي، إنما يجب اعتباره بمعناه المعروف بـ”الثقة”. لا يتعلق هذا فقط بعدم الظن بأن الآخر يكذب أو يحتال. ثقة أساسية كهذه تدرك النور الإلهي المضيء المستتر وراء الظلام، أو الجمرة التي ما تزال تشتعل تحت الرماد.
- هذه الثقة بالذات تسمح بعلاقة ملؤها الحرية. ما من حاجة إلى مراقبة الآخر، إلى ملاحقة خطاه بدقة، لتجنب هروبه من بين الأيدي. إن الحب يثق بالآخر، ويتركه حرًّا، ويتخلى عن مراقبة كل شيء، وعن امتلاك الاخر والسيطرة عليه. إن هذه الحرية، التي تفسح مجالا للاستقلالية، وللانفتاح على العالم، وعلى خبرات جديدة، تسمح بإثراء العلاقة وبألّا تصبح علاقة زواج منغلقة بدون أي آفاق اجتماعية. في هذا الشكل، يستطيع الأزواج، لدى لقائهم، أن يعيشوا فرح مشاركة ما قد تلقّوه وتعلّموه خارج الإطار العائلي. في الوقت عينه، هذا يجعل ممكنًا الصدق والشفافية، لأنه حين يعرف أحدهم بأنه يتمتع بثقة الاخرين وأنهم يقدّرون طيبته الداخلية، يظهر حينها كما هو ولا يخفي ما في طيّات نفسه. فعندما يدرك الفرد بأنه موضع شك دائم لدى الآخرين، ويحكمون عليه دون أي تعاطف، وبأنهم لا يحبونه دون شرط، فسوف يفضّل كتم أسراره، وإخفاء أخطائه وضعفه، والتظاهر بعكس ما هو عليه. وعكس ذلك، عندما تسود في العائلة ثقة قوية وودّية، وتعود الثقة فيها دومًا بين الافراد بالرغم من كل شيء، فهذا يسمح بإظهار هوية الأفراد الحقيقية، ويقود إلى رفض عفوي للغش والخداع والكذب.
- Panta elpizei: لا تيأس من المستقبل. يشير هذا التعبير، بِصِلَةٍ مع العبارة السابقة، إلى رجاء الإنسان الذي يعلم بأن الآخر يستطيع أن يتغيّر. فهو على الدوام يرجو وجود إمكانية للنضوج، ولبزوغ جمال مفاجئ، كما يرجو أن تفتح برعمها الطاقة المخفية في عمق حنايا صدره يوما ما. هذا لا يعني أن كل شيء يتغير في هذه الحياة. هذا يعني القبول بأن تحدث بعض الأشياء لا كما نشتهي، وبأن يكتب الله بشكل مستقيم على خطوطنا المعوجة وأن يستخرج بعض الخير من الشرور التي لا نستطيع أن نتخطاها في هذه الأرض.
- هنا يظهر الرجاء بمعناه الكامل، لأنه يتضمّن اليقين بوجود حياة بعد الموت. فهذا الشخص مع كل ضعفه هو مدعو إلى ملء السماء. وهنا، يزول ضعفه وظلماته وأمراضه، وقد تحولت كلّيا بفعل قيامة المسيح. وهنا، يسطع كيانه الأصيل بكل طاقات الخير والجمال فيه. وهذا ما يسمح لنا، في وسط هموم الأرض، بأن نتأمل بهذا الشخص بنظرة تفوق الطبيعة، على ضوء الرجاء، وننتظر ذاك الملء الذي سيناله في الملكوت السماوي، وإن كان لا يمكننا رؤيته حاليًّا.
- Panta hypomenei: يعني أن المحبة تتحمّل جميع المعارضات بروح إيجابية. ويعني أن يبقى المرء صامدًا وسط بيئة معادية. ولا يتوقف الأمر على تحمّل بعض المضايقات، إنما هو أكبر من ذلك: إنها مقاومة ديناميكية وثابتة، بإمكانها تخطّي جميع التحديات. إنه حب بالرغم من كل شيء، وحتى عندما يقودنا السياق بأسره في اتجاه آخر. وهذا يُبرز مقدارًا من البطولة الصامدة، ومن القوة إزاء أي تيارسلبي، ويبيّن خيارًا لصالح الخير لا يمكن لشيء أن يغلبه. يذكرني هذا بكلمات مارتن لوتر كينغ عندما كان يؤكد على خيار الحب الأخوي حتى في وسط الاضطهادات والإهانات: “الشخص الذي يكرهك أكثر، لديه شيء حسن في داخله؛ وحتى الدولة التي تكره كثيرًا لديها شيء حسن في داخلها؛ وحتى الشعب الذي يكره كثيرًا لديه شيء حسن في داخله. وعندما تصل الى حد النظر الى وجه كل انسان وترى بداخله الكثير مما يسميه الدين «صورة الله»، تبدأ آنئذن بحبه بالرغم من كل شيء. لا يهم ما يفعله، فأنت ترى هنا صورة الله. هناك عنصر صلاح لا يمكنك أن تتخلص منه […] . توجد طريقة أخرى تحب بها عدوك: عندما تسنح لك الفرصة بهزيمة عدوك، هذا هو الوقت المناسب كي تقرر عدم هزيمته. […] عندما ترتفع الى مستوى المحبة، الى عظمة جمالها وقدرتها، الأمر الوحيد الذي تحاول أن تهزمه هي الأنظمة الخبيثة. أنت تحب الأشخاص الواقعة ضحية هذه الأنظمة، إنما تحاول هزم هذه الأنظمة […] فمواجهة الكراهية بالكراهية تعمل فقط على تقوية وجود الكراهية والشر في العالم. إذا كنت أعتدي عليك وأنت تعتدي علي، ثم أعيد لك الاعتداء وتعيد لي الاعتداء، وهكذا دواليك، فمن الواضح أن هذا سيستمر إلى ما لا نهاية. وبكل بساطة هذا لن ينتهي أبدًا. على أحدكم، من جهة، أن يتمتع ببعض العقلانية، وهذا الشخص هو القوي. الشخص القوي هو الشخص الذي يستطيع أن يحلّ قيود الكراهية، وسلسلة الشر […] . على أحدكم أن يكون له بعض الإيمان الكافي والأخلاق بغية حل هذه القيود والدفع بعنصر المحبة القوي والقدير في هيكلية العالم نفسها”[114] .
- هناك حاجة في الحياة العائلية لتنمية قوّة المحبّة التي تسمح بمحاربة الشر الذي يهدّدها. فالمحبّة لا تسمح بأن يسيطر عليها الحقد، أو الازدراء بالآخرين، أو الرغبة بجرح الآخرين أو الانتقام منهم. إن النموذج المسيحي، ولا سيما ضمن العائلة، هو أن نحب بالرغم من كل شيء. أني أعجب أحيانًا، على سبيل المثال، بتصرف بعض الأشخاص الذين كانوا مجبرين على ترك شريك حياتهم كي يحفظوا أنفسهم من العنف الجسدي، وبالرغم من ذلك، وبسبب المحبة الزوجية التي تتخطّى الأحاسيس، استطاعوا أن يتصرفوا لخير هذا الزوج، ولو عن طريق آخرين، في حالات المرض مثلا، أو المعاناة أو الصعوبات. هذا أيضًا، بالرغم من كل شيء، هو حب.
- إن نشيد القديس بولس الذي تصفّحناه، يُمَكِّننا من الانتقال إلى المحبة الزوجية. إنه الحب الذي يجمع بين الزوجين[115] ، وقد قدّسته نعمة سرّ الزواج وأغنته وأنارته. إنه “اتحاد عاطفي”[116] ، وروحي، ومضحي، يجمع في طياته حنان الصداقة وشغف الهوى، قادر أن يدوم حين تضعف المشاعر والشغف. قد علّم البابا بيوس الحادي عشر أن هكذا حب يتغلغل في واجبات الحياة الزوجية بأسرها ويتميز بـ “النُبل الأعظم”[117] . بالفعل، إن حبًا قويًا كهذا، مسكوبًا من الروح القدس، هو انعكاس للعهد الأبدي الذي يجمع بين المسيح والبشرية، والذي بلغ ذروته في بذل الذات حتى المنتهى فوق الصليب: “يعطيهم الروح الذي يفيضه الرب قلبًا جديدًا، ويمكّن الرجل والمرأة من أن يحب بعضهما البعض كما أحبّنا المسيح. ويبلغ الحبّ الزواجي هذا الملء الذي وُجِّهَت إليه داخليًا المحبة الزوجية”[118] .
- يعتبر الزواج علامة ثمينة، لأنه “عندما يحتفل رجل وامرأة بسرّ الزواج تنعكس صورة الله فيهما ويطبع فيهما ملامحه وطبيعة حبه الذي لا يزول. فالزواج هو أيقونة محبة الله لنا. إن الله، في الواقع، هو شركة أيضًا، تعيش فيها الأقانيم الثلاثة الآب والابن والروح القدس دائمًا في وحدة كاملة، وهذا هو سرّ الزواج: يصنع الله من الزوجين كيانًا واحدًا”[119] . وهذا يتضمّن نتائج واقعية ويومية، لان الزوجين “وبقوة السرّ ينالان رسالة خاصة وحقيقية حتى يتمكنا، من خلال الأمور البسيطة والعادية، أن يظهرا محبة المسيح للكنيسة وبذل حياته الدائم من أجلها”[120] .
- لكنه ليس من الملائم خلط مستويات مختلفة: لا يجب أن نُحمّل شخصين محدودين هول ثِقَلَ وجوبِ محاكات اتحاد الله بالكنيسة بشكل مثالي، لأن الزواج، كعلامة، يتطلب وجود “خطّة حيوية تتقدّم شيئًا فشيئًا بفضل التكامل التدريجي لهبات الله”[121] .
- الحب الزوجي، بعد الحب الذي يجمعنا بالله، هو “الصداقة الأعظم”[122] . إنه اتحاد يتحلّى بجميع ميزات الصداقة الجيدة: السعي لخير الآخر، الألفة، الخصوصية، الحنان، الاستقرار، والتشابه بين الأصدقاء الذي ينمو بفعل الحياة المشتركة. لكن الزواج يضيف إلى هذا كله حصريّة غير قابلة للانحلال، تظهر في المشروع المستقر القائم على مشاركة وبناء الوجود كله معًا. لِنَكُن صادقين ولنرَ علامات الواقع: مَن يحب فعلا لا يمكنه أن يخطط لعلاقة مؤقتة. ومَن يعيش بعمق سعادة الاستعداد للزواج، لا يستطيع أن يفكّر بأمر عابر، والذين يشاركون في احتفال زواج مملوء بالحب، وإن كان هشًّا، يرجون بأن يدوم على مر الزمن. فالأولاد لا يريدون بأن يحب والداهم بعضهما بعضًا وحسب، إنما أن يكونا أيضًا مخلصين ودومًا ومتحدين. وتُظهِر هذه العلامات، مع غيرها من الدلائل، أن طبيعة الحب الزوجي ذاتها تضمّ الانفتاح على ما هو نهائي. إن الاتحاد الذي يتبلور في الوعود الزوجية للأبد، هو أكثر من شكليات اجتماعية أو عادات، لأنه مترسخ في ميول الانسان العفوية. وبالنسبة للمؤمنين، إنه عهد أمام الله يتطلب الإخلاص: “الرَّبّ كانَ شاهِداً بَينَكَ وبَينَ امرَأَةِ صِباكَ التي غَدَرتَ بها، وهي قَرينَتُكَ وامرَأَةُ عَهدِكَ. […] لا تَغدُرْ بِامرَأَةِ صِباك. لِأَنَّني أمقت الطلاق” (ملا 2، 14. 15. 16).
- إن الحب المريض والضعيف، غير القادر على تقبّل الزواج كتحدٍّ يتطلّب النضال، والولادة مجدّدًا، والإبداع، والبدء من جديد يوميًّا وحتى النهاية، لا يستطيع أن يتحمّل التزامًا عاليًا؛ إنه يستسلم لثقافة المؤقت التي لا تسمح بمسيرةِ نموٍّ ثابتة. ولكن، “يكون التعهد بمحبّة تستمر للأبد ممكنًا عند اكتشاف تدبير أكبر من مخططاتنا، يعيننا ويسمح لنا بوهب مستقبلنا بأسره للشخص المحبوب”[123] . وحتى يتمكّن هذا الحبّ من تخطّي جميع التجارب والبقاء وفيًّا بالرغم من كل شيء، إنه بحاجة إلى هبة النعمة التي تقويه وترفعه. وكما كان يقول القديس روبيرتو بيلارمينو Roberto Bellarmino”إن واقع اتحاد المرأة والرجل برباط حصري وأبدي، بحيث أنه لا يمكنهما الانفصال، مهما كانت الصعوبات، وحتى عندما يفقدان الأمل بالإنجاب، لا يمكن أن يتحقق دون سر عظيم”[124] .
- إن الزواج، بالإضافة الى ذلك، يعتبر صداقة تتضمّن السمات الخاصة بالشغف وهي موجهة نحو اتحاد يزداد استقرارًا وشدّة مع الزمن. لأن “الزواج لم يُؤسّس لإنجاب البنين فقط”، إنما كي يكون الحب المتبادل “مُعبَّرًا عنه بالاستقامة فيتقدم ويزدهر”[125] . تكتسب هذه الصداقة الفريدة بين الرجل والمرأة ميزة شاملة تُمنح فقط من خلال الاتحاد الزوجي. ولأن هذا الاتحاد بالتحديد هو شامل، فهو حصري وأبدي، ومنفتح على إنجاب البنين. يتمّ تقاسم كلّ شيء، بما في ذلك الجنس، في احترام متبادل على الدوام. كما أكد المجمع الفاتيكاني الثاني أن “حباً كهذا، يجمع بين البشريات والإلهيات، يقود المتزوجين إلى هبة الذات المتبادلة، هبة حرة، تظهر بعواطفَ وحركاتٍ رقيقة، فترتوي منها حياتهم كلها”[126] .
- من الجيد أن نعتني بفرح الحب في الزواج. فعندما يكون السعي وراء المتعة هاجسيًّا استحواذيًا، فإنه يأسر العلاقة في غاية واحدة ولا يسمح بإيجاد أنواع أخرى من الاكتفاء. أما الفرح، على العكس، فهو يوسّع قدرة الاستمتاع ويسمح بتذوق أمور مختلفة، حتى في مراحل الحياة حيث تخمد المتعة. لهذا السبب كان القديس توما يقول بأن كلمة “سعادة” تُستخدم للإشارة عن توسع سعة القلب[127] . السعادة الزوجية التي يمكن عيشها حتى وسط الألم، تعني أن نقبل بأن يكون الزواج مزيجًا ضروريًا من الأفراح والأتعاب، من التوتر والراحة، من المعاناة والتحرر، من الإرضاء والبحث، من الانزعاج والمسرّات، دومًا في مسيرة الصداقة التي تدفع بالزوجين إلى رعاية أحدهما الآخر: “بتقديم المساعدة والخدمة المتبادلة”[128] .
- “حب الصداقة” يُدعى “محبّة” عندما نفهم ونقدِّر “القيمة العليا” التي لدى الآخر[129] . إن الجمال -“القيمة العليا” التي لدى الآخر والتي لا تتطابق مع الجاذبية الجسدية والنفسية- يسمح لنا بتذوق قدسية الشخص دون الحاجة لامتلاكه قَسريًّا. في المجتمع الاستهلاكي يتضاءل الحس الجمالي، ومعه تغرب السعادة؛ كل شيء موجود كي يتم شراؤه، وامتلاكه واستهلاكه، بما في ذلك الاشخاص. أما الحنان، على العكس، فهو تعبير عن ذاك الحب الذي تحرّر من الرغبة بالامتلاك الأناني. إن هذا الحنان يجعلنا نرتعد أمام شخص ما باحترام كبير وبخوف من أن نسيء إليه أو من أن نسلب منه حريته. حب الآخر يعني أن نتذوق التأمل في ما هو جميل ومقدس في شخصه وأن نقدّره، والذي هو موجود خارج حاجاتي الشخصية. هذا ما يسمح لي بالسعي لخير هذا الشخص وحتى عند معرفتي أنه لن يكون ملكي وأنه أصبح شخصًا غير مرغوب به جسديًّا، وشخصًا عدوانيًا ومزعجًا. لهذا السبب، “إننا عندما نحب شخصًا نهبه مجانًا شيئا ما”[130] .
- تظهر الخبرة الجمالية للحب عبر تلك النظرة التي تنظر إلى الطرف الآخر كغاية بحد ذاتها، حتى لو كان مرضًا، أو متقدمًا بالسن أو حين يخلو من أي مقومات الجاذبية المحسوسة. فالنظرة التي تعرف أن تقدر مهمّة للغاية، ورفضها يولّد عادة أضرارًا. فكم من الأمور لا يقوم بها أحيانًا الأزواج والأولاد كي يلفتوا النظر يفوزوا بالاعتبار! الكثير من الجراح والأزمات تظهر عندما نتوقف عن تأمل بعضنا البعض. هذا ما يعبّر عنه بالتشكي والمطالبات التي نسمعها داخل العائلة: “إن زوجي لم يعد ينظر إليَّ، وكأنني غير موجودة بالنسبة إليه”. “أرجوك، أنظر إلي عندما أوجه الحديث إليك”. “إن زوجتي لم تعد تهتم بي، إنها تهتم فقط بالأولاد”. “في المنزل، لا يهمّهم أمري، كما لو كنت غير موجود”. إن الحب يفتح العينين ويسمح بأن ندرك، فوق كل شيء، كم هي كبيرة قيمة الانسان.
- إن فرح حب تأملي كهذا يجب أن تنمى. طالما أنه قد خُلقنا كي نحب، نحن نعلم أنه لا يوجد فرح أكبر من أن نتشارك بخير ما: “أَعْطِ وخُذْ ومَتعْ نَفْسَكَ” (سر 14، 16). إن الأفراح الأكثر قوّة في الحياة تولد حين نتمكن من تقديم السعادة للآخرين، استباقًا للسماء. أَذكُرُ هنا مشهدًا جميلا من فيلم عيد بابيت، عندما تتلقّى الطاهية السخيّة عناقًا ملؤه الامتنان والمديح والثناء: “إن لذة طعامك ستُفرِح الملائكة!”. الفرح الناتج عن منح البهجة للآخرين وعن رؤيتهم يستمتعون هو عذب ومصدر عزاء. هذا الفرح، وهو نتيجة الحب الأخوي، ليس فرح غرور الشخص الذي ينظر إلى ذاته، إنما فرح من يحب ويستمتع بخير الشخص المحبوب، فرح يَصبُّ في الآخر ويصبح خصبًا فيه.
- من ناحية أخرى، إن الفرح يتجدّد في الألم. وكما كان يقول القديس أوغسطينوس “كلما زاد الخطر في المعركة، كلما اشتدّ الفرح بالانتصار”[131] . فالزوجان، بعد أن عانا وجاهدا معًا، يمكن لهما أن يختبرا إن كان الأمر يستحق العناء، لأنهما حصلا على شيء جيد، ولأنهما تعلّما شيئا معًا، أو لأنه يمكنهما أن يُقدّرا بشكل أفضل ما يملكان. القليل من الأفراح البشريّة هي عميقة ومبهجة بقدر ما يحقق شخصان يتحابان شيئًا ما معًا قد كلّفهما مجهودًا مشتركًا كبيرًا.
- أودّ أن أقول للشباب أن لا شيء من هذا يتعرض للخطر حين يسلك الحب طريق المؤسسة الزوجية. فالاتحاد يَجدُ في مؤسسة الزواج السبيلَ لثباته، ونموّه الحقيقي والملموس. إنه لصحيح أن الحب هو أكثر بكثير من الرضى الخارجي أو من شكل من أشكال عقود الزواج، لكنه من المؤكد أيضًا أن قرار إعطاء الزواج شكلًا مرئيًّا في المجتمع مع التزامات محدّدة، يبيّن أهمية الزواج: إنه يدلّ على جدّية وِحدَة الهويّة مع الآخر، ويشير إلى تَخَطّي فرديّة سن المراهقة، ويعبّر عن القرار الحازم بالانتماء إلى الآخر. الزواج هو طريقة للتعبير عن تَركِ الحضن الوالدي فعليًّا لنسج رباطات قويّة أخرى، ولِتَحَمُّل مسؤولية جديدة إزاء شخص آخر. إن هذا يعني أكثر بكثير من مجرّد مؤسسة عفويّة تهدف إلى الإرضاء المتبادل، الأمر الذي قد يكون تخصيصًا للزواج. الزواج، بصفته مؤسسة اجتماعية، هو حماية وأساس للالتزام المتبادل، وإنضاج الحب كي ينمو الخيار تجاه الآخر في الواقع وبعمق، وكي يتمكن، في الوقت عينه، من تحقيق رسالته في المجتمع. لذا، فالزواج يتخطّى أيّة موضة عابرة ويدوم. إن جوهر الزواج يتجذّر في طبيعة الشخص البشري نفسها وفي طابعه الاجتماعي. وهو يتضمّن سلسلة من الواجبات التي تنشأ من الحب نفسه؛ من حبٍّ حازم وسخيّ لدرجة أنه قادر على المجازفة بالمستقبل.
- اختيار الزواج في هذه الطريقة يعبّر عن القرار الحقيقي والفعلي بجمع طريقين في طريق واحدة، مهما حصل وبالرغم من جميع التحديات. وبسبب جدّية هذا الالتزام العلني بالحب، لا يجب أن يكون القرار متسرّعًا، ولنفس السبب أيضًا، لا يمكن تأجيله إلى أجل غير مسمى. إن الالتزام مع شخص آخر بشكل حصري ونهائي ينطوي دائمًا على جزء من المجازفة والرهان الجريء. إن رفض تحمّل مسؤولية هذا النوع من الالتزام هو تصرف أناني، ومغرض ودنيء. هو فشل في الاعتراف بحقوق الآخر، وعدم القدرة على أن يقدّمه الى المجتمع كشخص يستحق أن يكون محبوبًا دون قيدٍ أو شرط. من جهة أخرى، إن الأشخاص العاشقين حقًّا، يميلون إلى إظهار حبهم للآخرين. لذا فالحب الذي يتجسد في عقد زواج أمام الآخرين، مع كل الالتزامات الناتجة عن العمل المؤسسي، هو تعبير وحماية للـ “نَعَم” التي تُعلن دون أيّ تحفّظ ودون قيود. هذه “النعم” تعني التأكيد للشخص الآخر أنه يستطيع الوثوق دومًا به، وأنه لن يتخلّى عنه حتى إذا فقد جاذبيته، أو إذا واجه المصاعب أو إذا سنحت له فرص أخرى من الاستمتاع أو بعض المصالح الأنانية.
- “حب الصداقة” يوحّد جميع جوانب الحياة الزوجية ويساعد جميع أفراد العائلة على المضيّ قدمًا في جميع مراحله. لذا ينبغي تنمية كلّ المبادرات التي تعبّر عن هكذا حبّ باستمرار، دون خِسَّة، وبسخاء. ضمن العائلة، “من الضروري استخدام ثلاثة كلمات. أودّ أن أكرّرها: من فضلك، شكرًا وعذرًا. إنها ثلاث كلمات رئيسية!”[132] . “عندما لا يكون أفراد الأسرة متطفلين، ويطلبون الإذن أوّلا، وعندما لا يكونون أنانيين، ويتعلمون أن يشكروا، وعندما يدرك أحدهم بأنه قد قام بعمل سيّئ، ويعرف كيف يقدّم اعتذاره؛ في هذه العائلة، يسود الفرح والسلام”[133] . علينا الّا نبخل باستخدام هذه العبارات، بل لنكن اسخياء بمعاودة تردادها يومًا بعد يوم، لأن “الصمت قد يكون ثقيلًا أحيانًا، حتى ضمن العائلة، بين الزوج والزوجة، بين الوالد وأولاده، بين الأخوة”[134] . في حين أن العبارات الملائمة والتي تُقال في الوقت المناسب، تحمي العائلة وتُغذّي الحب يومًا بعد يوم.
- كل هذا يتحقّق عبر مسيرة من النمو المتواصل. هذا الشكل الاستثنائي من الحب الذي يكمن في الزواج، مدعو الى نضوج متواصل، لأنه بحاجة لأن نطبّق عليه ما قاله القديس توما الأكويني عن المحبة: “إن المحبة، وبسبب طبيعتها، لا تملك حدودًا في النمو، كونها مشارَكَة في المحبّة اللامتناهية، التي هي الروح القدس. […] ولا يمكن حتى للفرد أن يضع لها حدًّا، لأنه مع نمو المحبة، تنمو أيضًا وعلى الدوام القدرة على نمو عتيد”[135] . وقد حثّ القديس بولس الرسول بقوة: “عَسى أَن يَزيدَ الرَّبُّ ويُنمِيَ مَحَبَّةَ بَعضِكم لِبَعْضٍ ولِجَميعِ النَّاسِ” (1 تس 3، 12)؛ ويضيف: “أَمَّا المَحبَّةُ الأَخوِيَّة […] فنَسأَلُكم، أَيُّها الإِخوَة، أَن تَزْدادوا فيها” (1 تس 4، 9- 10). أكثر فأكثر. أما الحبّ الزوجيّ فلا يتقوّى أوّلا بالكلام عن عدم انحلال الرباط الزوجيّ كواجب، أو بتكرار عقيدة ما، إنّما بتقويته بفضل نموّه المستمر في ظل النعمة الإلهية. فالحب الذي لا ينمو يتعرّض للمخاطر، ويمكننا النمو فقط بتوافقنا مع النعمة الإلهية عبر المزيد من أعمال المحبة، ومن أعمال الحنان، مع المزيد من التكرار والقوة والسخاء، والعاطفة، والفرح. يختبر الزوج والزوجة “معنى وحدتهما ويحققونها دومًا بشكل أكمل”[136] . إن هبة الحب الإلهي، الذي يفيض على الأزواج هو في الوقت عينه دعوة إلى تنمية عطية النعمة هذه بشكل مستمر.
- إن بعض الأوهام حول حب مثالي وكامل لا يجدي نفعًا، ويحرم هذا الحب من أي حافز على النمو. والفكرة السماوية عن الحب الدنيوي تنسى بأن الأفضل هو ما لم نتوصل إليه بعد، وبأن النبيذ ينضج مع الوقت. وكما ذَكّر به أساقفة التشيلي: “إن العائلات المثالية التي تروّجها الإعلانات الاستهلاكية المضللة ليست موجودة. فداخل هذه العائلات السنوات لا تمضي، والأمراض لا وجود لها، ولا للألم ولا للموت. […] . فالدعايات الاستهلاكية تعرض وهمًا لا صلة له بالواقع الذي يواجهونه الآباء والأمهات يومًا بعد يوم”[137] . إنه من العاقل قبول المحدودية والتحديات والنقص بكل واقعية، والإصغاء للدعوة إلى النمو باتحاد، وإلى إنضاج الحب وتنمية صلابة الوحدة، مهما حصل.
- الحوار هو أسلوب مميز وضروري للعيش، وللتعبير عن الحب وإنضاجه في الحياة الزوجية والعائلية. إنما هذا يتطلّب تدريبًا طويلًا وشاقًا. يملك الرجال والنساء، الكبار والصغار، وسائل مختلفة للتواصل، ويستخدمون لغات مختلفة، ويتصرّفون بطرق مختلفة. طريقة طرح الأسئلة، وطريقة الإجابة عنها، ونبرة الصوت المستخدمة، والوقت وغيرها من العوامل، بإمكانها التأثير على عملية التواصل. بالإضافة الى ذلك، من الضروري دومًا ابتكار بعض التصرفات التي تعبّر عن الحب وتجعل الحوار الحقيقي ممكنًا.
- أن نعطي الوقتَ بعضنا لبعض، ووقتًا نوعيًّا، يعتمد على الاصغاء بصبر وبانتباه لحين أن يكون الشخص الآخر قد عبّر عن كلّ ما كان بحاجة أن يعبّر عنه. وهذا يتطلّب زهدًا بعدم البدء في الكلام قبل الوقت المناسب. وبدلًا من البدء في تقديم الآراء والنصائح، علينا التأكّد من أننا قد سمعنا كلّ ما كان الشخص الآخر بحاجة إلى قوله. وهذا يعني أن نصمت في داخلنا كي نصغي دون أي ضجيج في القلب أو في العقل: نتخلّى عن أي تسرع، ونضعُ جانبًا جميع الاحتياجات الخاصة والمُلحّة، ونفسحُ المجال. غالبًا ما لا يكون أحد الزوجين بحاجة إلى حلّ لمشاكله إنما إلى الإصغاء إليه. يريد أن يشعر بأنه قد تمّ الاصغاء إلى معاناته، إلى خيبة أمله، إلى خوفه، إلى سخطه، إلى رجائه، إلى حلمه. غالبًا ما نسمع هذا التذمر: “إنه لا يصغي إليَّ. وحين يبدو وكأنه يسمع، فهو في الواقع يفكّر في أمرٍ آخر”. “أتكلّم معه، وأشعر بأنه ينتظر أن أنهي كلامي بسرعة”. “عندما أتكلم معها، تسعى لتغيير الموضوع أو تعطيني أجوبة سريعة لإغلاق الموضوع.”
- أن ننمّي عادة منح أهمية حقيقية للآخر. يتعلق الأمر بإعطاء قيمة لشخصه، والاعتراف بأن له حقا في الوجود، وفي التفكير بشكل مستقل، وأن يكون سعيدًا. لا يجب أبدًا الاستخفاف بما يقوله أو يطالب به، بالرغم من أهمية التعبير عن وجهة نظرنا الشخصية. هنا تكمن القناعة بأن لدى الجميع مساهمة يقدّمونها، لأن لديهم خبرة مختلفة في الحياة، ولأنهم ينظرون الى الأمور من وجهة نظر أخرى، ولديهم مخاوف وقدرات ورؤى مختلفة. من الممكن معرفة حقيقة الشخص الآخر، وأهمية مخاوفه العميقة، وخلفية ما يقول، بما فيها ما هو وراء كلماته العدوانية. لهذه الأسباب، يجب أن نضع أنفسنا مكانه، ونحاول كشف أعماق قلبه، ونتبيّن ما الذي يحرك عواطفه، ونتّخذ هذه العاطفة كنقطة انطلاق في حوار أعمق.
- يسمح التحلي بعقل منفتح من أجل عدم الانطواء على النفس في هَوَس أفكار محدودة؛ ومُرونةٌ تسمح بتغيير الآراء الشخصية أو بتكملتها. وقد تنتج من تفكيري ومن تفكير الآخر خلاصة جديدة تُغني كِلينا. فالوحدة التي يجب أن نطمح إليها ليست وحدة التطابق، بل هي “وحدة في التنوع” أو “تنوّع متناسق”. بفضل هذا النمط المُغني من المشاركة الأخوية، يجتمع من هم مختلفون، ويحترمون بعضهم البعض، ويقدّرون بعضهم البعض، مع الحفاظ على الفروق والنبرات الشخصية المختلفة التي تُغني الخير المشترك. هناك حاجة للتحرر من فكرة وجوب أن نكون جميعًا متطابقين. يتطلب هذا أيضًا بعض الفطنة كي نتنبّه، في الوقت المناسب، “للتدخلات” التي قد تظهر، بطريقة لا تسمح لها بتدمير عمليّة الحوار. على سبيل المثال: إدراك المشاعر السيئة التي قد تنشأ ووضعها في حجمها كي لا تؤثر على التواصل. ومن المهم المقدرة على التعبير عن شعورنا دون أن نجرح الآخر؛ أن نستخدم لغة وطريقة في التكلم من الممكن قبولها والسماح بها بسهولة من قِبَلِ الآخر، بالرغم من متطلبات محتواها؛ أن نعرض الانتقادات الشخصية دون إظهار الغضب كشكل من أشكال الانتقام، وأن نتجنّب لغة الوعظ التي تبحث عن التهجّم على الآخر، والسخرية منه، ولومه وجرحه. إن الكثير من المناقشات بين الأزواج ليست مسائل خطيرة للغاية، بل غالبًا ما تكون أمورًا صغيرة، وقليلة الأهمية، إنما ما يفسد النفس هي طريقة الكلام أو الموقف الذي نتخذه أثناء الحوار.
- أن نقوم بلفتات اهتمام بالآخر وأن نظهر عاطفتنا. فالحب يتخطى أسوأ الحواجز. عندما نحب شخصًا أو عندما نشعر بأننا محبوبون من قِبَلِه، باستطاعتنا حينها أن نفهم بشكل أفضل ما يريد أن يعبّر عنه أو ما يريد أن يُفهمنا إياه. يمكننا أيضًا تخطي الضعف الذي يقودنا الى الخوف من الآخر، كما لو كان “مُنافسًا لنا”. ومن المهم جدًّا أن نبني ثقتنا وقناعاتنا وقيمنا على أسس خيارات عميقة، وليس على أساس فوزنا بمناقشة ما، أو لأننا كنّا على حق.
- أخيرًا، إننا ندرك أنه من أجل أن يكون الحوار مثمرًا، من الضروري أن يكون لدينا ما نقوله، وهذا يتطلّب غِنى داخليًّا نغذّيه عبر القراءة، والتأمل الشخصي، والصلاة والانفتاح على المجتمع. على خلاف ذلك، تصبح المناقشات مُضجرة وبلا مغزى. عندما لا يعتني كل من الزوجين بروحه الخاص وليس لديه علاقات متنوعة مع آخرين، تصبح عندئذ الحياة العائلية منغلقة ويفتقر الحوار.
- لقد علّم المجمع الفاتيكاني الثاني أن هذا الحب الزوجي “يتناول خير الإنسان بكامله. ولذلك كان بإمكانه أن يضفي كرامة خاصة على تعابير الجسد والحياة النفسية، فيجعلها ذا قيمة، لأنها العناصر والعلامات الخاصة بالصداقة الزوجية”[138] . إن الحب بدون متعة أو شغف ليس كافٍ ليرمز الى اتحاد قلب الانسان مع الله، ولا بد من وجود أسباب لهذا الأمر: “لقد أكّد كلّ الصوفيين أن الحب الخارق الطبيعة والحب السماوي يجدان الرموز التي يبحثان عنها، في الحب الزوجي، أكثر منه في الصداقة، أو في الشعور البنوي، أو في التفاني لقضية ما. والسبب في الواقع، يكمن في شموليته”[139] . لِمَ لا نتوقف إذًا للتحدث عن المشاعر وعن الحياة الجنسية ضمن الزواج؟
- إن الرغبات، والمشاعر والعواطف –والتي يسميها الكلاسيكيون بـ “الشغف”- تحتلّ مكانة هامة في الزواج. وهي تولَدُ عندما يكون “الشخص الآخر” حاضرًا ويتجلى في حياتنا. من طبيعة كلّ كائن بشريّ أن يسعى إلى حقيقة أخرى، وهذا الميل يُظهرُ دومًا علامات عاطفيّة أساسيّة: المتعة أو الألم، الفرح أو الحزن، الحنان أو الخوف. وهذا ما يكوّن فرضيّة النشاط النفسي الأساسي. الإنسان هو كائن حيّ من هذه الأرض وكلّ ما يقوم به ويبحث عنه مُحَمَّل بعاطفة وشغف.
- إن يسوع المسيح، كإنسان حقّ، كان يعيش الأمور مشحونًا بطاقة انفعالية. لذا فقد شعر بالألم أمام رفض أورشليم له (را. متّى 23، 37). وهذا الموقف جعله يذرف الدموع (را. لو 19، 41). وكان يشعر كذلك بالتعاطف إزاء معاناة الناس (را. مر 6، 34). كان يتأثر ويضطرب حين يراهم يبكون (را. يو 11، 33)، وهو نفسه بكى صديقًا له عند موته (را. يو 11، 35). وقد بيّنت علامات حساسيّته هذه إلى أي مدى كان قلبه الإنساني منفتحًا على الآخرين.
- إن الشعور بالعاطفة لا يُعتبر أمرًا جيّدًا أو سيّئا بحدّ ذاته من الناحية الأخلاقية[140] . فأن يشعر المرء بالرغبة أو بالرفض لا يُعتَبَر آثمًا ولا حتى يستحقّ اللوم. إنما ما يُعتبر جيّدًا أو سيّئًا هو ما يقوم به الشخص مدفوعًا أو مصحوبًا بمشاعره. إذا غذّينا هذه المشاعر، أو بحثنا عنها، وقمنا بسببها بأعمال سيئة، فالشر يكمن في فعل تغذيتها وفي الأعمال السيّئة الناتجة عنها. وعلى نفس المستوى، أن نحب شخصًا ما ليس بحدّ ذاته أمرًا جيّدًا؛ فإذا جعلت الآخر، بسبب هذا الشعور، عبدًا لي، فالحب يصبح هنا في خدمة أنانيتي. والاعتقاد بأننا أشخاص صالحون فقط لأننا “نشعر بعواطف ما” إنما هو خدعة هائلة. هناك أشخاص يشعرون بأنهم قادرون على أن يحبوا بشكل عظيم فقط بسبب حاجتهم الكبيرة للحصول على عاطفة، ولكنهم غير قادرين على النضال من أجل إسعاد الآخرين، ويعيشون منطويين على رغباتهم الخاصة. في هذه الحالة، لا صلة لهذه المشاعر بالقيم الكبيرة إنما هي تضمر أنانية تجعل العمل على حياة عائلية صالحة وسعيدة أمرًا مستحيلا.
- من ناحية أخرى، إذا رافق الشغفُ الفعلَ الحر، فهذا يعبّر عن عمق هذا الخيار. الحب الزوجي يدفعنا لجعل الحياة العاطفية بأسرها تصبح خيرًا للعائلة وتكون في خدمة الحياة المشتركة. تتوصل العائلة إلى النضوج حين تتحول حياة كافة أعضائها العاطفية الى حساسيّة، لا تسيطر على الخيارات الكبرى والقيم ولا تُظلِمُها[141] ، إنما تعزّز حرّيتها، وتنتج عنها، وتغنيها، وتجملها، وتجعلها أكثر انسجامًا، لما فيه خير الجميع.
- هذا يتطلّب مسيرة تربوية، مسيرة تحتوي على تضحيات. هذه قناعة الكنيسة وقد رُفِضَت مرارًا كما لو كانت الكنيسة عدوة للسعادة البشرية. لقد تلقَّى البابا بِنِدِكْتُسْ السادس عشر، هذا السؤال بكل وضوح: “ألا تعمل الكنيسةُ، بكُلّ وصاياها وممنوعاتها لتحويل الشيءِ الأثمن في الحياةِ إلى مرارةِ؟ ألا ترفع صافرةَ الإنذار فيما يتعلق بتلك البهجة التي نلناها هديةً من الخالقِ والتي تمنحنا سعادةً تجعلنا نتذوق منذ الآن شيئاً إلهياً؟”[142] . ولكنه أجاب بأنه رغم وجود مبالغات أو زهد منحرف في الدين المسيحي، فإن التعليم الرسمي للكنيسة، الأمين للكتب المقدّسة، لم يرفض “الـ erosفي حد ذاته؛ بل بالأحرى، قد أعلنَ الحرب على الجانب المشوّه والتدميريّ منه، لأن هذا التأليه المُزيَّف للـ erosيُعرّيه في الحقيقة من كرامتِه ويلغي منهُ معناه الإنساني”[143] .
- إن تهذيب العاطفة والغريزة هو ضروريّ، ولتحقيق هذه الغاية يتوجب في بعض الأحيان وضع بعض الحدود. الإفراط، وعدم وجود الرقابة، وهاجس الاستحواذ تجاه نوع واحد من المتعة، كل هذا يؤدي الى إهلاك هذه المتعة[144] ، وإلى إلحاق الضرر بالحياة العائلية. في الواقع، إنه من الممكن القيام بمسيرة جميلة مع المشاعر، مما يعني توجيهها بشكل دائم نحو مشروع وهب الذات، وملء تحقيقها الذي يُغني العلاقات بين الأفراد ضمن العائلة. وهذا لا يعني التخلي عن لحظات بهجة شديدة[145] ، إنما عيشها محبوكة مع لحظات أخرى من التفاني، ومن الرجاء الصبور، ومن التعب الذي لا مفر منه، ومن المجهود بهدف بلوغ المثالية. الحياة العائلية هي كل هذه الأمور، وتستحق أن تُعاش بملئها.
- تصرّ بعض التيارات الروحية على استبعاد الرغبة بغية التحرر من الألم. إنما نحن نعتقد أن الله يحب فرح الكائن البشري وأنه قد خلق كل شيء “لِنَتَمَتَّع بِهِ” (1 طيم 6، 17). لندع الفرح يفيض إزاء حنانه حين يقترح علينا: “يا بُنيَّ، بِحَسَبِ ما تَملِكُ أَنفِقْ على نَفْسِكَ […] لا تَحرِمْ نَفسَكَ مِن يَومٍ صالِح” (سي 14، 11. 14). الزوجان أيضًا يستجيبان لإرادة الله باتباعهما دعوة الكتاب المقدس هذه: “في يَوم السرَّاء كُن مَسْرورًا” (جا 7، 14). المسألة هي بأن تكون لنا الحرية لنقبل بأن يكون للمتعة أشكال أخرى من التعبير في مختلف مراحل الحياة، وفقًا لاحتياجات الحبّ المتبادل. في هذا المعنى، يمكننا قبول اقتراح بعض العلماء الشرقيين الذين يشدّدون على توسيع وعينا كيلا نكون رَهْن تجربة محدودة تغلق آفاقنا. لا يعتبر توسيع الوعي هذا انكارًا أو تدميرًا للرغبة، إنما يهدف الى توسيعها وكمالها.
- كل هذا يقودنا الى الحديث عن الحياة الجنسية بين الزوجين. لقد خلق الله نفسه الجنس، الذي هو هدية رائعة لمخلوقاته. عندما نعتني به ونتفادى خروجه عن المألوف نمنع حدوث “إفقار لقيمة أصيلة”[146] . قد رَفَضَ القدّيس يوحّنا بولس الثاني فكرة أن تعليم الكنيسة يقود الى “انكار قيمة الجنس لدى الإنسان” أو أن يتم قبوله لمجرد “الحاجة للإنجاب بحدّ ذاتها”[147] . إن حاجة الزوجين الجنسية ليست موضوع ازدراء كما “أن الأمر ليس في أي حال من الأحوال مسألة إعادة النظر بتلك الحاجة”[148] .
- لأولئك الأشخاص الذين يخافون بأن تؤثر تربيةُ المشاعر والجنس على عفوية الحب الجنسي، أجاب القديس يوحنا بولس الثاني بأن الانسان البشري “مدعو الى عفوية كاملة وناضجة في العلاقات” التي هي “الثمرة التدريجية لتمييز نزوات القلب”[149] . إنها أمر يمكن اكتسابه، إذ أن على كلّ كائن بشري ينبغي عليه أن “يتعلم، بمثابرة وثبات، ما معنى الجسد”[150] . إن الجنس ليس وسيلة إشباع أو ترفيه، بما أنه لغة تواصل بين شخصين، حيث يتم أخذ الآخر على محمل الجدّ مع قدسيّة قيمته وحرمتها. بهذه الطريقة، يشارك القلب البشري، إذا جاز التعبير، بعفوية أخرى”[151] . في هذا الإطار، تَظهرُ الإثارةُ الجنسية كتعبير بشريّ بنوع خاص عن الحياة الجنسية. يمكننا أن نجد فيه “المعنى الزواجيّ للجسد، وكرامة العطاء الأصليّة”[152] . لقد علمّ القدّيس يوحنا بولس الثاني أثناء لقاءات التعليم المسيحي حول لاهوت الجسد البشري، أن الكيان الجسدي الجنسي ليس فقط مصدر خصب وإنجاب، إنما “يملك القدرة على التعبير عن الحب: هذا الحب الذي من خلاله يصبح الإنسان-الشخص هبة”[153] . الإثارة الجنسيّة السليمة، ولو كانت تترافق ببحث عن المتعة، إنها تفترض الاندهاش، ولذا يمكنها أنْسَنَةِ النزوات.
- لذلك، لا يمكننا بأي شكل من الاشكال، اعتبار البعد المثير للحب بمثابة شرّ مسموح به أو عبء علينا تحمله لمصلحة العائلة، إنما بمثابة هبة من الله تجمّل اللقاء بين الزوجين. وبما أن الأمر يتعلق بمشاعر متسامية بفعل الحب الذي يُعجب بكرامة الآخر، تصبح “تأكيدًا كاملا وواضحًا للحب” الذي يبين لنا عظمة المعجزات التي يقدر عليها القلب البشري، وندرك للحظة، “بأن الوجود الإنساني كان نجاحًا”[154] .
- في سياق هذه الرؤية الإيجابية للحياة الجنسية، من المناسب النظر في هذا الموضوع بمجمله وبواقعية سليمة. بالفعل، لا يمكننا أن نتجاهل أنه في كثير من الأحيان تفقد الجنسانية ذاتها وتصاب أيضًا بأمراض عديدة، وبالتالي “تصير فرصة ووسيلة لتثبيت الأنا وإشباع الرغبات والغرائز”[155] . وقد ازداد الخطر، في زمننا هذا، بأن الحياة الجنسية يهيمن عليها ذاك الروح المسموم المرتبط بعقلية “استخدم وأرمِ”. فجسد الآخر غالبًا ما يتم التلاعب به كشيء نبقي عليه طالما أنه يشبع الرغبات ومن ثم الازدراء به حين يخسر جاذبيته. هل يمكن تجاهل أو التغاضي عن أشكال دائمة من الهيمنة، والتسلط، والإساءة، والانحراف، والعنف الجنسي التي تنتج عن تشويهٍ لمعنى الحياة الجنسية، وتدفن كرامة الآخرين والدعوة إلى الحب، تحت غطاءِ بحثٍ مُظلمٍ عن الذات.
- ليس من المفرط التذكير بأن الحياة الجنسية يمكن أن تصبح مصدرَ معاناةٍ وتلاعبٍ ضمن الزواج. لذا فلا بد أن نؤكد بوضوح بأن “فعلاً زواجيّاً مفروضًا على أحد الزوجين دون اعتبارِ أوضاعِهِ ورغباتِهِ الشرعيّة، ليس فعلَ حبٍّ حقيقيّ، ويتنافى بالتالي ومقتضى النظامِ الأدبيّ الصحيح في العلاقات بين الزوجين”[156] . إن الأفعال الخاصة بالاتحاد الجنسي بين الزوجين تستجيب لطبيعة الحياة الجنسية التي شاءها الله إذا “تمت بطريقة تليق حقًا بالإنسان”[157] . لذا يشدّد القديس بولس الرسول على: أن “لا يُلحِقَ” أحد “بِأَخيه أَذًى أَو ظُلْمًا في هذا الشَّأن” (1 تس 4، 6). وعلى الرغم من أنه كتب رسالته في مرحلة هيمنت خلالها الثقافة “الذكورية”، وكانت المرأة تعتبر كائنًا خاضعًا تمامًا للرجل، فقد علّم القديس بولس الرسول بأن الحياة الجنسية يجب أن تُناقَشَ بين الزوجين: وقد تصوّر إمكانية تأجيل العلاقات الجنسية لفترة إنما بموجب “اتفاق متبادل” (1 قور 7، 5).
- لقد أعطى القديس يوحنا بولس الثاني تحذيرًا دقيقًا حين أكّد أن الرجل والمرأة هما “مهدّدان من قِبَلِ الشراهة”[158] . هذا يعني أنهما مدعوان إلى اتحاد أعمق على الدوام، لكن الخطر يكمن بالادعاء بمحو الاختلافات وتلك المسافة المحتومة بين الاثنين. لأن كلّ واحد منهما يتمتع بكرامة خاصة به لا يمكن تكرارها. عندما يتحوّل الانتماء المتبادل الثمين الى هيمنة، “تتغير […] بنية الشركة بشكل جوهري في العلاقة بين الأشخاص”[159] . في منطق الهيمنة، ينتهي المطاف حتى بالفرد المهيمن إلى نفي كرامته الشخصية[160] ، وفي نهاية الأمر يكفّ عن “إيجاد هويته الشخصية في جسده”[161] ، بما أنه يحرمه من كلّ معنى. فهو يعيش الجنس كهروب من ذاته وكتخلٍّ عن جمال الاتحاد.
- من المهم أن نكون واضحين في رفض أي شكل من أشكال الرضوخ الجنسي. لذا فمن الملائم تجنّب أيّ تفسير غير ملائم لنص الرسالة الى أهل أفسس، حيث يدعو “الزوجات [ليخضعن] لأزواجهن” (أف 5، 22). يتكلم القديس بولس هنا بحسب الفئات الثقافية الخاصة بتلك الحقبة، وليس علينا أن نضع أنفسنا في هذا الإطار الثقافي، إنما أن نتقبل الرسالة المعطاة والتي يرتكز عليها المقطع بأسره. لنستعد التفسير الحكيم الذي أعطاه القديس يوحنا بولس الثاني: “إن الحب يستبعد أي نوع من الخضوع، حيث تصبح الزوجة خادمة أو عبدة لزوجها […] فشركة الحياة أو الوحدة التي يجب أن يكوّناها بحكم الزواج، تتحقق عبر الهبة المتبادلة، التي هي أيضًا خضوع متبادل”[162] . لهذا السبب يقال أيضًا بأنه “على الرِّجالِ أَن يُحِبُّوا نِساءَهم حُبَّهم لأَجسادِهِم” (أف 5، 28). في الواقع، يدعو نص الكتاب المقدس إلى تخطي النزعة الفردية للعيش بانفتاح على الآخرين: “لِيَخضَعْ بَعضُكم لِبَعضٍ” (أف 5، 21). يكتسب هذا “الخضوع المتبادل” بين الزوجين معنى خاصًا ويُعنى به الانتماء المتبادل وقد اختير بحرية، مع مجموعة من الميزات كالإخلاص، والاحترام والعناية. لا يمكن فصل الحياة الجنسية عن خدمة الصداقة الزوجية لأنها تهدف للسماح للآخر بالعيش بالملء.
- مع ذلك، لا يجب أن يقودنا الرفضُ للانحرافات الجنسية وللإثارة الى الاستخفاف بها أو إلى إهمالها. لا يمكن تصوّر هدف الزواج كهبة سخية وتضحية فقط، حيث يتخلى كل شريك عن حاجته الشخصية ولا يهتم إلّا بفعل الخير للآخر دون أي رضى شخصي. لنتذكر أن الحب الحقيقي يعرف أيضًا كيف يتلقّى من الآخر، ويقدر أن يتقبّل حقيقة كونه ضعيفًا ومحتاجًا، ويقبل بامتنان حقيقي وسعادة تعابير الحب الجسدية من مداعبة، ومعانقة، وقبلة واتحاد جنسي. بِنِدِكْتُسْ السّادس عشر كان واضحًا في هذا الصدد: “إذا ما أراد الإنسان أن يَكُونَ روحًا صافيةَ ورَفَض جسدهُ معتبرًا إيّاهُ إرثًا حيوانيًا فقط، يَفْقدُ عندها الروح والجسد كرامتَهما”[163] . لهذا السبب، “لا يَستطيعُ الإنسان أن يعيش فقط من خلال الحبّ المُضحّي، المتنازل. فهو لا يَستطيعُ أن يمنح دائمًا، بل يَجِبُ عليهِ أيضًا أَنْ يَتقبَّل. فمَنْ يريد أن يهب حبًا يجب عليه هو أيضا أن يناله كهدية”[164] . في كل حال، هذا يتطلب التذكر بأن التوازن البشري هو هش، وأن هناك ما يقاوم الأنْسَنَة، وقد يظهر من جديد في أي وقت مستردًّا ميوله الأوّلية والأنانية.
- “كثيرون من الأشخاص الذين يعيشون بدون أن يتزوجوا، تفرَّغوا، ليس فقط لشؤون عائلاتهم، بل لتقديم الخدمات الجمَّة في دائرة أصدقائهم وجماعتهم الكنسيَّة او حياتهم المهنية. […] كما يضع الكثيرون منهم كفاءتهم في خدمة الجماعة المسيحية، في إطار نشاطات المحبة والتطوُّع. ثم هناك الذين لم يتزوجوا لأنهم كرّسوا حياتهم حباً بالمسيح وبالإخوة. إن التزامهم هو مصدر غنى للعائلة سواء في الكنيسة أو في المجتمع”[165] .
- تشكّل البتولية شكلا من أشكال الحب. فهي، كعلامة، تذكّرنا بالانشغال بأمور الملكوت، وبالحاجة الملحة لتكريس الذات دون أي تحفظ في خدمة التبشير (را. 1 قور 7، 32)، وهذا يشكل انعكاسًا للملء الذي يُعاش في السماء، حيث “لا الرِّجالُ يَتَزَوَّجون، ولا النِّساءُ يُزَوَّجنَ” (متّى 22 22، 30). وكان القديس بولس الرسول يوصي بها لأنه كان يتوقع عودة وشيكة للمسيح ويرغب بأن يركّز الجميع على التبشير فقط: “إِنَّ الزَّمانَ يَتَقاصَر” (1 قور 7، 29). ولكن الأمر كان واضحًا أنه كان رأيًا شخصيًّا ورغبة شخصية (را. 1 قور 7، 6- 8) وليس طلبا من يسوع المسيح: “لَيسَ لَهم عِنْدي وصِيَّةٌ مِنَ الرَّبّ” (1 قور 7، 25). لكنه، في الوقت نفسه، كان يعترف بقيمة الدعوات المختلفة: “كُلَّ إِنسانٍ يَنالُ مِنَ اللهِ مَوهِبَتَه الخاصَّة، فبَعضُهُم هذه وبعضُهُم تِلْك” (1 قور 7، 7). أكد القديس يوحنا بولس الثاني، في هذا المعنى، أن نصوص الكتاب المقدس “لا تشكّل دافعًا لدعم أيّ من «دونية» الزواج أو «فَوّقيّة» العزوبية أو البتولية”[166] بسبب الامتناع عن ممارسة الجنس. وعوض أن نتحدث في تفوّق البتولية بجميع أشكالها، يبدو من المناسب أن نظهر أن مختلف الحالات الاجتماعية هي متكاملة، فيكون هكذا أحدهم مثاليًّا في بعض الجوانب، والآخر في جانب آخر. على سبيل المثال، كان ألكسندر دي هيلز يؤكد، أن سر الزواج يمكن أن يعتبر نفسه، إلى حد ما، متفوّقًا على سائر الأسرار، لأنه يرمز الى شيء كبير للغاية مثل “اتحاد المسيح بالكنيسة” أو “اتحاد الطبيعة الإلهية بالطبيعة البشرية”[167] .
- بالتالي “إنها ليست مسألة استخفاف بقيمة الزواج لمصلحة العفة”[168] و”ليس هناك أساس لأي تباين مفترض بينهما […] وإذا تم التحدث عن حالة الكمالstatus perfectionis، وفقًا لتقليد لاهوتي معين، فليس بسبب العفة بحد ذاتها، إنما نظرًا للحياة المرتكزة على المشورات الإنجيلية بأسرها”[169] . مع ذلك، فالشخص المتزوج يقدر أن يعيش المحبة بأعلى درجاتها. لذلك، فهو “يتوصّل إلى هذه المثالية التي تنبع من المحبة، عبر الإخلاص لروح تلك المشورات. هذه المثالية هي ممكنة وفي متناول كلّ إنسان”[170] .
- تملك البتولية القيمة الرمزية للحب الذي لا حاجة به لامتلاك الآخر، فيعكس بهذا حرية ملكوت السماوات. إنها دعوة للأزواج، كي يعيشوا حبهم الزوجي في منظور حب المسيح النهائي، بمثابة مسيرة مشتركة نحو ملء الملكوت. بدوره، يقدم حب الأزواج قيما رمزية أخرى: من جهة، إنه انعكاس خاص للثالوث. في الواقع، إن الثالوث هو وَحَدة كاملة، حيث يوجد أيضًا تميّز. بالإضافة الى ذلك، العائلة هي رمز كريستولوجي، لأنها تعبّر عن قرب الله الذي يشارك الكائن البشري بحياته ويتّحد به في التجسّد، وفي الصليب وعند القيامة: كل من الزوجين يصبح “جسدًا واحدًا” مع الآخر، ويقدم ذاته ليتقاسم كل شيء معه وحتى النهاية. في حين أن البتولية هي علامة “أخروية” للمسيح القائم من الموت، الزواج هو علامة “تاريخية” لأولئك الذين يسيرون على الأرض، إنه علامة يسوع المسيح الأرضي الذي ارتضى بأن يتّحد بنا ووهب ذاته حتى إراقة الدم. إن البتولية والزواج هما، ويجب أن يكونا، طريقتين مختلفتين للحب، لأن “الإنسان لا يستطيع أن يعيش دون محبّة ويبقى لغزًا لا يُفهم في عين نفسه، ولا معنى لحياته، إن لم تتوفّر له المحبّة”[171] .
- إن البتولية هي معرضة لخطر أن تصبح “عزلة مريحة”، تسمح للشخص بالتنقل باستقلالية، وبتغيير مكانه، وواجباته وخياراته، وبالتصرّف بالأموال على هواه، وبالاختلاط بأشخاص مختلفين وفقًا لجاذبيّة الوقت الراهن. في هذه الحالة، تتألق شهادة الأشخاص المتزوجين. أما الذين قد دعوا إلى البتولية، يمكنهم أن يجدوا في عدد من المتزوجين علامة واضحة لأمانة الله السخية والثابتة لعهده، الذي باستطاعته أن يحفز قلوبهم على المزيد من الاستعداد الملموس والمعطاء. في الواقع، هناك أشخاص متزوجون يحافظون على أمانتهم عندما يصبح الشريك غير جذّاب جسديّا، أو عندما لا يلبّي احتياجاتهم، بالرغم من وجود عدة مناسبات تدعوهم الى عدم الأمانة أو إلى الهجر. يمكن للمرأة أن تعتني بزوجها المريض، وهناك، إلى جانب الصليب، تكرّر “نعم” حبّها حتى الممات. عبر هذا الحب، تتجلّى بطريقة رائعة كرامة الذي يُحِبّ، بما أن المحبّة تقتضي بأن نُحِبّ أكثر منه من أن نُحَبّ[172] . يمكننا أيضًا أن نصادف في العديد من العائلات قدرةً على الخدمة المضحية والحنونة تجاه أولاد ذوي طبيعة صعبة وحتى عاقين. هذا ما يجعل من هؤلاء الأهل علامة لحبّ يسوع الحرّ والمنزّه. كلّ هذا يصبح دعوة للأشخاص المتبتلين كي يعيشوا تكريسهم للملكوت بمزيد من السخاء والاستعداد. في يومنا هذا، لقد أساءت العَلمانية إلى قيمة الاتحاد مدى الحياة ونقّصت من غنى التفاني الزوجي، لذا “ينبغي تعميق جوانب الحب الزوجي الإيجابية”[173] .
- إن إطالة الحياة تؤدي إلى ظهور أمور لم تكن مألوفة في الأوقات العابرة: فلا بد من المحافظة على العلاقة الحميمة والانتماء المتبادل مدّة أربعة، خمسة أو ستة عقود، وهذا ما يستلزم إعادة الاختيار المتبادل مرارًا. ربّما لم يعد أحد الأزواج منجذبًا برغبة جنسية شديدة نحو الآخر، إنّما يشعر بفرح الانتماء للآخر، وانتماء الآخر له، وإدراكه بأنه ليس وحيدًا، وبأن له “شريك” يعرف كافة تفاصيل حياته وتاريخه، ويشاركه كلّ الأمور. إنّه رفيق رحلة الحياة والذي معه يمكنه مواجهة الصعوبات والاستمتاع بالأشياء الجميلة. هذا أيضًا يولّد الارتياح الذي يترافق مع الرغبة الخاصة بالحب الزوجي. لا نستطيع أن نعد أحدنا الآخر بالبقاء على ذات شعورنا طيلة الحياة. لكن يمكننا بالتأكيد أن يكون لنا مشروع مشترك ثابت، وأن نلتزم بحبّ متبادل وأن نعيش متّحدين إلى أن يفرّقنا الممات، ونعيش علاقةً حميمةً غنيةً على الدوام. والحب الذي نتواعد به يتخطى المشاعر، أو الأحاسيس أو المزاج، وإن تضمنها. إنه محبّة عميقة، تترافق مع قرار من القلب يشرك الوجود بأسره. هكذا، وفي وسط نزاع قائم، وبالرغم من وجود أحاسيس مرتبكة تختلط في القلب، يبقى حيًّا، كلّ يوم، القرارُ بالحب، وبالانتماء للآخر، وبمشاركة الحياة بأسرها، وبالاستمرار بالحب والصفح المتبادلين. كل منهما يحقق مسيرة نمو وتَحَوّلٍ شخصي. وخلال هذه المسيرة، يحتفل الحب بكل خطوة ومرحلة جديدة.
- في قصة الزواج، يتغيّر الشكل الجسدي، ولكن هذا ليس دافعًا كي ينقص الانجذاب العاطفي. نقع في حبّ شخص بكليته مع هويته الخاصة، ولا نقع فقط في حب جسده. فبالرغم من إنهاك الزمن لهذا الجسد، فهو لا يتوقّف أبدا عن التعبير بطريقة ما عن الهوية الشخصية التي احتلّت القلب. عندما لا يستطيع الآخرون التعرف بعد على جمال هذه الهوية، يستمر الشريك العاشق في قدرته على تمييزها بفضل غريزة الحب، والمودة لا تغرب. هو يؤكد قراره بالانتماء إليه، يختاره مجدّدًا ويعبر عن هذا الاختيار عبر قرب مُخلِصٍ ملؤه الحنان. إن نُبلَ قراره تجاه الآخر، كونه صلبًا وعميقًا، يوقظ شكلا جديدًا من العاطفة في أداء المهمة الزوجية. “لأن العاطفة التي يفتعلها كائن بشري آخر كشخص […] لا تتوق بحدّ ذاتها إلى العلاقة الزوجية”[174] . فهي تكتسب عبارات حساسة أخرى لأن الحب “هو حقيقة واحدة، مع أنَّ لها أبعاد مختلفة؛ وفي أوقاتٍ مختلفةٍ، يَظْهرُ البُعد تلوَ الآخر بوضوحٍ أكبر”[175] . يجد الرابط أشكالا جديدة، ويتطلّب القرار بإعادة تشكيله مجدّدًا وعلى الدوام. وهذا ليس فقط للمحافظة عليه، بل لجعله ينمو. إنها مسيرة بناء الذات والآخر يومًا بعد يوم. لكنه ما من شيء ممكن من كلّ هذا دون استدعاء الروح القدس، دون التوسل إليه يوميًا طالبين نعمته، دون البحث عن قوته الفائقة الطبيعة، دون أن نسأله بخوف أن يَسكب ناره فوق حبّنا ليقوّيه، ويوجّهه ويحوّله في كلّ وضع جديد.
الفصل الخامس
الحب الذي يصبح مثمرًا
- الحبّ يمنح دومًا حياة. لهذا السبب، الحب الزوجي “لا ينتهي عند حدّ الزوجين، […] لأنهما، فيما يتبادلان هبة الذات، يهبان، أكثر من نفسيهما، الوجودَ للولد الذي هو صورةٌ حيّة لحبّهما، ورمزٌ دائم لوحدتهما الزوجية، وخلاصةٌ حيّة لا يمكن فصلها عن كونهما أبًا وأمًا”[176] .
- العائلة ليست مكانًا فقط لتعاقب الأجيال إنما هي أيضًا مكان لاستقبال الحياة، والّتي تأتي كهبة من الله. كلّ حياة جديدة “تسمح لنا أن نكتشف «بُعد مجانيّة المحبة»، ذاك البُعد الذي لا يكف عن إبهارنا. فجميل أن نكون محبوبين أولا: الأبناء هم محبوبون قبل أن يروا النور”[177] . إن هذا يعكس أولوية حب الله الذي يتخذ دومًا المبادرة، لأن الأبناء هم “محبوبون قبل أن يقوموا بأي شيء لاستحقاق هذا الحب”[178] . مع ذلك، فإن “الكثيرَ من الأطفالِ هم مرفوضون ومهملون منذ البداية، مسروقون من طفولتهم ومن مستقبلهم. ويجرؤ البعض على القول، كي يبرر نفسه، بأن مجيئَهم إلى الحياةِ كان غلطة. إن هذا مُخجِل! […] فماذا نصنع بحقوق الإنسان وبحقوق الطفل التي تعد شديدة الوضوح، إن كنا نعاقب الأطفال بسبب أخطاء الكبار؟”[179] . عندما يأتي طفل الى هذا العالم، في ظروف غير مرغوب فيها، يجب على الاهل وباقي افراد العائلة أن يقوموا بكل ما يمكن لقبوله كهبة من الله، وأن يأخذوا على عاتقهم مسؤولية الترحيب به بانفتاح وبمحبة. ذلك لأنه “عندما يتعلق الأمر بالأطفال الذين يأتون إلى الحياة، فما من تضحية تُعتَبَرُ باهظة أو كبيرة جدًّا من قِبَلِ الكبار، لتَجَنّبِ أن يعتقد أي طفل بأنه غلطة ولا قيمة له وبأنه متروك أمام جراحات الحياة وتهديد البشر”[180] . إن عطية طفل جديد، والتي يهبها الله الى الاب والام، تبدأ بفعل الترحيب به، ومن ثم برعايته طيلة فترة حياته الأرضية، وهدفها النهائي هو بهجة الحياة الأبدية. إن نظرة مطمئنة تجاه التحقيق النهائي للإنسان البشري، تجعل الاهل أكثر وعيًّا للهدية الثمينة الموكلة إليهم: فالله، في الحقيقة، قد منحهم أن يختاروا الاسم الذي سيدعو الله به كل ابن له في الحياة الأبديّة[181] .
- إن العائلات الكبيرة هي فرحة للكنسية. يعبر الحب الذي في داخلها عن سخاء خصوبته. هذا لا يعني انه علينا أن نتناسى تحذير القديس بولس الثاني، عندما اوضح ان الابوة المسؤولة لا تكمن في “الإنجاب غير المحدود أو عدم وجود الوعي حول امكانية معنى تربية الاطفال، إنما وبالأكثر في الامكانية الممنوحة للأزواج لاستخدام حريتهم المصونة بشكل حكيم وبمسؤولية، مع الاخذ بعين الاعتبار الحقائق الاجتماعية والديموغرافية، فضلا عن اوضاعهم ورغباتهم المشروعة”[182] .
- تعتبر مدة الحمل فترة صعبة، ولكن أيضًا وقتًا رائعًا. حيث تتعاون الام مع الله حتى تخرج معجزة حياة جديدة. تُستمدّ الامومة من “قدرة استثنائية لجسد المرأة، والذي بخصوصية مبدعة يخدم الحمل وإنجاب الجنس البشري”[183] . فكل امرأة تساهم “بسر الخلق الذي يتجدد مع الأجيال البشرية”[184] . كما يقول المزمور: لقد “نَسَجْتَنِي فِي بَطْنِ أمِّي” (139، 13). فكل طفل يتكوّن في أحشاء امّه هو مشروع أبدي من الله الآب ومن حبّه الأزليّ: “قَبْلَمَا شَكَّلْتُكَ فِي أَحْشَاءِ أُمِّكَ عَرَفْتُكَ، وَقَبْلَمَا وُلِدْتَ أَفْرَزْتُكَ، وَكَرَّستُكَ نَبِيّاً لِلأُمَم” (إر 1، 5). وكلّ طفل هو ماثل دوما في قلب الله، ومنذ لحظة الحمل به في الرحم، يتحقق حلم الخالق الابدي. دعونا نفكر كم هي قيمة الجنين منذ لحظة الحمل به! ينبغي علينا أن ننظر إليه بنفس نظرة حب الله الآب، الذي يرى ما وراء كل مظهر.
- من الممكن للمرأة الحامل ان تشارك في تدبير الله هذا وهي تحلم بابنها: “ان جميع الأمهات وجميع الآباء قد حلموا بوصول ولدهم طيلة فترة التسعة أشهر. […] لا توجد عائلة بدون حلم. فإن فقدت العائلة القدرة على الحلم، فإن الأطفال لا ينمون ولا ينمو الحب، ويخيم الظلام وتنطفئ الحياة”[185] . داخل هذا الحلم، بالنسبة للأزواج المسيحيين، تظهر ضرورة المعمودية. فيحضّر الاهل ابنهم لهذه المعمودية عبر صلاتهم، مؤتمنين ابنهم الى يسوع المسيح حتى قبل ولادته.
- مع تقدم العلم أصبح من الممكن في يومنا هذا معرفة لون شعر الطفل مُسبقًا وأي مرض من الممكن ان يصيبه في المستقبل، لان كل صفات هذا الشخص تبدو محددة في خريطته الجينية، منذ ان كان جنينًا. لكنَّ الآب وحده هو الذي خلقه ويعرفه تماما. الله وحده يعلم ما هو عزيز، وما هو مهم، لأنه يعرف مَن هو هذا الطفل، وما هي هويته الأكثر عمقًا. فالأم التي تحمله في احشائها هي بحاجة لأن تطلب النور من الله لتتمكن من التعرّف على ابنها بشكل عميق ولتنتظره كما هو بالحقيقة. يشعر بعض الاهل بان طفلهم لم يأت في أفضل الاوقات. انهم بحاجة الى أن يطلبوا من الله أن يداويهم ويقويهم ليقبلوا هذا الطفل، وحتى يتمكنوا من انتظاره بمحبة. فمن المهم ان يشعر هذا الطفل بانه منتظر. فهو ليس مكملا او حلا لطموح شخصي. انه كائن بشري، يتمتع بقيمة عظيمة ولا يمكن استخدامه لمصلحة شخصية. وبالتالي، ليس مهمًا إن كانت هذه الحياة الجديدة ستخدمك أم لا، وكانت تمتلك الخصائص التي ترغب انت فيها أم لا، وإن كانت تستجيب لمشاريعك واحلامك أم لا. لأن “الأبناء هم عطية. كل واحد منهم هو فريد وغير قابل للتكرار […] . فالابن محبوب لكونه ابنًا: لا لكونه جميلا، أو لأي سبب آخر، بل لمجرد كونه ابنا! ليس لأنه يفكر كما أفكر أنا، أو لأنه يجسّد رغباتي. الابن هو ابن”[186] . إن حب الاهل هو أداة لحب الله الآب الذي ينتظر بكل حنان ولادة كل طفل، ويقبله دون أي شروط ويستقبله مجانًا.
- أود أن أطلب من كل امرأة في فترة الحمل وبكل المودة: اعتني بفرحك، لا تسمحي لشيء بأن ينتزع منك الفرح الباطني بالأمومة. فهذا الطفل يستحق فرحك. فلا تسمحي للمخاوف وللهموم أو لتعليقات الآخرين أو للمشاكل، بان تطفئ سعادة كونك أداة الله لجلب حياة جديدة على العالم. اهتمي بما عليك القيام به أو الاعداد له، ولكن من دون هواجس، وسبحي كما فعلت العذراء: “تُعَظِّمُ نَفسِيَ الرَّبّ، وتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي، لأَنَّهُ نَظرَ إِلى تَواضُعِ أَمَتِهِ” (لو 1، 46- 48). عيشي بحماس مطمئن في وسط همومك، وصلي الى الرب الذي يحمي فرحك لتتمكني من نقل هذا الفرح الى طفلك.
- “إنّ الأطفال، المولودين حديثًا، ينالون كعطيّة، مع التغذية والعناية، تثبيت ميزات الحبّ الروحيّة. فأعمال الحبّ تمرّ عبر عطيّة الاسم الشخصيّ، والمشاركة باللغة، ونوايا النظرات، وأنوار الابتسامات. ويتعلّمون هكذا أنّ جمال الرابط بين الكائنات البشريّة تستهدف روحنا، ويبحث عن حريتنا، ويقبل الاختلاف عن الآخر، ويعترف به ويحترمه كطرف آخر. […] هذا هو الحبّ الذي يحمل شرارة من حبّ الله!”[187] . يملك كل طفل الحق بان يحصل على الحب اللازم من أم وأب، لأن كليهما ضروريّ لنضوجه الكامل والمتناغم. فالإثنان، كما اكّد أساقفة استراليا، هما “يساهمان، كل بطريقة مختلفة، بنمو الطفل. إن احترام كرامة الطفل يعني التأكيد على حاجته وحقه الطبيعي والضروري لأن يكون له أم وأب”[188] . لا يتعلق الأمر فقط بحب الاب وحب الام بشكل منفصل، إنما أيضًا بالحب الذي يجمعهما، والذي يُفهم كمصدر لوجوده، وكحضن يستقبل وكأساس للعائلة. خلافًا لذلك، يبدو الطفل كمجرد اختزال لملكية مزاجية. إن كلّا من الرجل والمرأة، الأب والأم، “يساهم في حب الله الخالق ويترجمه”[189] . فهما يظهران لأطفالهما الوجه الأمومي والوجه الأبوي للرب. بالإضافة الى ذلك، هما معًا يُعلِّمان قيمة المعاملة بالمثل، واللقاء بين المختلفين، حيث يأتي كل واحد بهويته الخاصة ويعرف كيف يتلقى من الآخر. فإن غاب أحدهما، لسبب لا مفرّ منه، فمن الضروري البحث عن طريقة ما للتعويض، بغية توفير النضج الملائم للطفل.
- إن الشعور الذي يختبره العديد من الأطفال والشباب لكونهم أيتامًا هو شعور أعمق مما نعتقد. ندرك اليوم الشرعية الكاملة، والمستحبة، لرغبة المرأة في التعلم، والعمل، وتطوير قدراتها وبلوغ أهدافها الخاصة. إنما، في الوقت نفسه، لا يمكننا ان نتجاهل حاجة الأطفال لوجود الام، وخاصة في الأشهر الأولى من الحياة الحقيقية هي “أن المرأة توجد قبل الرجل كأمّ، معطية الحياة البشرية الجديدة، التي تكوّنت في أحشائها وتطورت، ومنها خرجت إلى العالم”[190] . إن إنقاص وجود الأم، بصفاتها الانثوية، يشكّل تهديدًا جسيمًا لعالمنا. أنا اقدّر الحركة النسائية عندما لا تسعى للتطابق بين الجنسيين، وتنفي الأمومة. لأن عظمة المرأة تقتضي جميع الحقوق الناتجة عن الكرامة الإنسانية غير القابلة للتصرف، كما أيضًا عبقريتها الانثوية، التي لا غنى عنها في المجتمع. فقدراتها الأنثوية تحديدًا – لا سيما الامومة- تعطيها أيضًا واجبات، لأن كونها امرأة، يترتب عليه كذلك مهمة خاصة في هذا العالم، مهمة يجب على المجتمع ان يحميها ويحافظ عليها لخير الجميع[191] .
- في الواقع، “إنَّ الأمّهاتِ هنَّ الترياقُ الأقوى ضدَّ انتشارِ الفردانيّةِ الأنانيّةِ. […] الأمّهاتُ يشهدنَ لجمالِ الحياةِ”[192] . بدون أدنى شك، إن “مجتمعًا بدونِ أمّهاتٍ هو مجتمعٌ لاإنسانيّ، لأنَّ الأمّهاتَ يعرفنَ على الدوامِ كيفَ يشهدنَ للحنانِ والتكرُّسِ والقوّةِ المعنويّةِ حتى في أسوأ الأوقاتِ. غالبًا ما تنقل الأمّهات أيضًا معنى الممارسة الدينيّة الأكثرَ عمقًا: في الصلواتِ والممارسات التقويّة الأولى التي يمكنُ لطفلٍ أنْ يتعلّمَها […] دونِ الأمّهاتِ لا نفتقد المؤمنينَ الجددَ وحسب بل الإيمانَ أيضًا يفتقدُ جزءًا كبيرًا من حرارتِهِ البسيطةِ والعميقةِ […] أيتُّها الأمّهاتُ العزيزاتُ، شكرًا، شكرًا على ما أنتنَّ عليهِ وعلى ما تعطينَهُ للكنيسةِ والعالمِ”[193] .
- إن الأم التي تحمي طفلها بحنانها وعاطفتها، تساعده على تنميه الثقة، وعلى اختبار العالم كمكان صالح لاستقباله، وهذا يسمح بتطوير الثقة بالنفس التي تعزز القدرة على الالفة والتعاطف. من ناحية أخرى، تساعد شخصية الأب على إدراك حدود الواقع، وتتسم بشكل كبير بالتوجيه، لتحضير [الابن] للخروج نحو عالم أوسع، مليء بالتحديات، ولدعوته إلى الكد والكفاح. ان أبًا، يتمتع بوضوح وبفرح بهويته الذكورية، وبذات الوقت يجمع بين المودة والعاطفة في تعامله مع زوجته، هو ضروري تمامًا كما رعاية الأم. هنالك أدوار وواجبات متفاوتة، وتتكيف مع الظروف الواقعية لكل عائلة، إنما التواجد الواضح والمحدد لكلا الشخصيتين، الانثوية والذكورية، يخلق البيئة الملائمة والمناسبة لنضوج الطفل.
- يُقال إن مجتمعنا هو “مجتمع بدون آباء”. في الثقافة الغربية، قد تظهر شخصية الأب وبطريقة رمزية كغائبة، ومشوهة ومتلاشية. وحتى الرجولة تبدو في موضع تساؤل. وقد ظهر مفهوم ملتبس، بسبب أنه “قد تمَّ النظرُ إلى هذه المسألةِ في البدءِ وكأنّها تحرّرٌ: تحرّرٌ من الأبِ السيّد، الأب الذي يمثّلُ الشريعةَ المفروضةَ من الخارج، الأب الذي يحدُّ من سعادةِ الأبناءِ ويشكّلُ عائقًا في وجه تحرّرِ الشبّانِ واستقلالِهم. في الواقعِ كان التسلّطُ في الماضي سيّدَ الموقفِ في منازلِنا، وأحيانًا كان يصلُ إلى حدِّ الطُغيانِ”[194] . ولكن “كما يحصلُ غالبًا، انتقلنا من تطرف إلى تطرف أخر. ويبدو أنّ مشكلةَ زمانِنا لا تكمنُ في الحضورِ المتطفّلِ للآباءِ، بل في غيابِهم، وتواريهم عن الأنظار. فأحيانًا يصبّ الآباء اهتماماتِهم على أنفسِهم وعلى تحقيقِ طموحاتِهمِ الفرديّة، وصولاً إلى حدِّ نسيانِ الأسرة. ويتركون الشبّانَ والصغارَ لوحدِهم”[195] . إن حضور الأب، وكذلك سلطته، قد تأثرت أيضًا بالوقت المتزايد الذي يتم تكريسه لوسائل الاعلام، التكنولوجيا الترفيهية. إلى جانب هذا، يُنظر في يومنا هذا إلى السلطة بارتياب ويتم وضع الكبار بقسوة في موضع شكوك. والكبار أنفسهم يتخلون عن الثوابت، وبالتالي لا يقدّمون الى أولادهم توجيهات أكيدة وذات اساس. فليس من الصحي تبديل الادوار بين الاباء والابناء: ان هذا يضر بعملية نضوج الأطفال الذين هم بحاجة إليها ويحرمهم من حب قادر على توجيههم ومساعدتهم على النضوج[196] .
- لقد وَضع اللهُ الوالدَ في العائلة لكي، مع خصائصه الرجولية، “يكون قريبًا من زوجته، ويشاركها في كل شيء، في الأفراح والأحزان، في المتاعب والآمال. وأن [حتى] يكون قريبًا من أبنائه طيلة نموهم: عندما يلعبون وعندما يجتهدون، عندما يكونون سعداء وعندما يكونون متضايقين، عندما يتكلمون وعندما يصمتون، عندما يتجرؤون وعندما يخافون، عندما يرتكبون خطأ وعندما يرجعون للطريق الصحيح؛ أب حاضر دائمًا. وكلمة حاضر لا تعني مراقب. لأن الآباء الذين يراقبون بمبالغة أبناءهم، يمحقونهم”[197] . يشعر بعض الاباء بأنهم عديمو الفائدة ولا لزوم لهم، إنما الحقيقة هي أن “الأبناء هم بحاجة إلى أب ينتظرهم عندما يرجعون من إخفاقاتهم. سيحاولون التذرع بكل ذريعة لكيلا يعترفوا بهذا، ولكيلا يُكتَشف، لكنهم بحاجة إلى ذلك”[198] . ليس من الجيد أن يُترك الأطفال بدون آباء، لأنهم بهذه الطريقة سيحرمون قبل الاوان من أن يكونوا أطفالا.
- العديد من الأزواج ليس باستطاعتهم ان ينجبوا أطفالا. إننا نعرف مقدار الألم الذي يعنيه هذا. لكننا، من الناحية الأخرى، نعرف أيضًا أن “الزواج لم يُؤسّس لإنجاب البنين فقط […] . لذلك حتى وإن لم يُرزق الزوجان أولادًا، رغم رغبتهما الشديدة فيهم، يبقى الزواج، كجماعة وشركة مدى الحياة، يحتفظ بقيمته وعدمِ انفصامه”[199] . بالإضافة الى ذلك “الامومة ليست حصريًّا واقعًا بيولوجيا، بل يعبر عنها بطرق مختلفة”[200] .
- يعتبر التبني طريقة لتحقيق الأمومة والأبوة بطريقة كريمة جدًا، أرغب في أن أشجع أولئك الذين ليس بإمكانهم إنجاب أطفال بأن يوسعوا ويفتحوا محبتهم الزوجية لاستقبال الأطفال المحرومين من بيئة أسرية مناسبة. لن يندموا يومًا بأنهم كانوا أسخياء. إن التبني هو فعل حب يمنح عائلة لمن حرم منها. من المهم الإصرار على أن يتم تسهيل التشريعات المرتبطة بإجراءات عملية التبني، وخاصة بالنسبة للأطفال غير المرغوب فيهم، من أجل الوقاية من الإجهاض والتخلي عنهم. إن أولئك الذين يواجهون التحدي المرتبط بالتبني وباستقبال انسان بطريقة غير مشروطة وبمجانية، يصيرون وسطاء لمحبة الله الذي يؤكد: “حتى إن نسيّت الْمَرْأَةُ رَضِيعَهَا فأَنَا لاَ أَنْسَاكِ” (را. أش 49، 15).
- “إن خيار التبني واحتضان طفل يمثِّل نوعًا خاصًا من الخصوبة في الخبرة الزوجية، يتخطى حالات المعاناة بسبب العقم. […] وأمام تلك الحالات التي يكون الطفل مطلوبًا بأي ثمن، كحق في تحقيق إنجاز شخصي، يُظهر التبني والاحتضان المفهومين بشكل صحيح، بُعدًا مهمًا للأبوة والبنوة، إذ يساعدان بالفعل على الإدراك بأن الأولاد، سواء كانوا طبيعيين أم متبنين أم محتضنين، هم كائنات قائمة بذاتها، ينبغي استقبالهم ومحبتهم والاعتناء بهم، وليس فقط إنجابهم. إن قرار التبني أو الحضانة يجب أن يأخذ أولاً بعين الاعتبار مصلحة الأولاد العليا”[201] . من جهة أخرى، “ينبغي منع الإتجار بالأولاد بين الدول والقارَّات من خلال إجراءات قانونية ومراقبة دولية”[202] .
- من المناسب التذكير أيضًا، أن الانجاب والتبنّي لا يعتبران الوسيلتين الوحيدتين للعيش المثمر للحب. أيضًا العائلة المؤلفة من العديد من الأطفال هي مدعوة لترك بصمتها في المجتمع الموجودة فيه، لتنمية اشكال أخرى تكون كامتداد للمحبة التي تعضدها. لا تنسى العائلات المسيحية أن “الايمان لا يخرجها من العالم، إنما يجذرها فيه بشكل أعمق. […] في الواقع، يلعب كل واحد منا دورًا خاصًا في اعداد مجيء ملكوت السماوات”[203] . لا ينبغي على العائلة ان تفكر بنفسها كسياج يرمي لحمايتها من المجتمع. عليها ألا تمكث ساكنة في حالة انتظار بل أن تخرج من ذاتها لبحث متكافل. بهذه الطريق، يصبح البحث مكانًا لتكامل الانسان مع المجتمع، ونقطة اتحاد بين العام والخاص. يحتاج الزوجان اكتساب وعي واضح ومقتنع بخصوص واجباتهم الاجتماعية. عندما يحصل ذلك، فإن الحب الذي يجمعهما لن ينقص، إنما يمتلئ بنور جديد، كما تعبر عنه الأبيات التالية:
“يداك هما عناقي
هما تناغماتي اليوميّة
أنا أحبّك لأنّ يديك
تكافحان من أجل العدالة.
إن كنت أحبك فلأنّك
حبيبي، شريكي وكل شيء
وعلى الطريق جنبًا إلى جنب
نحن أكثر بكثير من اثنين”[204] .
- لا يمكن لأية عائلة ان تكون خصبة إذا كانت تعتقد أنها مختلفة كثيرًا أو “منفصلة”. لتجنب هذا الخطر، دعونا نتذكر عائلة يسوع المسيح، الممتلئة نعمة وحكمة، لم يكن يُنظر إليها كعائلة “غريبة”، كبيتٍ غريبٍ، بعيدٍ عن الناس. لهذا السبب بالذات، وجد الناس صعوبة في التعرف على حكمة يسوع، وكانوا يقولون: “مِنْ أَيْنَ لَهُ هذَا؟ […] أَلَيْسَ هذَا هُوَ النَّجَّارَ، ابْنَ مَرْيَم؟” (مر 6، 2- 3). “أليس هذا ابنُ النَّجار؟” (متّى 13، 55). وهذا يؤكد أنها كانت عائلة بسيطة، قريبة من الجميع، مندمجة بشكل طبيعي بين الناس. وحتى يسوع لم يترعرع ضمن علاقة منغلقة ما بين مريم ويوسف، إنما كان يتجول بفرح في العائلة الواسعة، حيث الأقارب والأصدقاء. هذا ما يفسر كيف، أن الوالدين، عند عودتهما من أورشليم، قَبِلا أن يختفي الولد البالغ من العمر اثني عشر عامًا، مدة يوم كامل في القافلة، مصغيًا للقصص ومشاطرًا الجميع اهتماماتهم: “كَانَا يَظُنَّانِ أَنَّهُ في القَافِلَة، سَارَا مَسِيرَةَ يَوْم” (لو 2، 44). مع ذلك، يحدث أحيانًا أن بعض العائلات المسيحية، بسبب لغة تخاطبها، وطريقة تعبيرها عن الأشياء، ومواقفها، وتكرارها الدائم لموضوعين أو ثلاثة، يُنظر إليها كعائلات بعيدة، أو منفصلة عن المجتمع، أو حتى أن أقاربها يشعرون أنهم محتقرون ومدانون من قبلها.
- إن الزوجين اللذين يختبران قوة الحب، يعلمان تمامًا ان هذا الحب مدعو لتضميد جراح المنبوذين، ولإرساء ثقافة اللقاء، وللنضال من اجل العدالة. فالله قد عهد الى العائلة بمشروع جعل العالم عالمًا “عائليًّا”[205] ، حتى يصل الجميع إلى الشعور بان كل انسان هو بمثابة أخ: “إن نظرة فاحصة على الحياة اليومية للرجال والنساء اليوم تظهر على الفور الحاجة الموجودة في كل مكان إلى حقنة تقوية للروح العائلية. […] فليس فقط تنظيم الحياة المشتركة هو الذي يجنح نحو تلك البيروقراطية، الغريبة عن العلاقات الانسانية الأساسية، وإنما حتى السلوك الاجتماعي والسياسي غالبًا ما يُظهر علامات التدهور”[206] . بالمقابل العائلات المنفتحة والمتحدة تفسح المجال للفقراء، وتكون قادرة على نسج صداقة مع أولئك الذين هم اسوأ حالا منها. وهم إن كانوا يهتمون حقًا بالإنجيل، فلن يستطيعوا أن ينسوا ما يقول يسوع: ” كُلُّ مَا عَمِلْتُمُوهُ لأَحَدِ إِخْوَتِي هـؤُلاءِ الصِّغَار، فَلِي عَمِلْتُمُوه!” (متّى 25، 40). فهم، بنهاية المطاف، يعيشون وفق ما يطلبه الإنجيل منهم ببلاغة عميقة: “إِذَا صَنَعْتَ غَدَاءً أَوْ عَشَاءً، فَلا تَدْعُ أَصْدِقَاءَكَ، ولا إِخْوَتَكَ، وَلا أَنْسِباءَكَ، وَلا جِيرانَكَ الأَغْنِيَاء، لِئَلاَّ يَدْعُوكَ هُمْ أَيْضًا بِالـمُقَابِل، وَيَكُونَ لَكَ مُكافَأَة. بَلْ إِذَا صَنَعْتَ وَلِيمَةً فادْعُ الـمَسَاكِين، وَالـمُقْعَدِين، والعُرْج، وَالعُمْيَان. وَطُوبَى لَكَ” (لو 14، 12- 14). وَطُوبَى لَكَ! في هذا يكمن سرّ العائلة المغبوطة.
- من خلال الشهادة، كما من خلال الكلمة، تتحدث العائلات عن يسوع للآخرين، وتنقل الإيمان، وتوقظ رغبة الله وتظهر جمال الإنجيل ونمط الحياة الذي يقدمه لنا. هكذا يرسم الأزواج المسيحيون فوق الجانب الرمادي من المجال العام ويملؤونه بألوان الأُخوّة، والوعي الاجتماعي، والدفاع عن الأشخاص الضعفاء، والإيمان المُنير، وبالأمل الفعال. إن خصوبتهم تتوسّع وتترجم بألف طريقة لتجعل محبة الله حاضرة في المجتمع.
- من المناسب في هذا الإطار أن نأخذ على محمل الجد نصًا كتابيًا، تم تفسيره عادة خارج سياقه، أو بطريقة عامة للغاية، وهكذا من الممكن أن نهمل معناه الفوري والمباشر، والذي هو اجتماعي تمامًا. يتعلق الأمر بـ 1 قور 11، 17- 34، حيث يواجه القديس بولس الرسول وضعًا مخجلا للجماعة. في هذا السياق، كان هناك بعض الأشخاص الميسورين والذين كانوا يحاولون ممارسة التمييز ضد الفقراء، وكان هذا يحدث حتى أثناء الوليمة التي كانت ترافق الاحتفال بالإفخارستيا. فبينما كان الأغنياء يتمتعون بطعامه الشهي، كان الفقراء ينظرون إليهم، وهم يتضوَّرون جوعًا: “لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَسْبِقُ فَيَأْخُذُ عَشَاءَ نَفْسِهِ فِي الأَكْلِ فَالْوَاحِدُ يَجُوعُ وَالآخَرُ يَسْكَرُ. أَفَلَيْسَ لَكُمْ بُيُوتٌ لِتَأْكُلُوا فِيهَا وَتَشْرَبُوا؟ أَمْ تَسْتَهِينُونَ بِكَنِيسَةِ اللهِ وَتُخْجِلُونَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ؟” (الآيات 21- 22).
- إن الإفخارستيا تقتضي الاندماج في جسد الكنيسة الواحد. فمن يقترب من جسد ومن دم المسيح ليس بإمكانه أن يهين في نفس الوقت هذا الجسد ذاته، مثيرًا انقسامات وممارسًا التمييز الشائن بين أعضائه. يتعلق الأمر، في الحقيقة، بـ “تمييز” جسد الرب، وبالتعرف عليه بإيمان وبمحبة سواء في علاماته الأسرارية أو في الجماعة، وإلا فالإنسان يَأْكُلُ ويَشْرَبُ دَيْنُونَةً لِنَفْسِهِ (را. آية 29). يشكل هذا النص تحذيرًا جديًا للعائلات التي تنغلق في راحتها الخاصة وتعزل نفسها. وبدقة أكثر، للعائلات التي تبقى غير مكترثة أمام معاناة العائلات الفقيرة والمحتاجة. هكذا يصبح الاحتفال الإفخارستي نداءً مستمرًا إلى كل شخص كي “يَمْتَحِنْ كُلُّ إِنْسَانٍ نَفْسَهُ” (آية 28)، بهدف أن يفتح أبواب عائلته لمزيد من الشَرِكة مع أولئك المهمشين من المجتمع، ومن ثمَّ قبول حقًا سر المحبة الإفخارستي، والذي يجعل منا جسدًا واحدًا. لا يجب أن ننسى “أن «صوفيّة» السر لها طابع اجتماعي”[207] . فعندما أولئك الذين يقبلون المناولة لا يلتزمون أكثر تجاه الفقراء والمتألمين، أو يساندون ظهور أشكال مختلفة من الانقسام، والاحتقار والظلم، فهم يتناولون الإفخارستيا عن غير استحقاق. بينما العائلات التي تتغذى على الإفخارستيا بتحضير لائق، فهي تقوّي رغبتها في الأخوّة، وحسَّها الاجتماعي، والتزاماتها تجاه المحتاجين.
- لا ينبغي على النواة العائلية الصغيرة أن تعزل نفسها عن الأسرة الكبيرة، التي تضم الجدود، والاعمام والاخوال، وأبناء العموم والاخوال، وأيضًا الجيران. في تلك الأسرة الكبيرة من الممكن أن يكون هناك مَنْ يحتاج للمساعدة أو على الأقل مَن يحتاج الى رفقة، ولبعض لفتات محبة، وقد يكون هناك أوجاع كبرى تحتاج لبعض المواساة[208] . إن النزعة الفردانية في هذه الأيام تقود، في بعض الأحيان، إلى الإنغلاق داخل عش آمن واعتبار الآخرين كخطر مقلق. بأي حال، هذه العزلة لا تقدم المزيد من السلام والسعادة، إنما تُغلق قلب العائلة وتحرمها من اتساع أُفق الوجود.
- في بادئ الامر، دعونا نتحدث عن والدينا أنفسهم. لقد ذكّر يسوع الفرسيين بأن التخلي عن الوالدين هو مخالف لشريعة الله (را. مر 7، 8- 13). ليس مفيدا لاحد ان يفقد وعيَّه بكونه ابنًا. ففي كل شخص، “حتى ولو أصبح بالغًا أو عجوزًا، وحتى إن أصبح أحد أبًا أو أمًّا، وحصل على موقع مسؤولية، في الحقيقة يبقى محتفظًا بهويته كإبن. نحن جميعنًا أبناء. وهذا يقودنا دائمًا الى حقيقة أننا لم نمنح الحياة لأنفسنا إنما تلقيناها. فالهبة الكبرى للحياة هي تلك الهدية الأولى التي تلقيناها”[209] .
- لهذا السبب “تطلب الوصية الرابعة من الابناء […] أن يكرموا الأب والام (را. خر 20، 12). وتأتي هذه الوصية مباشرة بعد الوصايا المتعلقة بالله نفسه. وهي في الحقيقة تحتوي على شيء مقدس، على شيء إلهي، على شيء هو أصل كل نوع من أنواع الاحترام الأخرى بين الناس. وفي صياغة الوصية الرابعة يضيف الكتاب المقدس: «لِتَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلَهُكَ». يعتبر الرابط الخُلُقي بين الأجيال هو ضمانة للمستقبل، وهو ضمانة لتاريخ بالحقيقة إنساني. فمجتمع أبناء لا يكرمون فيه الوالدين هو مجتمع بدون كرامة […] . مجتمع مُقدَّرٌ له أن يمتلئ بشباب مُنَفِّرين وجشعين[210] .
- لكن هناك أيضًا الجانب الآخر للميدالية: “يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ” (تك 2، 24)، هكذا تؤكد كلمة الله. وهذا لا يتحقق، في بعض الأحيان، فلا يتحقق الزواج بالكامل لان التخلي وهبة الذات لم يتمَّا. لا يجب التخلي أو إهمال الوالدين، ومع ذلك لكي يتم الاتحاد في الزواج يجب تركهما، حتى يصبح المنزل الجديد هو المسكن، والحماية، والاساس والمشروع، بحيث يمكن أن يصير الزوجان حقًا “جَسَدًا وَاحِدًا” (نفس المرجع). يحدث في بعض الزيجات ان يتم إخفاء الكثير من الأمور عن أحد الأزواج، والتي يتم الحديث عنها مع الأهل، إلى درجة ان آراء الاهل تكتسب أهمية أكثر من مشاعر وآراء الشريك الآخر. ليس من السهل الاستمرار في هذا الوضع مع مرور الوقت. وهو وضع يمكن قبوله فقط لفترة مؤقتة، بينما تتهيأ الظروف لنمو الثقة والحوار. الزواج يمثل تحد لإيجاد طريقة جديدة لنكون أبناء.
- “لا تَرْفُضْنِي فِي زَمَنِ الشَّيْخُوخَةِ. لاَ تَتْرُكْنِي عِنْدَ فَنَاءِ قُوَّتِي” (مز 71، 9). إنها صرخة المسن، الذي يخشى الإهمال والاحتقار. وكما يدعونا الله لنكون أدوات لسماع نداء الفقراء، فهو يتوقع منا ان نسمع نداء المسنين[211] . إن هذا يتوجه الى العائلات والمجتمعات، لان “الكنسية لا تستطيع ولا ترغب بالامتثال الى عقلية عدم المعاناة، ناهيك عن اللامبالاة والاحتقار بالنسبة الى الشيخوخة. يجب علينا ايقاظ الحس الجماعي من بالامتنان، والتقدير، والضيافة، أمام الشيخوخة. علينا إيقاظ الحس الجماعي بالامتنان، والعرفان، والضيافة حتى يشعر المسن بأنه جزء حي من مجتمعه. إن المسنين هم رجال، نساء، آباء وأمهات سلكوا قبلنا نفس الطريق، في منزلنا نفسه، وفي ذات معركتنا اليومية من أجل حياة كريمة”[212] . لذلك “كم أرغب بكنيسة تتحدى ثقافة الإقصاء بالفرح الذي يفيض من معانقة جديدة بين الشباب وكبار السن!”[213] .
- لقد دعانا القديس يوحنا بولس الثاني إلى الانتباه لوضع المسنين في العائلة لان هناك ثقافات “في أعقاب التطور الصناعي والحضري المضطرب، دفعت، وما زالت تدفع، بالمسنين نحو أشكال غير مقبولة من التهميش”[214] . يساعد المسنون على رؤية “تعاقب الأجيال” وموهبة “أن يكونوا جسرًا”[215] . في الكثير من الأحيان، يكون الأجداد هم مَن يقومون بنقل القيم الكبيرة إلى أحفادهم و”العديد من الأشخاص يعترفون بأنهم قد تلقوا التنشئة على الحياة المسيحية من أجدادهم”[216] . فكلامهم، ولمساتهم أو مجرد وجودهم يساعد الأطفال على معرفة أن التاريخ لا يبدأ معهم، وأنهم ورثة رحلة طويلة، وانه من الضروري احترام الخلفية التي تسبقنا. أولئك الذين يقطعون العلاقات مع التاريخ سوف يجدون صعوبة في نسج علاقات مستقرة والاعتراف بأنهم ليسوا أسياد الواقع. بالتالي، “الاهتمام بالمسنين هو الذي يصنع اختلاف حضارة عن الأخرى. فهل هناك اهتمام بالمسنين في الحضارة؟ وهل هناك مكان للمسنّ؟ بوسع تلك الحضارة ان تتقدم إذا عرفت ان تحترم حكمة ومعرفة المسنين”[217] .
- يعتبر غياب الذاكرة التاريخية عيبًا خطيرًا في مجتمعنا. انه ثمر العقلية غير الناضجة التي تتمثل بعبارة “إنه من الماضي”. إن المعرفة والقدرة على مواجهة أحداث الماضي يعتبران الطريقة الوحيدة لبناء مستقبل له معنى. ليس من الممكن التعليم بدون ذاكرة: “تَذَكَّرُوا الأَيَّامَ الأُولى” (عب 10، 32). فقصص الكبار تفيد كثيرًا الصغار والشباب، لأنها تربطهم بالتاريخ المعاش سواء في العائلة، أو في الحي الذي يقطنونه، أو في بلدهم. إن عائلة لا تحترم ولا تهتم بجدودها، الذين يمثلون ذاكرتها الحية، هي عائلة مفككة؛ بينما العائلة التي تتذكر هي عائلة لديها مستقبل. لذلك، “فإن حضارة لا مكان فيها للمسنين أو تهملهم لأنهم يخلقون مشاكل، هي حضارة تحمل في ذاتها فيروس الموت”[218] ، لأنها “تجتث جذورها الخاصة بها”[219] . إن ظاهرة الأيتام المعاصرين، في المعنى المرتبط بالتفكك وبالاقتلاع وبانهيار اليقين، والتي تعطي شكلا للحياة، تضعنا أمام تحدٍ لنجعل من عائلاتنا مكانًا يستطيع فيه الأطفال ان يتجذّروا في تربة التاريخ الجماعي.
- تتعمّق العلاقة بين الاخوة مع مرور الوقت. و”يتكون رباط الاخوّة في العائلة بين الاخوة، إذا تمَّ في جوّ من تعليم الانفتاح على الآخرين. فيكون هذا الرباط مدرسة كبيرة من الحرّية والسلام. ففي العائلة، وبين الإخوة، يتم تَعلّم التعايش الإنساني […] . ربما لا نتنبه غالبًا بان العائلة هي بالتحديد التي تُدخل الاخوّة الى العالم! فمن خلال هذه التجربة الأولى من الاخوّة، والتي تغذت بالعاطفة والتعليم العائلي وبنمط الاخوة، يسطع مثل وعد جميل على المجتمع بأكمله”[220] .
- يقدّم النمو بين الاخوة تجربة رائعة للرعاية المتبادلة، ولتقديم المساعدة وتلقيها. لذلك، “تضيء الاخوّة في العائلة وبطريقة خاصة عندما نرى العناية، والصبر، والعاطفة التي يحاط بها الشقيق الصغير الضعيف او الشقيقة الصغرى الأكثر ضُعفًا، أو المريضة أو المصابين بإعاقة”[221] . يجب أن ندرك بأن “وجود شقيق وشقيقة يحباننا هو خبرة قوية، لا تقدّر بثمن، ولا يمكن الاستعاضة عنها”[222] ، لهذا يجب تعليم الأبناء بصبر كيفية التعامل كأخوة. إن هذا التعلم العملي، المؤلم أحيانًا، هو مدرسة المجتمع الحقيقية. في بعض البلدان، هناك توجه قوي لإنجاب طفل واحد، الأمر الذي جعل خبرة الشعور بأن يكون لي أخ أو أخت أقل شيوعًا. وعندما لا يكون من الممكن إنجاب أكثر من طفل واحد، يجب إيجاد سبيل لضمان ألا ينمو الطفل وحيدًا أو منعزلا.
- بالإضافة إلى الدائرة الصغيرة التي يشكّلها الأزواج وأبناؤهم، هناك العائلة الموسّعة والتي لا يمكن تجاهلها، لان “الحب بين الرجل والمرأة في الزواج، وبالتالي بشكل موسع الحب ما بين أفراد العائلة الواحدة، -بين الأهل والأبناء، الإخوة والأخوات، وبين الأقارب والأصدقاء-، هما مفعمان ومدفوعان بدينامية داخلية مستمرّة، تقود العائلة الى شَرِكةٍ دائمًا أكثر عمقًا وأكثر قوة، تمثل أساس وروح الحياة الزوجية والعائلية”[223] . في هذا الإطار، ينضم الأصدقاء والعائلات الصديقة، بما في ذلك جماعات العائلات التي تدعم بعضها البعض في أوقات الشدة، في إطار التزامها الاجتماعي والإيماني.
- يجب على هذه العائلة الموسّعة ان تستقبل بمحبة كبيرة الامّهات العازبات، والأطفال دون اباء، والنساء الوحيدات اللواتي يتوجب عليهن تأمين تعليم أطفالهن، والاشخاص ذوي الإعاقات المحتلفة الذين يتطلبون الكثير من العاطفة والقُرب، والشباب الذين يكافحون الإدمان، والأشخاص العازبين والمنفصلين أو الأرامل الذين يعانون من الوحدة، والمسنين والمرضى الذين لا يحصلون على الدعم من أبنائهم، و”حتى المتضررين من مسيرة حياتهم”[224] . كما يمكن للعائلة الموسّعة ان تساعد أيضًا ضعف الاهل، أو أن تكتشف وتبلغ دون تأخير عن حالات العنف، أو حتى الاستغلال التي يتعرض إليها الأطفال، مانحة إياهم حبًا سليمًا وحماية عائلية حين لا يكون باستطاعة أهلهم توفيرها لهم.
- أخيرًا لا يمكن أن ننسى وجود الحَمي والحَماة في هذه العائلة الموسّعة وأيضًا جميع أقارب الزوج الآخر. هناك كياسة خاصة بالحب تكمن في تفادي اعتبارهم كمنافسين، وكأشخاص خطرين، وكغزاة. فطبيعة الاتحاد الزوجي تتطلب احترام تقاليدهم وعاداتهم، ومحاولة فهم لغتهم، والحد من الانتقادات، ورعايتهم، وادخالهم بطريقة ما في القلب، حتى أيضًا عندما يتوجب الحفاظ على الاستقلالية الشرعية والعلاقة الحميمة بين الزوجين. تعتبر هذه التصرفات طريقة جميلة تعبّر للشريك عن سخاء هبة الذات المفعمة بالحب.
الفصل السّادس
بعض الإمكانيات الرعوية
- أدّت حوارات مسيرة السينودس الى تصوّر الحاجة للبحث عن طرق رعوية جديدة، سأحاول أن أعرضها بشكل عام. وسيكون على مختلف الجماعات اعداد مقترحات أكثر عملية وفاعلية، تأخذ بعين الاعتبار تعاليم الكنيسة والحاجات والتحديات المحلية على حدٍ سواء. أودّ هنا الاقتصار فقط على الوقوف عند بعض التحديات الرعوية الأساسية، بدون الادعاء بتقديم رعوية عائلية.
- أصرّ آباء السينودس على أن العائلات المسيحية، بفضل نعمة سر الزواج، هي اللاعبون الرئيسيون لرعوية العائلة، وخاصة “من خلال تقديم شهادة فَرِحة للأزواج وللعائلات، والتي هي كنائس بيتيّة”[225] . لهذا السبب، أوضح الآباء أن الامر “يتعلق بالعمل على أن يتمكن الأشخاص من أن يختبروا أن إنجيل العائلة هو فرحة «تغمر القلب والحياة بأكملها»، لأننا في المسيح قد «تحررنا من الخطيئة، والحزن، والفراغ الداخلي والعزلة» (فرح الإنجيل، 1). إن واجبنا، على ضوء مَثَل الزارع (را. متّى 13، 3- 9)، هو التعاون في إلقاء البذور: الباقي هو عمل الله. كما أنه لا ينبغي أن ننسى بأن الكنسية التي تبشّر حول العائلة هي علامة تناقض”[226] ، لكن الأزواج يقدّرون للرعاة التحفيزات التي يقدمونها لهم كي يراهنوا بشجاعة على حب قوي وصلب ودائم، قادر على مواجهة كل ما سيعترض دربهم. الكنيسة تتوق للوصول إلى جميع العائلات عبر تفهم متواضع، ورغبتها “هي مرافقة العائلات وكل عائلة، كي تكتشف أفضل السبل لتخطِّي الصعوبات التي تواجهها في مسيرتها”[227] . فليس من الكافي وضع لائحة شاملة بمخاوف العائلة داخل مشاريع رعوية كبرى. فكي تصبح العائلات فعّالة أكثر في الرعوية العائلية، فإن هذا يحتاج إلى “مجهود في التبشير والتعليم الديني داخل العائلة”[228] ، مجهود يرشدها في هذا الاتجاه.
- “لهذا السبب يُطلب من الكنيسة بأسرها توبة تبشيرية: من الضروري عدم التوقّف عند بشارة لاهوتية بحتة منفصلة عن مشاكل الشعب الحقيقية”[229] . فالرعوية العائلية “يجب أن تقود إلى اختبار أن إنجيل العائلة هو الجواب على أعمق توقعات الانسان: على كرامته، على ملء تحقيق ذاته في التبادلية، في الشَرِكة وفي الخصوبة. لا يتعلق الأمر بمجرد تقديم تشريعات، إنما باقتراح قيِّم، تستجيب لحاجاتهم اليومية والقائمة حتى في أكثر الدول علمانية”[230] . بالإضافة الى ذلك “قد تم التأكيد أيضًا على ضرورة تقديم بشارة تشجب بوضوح الاشتراطات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، مثل المساحة الشاسعة المعطاة إلى منطق السوق، اشتراطات تعيق الحياة العائلية الأصيلة، وتؤدي إلى ممارسات تمييزية وفقر واستثناءات وعنف. لذا ينبغي تطوير حوار وتنسيق مع المؤسسات الاجتماعية، وتشجيع ودعم العلمانيين، الذين يلتزمون كمسيحيين، في السياق الثقافي، والاجتماعي-سياسي”[231] .
- “مساهمة أساسية في مجال الرعوية العائلية تُقدِّمها الرعية، والتي هي عائلة العائلات، حيث يتحقق التناغم والانسجام بين ما تقدِّمه الجماعات الصغيرة والجمعيات والحركات الكنسيَّة المختلفة”[232] . يتوجب، جنبا الى جنب، مع عناية رعوية موجهة خصيصًا إلى العائلات، “إعداد تنشئة أنسب للكهنة والشمامسة ورجال الدين والراهبات ومعلمي التعليم المسيحي ولكل الناشطين في العمل الرعوي”[233] . ففي الردود على الاستشارات التي تم إرسالها الى مختلف انحاء العالم، تبين أنه غالبًا ما يغيب عند الخدّام المكرَّسين التنشئة الملائمة لمعالجة المشاكل الراهنة المعقّدة للعائلات. وقد يكون من المفيد في هذا الإطار الاستفادة من تجربة التقليد الشرقي الطويل للكهنة المتزوجين.
- ينبغي على الإكليريكيين الحصول على تنشئة تشمل مختلف التخصصات وتكون أكثر شمولية بالتحديد بالنسبة لما يتعلق بالخطبة والزواج، وألا تقتصر على العقيدة فقط. يُضَاف لذلك، أن تنشئة [الإكليريكي] غالبًا ما لا تسمح لهم بالتعبير عن عالمهم العاطفي-النفسي. فبعضهم يحمل في حياته خبرة حياة عائلته الجريحة، بسبب غياب الأب، وعدم الاستقرار العاطفي. ينبغي ضمان النضوج خلال مسيرة التكوين كي يصل الخدّام المستقبليون للتوازن النفسي الذي يتطلبه واجبهم. تُعتبر الروابط العائلية أساسية بالنسبة للإكليريكيين لتقوية احترام الذات الصحيح. لهذا السبب، من المهم أن ترافق العائلات كل مسيرة الإكليريكي والكاهن، لتستطيع تقويتها بشكل واقعي. بهذا المعنى يكون من الصحي ربط بعض الوقت من حياة الإكليريكية مع وقت آخر من الحياة في الرعية، لأن هذا يسمح لهما بأن يكونا أكثر تواصلا واتصالا بواقع العائلات الملموس. في الواقع، يلتقي الكاهن طيلة مسيرة حياته الرعوية خصوصًا مع العائلات. “إن وجود العلمانيين والعائلات، وبالأخص وجود العنصر النسائي في التحضير للكهنوت، يسمح بتقدير التنوع والتكامل بين مختلف الدعوات في الكنيسة”[234] .
- لقد افصحت الردود على الاستشارات أيضًا وبإصرار عن ضرورة تنشئة عاملين علمانيين في مجال الرعوية العائلية، بمساعدة علماء النفس التربويين، وأطباء العائلة، وأطباء الجماعات، والاخصائيين الاجتماعيين، والمحامين عن القُصر والعائلات، مع الانفتاح على الاستفادة من اسهامات علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الجنس وتلقي المشورة أيضًا. يساعد المتخصصون، لا سيما أولئك الذين لديهم خبرة المتابعة، على تجسيد الاقتراحات الرعوية في الأوضاع الواقعية وفي الاهتمامات الملموسة للعائلات. “فالدورات والكورسات التدريبية الموجهة خصيصًا للعاملين في المجال الرعوي بإمكانها أن تجعلهم مؤهلين أكثر لإدراج مسيرة الإعداد للزواج نفسها في الديناميكية الأوسع للحياة الكنسيَّة”[235] . إن مسيرة تنشئة رعوية جيدة هي مهمة “خاصة فيما يتعلق بحالات الطوارئ الخاصة، والناتجة عن عنف منزلي أو تعدٍ جنسي”[236] . كل هذا لا ينقص بأي شكل من الأشكال، بل يكمل القيمة الأساسية للتوجيه الروحي، من قيمة الموارد الروحية للكنيسة، والتي لا تقدر بثمن، ومن سر المصالحة.
توجيه المخطوبين في مسيرة التحضير للزواج
- أكّد آباء السينودس، بشتى الطرق، على ضرورة مساعدة الشباب على اكتشاف قيمة وغنى الزواج[237] . عليهم ان يتمكنوا من رؤية جاذبية الاتحاد الكامل الذي يسمو بالبعد الاجتماعي للوجود ويكمله، ويمنح الجنس معناه الأسمى، وفي الوقت نفسه يعزز خير الأبناء، ويوفر لهم بيئة أفضل للنضج والتعليم.
- “يتطلب الواقع الاجتماعي المعقد والتحديات التي تواجهها العائلة في يومنا هذا، التزامًا أكبر من كل الجماعة المسيحية لتحضير المخطوبين للزواج. فمن الضروري التذكير بأهمية الفضائل. من بينها تبدو العفّة شرطًا ثمينًا للنمو الصحيح للحب المتبادل بين الأشخاص. فيما يتعلق بهذه الضرورة، أجمع آباء السينودس على ضرورة زيادة مشاركة الجماعة بأسرها، مع إعطاء الأولوية لشهادة العائلات ذاتها، وترسيخ التحضير للزواج في مسيرة التنشئة المسيحية، مشددين على صلة الزواج بسر المعمودية وبالأسرار الكنسية الأخرى. وقد تم تسليط الضوء أيضًا على الحاجة لبرامج محددة للإعداد للزواج الوشيك، برامج تكون تجربة حقيقية من المشاركة في حياة الكنسية، وتعمّق مختلف جوانب الحياة العائلية[238] .
- أدعو الجماعات المسيحية إلى الاعتراف بأن مرافقة مسيرة الحب بين المخطوبَين تشكلّ أيضًا خيرًا لها. وكما أحسن أساقفة إيطاليا القول بأن الذين يتزوجون هم بالنسبة للجماعة المسيحية “مورد ثمين لأنهم، من خلال التزامهم الصادق بالنمو في الحب والعطاء المتبادل، بمقدورهم أن يساهموا في تجديد ذات نسيج الجسم الكنسي بأسره: فنوع الصداقة الخاصة التي يعيشونها بإمكانها أن تصبح مُعدِية، وأن تجعل الجماعة المسيحية التي يَنتَمون إليها تنمو في الصداقة والأخوّة”[239] . توجد طرق صحيحة مختلفة لتنظيم التحضير المباشر للزواج، وكلّ كنيسة محلّية ستميّز ما هو الأفضل لها، مُؤَمِّنَة تنشئة ملاءمة لا تُبعِدُ، في الوقت عينه، الشبيبة عن سرّ الزواج. لا يتعلق الأمر بتلقينهم التعليم المسيحي بأكمله، أو اغراقهم بالكثير من المواضيع. ويصُحُّ، في الواقع، في هذه الحالة أيضًا “أن ما يُشبعُ الروح ليس المعرفة الوافرة إنما إحساس وتذوّق الأشياء باطنيًّا”[240] . فالنوعيّة أهم من الكمّية، ومن الضروري إعطاء الأولوية –بالتزامن مع إعلان البشارة- إلى تلك المحتويات التي تساعدهم، إن تمّ نقلها بطريقة جذّابة وودّية، على الالتزام في مسيرة حياة بأسرها “بروح شجاع وسخي”[241] . يتعلق الأمر بنوع من “التنشئة” على سر الزواج يوفر لهم العناصر اللازمة لقبوله بأفضل الاستعدادات وبدء الحياة العائلية ببعض الحزم.
- من المناسب أيضًا إيجاد الطُرق، من خلال العائلات الإرسالية، وأسر المخطوبين نفسها ومختلف الموارد الرعوية، لتقديم تهيئة طويلة المدى تعمل على إنضاج حبهما، مع مرافقة غنية بالقرب وبالشهادة. وتكون غالبًا مفيدة للغاية مجموعات المخطوبين ودعوات المشاركة في محاضرات اختيارية حول مواضيع متنوعة تهم الشباب بالحقيقة. على أية حال، تبقى أوقات اللقاءات الشخصية ضرورية، لأن الهدف الرئيسي هو مساعدة كل واحد على أن يتعلم أن يحب شخصًا بعينه، يوّد مشاركته حياته بأسرها. ان تتعلم كيف تحب إنسانًا أخر ليس أمرًا ارتجاليًا، ولا يمكن أن يكون هدف دورة مختصرة تسبق الاحتفال بالزواج مباشرة. في الواقع، كل انسان يبدأ الاستعداد للزواج منذ الولادة. فكل ما قدمته له أسرته من شأنه أن يسمح له بأن يتعلم من خبرته وبأن يجعله قادرًا على الالتزام الكامل والنهائي. لعل أولئك الذين يكونون مستعدين للزواج بطريقة أفضل هم الذين تعلموا من آبائهم ماهية الزواج المسيحي، حيث اختار كل واحد الآخر بدون شروط ويجددان هذا القرار باستمرار. بهذا المعنى، تهدف جميع الإجراءات الرعوية إلى مساعدة الأزواج على النمو في الحب وعلى العيش بحسب الإنجيل في العائلة، لأنهم عون لا غنى عنه في إعداد أبنائهم للحياة الزوجية المستقبلية. ولا ينبغي كذلك أن ننسى المساهمات القيِّمة للرعوية الشعبية. وللاستشهاد بمثل بسيط، أتذكر يوم عيد الحب، والذي في بعض البلدان يتم استغلاله من قبل التُجار بشكل أفضل منه من إبداع الرعاة.
- إن تهيئة أولئك الذين ارتبطوا رسميًا بالخطوبة،عندما يمكن للرعية متابعتهم بوقت كافٍ، يجب أن تمنحهم أيضًا الفرصة للتعرف على إمكانية وجود نقاط عدم توافق بينهم وعلى المخاطر. بهذه الطريقة يتمكنون من إدراك أنه ليس من المنطقي المراهنة على هذه العلاقة لكي لا يُعرضوا أنفسهم لفشل محقق تنجم عنه عواقب مؤلمة للغاية. المشكلة هي أن الانبهار الأولي يؤدي الى محاولة إخفاء أو تبسيط أمور كثيرة، وبتفادي التعبير عن الخلافات تتفاقم هكذا الصعوبات لاحقًا. ينبغي تشجيع ومساعدة المخطوبين للتعبير عما يتوقعه كل منهما من الزواج المحتمل بينهما، وطريقة كل منهما في فهم ماهية الحب والالتزام، وما يتمناه من شريكه الاخر، ونوعية الحياة المشتركة التي يتطلعون إليها. إن هذه المحادثات قد تساعد على اكتشاف أن نقاط التلاقي هي في الواقع ضئيلة، وأن الانجذاب المتبادل وحده لن يكون كافيًا لدعم الاتحاد. فليس هناك ما هو أكثر تذبذبًا، وتزعزعًا، وغير متوقع، كالعاطفة، لهذا لا يجب التشجيع على الإقدام على قرار الارتباط بالزواج إن لم يتم التعمق في دوافع أخرى تعطي لهذا العهد فُرصًا حقيقية للاستقرار.
- على أية حال، إذا تم الاعتراف بوضوح من قبل كل منهما بنقاط ضعف الشريك الآخر، ينبغي أن تكون هناك ثقة واقعية في إمكانية مساعدته على تطوير الأحسن لديه، للوصول إلى توازن يضاهي نقاط ضعفه، مع الهدف الثابت بتشجيعه ككائن بشري. إن هذا يعني ضمنًا القبول بإرادة حاسمة بإمكانية التعرض لبعض التضحيات، والأوقات الصعبة، وحالات الصراع، واتخاذ قرار حاسم بتهيئة الذات لمواجهة ذلك. يجب أن يكونا قادرين على التعرف على مؤشرات الخطر التي يمكن لعلاقتهما أن تمر بها، كي يجدا قبل الزواج الوسائل التي ستسمح لهما بالتصدي لها بنجاح. للآسف، يصل كثيرون الى الاحتفال بالزفاف قبل أن يعرفوا بعضهم بعضًا. فهم قد استمتعوا بالوقت سويًّا، وتبادلا الخبرات معًا، ولكنهم لم يواجهوا تحدي إظهار أنفسهم، ومعرفة مَنْ هو حقًا الشريك الآخر.
- يجب أن يهدف الإعداد السابق، وكذلك المرافقة الممددة، إلى التأكد من أن المخطوبين لا ينظرون إلى الزواج كنهاية المطاف، بل أن يعيشوه كرسالة وكدعوة تدفعهم إلى السير قدمًا للأمام، عبر قرار ثابت وواقعي بأنهم معًا سيجتازون كل التجارب، وسيعبرون الأوقات الصعبة. يجب لرعوية ما قبل الزفاف ولرعوية الزواج أن تكونا، قبل كل شيء، رعويةَ الرباط الوثيق، حيث يتم تقديم كل العناصر التي تساعد سواء على إنضاج الحب أو على التغلب على الأوقات الصعبة. هذه المساهمات لا تتعلق فقط بالاقتناعات العقائدية، ولا يمكن حتى اختزالها في المصادر الروحية الثمينة التي تقدمها دائمًا الكنيسة، إنما يجب أن تتكوّن أيضًا من مسارات عملية، ومن نصائح واقعيّة، ومن استراتيجيات مستمدة من الخبرة، ومن إرشادات نفسية. يشكل كل هذا تربية على الحب لا يمكنها أن تتجاهل حساسية الشباب المعاصر، كي تكون قادرة على تحفيز ما في داخلهم. في نفس الوقت، خلال إعداد المخطوبين، يجب تزويدهم بالأماكن وبالأشخاص الذين يقدمون المشورة أو بالعائلات المستعدة لمساعدتهم، والتي بإمكانهم اللجوء إليها عند مواجهة المحن والصعوبات. بيد أن علينا ألا ننسى أبدّا اقتراح سر المصالحة عليهم، والذي يسمح بوضع الخطايا والذنوب التي اقترفت في الماضي، وفي العلاقة الحالية ذاتها، تحت تأثير غفران الله الرحيم وقوته الشافية.
- يميل التحضير السابق للزواج الوشيك إلى التركيز على إعداد بطاقات الدعوات والملابس والتفاصيل الكثيرة التي تستهلك الموارد الاقتصادية بقدر ما تستهلك الطاقات والفرحة. هكذا يصل المخطوبان الى حفل الزفاف منهكين، بدلا من تكريس أفضل طاقاتهما لإعداد أنفسهما كأسرة لتلك الخطوة الكبيرة التي سيقومون بها معًا. إن هذه العقلية هي حاضرة أيضًا في بعض حالات الأشخاص الذين يعيشون اتحادات الواقع والتي لا يصلون فيها إلى الزواج لأنهم لا يستطيعون تغطية نفقات حفل الزفاف الباهظة بدلا من إعطاء الأولوية للحب المتبادل وإضفاء الطابع الرسمي عليه أمام الآخرين. أيها المخطوبون الأعزاء، تحلّوا بشجاعة أن تكونوا مختلفين، ولا تتركوا أنفسكم فريسة للمجتمع الاستهلاكي، والمظاهر. المهم هو الحب الذي يجمعكم، والمُحَصن والمقدس بالنعمة. أنتم قادرون على اختيار احتفال رصين وبسيط، لوضع الحب فوق كل شيء. على الخدَّام الرعويين والمجتمع بأسره القيام بكل ما يمكن ليصبح هذا هو القاعدة لا الاستثناء.
- من المهم إرشاد العروسين، خلال الاعداد السابق للزواج الوشيك، بأن يعيشا الاحتفال الليتورجي بعمق، وذلك من خلال مساعدتهما على فهم وعيش معنى كل حركة فيه. ولنتذكّر أن التزامًا عظيمًا بهذا الحجم، والذي يعرب عن الرضى الزوجي واتحاد الجسدين لاكتمال الزواج، عندما يتم بين شخصين معمدّين، لا يمكن تفسيره إلا على ضوء علامات محبة ابن الله الذي تجسد واتحد بكنيسته في عهدِ محبة. فلدى المعمدين تتحول الكلمات والاشارات الى لغة تعبير عن الإيمان. فالجسد، عبر المعاني التي أراد الله أن يضعها فيه عندما خلقه، “يتحوّل إلى لغة خدّام السر المقدس، المدركين بأن في العهد الزواجي يتجلى ويتحقق السر”[242] .
- أحيانًا لا يدرك المخطوبان الوزن اللاهوتي والروحي للرضى الزواجي، والذي يضيء معنى كل الأفعال اللاحقة. لذلك فمن الضروري توضيح أن هذه الكلمات لا تقتصر فقط على الزمن الحاضر؛ إنما تنطوي على مجمل ما سيتضمنه المستقبل: “حتى يفرقهم الموت”. يدل معنى الرضى على أن “الحريّة والأمانة لا تتعارضان مع بعضهما البعض، لا بل تتعاضدان بشكل متبادل، سواء في العلاقات الشخصيّة المتبادلة أو الاجتماعيّة. في الواقع، لنفكّر في الأذى الذي يسبّبه، في حضارة التواصل العولمي، المبالغة في تقديم الوعود التي لم تُحتَرَم […] . إنّ الوفاء بالوعد والأمانة له لا يمكن شراؤهما أو بيعهما. كما ولا يمكن أن يُفرضا بالقوة ولا أن يُحفظا بدون تضحية”[243] .
- لقد لاحظ أساقفة كينيا أن “الزوجين، من فرط تركيزهما على يوم الزفاف، ينسيان أنهما يستعدان لالتزام سيستمر مدى الحياة”[244] . يجب أن نساعد الناس على فهم أن السر المقدس ليس مجرد لحظة ستصبح جزءًا من الماضي والذكريات، بل أنه سيُمارِس تأثيره على الحياة الزوجية بأسرها وبشكل دائم[245] . وسيصبح المعنى التناسلي للحياة الجنسية، ولغة الجسد وايماءات الحب التي تُعاش في قصة حب الزواج، “استمرارية غير منقطعة للغة الليتورجيا” و”ستصبح الحياة الزوجية نفسها، بمعنى ما، ليتورجية”[246] .
- يمكن أيضًا التأمل انطلاقًا من قراءات الكتاب المقدس، وإثراء فهم معنى الخواتم التي يتبادلها الشريكان، أو غيرها من العلامات التي تمثل جزءًا من الطقوس. بيد أنه لن يكون جيّدًا أن يصلا إلى الزفاف دون أن يصليّا معًا، الواحد من أجل الآخر، طالبين من الله أن يساعدهما في أن يكونا أمينين وسخيين؛ وطالبين معًا من الله أن يفهما ما يتوقعه منهما؛ وكذلك من خلال تكريس حبهما أمام تمثال مريم العذراء. على أولئك الذين يرافقونهما في التحضير للزواج أن يوجهوهما حتى يفهما ويعيشا أوقات الصلاة هذه التي ستساعدهما كثيرًا. “إن ليتورجيا الزواج هي حدث فريد، يُعاش في السياق العائلي والاجتماعي كعيد. وأول آية قام بها يسوع كانت في احتفال عرس في قانا: حيث الخمر الجيّدة لمعجزة الرب، والتي تغمر بالفرح ميلاد عائلة جديدة، هي الخمر الجديدة للعهد الذي يقطعه المسيح مع كل رجل وامرأة في كل زمان ومكان […] . من المألوف أن يجد [الخادم] المُحتَفِل بالزواج أمامه جماعةً مكوّنةً من أناس قلَّما يشاركون في الحياة الكنسيَّة أو أشخاص ينتمون الى طوائف مسيحية أو جماعات دينية أخرى. وهذه فرصة سانحة لإعلان إنجيل المسيح”[247] .
المرافقة في السنوات الأولى من الحياة الزوجية
- علينا الاعتراف بأن هناك قيمة كبيرة عندما نفهم أن الزواج هو مسألة حب، ويمكن فقط لأولئك الذين يختارون بعضهم بعضًا بحرية وعن حب ان يتزوجوا. ومع ذلك، عندما يصبح الحب مجرد انجذاب جسدي أو عاطفة مبهمة فإن الزوجين سيعانيان من هشاشة غير عادية عندما تمر العاطفة بأزمة أو عندما يتضاءل الانجذاب الجسدي. وبما أن تلك الالتباسات تحدث بكثرة، فمن الضروري إذًا مرافقة الزوجين خلال السنوات الأولى من حياتهما الزوجية لإثراء وتعميق القرار الواعي والحر بالانتماء وبحب بعضهما البعض حتى النهاية. في كثير من الأحيان تكون فترة الخطبة غير كافية، ويتم إقرار الزواج بعجلة لأسباب مختلفة، بالإضافة إلى تأخر النضوج لدى الشباب. وعليه، يجد العروسان أنفسهما في مواجهة واجب استكمال تلك المسيرة التي كان يجب عليهما إنجازها خلال فترة الخطبة.
- من جهة أخرى، أودّ الإصرار على أن أحد التحديات الرعوية المرتبطة بالأسرة هي المساعدة على اكتشاف أن الزواج لا يمكن أن يفهم على أنه شيء قد تمَّ وانتهى. فالاتحاد هو واقع، لا يمكن العودة عنه، وقد تم تأكيده وتكريسه بواسطة سر الزواج. فباتحادهما يصبح الزوجان بطلي المشهد، وسيدي تاريخهما، وصانعي مشروع يجب أن يحققاه معًا. ينبغي أن يتوجه النظر نحو المستقبل الذي يجب أن يبنياه معًا يومًا بعد يوم بنعمة من الله، ولهذا السبب بالذات لا يُطالب الشريك أن يكون كاملا. ويجب أن يضعا جانبًا الأوهام ويقبلا أحدهما الآخر كما هو: غير كامل، مدعو للنمو، في حالة تطور. فعندما يُنظر الى الشريك الآخر بنظرة انتقاد دائمة، فإن هذا يدل على أن الزواج لا يُعاش كمشروع يتم بناؤه سويًّا، بصبر وبتفاهم وبتسامح وبسخاء. يقود هذا إلى استبدال الحب تدريجيًا بنظرة ملؤها الريبة والعناد؛ وبمراقبة مزايا وحقوق كل واحد؛ وبالمطالبات، وبالمنافسة؛ وبالدفاع عن النفس. هكذا يصبح الزوجان غير قادرين على دعم بعضهما البعض ليصل كل منهما إلى النضوج، وإلى تنمية اتحادهما. إن كل ما ورد يجب أن يبيِّن للزوجين الشابين، وبكل وضوح وبطريقة واقعية منذ البداية، بحيث يصبحان على بيِّنة من الواقع الذي هما بصدد الشروع به. إن الـ “نعم” التي تبادلاها هي بداية الرحلة، هدفها أن يضعا نصب أعينهما القدرة على تخطي الظروف أو العقبات التي تعترضهما. والبركة التي قد نالاها هي نعمة، وحافز لهذه المسيرة المنفتحة دائمًا. من المفيد عادة، أن يجلسا للحوار معًا حول إعداد مشروعهما الحقيقي، في أهدافه، وأدواته، وتفاصيله.
- أتذكر مثلا يقول إن المياه الراكدة تَفسد وتتعفن. إن هذا هو ما يحدث عند ركود حياة الحب، وبعد السنوات الأولى من الزواج، تتوقف عن التحرك، وتكف عن القلق الصحي الذي يدفعها للتقدم نحو الأمام. فالرقصة التي تدفع هذا الحب اليافع إلى الأمام؛ تلك الرقصة المنقوشة بتلك الأعين الممتلئة بالأمل، لا يجب أن تتوقف. خلال فترة الخطبة وفي السنوات الأولى من الزواج، فالأمل هو الذي يعطي قوة الخميرة، وهو الذي يدفع للنظر إلى ما هو أبعد من التناقضات، والصراعات، الأمور الطارئة، أمل يدفعهما إلى تخطي كل شيء. أمل يدفع إلى المضي قدما في طريق النمو. إن هذا الامل ذاته هو الذي يدعونا إلى عيش الحاضر بملئه، وقلبنا منهمك في الحياة الأسرية، لأن أفضل وسيلة لإعداد وتوطيد المستقبل هي عيش الحاضر بطريقة جيّدة.
- تقتضي المسيرةُ العبورَ عبر مراحل عديدة، تدعوهم إلى هبة الذات بسخاء: فمن انطباع اللحظة الأولى والذي يتميز بانجذاب خارجي، يتم الانتقال إلى الشعور بالحاجة إلى الآخر وكأنه جزء من حياة الشريك. ومِن ثمَّ سعادة الانتقال إلى الانتماء المتبادل، ثم الى فَهم الحياة بأسرها كمشروع يخصهما معًا، إلى القدرة على اعتبار سعادة الأخر فوق الاحتياجات الخاصة. ثم إلى الفرح برؤية زواجهما كخير للمجتمع. يتطلب نضوج الحب أيضًا تعلم كيفية “التفاوض”. لا كتصرف استغلالي أو كلعبة تجارية، إنما بالنهاية كممارسة للحب المتبادل، لأن هذه المفاوضات هي بمثابة مجموعة من المكاسب والتضحيات هدفها خير العائلة المتبادلة. في كل مرحلة جديدة من الحياة الزوجية، ينبغي الجلوس مجددًا والتفاوض مرة أخرى على ما تمّ الاتفاق عليه، بحيث لا يكون هناك غالب ومغلوب، وإنما فوز لكليهما. ولا ينبغي في المنزل اتخاذ القرارات من جانب واحد، فالاثنان يتقاسمان مسؤولية الأسرة، بيد أن كل منزل هو فريد وكل قصة زوجية هي مختلفة.
- إن أحد الأسباب التي تؤدي إلى تفكك الزواج هو وجود توقعات مرتفعة جدًا من الحياة الزوجية. وعندما ينكشف أن الحقيقة، هي أكثر محدودية وصعوبة خلافًا لما كانا يحلمان به، فإن الحل لا يكمن في التفكير بسرعة وبشكل غير مسؤول، بل في عيش الزواج باعتباره مسيرة نضوج، يكون فيها كل من الزوجين أداة الله لنمو الآخر. إن التغيير والنمو وتنمية الخير الذي في داخل كل انسان، هو ممكنٌ. فكل زواج هو “قصة خلاص”، وهذا يتطلب الانطلاق من الهشاشة، والتي بفضل هبة من الله والاستجابة الخلاقة والسخية، تعطي تدريجيًّا المكان لدخول واقع أكثر صلابة وجمالا. إن الغاية الأهم في قصة الحب بين رجل ومرأة هي: مساعدة بعضهما البعض على وصول المرأة لتكون أكثر امرأة والرجل ليكون أكثر رجلا. أن ننمَّي هو أن نساعد الآخر على أن يتشكل في هويته الخاصة. لذلك فالحب عمل يدويّ. عندما نقرأ في الكتاب المقدس نص خلق الرجل والمرأة، نلاحظ أن الله قد خلق أولا الرجل (را. تك 2، 7)، ثم أدرك أن شيئا أساسيًّا ينقصه، فخلق المرأة. وعندها رأى مفاجأة الرجل: “آه، الآن نعم، هذا نعم!”. وبعد ذلك استمع الى الحوار الرائع الذي دار بين الرجل والمرأة وهما يكتشفان بعضهما البعض. في الحقيقة، حتى في الأوقات الصعبة يعود الآخر فيفاجئ شريكه فتنفتح أبواب جديدة ليجدا أنفسهما، كما لو كانت المرة الأولى؛ في كل خطوة جديدة يرجعان لتشكيل بعضهما البعض من جديد. يجعل الحب المرء في حالة انتظار للآخر، انتظار يجعله يعيش صبر الحِرفيّ، وريث الله.
- يجب على المرافقة أن تشجع الزوجين لأن يكونا سخيين في ممارسة التواصل الحياتي. “فالطريق الصحيح لتنظيم الحياة الزوجية، وفقًا للطابع الشخصي ولتكامل الحب الزوجي بشرياً، هو الحوار التوافقي بين الزوجين، واحترام الأوقات، وتقدير كرامة الشريك الآخر. في هذا الصدد، يجب إعادة اكتشاف غنى الرسالة العامة “الحياة البشرية” (را. 10- 14)، والإرشاد الرسولي ما بعد السينودس، “وظائف العائلة المسيحية” (را. 14؛ 28- 35)، من أجل إنعاش قابلية إنجاب الأبناء مجددًا، ضد عقلية هي في الغالب معادية للحياة […] . إن الاختيار المسؤول للأبوة والأمومة يفترض تربية الضمير، لأن الضمير هو «مركز الإنسان الأكثر سرية وقدس أقداسه، حيث يلتقي الإنسان بمفرده مع الله ويسمع صوته» (فرح ورجاء، 16). وكلّما سعى الزوجان إلى سماع الله ووصاياه في ضميرهما (را. روم 2، 15)، وطلبا المرافقة الروحية، كلّما أصبح قرارهما أكثر موضوعية وأكثر تحررًا من السعي للتأقلم مع تأثيرات محيطهما وسلوكيات بيئتهما”[248] . لا زال مجديًا ما تم تأكيده بوضوح في المجمع الفاتيكاني الثاني: “إن الزوجين […] ، باتفاق وبمجهود مشترك، يكوّنان رأيًا مستقيمًا: آخذين بعين الاعتبار سواء خيرهما الشخصي أو خيرَ بنيهما، سواء الذين وُلدوا أو الذين سوف يولدون؛ مقدّرين أيضًا أوضاع عصرهما وحالتهما المادية والروحية؛ وآخذين بعين الاعتبار أخيرًا، خير الجماعة العائلية وحاجات المجتمع المعاصر والكنيسة نفسها. إن هذا الرأي، بنهاية المطاف، يجب أن يتخذاه الزوجان بأنفسهما أمام الله”[249] . من ناحية أخرى، “يجب تشجيع الأزواج على اعتماد الطرق المستندة الى وتيرة «النظام الطبيعي للخصوبة« (الحياة البشرية، 11)، وتوضيح أن «هذه الأساليب تحترم جسد الزوجين، وتشجع الحنان بينهما، وتعزّز تربية حريّةٍ أصيلة» (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 2370). كما يجب التركيز دومًا على أن الأولاد هم عطيَّة رائعة من الله، وهم فرح كبير للأهل وللكنيسة، فمن خلالهم يجدّد الله العالم”[250] .
- أشار آباء السينودس إلى أن “السنوات الاولى من الزواج تعتبر فترة حيوية وحساسة، ينمو خلالها الأزواج في الوعي للتحديات ولمعنى الزواج. من هنا الحاجة لمرافقة رعوية تستمر بعد الاحتفال بسر الزواج (را. وظائف العائلة المسيحية، القسم 3). في تلك المتابعة الرعوية يكون من المهم للغاية وجود متزوجين من ذوي الخبرة. تعتبر الرعية المكان الذي فيه يضع المتزوجون من ذوي الخبرة أنفسهم بتصرف المتزوجين الشباب، بمشاركة الجمعيات والحركات الكنسية والجماعات الجديدة. من الضروري تشجيع الازواج على اتخاذ موقف مرحِّب بهبة الأطفال العظيمة. كما ينبغي التأكيد على أهمية الروحانية العائلية، والصلاة والمشاركة في الإفخارستيا أيام الآحاد، بتشجيع الأزواج على عقد لقاءات منتظمة لتعزيز نمو الحياة الروحية والتضامن أمام الاحتياجات الحقيقية في الحياة. وقد تم الاشارة إلى أن الليتورجيا والممارسات التقوية والإفخارستيا المحتفل بها من أجل العائلة، وخاصة في ذكرى الزواج، هي أمور حيوية لتعزيز التبشير من خلال العائلة[251] .
- تعتبر هذه المسيرة مسألة وقت. فالحب يحتاج الى وقت متاح ومجاني، يضع الامور الاخرى في المرتبة الثانية. فيجب إيجاد الوقت للحوار؛ للعناق بدون استعجال؛ ولتبادل المشاريع؛ وللأصغاء؛ وللنظر الواحد إلى الآخر؛ للتقييم؛ ولتقوية العلاقة. تكمن أحيانًا المشكلة في سرعة وتيرة المجتمع، أو في الأوقات التي تفرضها التزامات العمل. مرات أخرى تكون المشكلة بأن الأوقات التي يمضيها الازواج معًا تكون أوقاتًا دون المستوى المطلوب، فنحن نتشارك فقط بالمساحة المادية، ولكن دون الالتفات الواحد الى الآخر. يتوجب على العاملين الرعويين وعلى جماعات العائلات أن تساعد المتزوجين الشباب أو الضعفاء أن يتعلموا الالتقاء في مثل هذه الأوقات، وبأن يقف الواحد أمام الآخر، وأن يتبادلوا أيضًا لحظات من الصمت، تجبرهم على اختبار وجود الشريك الأخر.
- يمكن للأزواج الذين يتمتعون بخبرة مسيرة زوجية جيدة، في هذا المعنى، أن يقدموا الأدوات العملية التي كانت مفيدة لهم: برمجة لحظات اللقاء معا بشكل مجاني؛ وأوقات الترفيه مع الأبناء؛ والطرق المختلفة للاحتفال بأمور مهمة؛ والمساحات الروحانية المشتركة. كما بوسعهم أن يشاركوا بوسائل تساعد على ملء محتوى وإعطاء معنى لتلك اللحظات، كي يتعلموا التواصل بشكل أفضل. إن هذا يعتبر في غاية الأهمية عندما ينطفئ سحر الخطوبة. لأن الأزواج عندما لا يعرفون كيفية تمضية الاوقات المشتركة، يلجأ أحدهما في نهاية المطاف إلى التكنولوجيا، ويبتكر التزامات أخرى، وقد يسعى إلى اللجوء لأحضان أخرى، أو يهرب من حميمية مزعجة.
- ينبغي تحفيز الازواج الشباب على خلق عادات خاصة بهم، تمنحهم شعورًا صحيحًا بالاستقرار والحماية، عادات يتم اقامتها من خلال مجموعة من الطقوس اليومية المشتركة. فمن الجيد تبادل قبلة الصباح؛ والبركة الليلية يوميًّا؛ وانتظار الشريك الآخر والترحيب به عند وصوله؛ والخروج في بعض الاحيان سويًّا؛ وتقاسم المهام المنزلية. لكن من الجيد كذلك، في الوقت نفسه، كسر الرتابة بالأعياد، وعدم فقدان القدرة على الاحتفال ضمن العائلة وعلى الشعور بالفرح والاحتفال بالخبرات الجميلة. ويحتاجون لمفاجأة بعضهما بعضًا بهبات الله وبأن يغذوا معًا فرح العيش سويًّا. لأنهم عندما يعرفون كيف يحتفلون، فإن هذه القدرة تجدد طاقة الحب، وتحرره من الرتابة وتملأ بالألوان، وبالأمل العادات اليومية.
- نحن الرعاة، علينا تشجيع العائلات على النمو في الإيمان. لهذا فمن الجيد أن نشجع على الإعتراف المتواتر، والإرشاد الروحي، والمشاركة في الرياضات الروحية. لكن يجب ألا ننسى الدعوة لإيجاد أوقات صلاة أسبوعية داخل العائلة، لأن “العائلة التي تصلي معًا تبقى متحدة”. كذلك، عندما نقوم بزيارة المنازل، علينا دعوة جميع أفراد الأسرة للصلاة الواحد من أجل الآخر وتسليم العائلة بين يديّ الرب. في الوقت نفسه، من المفيد كذلك تشجيع كلّ من الزوجين لتكريس بعض اللحظات من الصلاة في عزلة مع الله، لأن كلَّ واحدٍ لديه صلبانه السريِّة. فلماذا لا تبوح لله بما يزعج قلبك أو تطلب منه القوة لتضميد الجراح الشخصية، وتطلب النور الذي تحتاجه للحفاظ على التزامك؟ أوضح آباء السينودس أيضًا أن “كلمة الله هي ينبوع الحياة والروحانية للعائلة. فيجب على الرعوية العائلية أن تسمح لها بأن تشكلها داخليًا، وأن تشكل أعضاء الكنيسة البيتية بفضل قراءة مصلية وكنسية للكتاب المقدس. إن كلمة الله ليست مجرد خبر سار لحياة الأفراد الشخصية، إنما هي أيضًا معيار للحكم ونور للتمييز بين مختلف التحديات التي يواجها الازواج والعائلات”[252] .
- من المحتمل أن يكون أحد الازواج غير معمّد أو لا يرغب في عيش التزامات الإيمان. في هذه الحالة، تعاش بألم رغبة الشريك الآخر بأن يحيا وينمو كمسيحي أمام عدم اكتراث الطرف الآخر. مع ذلك، يمكن إيجاد بعض القيِّم المشتركة التي يمكن مشاطرتها وتنميتها بحماس. على أي حال، حب الشريك غير المؤمن وإسعاده، والتخفيف من معاناته، ومقاسمته الحياة، هي مسيرة حقيقية للقداسة. من ناحية أخرى، الحب هو هبة من الله، وحيث ينتشر يسمح بالشعور بقوته المحولّة، وأحيانًا بطرق غامضة لدرجة أن “لأَنَّ الرَّجُلَ غَيْرَ الْمُؤْمِنِ مُقَدَّسٌ فِي الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةُ غَيْرُ الْمُؤْمِنَةِ مُقَدَّسَةٌ فِي الرَّجُلِ الْمُؤْمِن”(1 قور 7، 14).
- بإمكان الرعايا والحركات والمدارس والمؤسسات الكنسية الأخرى أن تلجأ إلى مختلف الوسائل لمداواة وإنعاش العائلات. على سبيل المثال، من خلال أدوات مثل: لقاءات الأزواج المجاورين أو الأصدقاء؛ القيام برياضات روحية قصيرة للأزواج؛ المشاركة بالمؤتمرات المتخصصة في قضايا محددة حول الحياة العائلية؛ مراكز الإرشاد الزوجي؛ المبشرين تم تدريبهم للحوار مع الازواج عن صعوباتهم وتطلعاتهم؛ التشاور حول الحالات العائلية المختلفة (الإدمان، الخيانة الزوجية والعنف الأسري)؛ المساحات الروحانية؛ وِرش العمل التدريبية للآباء ولأمهات الأطفال المضطربين؛ واللقاءات العائلية. ينبغي أن يصبح مكتب الرعية قادرًا على أن يستقبلهم بترحاب وبحرارة وأن يعالج حالات الطوارئ العائلية أو بتوجيه الازواج إلى مَن يستطيع مساعدتهم. هناك أيضًا دعم رعوي يُقدم في مجموعات الأزواج -سواء بالخدمة أو الرسالة- بالصلاة، وبالتنشئة أو بالمساعدة المتبادلة. إن هذه الجماعات تقدم فرصة للعطاء ولعيش انفتاح العائلات نحو الآخرين، وللمشاركة في الإيمان، ولكن في الوقت نفسه، هي وسيلة لتقوية الازواج وتنميتهم.
- بالتأكيد هناك العديد من المتزوجين الذين يختفون من الجماعة المسيحية بعد الزواج. لكننا، في مرات عديدة، نفقد بعض الفُرص، حين يظهرون مجددًا في بعض المناسبات، حيث بإمكاننا أن نقدم لهم الزواج المسيحي بطريقة شيِّقة، وجذبهم نحو مساحات المرافقة. أود أن أشير، على سبيل المثال، إلى مناسبات معمودية طفل؛ والمناولة الاحتفالية الأولى؛ أو عند المشاركة في جنازة أو في حفل زواج أحد الأقارب أو الأصدقاء. يعود جميع الأزواج تقريبًا الى الظهور في هذه المناسبات، التي يمكن استغلالها بشكل أفضل. تعتبر مباركة المنازل أو زيارة تمثال للسيدة العذراء مناسبة أخرى للتقرب من الأزواج، وفُرصة لبناء حوار رعوي حول أوضاع العائلة. وقد يكون من المفيد أيضًا أن يُعهد للأزواج الأكثر نضجًا مهمة مرافقة الأزواج الشباب القاطنين في الجوار للقائهم ولمتابعة بداية مرحلة زواجهم، واقتراح مسار لنموهم. مع وتيرة الحياة العصرية، فإن معظم الأزواج لا يستطيعون متابعة اجتماعات دوريِّة، كما لا يمكن اقتصار الرؤية الرعوية على مجموعات صغيرة من النخبة. لهذا يجب أن تكون الرعوية العائلية في يومنا إرسالية في الأساس، وفي الخارج وفي القرب، بدلا من أن تقتصر على كونها مجرد مصنع للدروس والدورات الذي يشارك فيه أقلية من الأشخاص.
إنارة الأزمات، القلق والصعوبات
- ثمة كلمة ينبغي توجيهها لأولئك الذين في الحب قاموا بتعتيق خمر الخطوبة الجديدة. حينما تَتعتّق الخمر بفضل تجربة المسيرة المشتركة، هنا تظهر وتزدهر الأمانة في لحظات الحياة الصغيرة وتزهر في كمال ملئها. إنها أمانة، ممتلئة بتضحيات وأفراح، تزدهر في فصول الحياة التي يبدو فيها أن كل شيء قد أصبح ناضجًا ومعتَّقًا، فتتلألأ العينان بتأمل الأولاد والأحفاد. هكذا كان منذ البدء، ولكنه صار فيما بعد واعيًا، مستقرًا، وقد نضج بفضل المفاجئات اليومية والاكتشاف المتبادل يوما بعد يوم، وسنة بعد سنة. كما علَّم القديس يوحنا الصليب: “إن العشاق القدامى [هم] الذين يملكون التجارب والاختبارات”. إنهم يفتقرون إلى “الانفعالات الحماسية ولحرارة حب ملتهبة خارجيًا. إنهم يتذوقون حلاوة خمرة الحب الأساسية، تلك الخمرة التي قد تخمرت داخل النفس”[253] . يفترض هذا أن يكونوا قد تغلبوا على الأزمات متحدين معًا في أوقات الكرب، دون الهروب من التحديات ودون إخفاء الصعوبات.
- أزماتٌ من كل نوع تعصف بحياة العائلة، أزمات تؤلف أيضًا جزءًا من جمالها المثير. ينبغي المساعدة على اكتشاف أن الأزمة التي تم تخطيها لا تقلل من قوة العلاقة، إنما تُحسن وتَثبت وتُنضج خمر الاتحاد. فالزوجان لا يتعايشان معًا ليكونا أقل سعادة، إنما ليكونا سعيدين بطريقة جديدة، بدءًا من الاحتمالات التي فتحتها مرحلة جديدة. فكل أزمة تنطوي في ذاتها على تعليم بإمكانه أن يزيد من قوة الحياة المشتركة أو يساعد على إيجاد معنى جديد للتجربة الزوجية. بأي حال، لا يجب الاستسلام أمام منعطف منحدر، ولتدهور لا مفر منه، ولفتور محتمل. على العكس من ذلك، فعندما يُعاش الزواج كرسالة، فإن هذا يقتضي أيضًا التغلب على العقبات، واعتبار كل أزمة كفرصة لتذوق الخمر الافضل. إنه لأمر جيد مرافقة الازواج ليكونوا قادرين على قبول الأزمات التي قد تحصل، وتقبل التحديات وإعطائها مكانًا في الحياة العائلية. ويجب على الازواج أصحاب الخبرة والمدرّبين أن يكونوا مستعدين لمرافقة الازواج الآخرين في هذا الاكتشاف، بحيث لا ترهبهم الازمات أو تؤدي بهم إلى اتخاذ قرارات متسرعة. تخفي كل ازمة خبرًا سارًا يجب تعلم كيفية الإصغاء إليه عبر تنقية سمع القلب.
- يكون رد الفعل الفوري أمام تحدي الأزمة هو التمرد، واتخاذ موقف الدفاع عن الذات، والشعور بأن الأمور تخرج عن السيطرة، وهذا لأنه يدل على فشل طريقة الحياة وهذا أمر يزعج. عندها يتم استخدام أسلوب إنكار وجود المشاكل، وإخفائها، وادعاء نسبية أهميتها، والمراهنة فقط على مرور الوقت. لكن هذا يؤخر ايجاد الحل، ويؤدي إلى استهلاك الكثير من الطاقة في إنكار غير مجدٍ، يزيد الامور تعقيدًا. فتتدهور الروابط تدريجيًّا وتعزز العزلة التي بدورها تلحق الضرر بالعلاقة الحميمة. في أزمة لا تحظى بحقها من المسؤولية والاهتمام، يكون التواصل في خطر داهم. بهذه الطريقة، وشيئا فشيئًا، “الشخص الذي أحب”، يصير “مَن يرافقني دائمًا في الحياة”، ثم “والد أو والدة أبنائي”، وأخيرًا “شخصًا غريبًا”.
- لمواجهة أزمة ما يجب أن نكون حاضرين. وهذا يبدو صعبًا، لأن الاشخاص أحيانًا ينعزلون بغية عدم إظهار ما يشعرون به، وينغلقون في صمت مضلل ومخادع. في هذه اللحظات، يكون ضروريًّا خلق مساحات للتواصل من القلب إلى القلب. في وقت الأزمات تكمن المشكلة في أن التواصل يصبح أكثر صعوبة إذا لم يتم مُسبقا تعلم كيفية التواصل في أوقات الازمات. إنه فن حقيقي، يتم تعلمه في أوقات الهدوء لتطبيقه في الاوقات الصعبة. يجب مساعدة الزوجين على اكتشاف الأسباب الخفية في قلوبهما ومواجهتها كولادة ستعبر وستترك خلفها كنزًا جديدًا. وقد أشارت الإجابات التي وردت على الاستشارات التي أجرت إلى أنه في الحالات الصعبة أو الحرجة، لا تلجأ غالبية العائلات إلى المرافقة الرعوية، لأنها لا تشعر بأنها مفهومة، قريبة، واقعية، متجسدة. ولهذا، دعونا نقترب الآن من الأزمات الزوجية بنظرة لا تتجاهل حجم الألم والحسرة التي تحمله.
- هناك أزمات مشتركة تحدث عادة في جميع الزواجات، كأزمات بداية الزواج. حين يبدأ الزوجان في تعلم كيفية الوصول للتوافق في الاختلاف؛ والانفصال عن الاهل؛ أو ازمة ولادة طفل، مع جميع التحديات العاطفية؛ وأزمة الرضاعة التي تغير عادات الأهل؛ وأزمة المراهقة عند الابن، والتي تتطلب طاقات كثيرة وتزعزع الأهل وفي بعض الاحيان تدفعهم للتصادم؛ وأزمة البيت الفارغ والتي تجبر الازواج لأن ينظروا إلى أنفسهم مجددًا؛ والأزمة الناجمة عن شيخوخة أهل الزوجين والذين يحتاجون إلى مزيد من الحضور والاهتمام واتخاذ قرارات صعبة. إنها حالات مُتَطلبة، تسبب المخاوف، والشعور بالذنب، والاكتئاب والتعب ويمكن أن تؤثر تأثيرًا خطيرًا على الاتحاد.
- وعلاوة على كل ما سبق يُمكن إضافة الأزمات الشخصية والتي تؤثر على الأزواج، كتلك المرتبطة بالصعوبات الاقتصادية، والعمل، والعاطفة، والازمات الاجتماعية والروحية. وقد يضاف إليها ظروف غير متوقعة قد تبدّل الحياة العائلية، وتتطلب مسيرة مغفرة ومصالحة. وهنا ينبغي، في ذات اللحظة التي فيها يحاول كل طرف القيام بخطوة المغفرة، أن يسأل كل شريك نفسه بتواضع هادئ إذا لم يكن هو مَنْ خلق الظروف التي أدت بالآخر إلى ارتكاب بعض الأخطاء. فبعض العائلات تتهاوى حين يلوم الزوجان بعضهما البعض، لكن “تبين التجربة أنه مع مساعدة مناسبة، ومع فعل نعمة المصالحة، فإن نسبة كبيرة من أزمات الزواج يتم التغلب عليها بطريقة مرضية. معرفة منح الغفران والإحساس بأنه قد غُفر لي هما تجربة أساسية في الحياة العائلية”[254] . “إن فن المصالحة الشاق، والذي يحتاج إلى دعم النعمة، هو بحاجة إلى التعاون السخي من الأقارب والأصدقاء، وأحيانًا إلى مساعدة متخصصة من الخارج”[255] .
- أصبح من الشائع أنه عندما يشعر المرء بانه لم يحصل على ما يريده، أو لم يحقق ما كان يحلم به، فإن هذا يبدو سببًا كافيًا لإنهاء الزواج. بهذه الطريقة لن يدوم أي زواج. وقد يُتخذ، في بعض الأحيان، قرار إنهاء كلّ شيء بمجرد حدوث خيبة أمل، وبمجرد غياب الشريك عند حاجة الآخر إليه، ولكبرياء مجروح أو خوف كبير. هناك حالات معينة من الضعف البشري، الذي لا مفر منها، والتي يعطى لها ثقل عاطفي كبير. على سبيل المثال، الشعور بعدم الحصول على المحبة المنتظرة، والغيرة، والخلافات التي قد تنشأ بينهما، والاغراءات التي يمارسها طرف أخر، والمصالح الجديدة التي تميل إلى الاستئثار بالقلب، والتغيرات الجسدية التي تطرأ على أحد الازواج، وغيرها من الأمور الأخرى الكثيرة، التي بدلا من اعتبارها هجمات ضد الحب، هي جميعها فرص تدعو لخلق الحب مرة جديدة.
- في ظل هذه الظروف، يتمتع بعض الازواج بالنضج الكافي لاختيار الشريك مرة أخرى كرفيق درب، بعيدًا عن حدود العلاقة، ويقبلون بواقعية أنه لا يستطيع ان يحقق جميع الأحلام التي داعبها. ويتفادوناعتبار أنفسهم الشهداء والوحيدين، ويقدرون الامكانيات الصغيرة منها والمحدودة التي توفرها حياتهم العائلية، ويعملون على تعزيز الرابط في بناء يتطلب وقتًا وجهدًا. لأنهم، في الاساس، يدركون أن كل أزمة تشبه “نعمًا” جديدًا، تجعل من الممكن أن يولد الحب مرة أخرى أكثر قوة وتجليًا، ونضوجًا وتنويرًا. إن الأزمة تعطينا شجاعة البحث عن الجذور العميقة لِما يجري، وإعادة التفاوض من جديد حول الاتفاقيات الجوهرية، لإيجاد توازن جديد، والبدء معًا مرحلة جديدة. فبمثل هذا الموقف الدائم الانفتاح يمكن حل الكثير من الحالات الصعبة! على أية حال، بإقرارنا أن المُصالحة ممكنة، نكتشف اليوم أن إقامة “خدمة متخصصة في التعامل مع الزيجات المتزعزعة، تبدو أمرًا ملحًا للغاية”[256] .
- من المفهوم أن العائلة تواجه العديد من الصعوبات إذ لم ينضج أحد افرادها طريقته في بناء علاقة، لأن جراح مرحلة ما من حياته لم يتم تضميدها. فالطفولة والمراهقة اللتان تعاشان بشكل سيء يشكلان أرضًا خصبة للازمات الشخصية التي تؤدي إلى إلحاق الضرر بالزواج. إذا نضج جميع الافراد بشكل طبيعي، فإن الأزمات ستكون أقل حدوثًا وأقل آلمًا. لكن الواقع هو أن هناك أشخاص يرغبون في سن الأربعين أن يحققوا النضج الذي كان يجب أن يحققوه في سن المراهقة. وأحيانًا يكون الحب أنانيًا مثل الاطفال، حيث يتم تشويه الواقع وعيش نزوة أن كل شيء يجب أن يدور حول الذات. إنه حب لا يَشبع ابدًا، حب يصرخ ويبكي عندما لا يحصل على ما يبتغيه. وأحيانًا أخرى، يكون الحب متوقفًا عند مرحلة المراهقة، فيتميز بالمواجهة والانتقاد الحاد، وبإلقاء اللوم عادة على الآخرين، وبمنطق الوجدان والخيال، حيث على الآخرين أن يملؤوا فراغاتنا وأن يستجيبوا لأهوائنا.
- العديد من الأشخاص ينتهون من طفولتهم دون أن يكونوا قد اختبروا ابدًا أنهم محبوبون بلا شرط، وهذا يضر بقدرتهم على الثقة وهبة الذات. فعلاقة معاشه بشكل سيء مع الاهل والاخوة، تطل بوجهها من جديد وتضر بالحياة الزوجية. ومن ثمَّ، يجب القيام بمسيرة تحرر لم نواجهها ابدًا. فعندما لا تسير العلاقة بين الزوجين بشكل جيد، فمن الضروري قبل اتخاذ قرارات مهمة، أن يتأكد كل طرف بأنه قد قام بمسيرة العلاج هذه في حياته الشخصية. وهذا يتطلب الاعتراف بالحاجة للشفاء، والإلحاح في طلب نعمة المغفرة ومسامحة الذات، وقبول المساعدة، والبحث عن أسباب إيجابية والعودة دائمًا للمحاولة من جديد. يجب على كل شريك أن يكون صادقًا للغاية مع نفسه، والاعتراف بأن طريقته في عيش الحب غير ناضجة. وحتى في تلك الحالات التي قد يبدو واضحًا أن الشريك الآخر هو مَنْ اقترف الخطأ، يبقى من غير الممكن التغلب على الأزمة، بالاعتماد فقط على انتظار أن يتغير فقط الآخر. من الضروري أن نتساءل عن الأشياء التي يمكن للمرء أن ينضجها شخصيًا أو يصححها لتسهيل التغلب على الصراع.
المرافقة بعد حدوث الانفصالات والطلاق
- في بعض الأحيان، من أجل الكرامة الشخصية وخير الاطفال يتطلب الموقف وضع حد للمطالبات المبالغ بها من قبل أحد الأطراف، وللظلم الكبير، وللعنف، أو لعدم الاحترام الذي أصبح مزمنًا. يلزم الاعتراف بأن “هناك حالات يكون الانفصال فيها حلا لا مفر منه. وأحيانًا، يصبح ضرورة أخلاقية، لا سيِّما عندما يتعلق الأمر بحماية الشريك الأضعف أو الأبناء الصغار، من خطر التجريح الخطير والناجمة عن الغطرسة والعنف، والإذلال والاستغلال، الغُربة واللامبالاة”[257] . ومع ذلك، “يجب اعتبار الانفصال العلاج الأخير، بعد أن خابت كل المحاولات المعقولة الأخرى”[258] .
- لقد أشار الآباء بان “تمييزًا خاصًا، في المرافقة الرعوية، هو ضروري بالنسبة الى المنفصلين، والمطلقين، والمتروكين. فينبغي الترحيب وتقديم التقدير للأشخاص الذين عانوا الانفصال، والطلاق أو تم هجرهم بظلم، أو أجبروا على الانفصال نتيجة سوء معاملة الطرف الآخر، فأدى ذلك إلى إنهاء التعايش معًا. ليس بالأمر الهين الصفح بعد التعرض للظلم، لكنَّ النعمة تجعل هذه المسيرة ممكنة. من هنا تأتي ضرورة إيجاد رعوية المصالحة والوساطة من خلال مراكز استشارات متخصصة في الابرشيات”[259] . في الوقت نفسه، “يجب تشجيع الأشخاص المطلقين، والذين لم يتزوجوا ثانية، الذين هم غالبًا شهود للأمانة الزوجية، على أن يجدوا في الإفخارستيا الغذاء الذي يؤازر وضعهم. يجب على الجماعة المحلية والمبشرين متابعة هؤلاء الأشخاص باهتمام ورعاية، وبالأخص عندما يكون هناك أبناء أو حين يعانون من وضع فقر شديد”[260] . فالفشل الزوجي يصبح أكثر صدمة وإيلامًا عند يصاحبه العوز، لأنهم يفتقرون الى الموارد لتوجيه حياتهم من جديد. كما أن شخصًا فقيرًا، عندما يفقد البيئة التي كانت توفر له الحماية العائلية، يكون معرّضًا للهجر بشكل مضاعف، كما انه معرّض أيضًا لجميع أنواع المخاطر.
- بالنسبة للأشخاص المطلقين الذين يعيشون اتحادًا جديدًا من المهم جدًا أن يشعروا بأنهم جزءًا من الكنيسة، وألا يشعروا بأنهم “محرومون كنسيًّا”، ولا أن تتم معاملتهم على هذا النحو، لأنهم يؤلفون دائمًا الشَرِكة الكنسية[261] . إن هذه الحالات “تتطلب تمييزًا دقيقًا، ومرافقة ملؤها الاحترام الكبير، عبر تجنب أية لُغة أو تصرف يشعرون من خلالهما بالتمييز، وعبر تعزيز مشاركتهم في حياة الجماعة. إن رعاية هؤلاء الأشخاص لا يعني من قبل الجماعة المسيحية إضعافًا لإيمانها ولشهادتها لعدم انحلالية الزواج، بل بالأحرى تعبر هذه الرعاية بالضبط عن محبتها”[262] .
- من جهة أخرى، عدد كبير من الآباء “أكدوا على ضرورة جعل إجراءات الوصول الى الاعتراف بحالات بطلان الزواج أكثر إتاحة ومرونة، وبقدر الإمكان مجانية”[263] . إن البطء في سَيّر القضايا يُزعج الأزواج وينهكهم. وقد كان هدف الوثيقتين الاخيرتين اللتين قمت بإصدارهما حول هذا الأمر[264] هو تبسيط إجراءات الإعلان المحتمل لبطلان الزواج. لقد أردت من خلالهما أيضًا، “توضيح أن الأسقف نفسه في كنيسته، حيث تمت رسامته كراعٍ وكرئيس، هو بالفعل نفسه قاض بين الأشخاص المؤتمن عليهم”[265] . لذلك، “إن وضع هذه الوثائق محل التنفيذ يشكّل مسؤولية كبيرة للأساقفة الإيبارشيين، والمدعوين لأن يحكموا بأنفسهم على بعض الحالات، وبأن يضمنوا هم أنفسهم سهولة وصول المؤمنين إلى العدالة. هذا يعني، التحضير لفريق كاف، يكون مؤلفًا من إكليريكيين وعلمانيين، ويكرس قبل كل شيء لهذه الخدمة الكنسية. سيكون من الضروري كذلك أن تتوفر بالنسبة للأشخاص المنفصلين، وللأزواج الذي يعانون الازمات، خدمة مركز معلومات واستشارات ووساطة مرتبطة بالرعوية العائلية والتي تستقبل أيضًا الأشخاص أثناء إجراءات التحقيقات الأولية (را. القاضي الرحيم Mitis Iudex، م. 2- 3)”[266] .
- كما سلّط آباء السينودس الضوء على “عواقب الانفصال أو الطلاق على الأبناء، والذين هم في كل الأحوال ضحايا أبرياء لهذه الأوضاع”[267] . وفوق كل الاعتبارات التي يريد الازواج تقديمها، ينبغي التفكير في الأطفال في المقام الأول ومنحهم الاهتمام أولا، ولا يجب أن يُحجب هذا لأية مصلحة فردية أو هدف آخر. أتوجه إلى الوالدين المنفصلين بهذا التوسل: “لا تستخدموا الابن أبدًا، أبدًا، أبدًا كرهينة، لقد انفصلتم نتيجة لصعوبات ولأسباب كثيرة، وقدمت لكم الحياة هذه التجربة، إنما ليس على الأطفال ان يتحملوا عبء هذا الانفصال، ولا يجب أبدًا استخدامهم كرهينة ضد الشريك الآخر. ينبغي أن ينموا وهم يسمعون الأم تتكلم بطريقة جيدة عن الأب، والأب يتكلم بطريقة جيدة عن الأم، على الرغم من أنهما ليسا بعد معًا”[268] . إنه لتصرف غير مسؤول إفساد صورة الأب أو الأم بهدف الاستئثار بعاطفة الابن، للانتقام أو للدفاع عن الذات، لأن هذا يضر بحياة الطفل العاطفية، وينتج عن ذلك جروح لا تندمل، ومن الصعب شفاؤها.
- على الرغم من أن الكنيسة تتفهم حالات النزاع التي قد يمر بها الأزواج، إلا أنه لا يمكنها أن تتوقف عن أن تكون صوتَ الاشخاص الأكثر ضعفًا، أي الأطفال الذين يتألمون غالبًا بصمت. إننا اليوم “على الرغم من إحساسنا، والذي يبدو مرهفًا، وجميع تحاليلنا النفسية الصافية، فإني أتساءل عما إذا تم تخديرنا، حتى بالنسبة إلى جراح أنفس الأطفال. […] إننا نشعر بثقل الجبل الذي يسحق نفس الطفل، في العائلات التي يعامل افرادها بعضهم البعض بطريقة سيئة، لدرجة الوصول إلى كسر رباط الأمانة الزوجية؟”[269] . إن هذه التجارب المؤلمة لا تساعد في إنضاج الأطفال حتى يصبحوا قادرين على تحمل التزامات نهائية. لذلك، لا يجب على الجماعات المسيحية ان تتخلى عن الاهل المطلقين الذين يعيشون اتحادًا جديدًا. على العكس، يجب احتضانهم ومتابعتهم في مهمتهم التعليمية. في الحقيقة، كيف يمكننا ان نوصي هؤلاء الاهل بأن يقوموا بكل ما هو ممكن لتنشئة الأطفال على الحياة المسيحية، وإعطائهم مثال على قناعة الايمان والممارسات الدينية، إذا كنّا نستبعدهم من حياة الجماعة، كما لو كانوا محرومين كنسيًّا؟ يجب العمل على عدم إضافة أثقال أخرى على تلك التي على الأطفال أن يحملوها بالفعل نتيجة لتلك الأوضاع”[270] . إن مساعدة الاهل على معالجة جراحهم وحمايتهم روحيًّا، يعتبر خيرًا للأطفال أيضًا والذين هم بحاجة إلى رؤية وجه الكنيسة العائلي الذي يحميهم في هذه التجربة الأليمة. إن الطلاق هو شر، ومقلق للغاية ارتفاع عدد حالات الطلاق. لذلك، فإن مهمتنا الرعوية الأهم بالنسبة الى العائلة هي، وبدون أدنى شك، تقوية الحب والمساعدة على معالجة الجراح، بحيث نستطيع تفادي تفاقم مأساة عصرنا هذه.
- “تكتسب القضايا المرتبطة بالزواجات المختلطة اهتمامًا خاصًا. إن الزواجات التي تتم بين أشخاص كاثوليك مع غيرهم من أشخاص معمّدين [غير كاثوليك] «تطرح، برغم سماتها الخاصة، عناصر كثيرة من المفيد تقديرها وتنميتها، سواء لقيمتها الذاتية أو للمساهمة التي تقدمها الى الحركة المسكونية». لهذه الغاية، «يجب البحث عن تعاون وِدِّي […] بين الكاهن الكاثوليكي وغير الكاثوليكي، منذ وقت التحضير للزفاف والعرس»” (وظائف العائلة المسيحية، 78). بالنسبة للمشاركة في الإفخارستيا، نذكّر بان “قرار قبول او عدم قبول الطرف غير الكاثوليكي في التناول الإفخارستي، يكون وفقًا للقواعد العامة القائمة حول هذه الأمر، سواء لمسيحي الشرق أو للمسيحيين الآخرين على حد سواء، آخذين بعين الاعتبار استثنائية هذه الحالة، المتعلقة بقبول سر الزواج المسيحي لشخصين معمدين. فعلى الرغم من أن الزوجين في زواج مختلط يتشاركان بسريّ المعمودية والزواج، إلا أن شركة الإفخارستيا لا يمكن إلا أن يكون أمرًا استثنائيًّا وعلينا في كل حالة مراعاة الأحكام المشار إليها (المجلس الحبري لتعزيز وحدة المسيحيين، دليل لتطبيق مبادئ الحركة المسكونيّة وقواعدها، 25 مارس / آذار 1993، 159- 160)”[271] .
- “تحتل الزيجات المختلطة في الدين مكانًا متميزًا في الحوار بين الأديان […] . وهي تنطوي على بعض الصعوبات الخاصة، سواء المتعلقة بالهوية المسيحية للعائلة، أو بالتربية الدينية للأطفال. […] إن عدد العائلات المؤلفة من زيجات مختلطة في الدين يتزايد في البلاد التبشيرية وأيضًا في البلدان ذات التقاليد المسيحية العريقة، وهذا يدعو إلى حاجة ملحّة لتوفير عناية رعوية مميّزة، وفقًا للسياقات الاجتماعية والثقافية المتعددة. في بعض البلدان، حيث لا يوجد حرية دينية، يتوجب على الطرف المسيحي أن يعتنق الديانة الأخرى كي يستطيع أن يتزوج، ولا يستطيع ان يحتفل بالزواج الكنسي المختلط في الدين ولا أن يمنح الأطفال سر المعمودية أيضًا. لذلك يجب علينا تأكيد ضرورة احترام الحرية الدينية للجميع”[272] . “يجب منح اهتمام خاص للأشخاص الذين يتحدون من خلال هذا النوع من الزيجات، لا فقط خلال الفترة التي تسبق الزواج. فهناك تحديات خاصة يواجهها الأزواج والعائلات التي يكون بها أحد الزوجين كاثوليكيًا والآخر غير مؤمن. في هذه الحالات، من الضروري الشهادة على قدرة الانجيل على اختراق هذه الحالات لجعل تربية الأولاد على الايمان المسيحي ممكنة”[273] .
- “ثمة صعوبات خاصة تواجه الحالات التي تتعلق بمنح سر المعمودية للأشخاص الذين يجدون أنفسهم في حالة زوجية معقدة. يتعلق الأمر هنا بأشخاص قد عقدوا زواجًا ثابتًا في وقت لم يكن يعرف هذا الشخص بَعد الايمان المسيحي. إن الأساقفة مدعون في هذه الحالات إلى ممارسة تمييز رعوية تتناسب مع مصلحة الازواج الروحية”[274] .
- يتماهى موقف الكنسية مع موقف الرب يسوع المسيح الذي وبمحبة بلا حدود بذل نفسه من أجل كل إنسان بدون أي استثناءات[275] . أنظر بعين الاعتبار، مع آباء السينودس، إلى حالات العائلات التي تعيش خبرة وجود اشخاص بداخلها لديهم ميول جنسية مِثليّة، وهي حالات ليست سهلة بالنسبة للوالدين وللأبناء على حد سواء. لذا نرغب في أن نؤكد مجددًا على أن كل شخص، بغض النظر عن ميوله الجنسية، يستحق احترام كرامته، وقبوله باحترام، وبالعناية التي تتجنب “أي شكل من أشكال التمييز الظالم”[276] . وخصوصًا جميع أشكال العدوانية والعنف. ينبغي بالنسبة لتلك العائلات توفير مرافقة تقوم على الاحترام، حتى يتمكن الأفراد الذي يظهرون ميلا جنسيًا مثليًا من الحصول على المساعدات الضرورية لفهم مشيئة الله في حياتهم وعيشها كاملا[277] .
- عبّر آباء السينودس، أثناء المناقشة حول كرامة ومهمة العائلة، عن أنه “فيما يتعلق بمشاريع مساواة الزواج بتلك الاتحادات المرتبطة بأشخاص مِثليين، لا يوجد أي أساس على الاطلاق لاستيعاب او توفير أي نوع من التشابه، ولا حتى من بعيد، بين ارتباط المثليين وتدبير الله حول الزواج والعائلة”. ومن غير المقبول “ان تعاني الكنائس المحلية من ضغوط في هذا الموضوع، أو أن تشترط هيئات دولية تقديم مساعدات مالية إلى الدول الفقيرة بإدخال قوانين تسمح بـ «الزواج» بين أشخاص من نفس الجنس”[278] .
- تجد العائلات المؤلفة من أب أو أم عازبة أصلها في “أمهات وآباء طبيعيين لم يرغبوا مطلقًا بالاندماج في الحياة العائلية؛ أو بحالات العنف التي أدت الى هروب أحد الوالدين مع الأطفال؛ أو موت أحد الوالدين؛ أو تخلي أحد الوالدين عن العائلة؛ وغيرها من الحالات الأخرى. مهما كان السبب، فالطرف الذي يقطن مع الطفل يجب ان يجد الدعم والمساعدة من قبل العائلات الأخرى التي تؤلف الجماعة المسيحية، وأيضًا من قبل المنظمات الرعائية في الرعايا. هذه العائلات هي غالبا ما ترزح أيضًا تحت وطأة المشاكل الاقتصادية، وعدم وجود عمل ثابت، وصعوبة إعالة الاطفال، وعدم وجود منزل”[279] .
عندما ينشب الموت مخالبه [في جسد العائلات]
- أحيانًا تتأثر الحياة العائلية بوفاة شخص عزيز. لا يمكننا أن نتهاون في تقديم نور الايمان لمرافقة العائلات التي تعاني في هذه اللحظات[280] . فالتخلي عن عائلة عندما يبتليها الموت هو موقف بلا رحمة، وهو خسارة لفرصة رعوية، وقد يوصد هذا الموقف الأبواب في وجه أي بادرة تبشير أخرى.
- إنني اتفهم معاناة فقدان شخص محبوب جدًا، كشريك تقاسم معه الكثير من الأمور. إن يسوع نفسه قد تأثر وبكى في سهرة مأتمية لصديق له (را. يو 11، 33. 35). وكيف يمكننا عدم فهم نحيب مَن فقد أبنًا؟ في الواقع، “يبدو الأمر وكأن الزمن قد توقّف: تنفتح هوّةٌ تبتلع الماضي والمستقبل […] وفي بعض الأحيان قد نصل إلى أن نعزوه إلى الله ذاته. كم من الأشخاص – وانا أتفهمهم – يغضبون من الله”[281] . “إن الترمّل هو اختبار صعب للغاية […] لكنَّ البعض يظهر معرفة في سكب طاقاتهم، مع مزيد من التفاني، في الأولاد والأحفاد، فيجدون في هذا التعبير عن الحب مهمةً تعليمية جديدة. […] بالنسبة الى أولئك الذين لا يستطيعون الاعتماد على وجود أحدٍ من العائلة ليكرّسوا وقتهم له، ويحصلوا منهم على من الحنان والتقرّب، يجب دعمهم من قبل الجماعة المسيحية باهتمام ورعاية خاصة، لا سيِّما إذا كانوا في حالة عوز”[282] .
- يمكن عمومًا لفترة الحداد على الميت أن تستمر طويلا. وبالتالي الراعي الذي يريد متابعة هذه المسيرة عليه ان يتكيّف مع احتياجات كل مرحلة من تلك المراحل. إنها مسيرة محفوفة بالأسئلة: حول أسباب الموت؛ وحول ما كان يجب فعله؛ وما يعيشه الشخص قبل أن يموت … يمكن، بمسيرة صلاة صادقة وصبورة ومع تحرر داخلي، أن يعود السلام. عند نقطة معينة من الحداد، هناك حاجة إلى المساعدة على اكتشاف أننا، نحن الذين فقدنا شخصًا عزيزًا، لا يزال لدينا مهمة علينا إنجازها وأن إطالة أمد المعاناة لن يجدي نفعًا، كما لو كانت تكريمًا له. إن الشخص المحبوب ليس بحاجة الى آلمنا، ولن يشعر بالامتنان إذا ما دمّرنا حياتنا، ولا يعتبر تعبيرًا عن الحب ان ذكرناه او سميناه عند كل لحظة، لأن هذا يعني التمسك بماض لم يعد موجودًا بدلا من تقديم الحب لهذا الشخص الذي هو الآن واقعيًّا موجود في الحياة الآخرة. إن وجوده الجسدي لم يعد ممكنًا، إنما إذا كان الموت أمرًا قويًا، فـ “الْمَحَبَّة قَوِيَّةٌ كَالْمَوْتِ” (نش 8، 6). يمتلك الحب حدس يُمكّنه من السماع دون أصوات، ومن رؤية غير المرئي. هذا لا يعني تصور الشخص الحبيب كما كان، بل يعني قبوله متبدّلا، أي كما هو عليه الآن. عندما قام المسيح من بين الاموات، وأرادت الصديقة مريم معانقته بقوّة، طلب منها عدم لمسه (را. يو 20، 17)، كي يقودها نحو لقاء مختلف.
- إنها لتعزية لنا أن نعرف بأنه ليس ثمة تدمير كامل لأولئك الذين يموتون، ويؤكد لنا الايمان أن القائم من بين الأموات لن يتخلى عنّا ابدًا. بهذه الطريقة يمكننا أن نمنع الموت “من تسميم حياتنا، ومن أن يفسد محبتنا، وأن يسقطنا في فراغ حالك وقاتم”[283] . يتحدث الكتاب المقدس عن الله الذي خلقنا من أجل الحب، وصنعنا بطريقة عجيبة بحيث أن حياتنا لا تنتهي مع الموت (را. حك 3، 2- 3). يتحدّث القديس بولس الرسول عن لقاء مع المسيح مباشرة بعد الموت: “فلِي رَغبَةٌ في الرَّحيل لأَكونَ مع المسيح” (فل 1، 23). فمع المسيح ينتظرنا بعد الموت ما أعدّه الرب للذين يحبّهم (را. 1 قور 2، 9). تعبّر مقدمة القداس الخاصة بالموتى عن هذا بشكل رائع: “إن كنا نشعر بالحزن بسبب اليقين بوجود الموت، يعزينا الوعد بالخلود المستقبلي. لم يتم سلب الحياة من شعبك، أيها الرب، إنما تم تحويلها” في الواقع، “لم يختفِ أحباؤنا في ظلمة العدم: يؤكد لنا الرجاء أنهم بين يدي الله الأمينة والقوية”[284] .
- طريقة للتواصل مع أحبائنا الموتى هي في الصلاة لأجلهم[285] . يقول الكتاب المقدّس بان “الصلاة من أجل الموتى هي أمر “مقدّس وتقوي” (22 مك 12، 44- 45). إن “الصلاة من أجلهم قد لا تساعدهم وحسب، إنما تجعل شفاعتهم فعّالة من أجلنا”[286] . يقدّم سفر الرؤيا الشهداء وهم يتشفعون من أجل الذين يعانون الظلم على الأرض (را. 6، 9- 11)، ومتضامنين مع هذا العالم الذي ما زال يسير على الدرب. وبعض القديسين قبل موتهم كانوا يواسون أحباءهم مؤكدين لهم بأنهم سيكونون بقربهم لمساعدتهم. وقد أحست سانت تريز دي ليزيو بأنها ستستمر من السماء في فعل الخير[287] .وكان سان دومنيكو يؤكد بأنه سيكون أكثر فائدة بعد الموت […] وأكثر قوة في “الحصول على النِعَم”[288] ، إنها أواصر المحبة[289] ، لأن “اتحاد أولئك الذين لا يزالون يسيرون على الدرب مع أخوتهم الذين رقدوا في سلام المسيحلم يعتريه أي انقطاع على الإطلاق […] بل على العكس، فوفقًا لإيمان الكنيسة، لقد تعزز من تبادل الخيرات الروحية”[290] .
- إن قبلنا الموت نستطيع ان نتحضّر له. تكمن الطريقة في أن ننمو في الحب مع أولئك الذين يسيرون معنا، الى اليوم الذي فيه: “للمَوتِ لن يَبْقى وُجودٌ بَعدَ الآن، ولا لِلحُزنِ ولا لِلصُّراخِ ولا لِلأَلَمِ لن يَبْقى وُجودٌ بَعدَ الآَن” (رؤ 21، 4). بهذه الطريقة نستعد لملاقاة أحبائنا الذين انتقلوا، وكما أعاد يسوع إلى الأم ابنها الذي مات (را. لو 7، 15)، فهو سيفعل الشيء نفسه معنا. دعونا لا نضيّع طاقاتنا بالمكوث سنوات وسنوات في الماضي. فكلما عشنا بشكل أفضل على هذه الأرض كلما تقاسمنا سعادة أكبر مع احبائنا في السماء؛ وكلما تمكنا من النضوج ومن النمو كلما حملنا لهم أشياء أفضل في الوليمة السماوية.
الفصل السابع
تعزيز تربية الأبناء
- يؤثر الاهل دائمًا على التطوير الأخلاقي لأولادهم، خيرًا كان أم شرًّا. نتيجة لذلك، يكون الاختيار الأفضل هو أن يقبلوا هذه المسؤولية التي لا يمكن تفاديها، وأن يحققوها بوعي وبحماس وبشكل معقول وملائم. إن هذه الوظيفة التربوية للعائلات هي في غاية الأهمية وقد أصبحت أكثر تعقيدًا. وأودّ هنا التوقف بشكل خاص عند هذه النقطة.
- لا يمكن للعائلة أن تتخلى عن كونها مكانًا للحماية وللمتابعة وللتوجيه، حتى إذا كان عليها إعادة صياغة أساليبها وإيجاد مصادر جديدة. تبقى العائلة بحاجة إلى أن تتساءل إلى أي شيء تُريد تعريض أولادها. لهذا الغرض، على العائلة ألا تتحاشى التساؤل عن مَنْ هم المكلفون بتسليتهم وملء أوقات فراغهم، وعن أولئك الذين يدخلون إلى البيوت عبر خلال الشاشات، وعن أولئك الذين يعهد إليهم بإرشادهم في الوقت الحر. وحدها اللحظات التي نقضيها معهم بالتحدث ببساطة وبعاطفة عن الأمور المهمة، والامكانيات الصحية التي نوفّرها لهم حتى يتمكنوا من شغل وقتهم، هي ما سيسمح لهم بمقاومة الغزو الضار. إننا بحاجة دائمة إلى اليقظة. فالإهمال لا يفيد أبدًا. وعلى الاهل أن يوجِّهوا ويُحذروا أطفالهم والمراهقين منهم كي يعرفوا كيف يواجهوا الحالات التي قد يجدون فيها، على سبيل المثال، مخاطر الاعتداء والتعسف أو الإدمان.
- مع ذلك، الاستحواذ لا يُعلِّم، ولا يمكن السيطرة على جميع الأوضاع التي قد يمر بها الطفل. هنا ينطبق مبدأ “الزمن أسمى من المساحة”[291] . والذي يعني، أن الأمر يتعلق بابتكار تدابير، أكثر من مجرد البحث عن السيطرة على المساحات. فإن كان هاجس أحد الوالدين هو أن يعرف أين يتواجد ابنه، ويرغب بالتحكم في جميع تحركاته، فهو بذلك يبحث عن السيطرة على مساحته. وهو بهذه الطريقة لن يعلمه ولن يقوّيه، ولن يحضّره لمواجهة التحديات. إنما ما يهم في الأساس هو تنشئة الطفل، بحب كبير، من خلال عملية إنضاج حريته، وتحضيره لمسيرة نمو شاملة، وزيادة الاستقلالية الأصيلة لديه. فيكتسب الطفل بنفسه، فقط بهذه الطريقة، العناصر التي يحتاجها للدفاع عن نفسه وللتصرّف بذكاء وبتبصّر في الظروف الصعبة. لذا، فإن السؤال الأهم ليس أين يتواجد الابن جسديًّا، وليس مع مَن هو متواجد في هذه اللحظة، إنما أين يتواجد بالمعنى الوجودي، وأين هو مِن قناعاته، وأهدافه، ورغباته، ومشروع حياته. لذلك، فإن الأسئلة التي أطرحها على الأهل هي: “هل نسعى إلى فَهم «أين» هم الأبناء فعلًا في مسيرتهم؟ هل نعرف أين يذهب فكرهم فعلا؟ وقبل كل شيء: هل نريد أن نعرف؟”[292] .
- إذا كان النضوج يعني فقط العمل على تطوير شيء موجود في الشفرة الوراثية، فليس هناك الكثير للقيام به. إنما الحيطة، والحكم الجيد، والحس السليم، هي أمور لا تعتمد على عوامل تنمو في الكم، بل على سلسلة من العناصر التي تتشكّل في باطن الشخص؛ ولكي نكون أكثر دقة، إنها تتكوّن في مركز حريته. لا بدَّ لكل طفل من أن يفاجئنا بمشاريع تنطلق من هذه الحرية، والتي قد تخالف مخططاتنا، إن حدوث هذا هو أمر جيد. فالتعليم يقتضي تعزيز الحريّة المسؤولة، ليكونوا قادرين، عند المراحل المفصلية في حياتهم، على أن يختاروا بذكاء وبحس سليم؛ وأن يصيروا أشخاصًا يفهمون بدون تحفظ أن حياتهم وحياة الجماعة هي في أيديهم، فهذه الحرية تعتبر هدية عظيمة.
- حتى وإن كان الاهل بحاجة إلى إرسال أطفالهم إلى المدرسة لضمان التعليم الأساسي، إلا أنه ليس بمقدورهم أبدًا أن يمنحوا تفويضًا كاملا بتنشئة أبنائهم الأخلاقية. فالنمو العاطفي والأخلاقي للشخص يتطلب تجربة أساسية: أن يؤمن بأن الوالدين هم جديرون بالثقة. وهذا يشكل مسؤولية تعليمية: من خلال العاطفة والشهادة وخلق الثقة لدى الأطفال وإلهامهم احترامًا ملؤه المحبة. فعندما لا يعود الطفل يشعر بأن له قيمة عند أهله بالرغم من نواقصه، أو يستشعر بأنهم لا يولونه اهتمامًا صادقًا، فإن هذا يخلق عنده جراحًا عميقة، ويتسبب بصعوبات مختلفة في مراحل نضوجه. إن هذا الغياب، وهذا التخلي العاطفي، يسبب ألمًا أعمق من ذاك الذي يشعر به من جراء تأديب يتعرض له لقاء اقترافه عملا سيئًا.
- تشمل مهمة الوالدين واجب تربية الإرادة، وتطوير العادات الجيدة والميول الوجدانية نحو الخير. هذا يعني تقديمها كتصرفات مرغوب في تَعلُّمِها وكتوجّهات يجب انضاجها. يتعلق الأمر دائمًا بمسيرة تنطلق مما هو غير كامل نحو ما هو أكثر اكتمالا. فالرغبة في التكيف مع المجتمع أو عادة التخلي عن الإشباع الفوري للحاجات، من أجل التأقلم مع قاعدة ما ولتحقيق تعايش جيد، هي أمور تعتبر بحد ذاتها قِيمة مبدئية تخلق بدورها مناخًا للارتقاء نحو قيِّم أسمى. يجب دائمًا إحراز التنشئة الاخلاقية عبر أساليب فعّالة ومن خلال حوار تعليمي يأخذ بعين الاعتبار العاطفة واللغة الخاصتين بالأطفال. إضافة الى ذلك، يجب أن تتم هذه التنشئة بطريقة حثية، بحيث يتمكن الطفل من أن يكتشف بنفسه الأهمية الموجودة في قيم ومبادئ وقواعد معينة، بدلا من فرضها عليه كحقائق لا جدال فيها.
- لا يكفي “الحكم بطريقة مناسبة” للتصرف بطريقة جيدة أو لمعرفة ما يجب القيام به بوضوح، حتى ولو كان الأمر ذا أولوية. فكم من المرات لا نتصرف بتوافق مع قناعاتنا الشخصية حتى عندما تكون تلك القناعات راسخة. فحتى ولو كان الضمير يملي علينا حكمًا أخلاقيًّا معينًّا، في بعض الأحيان يكون لميول أخرى القوة لجذبنا نحوها، فنحن إن لم نقتنع بأن الخير، الذي قد أدركه العقل، ينبغي أن يتجذر فينا كميل عاطفي عميق، مثل تذوّق الخير الذي يزن أكثر من الأمور الجذابة الأخرى. هذا يجعلنا نشعر بأننا عندما نقوم بعمل الخير يكون هذا أيضًا “من أجلنا” هنا والآن. تقتضي التنشئة الأخلاقية الفعالة اظهار مدى استفادة الشخص ذاته من عمل الخير. لأنه مِن غير المجدي اليوم أن نطلب أمرًا يتطلب جهدًا وتنازلات، دون أن نظهر بوضوح الخير الذي يمكن أن ينتج عنه.
- من الضروري القيام بإنضاج العادات. فالتصرفات التي يكتسبها الأطفال يكون لها أيضًا دور إيجابي، لأنها تساعد على ترجمة القيم المستبطنة الكبيرة إلى سلوكيات خارجية صحيحة ومستقرة. فقد يكون لدى شخص مشاعر اجتماعية وحسن تصرف تجاه الآخرين، إنما إذا لم يعتاد، تحت تأثير إصرار الكبار، أن يردد عبارات مثل: “من فضلك”، “بعد إذنك”، و”شكرًا” فإن استعداده الداخلي لن يُترجم بسهولة إلى هذه العبارات. إن تقوية الإرادة وتكرار بعض التصرفات يشكّلان السلوك الأخلاقي، لدرجة أنه يصبح من غير الممكن إتمام التربية، في هذا الاتجاه، بدون التكرار الواعي والحر والمُشجِع.
- الحرية هي أمرٌ عظيمٌ، لكن باستطاعتنا أن نفقدها. تقوم التربية الأخلاقية على تنمية الحرية عبر اقتراحات، ودوافع، وتطبيقات عملية، وجوائز، محفّزات، أمثلة، ونماذج، ورموز، وأفكار، ونصائح، ومراجعة طريقة التصرف والحوار، وجميع تلك الأمور التي تساعد الأشخاص على تطوير تلك المبادئ داخليًّا وجعلها أكثر رسوخًا كي تحفزهم على فعل الخير بتلقائية. الفضيلة هي تلك القناعة التي انتقلت إلينا كمبدأ داخلي وراسخ للتصرف. لذلك، فإن الحياة الصالحة تُقوّم الحرية، وتقويها وتربيها، عن طريق جعل الشخص يتجنّب عبودية الميول القهرية غير الإنسانية وغير الاجتماعية. في الواقع، كرامة الإنسان بحد ذاتها “تتطلَّبُ منه أن يتصرَّفَ استنادًا إلى اختيارٍ حرٍّ وواعٍ مدفوعًا باقتناعٍ شخصيٍّ يُحدِّدُ موقفَهُ”[293] .
- بالتساوي، لا بد من تنشئة الطفل والمراهق على معرفة أن أعماله السيئة سيكون لها عواقب. وهناك حاجة لأيقاظ قدرة وضع أنفسنا مكان الآخر، والندم على المعاناة التي قد أُلحقَت به. فبعض التصرفات –العدوانية والمعادية للمجتمع- بإمكانها أن تؤول جزئيًا إلى هذه النهاية. من المهم توجيه الطفل بحزم لطلب الغفران ولإصلاح الضرر الذي ألحقه بالآخرين. عندما تعطي المسيرة التعليمية ثمارها في عملية نضوج الحرية الشخصية، فإن الابن عند نقطة معينة سيبدأ، ومن تلقاء نفسه، في أن يدرك وبامتنان أنه كان من الجيد له أن ينمو ضمن عائلة، وأن يتحمل المطالب التي تفترضها كل عملية التنشئة.
- يعتبر التقويم تحفيزًا عندما يكون مصحوبًا بالتقدير وبالاعتراف بالمجهودات المبذولة، وعندما يكتشف الابن أن أهله يتعاملون معه بثقة صبورة. فالطفل الذي يقوَّم بطريقة ملؤها الحب يشعر بكونه محل تقدير، ويدرك بأنه شخص، ويعي بأن أهله يثمنون ملكاته الخاصة. لا يتطلب هذا أن يكون الأهل بلا عيب، بل أن يدركوا بكل تواضع حدودهم، وأن يظهروا جهودهم الشخصية ليصبحوا أفضل. إن الشهادة التي يحتاج إليها الأطفال من أهلهم هي ألا يتصرفوا بدافع الغضب. فعندما يرتكب الابن فعلا سيئا، يجب تصحيحه، لكن ليس ابدًا كعدو او كمَن يتم تفريغ شحنة الغضب فيه. إضافة إلى ذلك، ينبغي على الشخص البالغ أن يعرف أن بعض التصرفات السيئة هي مرتبطة بالضعف وبحدود عامل السن. لذا، فإن اتباع أسلوب المعاقبة المستمر قد يعطي نتائج ضارة، لأنه لن يساعد في إدراك الاختلاف في خطورة الأفعال، وسيؤول إلى الإحباط والتضايق: “لا تُغيظوا أَبناءَكم” (أف 6، 4؛ را. قول 3، 21).
- إن الشيء الرئيسي هو ألا يتحوّل الانضباط الى بتر للرغبة، بل إلى حافز للتقدم دومًا للأمام. كيف يمكننا أن نربط بين الانضباط والدينامية الداخلية؟ كيف يمكننا التأكد من جعل الانضباط كحدٍ بَنَّاء للمسيرة التي يجب ان يتبعه الطفل، وليس كجدارٍ يلغيه أو كبُعدٍ للتعليم يكبته؟ ينبغي الوصول إلى التوازن بين نقيضين كلاهما مضر على حد سواء: الأول يفترض بأن على المرء أن يبني عالمًا يلبي جميع رغبات الطفل، عالمًا بمقياس ما له من حقوق وليس ما عليه من مسؤوليات. أما النقيض الآخر فيكمن في أن يعيش الطفل دون وعي بكرامته، وبهويته الفريدة وبحقوقه، تحت قهر واجباته، مذعنا لتحقيق رغبات الآخرين.
- تفترض التربية الأخلاقية ألا يُطلب من الطفل أو الشاب القيام فقط بالأمور التي تمثل تضحية مبالغ بها، بل بتلك التي تتطلب منه جهدًا لا يسبب غيظًا ولا ستلزم أفعالا شاقة للغاية. فمسيرة التربية الاعتيادية تتكون من خطوات صغيرة، تكون مفهومة ومقبولة وتتطلب تنازلات متناسبة. خلافًا لذلك، مَن يطلب الكثير لا يحصل على شيء. وبمجرد أن يتحرر الشخص من السلطة، ربما يتوقف عن التصرف بطريقة مستقيمة.
- أحيانًا تُسفر التنشئة الأخلاقية عن الشعور بالازدراء بسبب تجارب التخلي، وخيبة الامل، والحرمان العاطفي، أو بسبب صورة الأهل السيئة. فيقوم الشخص بإسقاط الصور المشوهة لشخصية الأب او الأم أو لتقصير البالغين، على القيِّم الأخلاقية. لهذا السبب يجب مساعدة المراهقين لتطبيق مبدأ التماثل: فالقيم يتمُّ عيشها بشكل خاص من قِبل أشخاص مثاليين للغاية، لكنها تتحقق بشكل غير كامل وبدراجات متفاوتة. في الوقت عينه، تُحتِم مقاومة الشباب، والتي ترتبط بتجارب سلبية، واجبَ مساعدتهم لمتابعة مسيرة علاج لعالمهم الداخلي الجريح هذا. حتى يتمكنوا هكذا من الوصول الى التفاهم والمصالحة مع الأشخاص الآخرين وبالتالي المجتمع.
- عند اقتراح القِيِّم، يجب أن يتم هذا بشكل تدريجي، وأن نتقدم بطرق مختلفة ووفقًا للسن ولإمكانيات الشخص الحقيقية، دون الادعاء بتطبيق منهجيات جامدة وغير قابلة للتغيير. تُظهِر المساهمات القيمة لعلم النفس والعلوم التربوية بأن العملية التربوية يجب أن تتم بشكل تدريجي عندما يتعلق الأمر باكتساب سلوكيات مغايرة. وتُظهر كذلك أن الحرية هي أيضًا بحاجة إلى أن تكون مُوجهة ومُحفّزة، لأنها إذا تُركت لنفسها فإن هذا لن يضمن نضوجها الخاص. فالحرية الحاضرة والحقيقية هي محدودة ومشروطة. وهي ليست قدرة خالصة تختار الخير بتلقائية كاملة. وليس من السهل دائمًا التمييز على نحو كاف بين فعل “إرادي” وفعل “حر”. فقد يرغب شخص ما في القيام بعمل ضار بإرادة قوية، لكن أيضًا بسبب شغف لا يستطيع مقاومته أو بسبب تربية سيئة. في تلك الحالة، يكون قراره طوعيًّا بقوة، ولا يتعارض مع ميول إرادته، لكنه قرار غير حر لأنه يكاد يكون من المستحيل عليه عدم اختيار ذاك الشر. هذا ما يحصل قهريًّا مع مدمن المخدرات، فهو عندما يرغب في المُخدر فهو يقوم بهذا بكل قوته، لكنه يكون معصوبًا في هذه اللحظة لدرجة أنه غير قادر على اتخاذ قرار مخالف. لذلك فان قراره هو إرادي، ولكن غير حُر. ولا يوجد أي معنى من “تركه يختار بحرية”، لأنه في الواقع لا يستطيع الاختيار، وتعريضه للمخدرات لن يفيد بشيء سوى بزيادة إدمانه. إنه بحاجة إلى مساعدة الآخرين وإلى اتباع مسيرة تربوية.
- العائلة هي المدرسة الأولى للقيّم الإنسانية. حيث يتعلم الإنسان الاستخدام الجيد للحرية. وتوجد ميول قد تطوّرت في الطفولة، لذا فهي تنطبع في أعماق الشخص وتبقى طوال الحياة كميل عاطفي إيجابي تجاه قيمة ما أو كرفض عفوي لبعض السلوكيات. يتصرف الكثير من الأشخاص بطريقة معينة طوال حياتهم، لأنهم يعتبرون هذه الطريقة التي قد اكتسبوها منذ طفولتهم هي صحيحة، كما لو أنها أمر تناضحي: “هذا ما قد تعلمته”، “هذا ما قد درسوني إياه”. يمكن أيضًا في البيئة العائلية تَعلُّم ممارسة التمييز بطريقة نقدية لمختلف الرسائل التي تأتي من وسائل الاتصال الحديثة. للأسف بعض البرامج التلفزيونية أو بعض أشكال الإعلانات تؤثر سلبًا وتُضعف القيِّم التي تم تعلمها في الحياة العائلية.
- في عصرنا الحالي، حيث يسود القلق والتسارع التكنولوجي، يكون الواجب الأهم للعائلات هو تنمية القدرة على الانتظار. إن الأمر لا يتعلق بمنع الأطفال من اللعب بالأجهزة الالكترونية، إنما بإيجاد السُبل التي تولِّد فيهم القدرة على التفريق بين الأنماط المختلف، وبعدم تطبيق السرعة الرقمية على جميع مجالات الحياة. التأجيل لا يعني نفي الرغبة، إنما تأجيل تحقيقها. فعندما لا يتعلم الأطفال أو المراهقون قبول أن بعض الأشياء يجب أن تنتظر، فإنهم يصبحون عديمو الصبر، ويسعون لإخضاع كل شيء لإشباع احتياجاتهم العاجلة، فينمون برفقة تلك العادة السيئة: “كل شيء وفورًا”. ويعتبر هذا خدعة كبيرة لا تشجع على الحرية، إنما تُسمِّمها. بينما، عندما يتم التنشئة على كيفية تأجيل بعض الأمور وانتظار الوقت المناسب، فإن الشخص يتعلم ماذا يعني أن يكون سيد نفسِّه، شخصًا مستقلا أمام نزواته الخاصة. هكذا، عندما يختبر الطفل بأن عليه أن يتحمل مسؤولية نفسه، فهذا يثري فيه اعتزازه بذاته. في الوقت نفسه، هذا يعلمه احترام حرية الآخرين. بالطبع، لا يُقصد من هذا أن نتوقع من الأطفال أن يتصرفوا مثل البالغين، لكن لا يجب الاستهانة بقدرتهم على النمو في نضوج الحرية المسؤولة. يتم هذا الفهم، بطريقة اعتيادية في عائلة سليمة، من خلال متطلبات التعايش معًا.
- تعتبر العائلة بيئة التنشئة الاجتماعية الأولى، لأنها المكان الأول الذي يتعلم فيه المرء كيفيِّة مواجهة شخص آخر، والاصغاء، والمشاركة، والتحمل، والاحترام، والمساعدة والتعايش. لذا يجب أن يثير الواجب التعليمي الإحساسَ بالعالم وبالمجتمع بمثابة “البيئة العائلية”. إنه تربية على كيفية تعلم “التعايش” خارج حدود البيت الخاص. ففي السياق العائلي يتم تعلم كيفية استعادة القُرب من الآخر، والاهتمام ببعضنا البعض، والقاء التحية. هنا يتم كسر الحلقة الأولى لدائرة الأنانية المميتة، أي عندما نتعلم أننا نعيش جنبا الى جنب مع آخرين يستحقون اهتمامنا، ولطفنا وعاطفتنا. لا يوجد ارتباط اجتماعي دون هذا البعد اليومي، والمجهري تقريبًا، أي: المكوث معًا على مقربة؛ والتلاقي في أوقات مختلفة من اليوم؛ والاهتمام بما يهتم به الجميع؛ ومساعدة بعضنا بعض في الأمور اليومية الصغيرة. على العائلة أن تبتدع كل يوم طُرقًا جديدة لتعزيز عملية التقدير المتبادل.
- في البيئة العائلية يمكن أيضًا إعادة تقويم العادات الاستهلاكية للعناية سويًا بالبيت المشترك: “العائلة هي العامل الأساسي لإيكولوجية متكاملة، لأنها العامل الاجتماعي الأول، الذي يحمل في داخله المبدأين الأساسيين للحضارة البشرية على الأرض: مبدأ الشراكة ومبدأ الخصوبة”[294] ، وبالمثل يمكن للأوقات الصعبة من الحياة العائلية أن تكون تعليمية من الدرجة الأولى. هذا ما يحدث، على سبيل المثال، في حالة مرض ما لأن “إزاء المرض، تنشأُ الصعوبات في العائلة أيضًا بسبب الضعف البشريّ. ولكنّ غالبًا ما تُعزِّز فترةُ المرض الروابطَ العائليّة […] إن التربية التي تحصن من التأثُّر بالمرض البشريّ تقسّي القلب. وتجعل الشّباب “متخدرين” تجاه ألم الآخرين؛ غير قادرين على مواجهة الألم وعيش خبرة المحدوديّة”[295] .
- يمكن للقاء التربوي بين الأهل والأولاد أن يصبح سهلا أو معقدًا بسبب تقنيات التواصل والترفيه المتطورة على نحو متزايد. فقد تكون مفيدة إذا تم استخدامها بشكل جيد لجمع أفراد العائلة بالرغم من بعد المسافات. فالاتصالات يمكن أن تصبح متكررة وهذا يساعد على حل صعوبات كثيرة[296] . إنما يجب ان يكون واضحًا بان التقنيات لا تستطيع ان تنشئ أو تستبدل الحاجة إلى الحوار الشخصي والعميق الذي يتطلب التواصل الجسدي أو على الأقل صوت الشخص الآخر. إننا نعلم أن هذه الوسائل، في الواقع، تُبعّد الأشخاص بدلا من أن تقرّبهم، كما يحدث عندما، وقت الغذاء يكون كل واحد منهم مسمرًا عيونه في هاتفه المحمول أو عندما ينام أحد الزوجين وهو ينتظر الآخر الذي يقضي ساعات برفقة الأجهزة الالكترونية. يجب أن تكون التقنيات في العائلة أيضًا حافزًا على الحوار والاتفاق الذي يسمح بمنح الأولوية للقاء العائلة، دون الوقوع في محظورات لا معنى لها. مع ذلك، لا يمكن تجاهل مخاطر اشكال التواصل الجديدة بالنسبة للأطفال والمراهقين، التي في بعض الأحيان تحولهم إلى فاقدي الإرادة، ومنفصلين عن العالم الحقيقي. إن هذا “التوحد التكنولوجي” يعرضهم بشكل أسهل لعملية التلاعب من قبل أولئك الذين يريدون الوصول إلى حميمتهم من أجل مصالح أنانية.
- من ناحية أخرى، ليس من الجيد أن يصبح الأهل متسلطين على أطفالهم، الذين لا يمكنهم إلَّا الوثوق بهم، لأن الأهل هكذا يمنعونهم من القيام بمسيرة صحيحة من التنشئة الاجتماعية ومن النمو العاطفي. بغية تمديد الأمومة والأبوة نحو واقع أوسع ولمزيد من الفعالية، فان “الجماعات المسيحيّة مدعوة إلى مؤازرة رسالة العائلة التربويّة”[297] . خاصة من خلال مسيرة تلقين التنشئة المسيحية. إننا بحاجة الى “إحياء العهد بين العائلة والجماعة المسيحية”[298] . لقد أراد السينودس تسليط الضوء على المدارس الكاثوليكية التي “تلعب دورًا حيويًّا لمساعدة الأهل في واجب تربية أبنائهم. […] يجب أن تحصل المدارس الكاثوليكية في رسالتها على دعم لمساعدة التلاميذ على النمو كأشخاص ناضجين وقادرين على النظر الى العالم بعيني يسوع المُحِبة، وعلى فهم الحياة كدعوة الى حب الله وخدمته”[299] . بهذا المعنى، “تؤكد الكنيسة بقوة حقَّها في أن تعلِّم عقيدتها الخاصة بحريَّة، وتشدِّد على حق المربّين بالاعتراض الضميري”[300] .
- نظر المجمع الفاتيكان الثاني في ضرورة تقديم “تربية إيجابية وحذرة للحياة الجنسية”، يكون بمقدورها الوصول للأطفال المراهقين، ومرافقة “جميع مراحل نموهم”، “آخذة بعين الاعتبار التقدم الذي أحرزه علم النفس وعلم التربية وفن التعليم”[301] وهنا علينا أن نسأل أنفسنا إذا ما كانت مؤسساتنا التعليمية قد أخذت على عاتقها هذا التحدي. من الصعب التفكير في التربية الجنسية في عصر يميل إلى ابتذال وإفقار الحياة الجنسية، والتي لا يمكن فهمها إلا في سياق التنشئة على الحب، وعلى هبة الذات المتبادلة. فقط بهذه الطريقة لا تجد لغة التربية الجنسية نفسَّها خاويّة بل مُنارة. يمكن تهذيب الدافع الجنسي من خلال عملية تَعرف على الذات وعبر تطوير القدرة على التحكم بالنفس، واللذين بدورهما يمكنهما أن يساعدا على تسليط الضوء على القدرات العجيبة للفرح وللقاء المحبة.
- التربية الجنسية تقدم معلومات، لكن دون إهمال أن الأطفال والمراهقين لم يصلوا بعد الى مرحلة النضج الكامل. فالمعلومات يجب أن تقدم في الوقت المناسب، وبطريقة تتناسب مع المرحلة التي يعيشونها. لا يجدي نفعًا إغراقهم بمعلومات دون تطوير حسهم النقدي أمام غزو العروض المقدمة؛ وأمام الإباحية غير المراقبة؛ والإثارات الزائدة التي يمكنها أن تشوه الحياة الجنسية. يجب على الشباب أن يدركوا أنهم محاصرون برسائل لا تستهدف خيرهم ونضجهم. وينبغي علينا مساعدتهم على التعرف والبحث عن التأثيرات الإيجابية، وفي ذات الوقت تحاشي كل ما يشوّه قدرتهم على الحب. يجب علينا بالمثل قبول أن “الحاجة الى لغة جديدة أكثر ملاءمة تَظهرُ خاصة في مرحلة تحضير الأولاد والمراهقين على فهم الحياة الجنسية”[302] .
- على التربية الجنسية أن تحافظ على فضيلة الحياء السليم، ذات القيمة الهائلة، على الرغم من أن البعض يرى بأنه قد عفا عليها الزمن. فالحياء هو وسيلة دفاع طبيعية للشخص، بها يحمي داخليته رافضًا التحول إلى مجرد شيء. بدون الحياء، يمكننا اختزال العاطفة والحياة الجنسية إلى مجرد هواجس تجعلنا نركز فقط على الأعضاء التناسلية، وكوباء يشوّه قدرتنا على الحب تحت اشكال مختلفة من العنف الجنسي، والتي تقودنا إلى التعامل بشكل غير أدمي، أو إلى إيذاء الآخرين.
- كثيرًا ما يركّز التثقيف الجنسي على دعوة “توخي الحذر”، للوصول إلى “جنس آمن”. إن هذه التعابير تدفع نحو تصرف سلبي حول طبيعة وغرض النشاط الجنسي التناسلي، كما لو كان أي طفل محتمل هو عدو علينا حماية أنفسنا منه. وهكذا يتم تشجع العدوانية النرجسية، بدلا من ثقافة الاستقبال. إن أي دعوة للمراهقين للعبث بجسدهم وبرغباتهم وكأنهم قد بلغوا مرحلة النضج، والقيم، والالتزام المتبادل، والاهداف الخاصة بالزواج، هي دعوة غير مسؤولة. لأن بهذه الطريقة يتم تشجيعهم على الاستخفاف وعلى استخدام الشخص الآخر كوسيلة لعيش خبرة ما، أو لتعويض إحساسهم بالعجز أو طموحاتهم الكبيرة. من المهم، بدلا من ذلك، تعليم أسلوب جديد حول تعابير الحب المختلفة؛ وحول الاهتمام المتبادل؛ وحول الحنان القائم على الاحترام؛ وحول التواصل الغني بالمعنى. كل هذا في الواقع يحضّر لهبة الذات الكاملة والسخية والتي سيُعبَّر عنها، بعد التزام علني، من خلال اتحاد الأجساد. هكذا يظهر الاتحاد الجنسي في الزواج كعلامة التزام كامل، قد اغتنت عبر المسيرة السابقة.
- يجب ألا نخدع الشباب بحملهم على الخلط بين المراحل: فالانجذاب “يخلق، للحظة وَهمَ الاتحاد، بيد أن هذا «الاتحاد»، كونه بلا حب، يترك الشخصين غريبين ومختلفين كما كانا في السابق”[303] . تتطلب لغة الجسد نوعًا من التدريب الصبور والذي يسمح بتفسير وتربية الشهوات الخاصة، للوصول حقيقة إلى هبة الذات. فعندما يدعي الفرد بأنه يمنح كلَّ شيء دفعة واحدة، يكون من الممكن أنه لا يمنح شيئًا. ففهم ضُعف والتباس كل مرحلة من العمر شيء، وتشجيع المراهقين على إطالة فترة عدم نضوج طريقتهم في عيش الحب شيء أخر. لكن مَن يتكلم اليوم عن هذه الأمور؟ مَن هو القادر حقًا على أن يأخذ الشباب على محمل الجد؟ مَن الذي يحضرهم على الاستعداد لحب كبير وسخي بطريقة جدّيِّة؟ إننا ننظر إلى التربية الجنسية باستخفاف كبير.
- على التربية الجنسية أن تتضمن احترام وتقدير الاختلاف، لأن هذا يقدم لكل طرف إمكانية التغلب على الانغلاق داخل حدود الذات للانفتاح على قبول الآخر. فما وراء الصعوبات القابلة للفهم، والتي يمكن أن يعيشها كل شخص، يجب مساعدة الفرد على قبول جسده كما خُلِق، لأن “منطق الهيمنة على الجسد الخاص يتحول أحيانًا إلى منطق بارع للهيمنة على الخَلق. […] فتقييم الجسد أيضًا، بأنوثته أو وبذكوريته، هو ضروري كي يتمكن المرء من معرفة ذاته، في اللقاء مع الآخر الذي هو مختلف عنا. بهذه الطريقة يصير من الممكن أن نقبل بفرح هبة الآخر الخاصة، عمل الله الخالق، وأن نُثري بعضنا البعض”[304] . فقط عبر الإقلاع عن الخوف من الاختلاف، يمكن الوصول لتحرير النفس من باطنية الكيان الخاص، ومن الافتتان بالذات. على التربية الجنسية أن تساعد على قبول الشخص لجسده الخاص، كي لا يدعي “محو الاختلاف الجنسي بسبب عجزه عن مواجهته”[305] .
- لا يمكن كذلك تجاهل أنه في تكوين الشخص بحد ذاته، كذكر وكأنثى، لا تؤثر فقط العوامل البيولوجية والوراثية، إنما تتداخل أيضًا العديد من العناصر المتعلقة بالمزاج؛ وبالتاريخ العائلي؛ وبالثقافة؛ وبالتجارب التي خاضها؛ وبالتنشئة التي تلقاها؛ وبتأثير الأصدقاء والأقارب والأشخاص الذين أُعجب بهم؛ وبظروف فعلية تحتاج إلى جهد للتكيف معها. صحيحٌ أننا لا نستطيع الفصل بين ما هو ذكوري أو انثوي في خليقة الله، التي تسبق جميع قراراتنا وتجاربنا، وحيث توجد بها عوامل بيولوجية من المستحيل تجاهلها. إنما صحيح أيضًا ان الذكورية والأنثوية ليستا شيئًا جامدًا. لذلك يكون ممكنًا، على سبيل المثال، أن تتكيف وبمرونة طريقة الزوج في عيش ذكوريته مع وضع الزوجة الوظيفي. فتولي المهام المنزلية أو بعض جوانب تربية الأطفال لا ينتقص من ذكوريتهم، ولا يعتبر فشلا أو استسلامًا أو عارًا. إنما يجب مساعدة الأطفال على قبول هذه الأمور كأمور عادية من “التبادلية” الصائبة، والتي لا تقلل بأي شكل من الأشكال من كرامة صورة الأب. إن التصلب يظهر عندما يمارس الذكر أو الأنثى نوعًا من المبالغة، وعندما لا تتم تربية الأطفال والشباب على مبدأ المعاملة بالمثل، الذي يتجسد في الظروف الحقيقية للزواج. في المقابل، قد تمنع هذه الصلابة بدورها تطوير قدرات الشخص، إلى حد الوصول إلى اعتبار ممارسة الفن أو الرقص كأمر أقل ذكورية، والقيام بالعمل كسائق كأمر أقل أنوثة. لقد تغيَّر هذا، حمدا لله، لكن لا تزال في بعض الأماكن تسيطر بعض المفاهيم غير المناسبة، والتي تؤثر حتى الآن على الحرية المشروعة، وتشوه التطوير الملائم لهوية الأطفال الحقيقية ولقدراتهم.
- يجب أن تتميز تربية الأطفال بمسيرة نقل الايمان، والتي أصبحت صعبةً بسبب نمط الحياة الحالية، من جهة أوقات العمل، وتعقيدات عالم اليوم، حيث يتبع كثيرون، لتأمين احتياجات الحياة، وتيرةَ حياة متسارعة للغاية[306] . مع ذلك، يجب على العائلة الاستمرار في كونها دائمًا المكان الذي فيه نتعلم أسباب جمال الايمان، والصلاة وخدمة الآخرين. وهذا يبدأ مع سر المعمودية، الذي من خلاله، كما كان يقول القديس أوغسطينوس، “تساهم الأمهات اللواتي يحملن أطفالهن على الولادة المقدسة”[307] . ثم تبدأ رحلة نمو تلك الحياة الجديدة. إن الايمان هو هبة من لدن الله، نتلقاه لحظة المعمودية وليس ثمرة لعمل بشري، إنما يبقى الأهل أداة الله لإنضاجه وتطوره. لذلك كم هو رائع “عندما تعلّم الأمّهات الأبناء الصغار أن يبعثوا قبلة ليسوع أو للعذراء. كم من الحنان يحمل هذا التصرّف! في تلك اللحظة يتحوّل قلب الأطفال إلى مكان صلاة”[308] . يفترض نقل الايمان بأن يعيش الاهل تجربة حقيقية من الثقة بالله، ومن البحث عنه، ومن الحاجة إليه، لأنه فقط من خلال هذه الطريقة “مِن جيل إِلى جيلٍ يُسبِّحونَ أَعْمالَكَ ويُخبِرونَ بِمآثِرِكَ” (مز 144، 4) و”الأَبُ يُعَرِّفُ البَنينَ أَمانَتَكَ” (أش 38، 19). هذا يتطلب منا استدعاء اعمال الله في القلوب، حيث لا نستطيع الوصول. إن حبة الخردل الصغيرة للغاية تصبح شجرة كبيرة (را. متّى 13، 31- 32)، هكذا نتمكن من إدراك التفاوت بين الفعل وتأثيره. عندئذ، نعلم أننا لسنا أصحاب الهبة، إنما المؤتمنون الساهرون عليها. على كل حال، يعتبر التزامنا الخلاق بمثابة مساهمة تسمح لنا بالتعاون مع هذه المبادرة. لذلك، “يجب السهر على تعزيز دور الأزواج، الأمهات والآباء، الفاعَّل في التعليم المسيحي […] . التعليم المسيحي العائلي يشكِّل دعمًا كبيرًا، وطريقةً فعَّالةً لتنشئة الآباء والأمهات الجدد وتوعيتهم على رسالتهم كمبشِّرين لعائلتهم”[309] .
- يمكن للتنشئة على الإيمان أن تتكيّف مع كل ابن، لأن الوسائل المكتسبة سابقًا أو الوصفات الجاهزة قد لا تعمل في بعض الأحيان. فالأطفال يحتاجون الى رموز، وايماءات وقصص. أما المراهقون فهم عادة ما يدخلون في أزمات مع السلطات والقوانين، لذا يجب تحفيز تجاربهم الشخصية مع الايمان، وتزويدهم بشهادات ساطعة، تفرض نفسها بقوة جمالها. إن الاهل الذين يرغبون في مرافقة مسيرة أبنائهم، يجب أن ينتبهوا للمتغيرات التي تطرأ على الأبناء، لأنهم يعرفون أن التجربة الروحية لا تُفرض إنما تُعرض على حريتهم. من المهم للغاية أن يرى الأبناء بشكل ملموس مدى أهمية الصلاة عند والديهم. لذلك، فإن لحظات الصلاة في العائلة والتعابير التقوية الشعبية، يمكنها أن تتمتع بقوة تبشيرية أكبر من كل التعليم المسيحي والنقاشات الأخرى. إنني أرغب أن أعبر بشكل خاص عن امتناني لكل الأمهات اللواتي يصلين بدون توقف، كما كانت تفعل القديسة مونيكا، من أجل أبنائهن الذين قد ابتعدوا عن المسيح.
- إن فعل نقل الايمان إلى الأطفال، بمعنى تسهيل التعبير عنه وعن نموه، يسمح للعائلة بأن تصبح مُبَشِرَة بالإنجيل، وأن تبدأ وبتلقائه في نقل هذا الإيمان تدريجيًا الى أولئك الذين يريدون التقرب منها، بل وأيضًا خارج حدود البيئة العائلية نفسها. فالأطفال الذين ينمون داخل عائلات مُبَشِّرَة يصبحون بدورهم مبشرين، إذا ما عرف الأهل عيش هذا الواجب بطريقة تجعل الآخرين يشعرون بأنهم قريبون أو لطفاء، وأن الأبناء، بهذه الطريقة، ينمون في هذا النمط من العلاقة مع العالم، بدون التخلي عن الايمان وعن قناعاتهم الشخصية. لنذكّر أن يسوع نفسه كان يأكل ويشرب مع الخاطئين (را. مر 2، 16؛ متّى 11، 19)، ولم يخشَ التحدث مع المرأة السامرية (را. يو 4، 7- 26)، واستقبال نيقوديموس ليّلا (را. يو 3، 1- 21)، وقد سمح لامرأة زانية أن تدهن قدميه (را. لو 7، 36- 50)، ولم يمتنع عن لمس المرضى (را. مر 1، 40- 45؛ 7، 33)، وكذلك فعل الرسل، فلم يكونوا أشخاصًا يحتقرون الآخرين، أو منغلقين في مجموعات صغيرة من النخبة، معزولين عن حياة الناس. فبينما كانت السلطات تضطهدهم، كانوا يستمتعون بتعاطف كل الشعب (را. رسل 2، 47؛ 4، 21. 33؛ 5، 13).
- “هكذا تتكوَّن العائلة كناشطٍ في العمل الرعوي، من خلال الإعلان الواضح للإنجيل، والإرث وأشكال متعدّدة للشهادة: التضامن مع الفقراء؛ والانفتاح على تنوّع الأشخاص؛ وحماية الخليقة؛ والتضامن المعنوي والمادي مع العائلات الأخرى، ولا سيِّما الأكثر عوزًا؛ والالتزام في تعزيز الخير العام، حتى من خلال البُنى الاجتماعية غير العادلة، وذلك انطلاقًا من مكان عيشها، عبر ممارسة أعمال الرحمة الجسدية والروحية”[310] . هذا ما يجب وضعه في إطار الاعتقاد الأسمى للمسيحيين: حب الآب الذي يدعمنا ويجعلنا ننمو، والذي تجلى بهبة يسوع الكاملة، الحي بيننا، هو الذي يجعلنا قادرين على مواجهة جميع العواصف وكل مراحل الحياة متحدين. يجب أن تدوي الكرازة kerygmaمجددًا في قلب كل عائلة، عند كل مناسبة ملائمة وغير ملائمة، كي تنوّر وتضيء الطريق. علينا جميعًا أن نكون قادرين على القول، بدءًا من حياتنا في العائلة: “نَحنُ عَرَفْنا المحبَّةَ الَّتي يُظهِرُها اللهُ بَينَنا” (1 يو 4، 16). فقط انطلاقًا من هذه التجربة، ستتمكن الرعوية العائلية من جعل العائلات، في الوقت نفسه، كنائس بيتيّة وخميرة تبشير في المجتمع.
الفصل الثّامن
المرافقة، والتميّيز وقبول الضعف
- أكد آباء السينودس أنه بالرغم من أن الكنيسة تعتبر أن كل قطع للرباط الزوجي “هو ضدّ مشيئة الله، فهي أيضًا تعي ضُعف الكثير من أبنائها”[311] . إن الكنسية، مُستنيرة بنظرة المسيح، “تنظر بمحبة إلى أولئك الذين يشاركون في حياتها بطريقة غير مكتملة، مدركة أن نعمة الله تعمل أيضًا في حياتهم وتمنحهم الشجاعة لفعل الخير، وللاعتناء بحب بعضهم ببعض، ويضعون أنفسّهم في خدمة الجماعة التي فيها يعيشون ويعملون”[312] . من جهة أخرى، يتعزز هذا التصرف في سياق سنة اليوبيل المكرّسة للرحمة. بالرغم من أنها تقترح السعي للكمال وتدعو لتقديم جوابًا كاملا لله، “يجب على الكنيسة أن ترافق باهتمام وحرص أبنائها الأكثر ضُعفًا، الذي يعانون من حب مجروح ومفقود، مانحة إياهم ثقة ورجاء، مثل ضوء منارة ميناء أو شعلة في وسط الناس، كي تضيء للذين ضلّوا الطريق أو لهؤلاء الذين يجدون أنفسهم وسط العاصفة”[313] . دعونا ألا ننسى بأن رسالة الكنيسة تشبه غالبًا تلك الخاصة بمستشفى ميداني.
- إن الزواج المسيحي، انعكاس للاتحاد القائم بين المسيح وكنيسته، يتحقق بشكل كامل من خلال الاتحاد بين رجل وامرأة، عندما يهبان أنفسهما أحدهما للآخر بحب حصري، وعبر أمانة إرادية، فينتميان بعضهما لبعض حتى الموت، وينفتحان على نقل الحياة، مُحصَّنين بالسر المقدس الذي يمنحهما النعمة ليصبحا مثل كنيسة بيتية وخميرة لحياة جديدة من أجل المجتمع. أشكال أخرى من الاتحادات تتعارض جذريًا مع هذا النموذج، بينما بعضها يحققه بطريقة جزئية ومشابهة. لقد اكّد آباء السينودس أن الكنيسة لا تتغاضى عن تقييم العناصر البناءة الموجودة في هذه الأوضاع التي لا تستجيب بعد، أو التي لا تتوافق بعد، مع تعاليمها حول الزواج[314] .
- لقد أولى الآباء اهتمامًا أيضًا بالوضع الخاص المرتبط بالزواج المدني فقط، أو، مع احترام للاختلافات، بالحالات الأخرى المتعلقة بالمساكنة البسيطة، حيث “يصل الاتحاد إلى نوع من الاستقرار المتين من خلال رباط عام، وتتسم بعاطفة عميقة، وبالمسؤولية تجاه الأبناء، وبالقدرة على اجتياز المحن، فيمكن النظر إلى هذا الاتحاد كفرصة لمرافقة تطورها نحو سر الزواج”[315] . من ناحية أخرى، من المقلق اليوم ملاحظة أن العديد من الشباب لا يثقون بالزواج، وهم يتساكنون مؤجلين الالتزام الزوجي الى أجل غير مسمى، بينما ينهي آخرون التزامًا قد أُبرِّمَ، وعلى الفور يقيمون التزامًا أخر. هؤلاء “الذين يشكلون جزءًا من الكنيسة هم بحاجة الى عناية رعوية رحيمة ومُشجِعة”[316] . في الواقع، يقع على عاتق الرُعاة، لا فقط تشجيع الزواج المسيحي، بل ممارسة “التمييز الرعوي حيال حالات الكثيرين من الذين لا يعيشون بعد هذا الواقع”. بغية “الدخول في حوار رعوي مع هؤلاء الأشخاص لتسليط الضوء على عناصر حياتهم التي يمكن ان تؤدي إلى انفتاح أكبر نحو إنجيل الزواج بكل كماله”[317] . من المفيد، أثناء التمييز الرعوي، “تحديد العناصر التي قد تعزز التبشير والنمو الإنساني والروحي”[318] .
- “إن اختيار الزواج المدني أو، في حالات كثيرة، مجرَّد المساكنة البسيطة، قد لا يعود غالبًا لأحكام مُسبقة أو لمعارضة للاتحاد الأسراري، بل إلى أسباب ثقافيَّة أو عرضية”[319] . في تلك الحالات، يمكن تقدير علامات الحب والتي بهذه الطريقة تعكس حب الله[320] . نعلم أن “عدد الذين يطلبون الاحتفال بالزواج في الكنيسة بعد أن تساكنوا لفترة طويلة، هو في تزايد مستمر. فالمساكنة البسيطة غالبًا ما يتم اختيارها نتيجة للعقلية العامة السائدة والمتضادة مع المؤسسات والالتزامات النهائية، ولكن أيضًا لانتظار الوصول إلى أمان وجودي (عمل وراتب ثابت). بالنهاية، في بلدان أخرى، تكون اتحادات الأمر الواقع هي كثيرة جدًا، لا فقط كتعبير عن رفض قيّم العائلة والزواج، بل بالأخص لأن الإقدام على الزواج يعتبر رفاهية، من أجل الظروف الاجتماعية، وهكذا يدفع الفقر المادي نحو عيش اتحاد الأمر الواقع”[321] . على أية حال، “لا بد من معالجة هذه الحالات بطريقة بناءة، محاولين تحويلها إلى فرص للسير نحو ملء الزواج والعائلة على ضوء الانجيل. يتعلق الأمر باستقبالهم ومرافقتهم بصبرٍ وبرقّة”[322] . هذا ما صنعه يسوع مع السامرية (را. يو 4، 1- 26): قد خاطب رغبتها بحبٍّ صادق، كي يحرّرها من كلّ ما كان يُعتمُ حياتَها وليهديها إلى ملءِ فرحِ الإنجيل.
- في هذا الاتجاه، اقترح القديس يوحنا بولس الثاني ما يسمى بـ “قانون التدرج”، مدركًا بأن الكائن البشري “يعرف ويحبّ ويحقق الخير الأدبي وفقًا لدرجات نموّه”[323] . لا يتعلق الأمر بـ “التدرّج في القانون”، بل بالتدرّج في الممارسة الفطنة للأفعال الحرة لأفراد ليسوا في حالة تسمح لهم بفهم وتقدير أو بممارسة كاملة للمتطلبات الموضوعية للقانون. لأن أيضًا الشريعة هي عطية من الله تهدي الطريق، وتهب الجميع بدون استثناء إمكانية العيش بقوة النعمة، على الرغم من أن كلّ إنسان “يتقدّم تدريجيًا وتترسّخ شيئًا فشيئًا هباتُ الله ومقتضياتُ محبّته النهائية المطلقة في مجمل حياة الإنسان الشخصية والاجتماعية”[324] .
تمييز الحالات المُسمّاة بـ “الشاذة (عن القانون)”[325]
- لقد أشار المجمع الى مختلف حالات الضعف أو النقص. في هذا الصدد، أودُّ أن اذكّر هنا بما قد تصورته بوضوح لكل الكنيسة، حتى لا تخطئ الطريق: “[…] قد ساد تاريخ الكنيسة منطقان: الإقصاء وإعادة الإدماج […] . درب الكنيسة على الدوام، منذ انعقاد مجمع أورشليم وحتى يومنا هذا، هو درب الرّب يسوع: درب الرحمة والإدماج […] . درب الكنيسة هو عدم الحكم على أحد ابديًّا؛ هو سكب رحمة الله على كلّ إنسان يطلبها بقلبٍ صادق […] لأن المحبة الحقّة هي دائمًا غير مُستحقة وغير مشروطة ومجانية!”[326] . لذا يجب أن “نتحاشى الأحكام التي لا تأخذ بعين الاعتبار تعقيدات الأوضاع المختلفة. ومن الضروري أن نتنبَّه الى الطريقة التي يعيش ويتألم فيها الأشخاص”[327] .
- يتعلق الأمر بإدماج الجميع، وبواجب مساعدة كل شخص على إيجاد الطريقة الخاصة به للانضمام للجماعة الكنسية، حتى يشعر بأنه موضوع رحمة “غير مُستحقة وغير مشروطة ومجانية”. فما من أحد يمكن أن يدان إلى الأبد، لأن هذا ليس هو منطق الانجيل! لا أشير هنا فقط الى المطلقين الذين يعيشون اتحادًا جديدًا، إنما إلى الجميع، في أي وضع كانوا. من الواضح، إذا كان أحدهم يقترف بتباهٍ خطيئة موضوعية، ويتظاهر وكأنها جزء من المفهوم المسيحي، أو يريد أن يفرض شيئا مختلفًا عما تعلمه الكنيسة، فليس بإمكانه الادعاء بأن يقوم بتدريس التعليم المسيحي أو أن يعظ به، وبهذا المعنى يكون هناك أمر يفصله عن الجماعة (را. متّى 18، 17). وهو بحاجة إلى الإصغاء مجددًا لبشارة الانجيل ولدعوة التوبة. غير أنه حتى لهذا الشخص تُتاح إمكانية المشاركة بطريقة ما في حياة الجماعة: في الالتزامات الاجتماعية؛ في لقاءات الصلاة، أو بحسب ما يقترحه بمبادرة شخصية، وبتوافق مع فطنة الراعي. بالنسبة إلى كيفية التعامل مع تلك الحالات التي تسمى “شاذة”، توصل آباء السينودس الى توافق عام في الآراء، أؤيده: “لدعم النهج الرعوي لصالح الأشخاص الذي عقدوا زواجًا مدنيًا، والذين هم مطلقون أو تزوجوا مرة ثانية، أو يعيشون في حالة مساكنة، فمن واجب الكنيسة أن تكشف لهم التربية الإلهية للنعمة في حياتهم ومساعدتهم على أن يحققوا في حياتهم ملء تدبير الله”[328] . هذا ممكن بقوة الروح القدس.
- إن المطلقين الذين يعيشون اتحادًا جديدًا، قد يجدون أنفسهم، على سبيل المثال، في أوضاع مختلفة ومن ثمَّ يجب عدم تصنيفهم أو سجنهم في تأكيدات عبر تصريحات جامدة، دون افساح المجال لعمل تمييز شخصي ورعوي ملائم. فأمر مهم هو الزواج الثاني المعزز بمرور الوقت، مع وجود أطفال جدد، وأمانة مشهودة، والتزام مسيحي، ووعي بعدم انتظام حالتهما، وصعوبة بالغة في الرجوع الى الوراء بدون الشعور ضميريًا بالوقوع مجددًا في الخطأ. والكنيسة تعرف حالات “حيث الرجل والمرأة، لأسباب خطيرة -كتربية الأولاد مثلا-، لا يستطيعان تلبية واجب الانفصال”[329] . هناك أيضًا حالة أولئك الذين بذلوا جهودًا كبيرة لإنقاذ الزواج الأول وقد تم التخلي عنهم ظلمًا، أو حالة أولئك “الذين عقدوا زواجًا جديدًا، من أجل تربية أبنائهم، بينما هم متأكّدون، في قرارة ضميرهم، أن زواجهم السابق الذي فُسخ بصورة نهائية، ما كان يومًا صحيحًا”[330] . وأمر أخر، عندما، خلافًا لهذا، يتعلق الأمر باتحاد جديد جاء نتيجة لطلاق حديث، مع كل ما يترتب عليه من ألم وفوضى تؤثر على الأبناء وعلى عائلات بأكملها، أو حالة الشخص الذي يقصر باستمرار في التزاماته العائلية. يجب ان يكون واضحًا أن هذا ليس هو النموذج الذي يقترحه الانجيل للزواج وللعائلة. أكّد آباء السينودس أن فطنة الرعاة ينبغي أن تتحقق دائمًا عبر تبيّن الحالات بـ”تمييز دقيق”[331] ، وبنظرة تعرف أن تدقق جيِّدًا[332] . فنحن نعلم أنه لا توجد “وصفات بسيطة”[333] .
- أرحّب باعتبارات العديد من آباء السينودس، الذين أرادوا أن يؤكدوا على أن “المعمَّدين المطلَّقين والمرتبطين بزواجٍ مدني جديد أن يكونوا أكثر اندماجًا في الجماعات المسيحية، بمختلف الطرق المُمكنة، متجنِّبين كل فرصة قد تتسبب بشك عام أو عَثرة. إن منطق الادماج هو مفتاح مرافقتهم الرعوية، كي لا يعرفوا فقط أنهم ينتمون لجسد المسيح السرِّي، أي الكنيسة، بل يستطيعون أيضًا أن يعيشوا فيها خبرة سعيدة ومُثمرة. إنهم معمَّدون، إنهم إخوة وأخوات، ويسكب الروح القدس عليهم عطاياه ومواهبه لخير الجميع. ومن الممكن أن تتحقق مشاركتهم من خلال مختلف الخدمات الكنسية: لهذا السبب ينبغي تمييز أيٍّ من أشكال الإقصاء التي تُمارس حاليًا في المجال الليتورجي والرعوي والتربوي والمؤسساتي والتي تمكن تجاوزها. فهم، لا يجب فقط ألاّ يشعروا بأنهم مُسْتبْعدون ومحرومون، بل بمقدورهم أن يعيشوا وينموا كأعضاء حيَّة في الكنيسة، فيشعرون بأنها أمّ تستقبلهم دائمًا، وتهتمُّ بمشاعرهم، وتشجّعهم في مسيرة الحياة والإنجيل. إن هذا الادماج هو ضروري كذلك من أجل العناية بأبنائهم وتأمين التربية المسيحية لهم، هم الذين يجب اعتبارهم الأمر الأكثر أهمية”[334] .
- إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الاختلاف الهائل بين الحالات الواقعية، كتلك التي أشرنا إليها أعلاه، يمكن أن نفهم أنه ما كان ينبغي أن يتوقّع من السينودس أو من هذا الارشاد تشريعًا جديدًا عامًا ذا طبيعة قانونية، ينطبق على جميع الحالات. من الممكن فقط تقديم تشجيع جديد على القيام بتمييز مسؤول وشخصي ورعوي للحالات الخاصة، قد يقود إلى إدراك أنه، بما أن “درجة المسؤولية ليست نفسها في كل الحالات”[335] ، فإن العواقب أو الآثار المترتبة بقاعدة ما ليست بالضرورة هي نفسها[336] . على الكهنة واجب “مرافقة هؤلاء الأشخاص على طريق التمييز بحسب تعاليم الكنيسة وإرشادات الأسقف. وفي هذه المسيرة من الضروري القيام بفحص ضمير عبر أوقات تأمُّل وندم. على المطلَّقين المتزوِّجين مُجددًا أن يتساءلوا: كيف تعاملون مع أبنائهم عندما دخلت العلاقة الزوجية في أزمة؛ وهل كانت هناك محاولات للمصالحة؛ وما هو وضع الشريك المتروك؛ وما هي نتائج ارتباطهم الجديد على بقية أفراد العائلة وجماعة المؤمنين؛ وما هو المثل الذي يقدَّمونه للشباب الذين يتحضَّرون للزواج. فالتأمل الصادق يُمكن أن يقوِّي ويثبِّت الثقة برحمة الله التي لا تُحجب عن أحد”[337] . يتعلق الأمر بمسيرة مرافقة وتمييز “يوجِّه هؤلاء المؤمنين إلى الوعي بأوضاعهم أمام الله. فاللقاء مع الكاهن في محكمة الضمير يؤدِّي إلى الوصول لحكم صحيح حول كلّ ما يحول دون المشاركة التامَّة في حياة الكنيسة، وحول المراحل التي يمكن أن تنمِّي تلك الشركة وتطوُّرها. ونظرًا لعدم وجود تدرُّج في نفس القانون (را. وظائف العائلة المسيحية، 34)، لا يمكن لهذا التمييز أن يتجاهل أبدًا المتطلِّبات الإنجيلية من حقيقة ومحبة، كما تقترحها الكنيسة. ولكي يتحقق ذلك يجب ضمان الشروط الضروريّة من تواضع وتكتُّم ومحبة للكنيسة وتعليمها، في البحث الصادق عن إرادة الله، والرغبة في التجاوب معها على أكمل وجه”[338] . تعتبر هذه التصرفات أساسية لتجنب خطر التعرض للرسائل الخاطئة، مثل فكرة أن كاهنًا ما يمنح استثناءات سريعة أو أن هناك أشخاصًا بإمكانهم الحصول على امتيازات الاسرار مقابل خدمات. فعند وجود شخص مسؤول وحريص، لا يدعي وضع رغباته فوق المصلحة المشتركة للكنيسة، وراعٍ يعرف كيفية التعرف على خطورة الأمر الذي يتناوله، فإننا يجب أن نتجنب خطر أن تمييز معين قد يقود إلى الاعتقاد بأن الكنيسة تتعامل بمعايير مزدوجة.
الظروف المُخفِفة في التمييز الرعويّ
- كي نفهم بشكل صحيح لماذا يكون ممكنًا وضروريًا ممارس تمييز خاص في بعض الحالات المسماة بـ”الشاذة”، هناك مسألة يجب أن تؤخذ دائمًا بعين الاعتبار، بحيث لا يجب أبدًا الاعتقاد باننا نتهاون في متطلبات الانجيل. تمتلك الكنيسة وجهة نظر ثابتة حول الشروط والظروف المخففة. لهذا السبب، ليس من الممكن القول بأن جميع الذين يكونون في حالات يطلق عليها “شاذة” يعيشون في حالة خطيئة مميتة، محرومين من نعمة التقديس. لا تعتمد الحدود على تجاهل ممكن للقواعد ببساطة. فإن شخصًا بالرغم من معرفته الجيدة بقاعدة ما، قد يجد صعوبة بالغة في فهم “القيم الموجودة في قاعدة أدبية”[339] أو قد يجد نفسه في ظروف ملموسة لا يستطيع من خلالها أن يتصرف بشكل مختلف وأن يتخذ قرارات أخرى دون الوقوع في خطأ جديد. كما عبّر بشكل جيد آباء السينودس عن “إمكانية وجود عوامل تَحدُّ من القدرة على القرار”[340] لقد أقر القديس توما الأكويني بأنه من الممكن أن يحصل شخص على النعمة والاحسان، بينما لا يستطيع أن يمارس واحدة من الفضائل[341] ، بحيث أن امتلاكه لجميع الفضائل الأخلاقية الفطرية، فهو لا يُظهر بوضوح وجود أي منها، لأن الممارسة الخارجية لتلك الفضيلة أصبحت صعبة: “يُقال إن بعض القديسين يفتقدون إلى بعض الفضائل، نظرًا للصعوبات التي يجدونها في تطبيقها، بالرغم من أنهم يرتدون ثوب جميع الفضائل”[342] .
- بخصوص هذه الشروط، يعبر التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية بشكل حاسم أنه: “قد تنقص أو تبطل تَبِعَة الفعل والمسؤولية عنه بسبب الجهل، والغَفْلة، والعنف والخوف، والعادات، والتعلّق المفرط، وعوامل نفسية أو اجتماعية أخرى”[343] . وفي فقرة أخرى، يشير مجددًا لظروف تخفف من المسؤولية الأخلاقية ويذكر، بحصافة كبيرة، عدم النضج العاطفي، وقوة العادات المكتسبة، وحالة القلق، وعوامل نفسية أو اجتماعية أخرى[344] . لهذا السبب، فإن حكمًا سلبيًا على حالة موضوعية لا يعني حكمًا على تبعة أو ذنب الشخص المعني[345] . في سياق هذه القناعات، أعتبر من المناسب جدًا ما دعمه الكثير من آباء السينودس: “في بعض الظروف يجد الأشخاص صعوبات كبيرة في التصرّف بطريقة مغايرة. […] وإذ يأخذ التمييز الرعوي بعين الاعتبار الضمير المستقيم لكل شخص، عليه أن يأخذ على عاتقه تلك الأوضاع. فحتى نتائج التصرفات التي اقترفت قد لا تكون نفسها في كلّ الحالات”[346] .
- انطلاقًا من الاعتراف بثقل المتطلبات الواقعية، يمكننا أن نضيف بأن ضمير الأشخاص يجب أن يُشارك بشكل أفضل في إجراءات الكنيسة، في بعض الحالات التي لا تحقق بشكل موضوعي رؤيتنا عن الزواج. بالطبع، يجب علينا أن نشجع نضج الضمير المستنير، ضمير قد تمت تربيته ومرافقته من قبل التمييز المسؤول والجدي للراعي، ضمير يضع ثقة أكبر في النعمة. لكنَّ هذا الضمير يدرك ليس فقط أن حالة ما قد لا تستجيب موضوعيًّا للمتطلبات العامة للإنجيل؛ بل بإمكانه أيضًا أن يعترف بصدق وبأمانة أن هذا هو الجواب السخي الذي يمكن تقديمه لله، ويكتشف بشيء من اليقين الأدبي أن هذه هي الهبة التي يطلبها الله نفسه وسط تعقيدات الضوابط، حتى ولو لم تبلغ بعد كامِلا النموذج الموضوعي. على كل حال، نذكر أن هذا التمييز هو ديناميكي ويجب ان يبقى دومًا مفتوحًا على مراحل النمو الجديدة وعلى قرارات جديدة تسمح بتحقيق النموذج بشكل أكثر كمالا.
- من المجحف التوقف فقط عند إذا ما كان سلوك شخص ما يستجيب أو لا مع قانون ما أو مع قاعدة عامة، لأن هذا وحده ليس كافًا للتمييز ولضمان الأمانة الكامل لله في الوجود الملموس للإنسان. أرجو بحرارة أن نتذكر دومًا ما كان يعلمه القديس توما الأكويني، وأن نتعلم استيعابه عند ممارسة التمييز الرعوي: “على الرغم من أن هناك حاجة معينة في المبادئ العامة، إلا أننا كلما خضنا في الأوضاع الخاص، كلما وجدنا حالات من الضعف. […] في الواقع العملي، نجد أنه لا يوجد تساوٍ للجميع أمام حقيقة أو أمام قاعدة عملية، فيما يتعلق بالتطبيقات الخاصة، إنما هناك فقط احترام لِما يتعلق بالمبادئ العامة؛ فأيضًا أولئك الذين يقبلون في حالات خاصة قاعدة عملية معينة، فإن تلك القاعدة لا تكون معروفة على قدم المساواة من قبل الجميع. […] فكلما دخلنا في التفاصيل كلما خضنا في عمق الحالات الخاصة”[347] . صحيح أن القواعد العامة هي جيدة ولا يجب أبدًا تجاهلها أو إهمالها، إنما في صياغتها ليس بإمكانها أن تشمل جميع الحالات الخاصة. في الوقت نفسه، لا بد من القول، إنه لهذا السبب، ما يجعل تمييزًا عمليًّا حيال حالة معينة لا يمكن رفعه إلى مقام القاعدة. هذا لن يؤدي فقط الى إفتاء لا يحتمل في قضايا الضمير، إنما من شأنه أن يهدد القيِّم التي يجب أن تحاط باهتمامٍ خاص[348] .
- مع ذلك، لا يمكن للراعي ان يكون راضيًا فقط من خلال تطبيق قوانين أدبية على الذين يعيشون حالات “شاذة”، كما لو كانت حجارة يتم رميها ضد حياة الأشخاص. إنها حالة القلوب المغلقة، التي غالبًا ما تختبئ حتى وراء تعاليم الكنيسة. “تجلس على كرسي موسى وتحكم، بتعالٍ وسطحيّة في بعض الأحيان، على أحوال صعبة وأُسَرٍ مجروحة”[349] . في ذات الاتجاه، صرّحت اللجنة اللاهوتية الدولية: “لا يمكن للقانون الطبيعي أن يُقدَّم كمجموعة من القواعد الجاهزة، التي تفرض بدون نقاش على الموضوع الأخلاقي، إنما كمصدر إلهام موضوعي لإجراءاته، الشخصية للغاية، لاتخاذ القرار”[350] . من الممكن بسبب المتطلبات أو العوامل المخففة، داخل حالة موضوعية لخطيئة –بحيث لا يكون الشخص مذنبًا بشكل موضوعي أو لا يكون مذنبًا بشكل كامل، يستطيع العيش في نعمة الله، ويستطيع أن يحب ويستطيع أيضًا أن ينمو في حياة النعمة والإحسان، متلقيًّا بهذا الخصوص مساعدة من الكنيسة[351] . يجب على التمييز أن يساعد في إيجاد الطرق الممكنة للاستجابة لله والنمو من خلال الحدود. إننا، بالاعتقاد بأن كل شيء إما أبيض أو أسود، نغلق أحيانًا طريق النعمة، طريق النمو، ونخيب مسارات التقديس التي تمجد الله. لنتذكر بأن “خطوة صغيرة، وسط حدود الإنسان الكبيرة، يمكن أن يقدّرها الرّب أكثر من حياةٍ صالحةٍ خارجيًّا، حيث يقضي الإنسان أيامها بدون التعرض لصعوبات جسيمة”[352] . إن الرعوية الملموسة للخدّام والجماعات لا يمكنها إلا أن تتبنى هذا الواقع.
- في كل الأحوال، أمام أولئك الذين يواجهون صعوبات في أن يعيشوا بالتمام القانون الإلهي، يجب أن يتردد مجددًا صدى دعوتهم إلى متابعة درب المحبة via caritatis. إن المحبة الأخوية هي القانون الأول للمسيحيين (را. يو 15، 12؛ غل 5، 14). دعونا ألا ننسى وعد الكتاب المقدس: “قَبلَ كُلِّ شَيء لِيُحبَّ بَعضُكم بَعضًا محبَّةً ثابتة، لأَنَّ المَحبَّةَ تَستُرُ كَثيرًا مِنَ الخَطايا” (1 بط 4، 8). “كَفِّرْ عن خَطاياكَ بِالصَّدَقَة وآثامِكَ بِالرَّحمَةِ لِلبائِسين” (دا. 4، 24). “الماءُ يُطفِئ النَّارَ المُلتَهِبَة والصَّدَقَةُ تُكَفّرُ الخَطايا” (سي 3، 30). وهذا ما علَّمَه أيضًا القديس أوغسطينوس: “مثلما في خطر الحريق نسارع ونجلب الماء لإطفائه، […] ، كذلك، إذا هبّ في قشّنا لهيب الخطيئة، واضطربنا من جرّائه، فعندما تتوفّر لنا فرصةُ عمل رحمة، لنفرحنَّ لمثل هذا العمل وكأنه ينبوع يقدّم لنا لنتمكّن من إطفاء الحريق”[353] .
- لتجنب أي تفسير منحرف، أذكر بأنه لا يجب على الكنيسة بأي شكل أن تكف عن تقديم المثال الكامل للزواج، تدبير الله، في كل عظمته: “ينبغي تشجيع الشباب المعمدين على عدم التردد أمام مشاريع حبهم والتي ستغتني بقبول سر الزواج، متقوِّيين بالعون الذي يحصلون عليه من نعمة المسيح، ومن إمكانية المشاركة الكاملة في حياة الكنيسة”[354] . إن الفتور، وأي من أشكال النسبية، أو المبالغة المفرطة عند تقديم الزواج، سيمثل عدم أمانة للإنجيل وأيضًا نقصًا في حب الكنيسة للشباب أنفسهم. إن فهم الحالات الاستثنائية لا يعني إخفاء ضوء المثالية الكاملة، ولا يعني التقليل من إعطاء أقل مما يقدمه يسوع الى الكائن البشري. اليوم، يُعد الجهد الرعوي لتعزيز الأزواج، ومن ثمَّ الوقاية من الانفعالات، أكثر أهمية من العمل الرعوي الموجه لحالات الفشل.
- ومع ذلك، ينتج عن وعينا لوطأة الظروف المخففة -النفسية، والتاريخية وحتى البيولوجية- أنه “دون إنقاص قيمة النموذج الانجيليّ الأعلى، من الواجب مرافقة مراحل النمو الممكنة، برحمة وصبر، لدى الأشخاص الذين يبنون أنفسهم يومًا بعد يوم”، مفسحين المجال “لرحمة الرب التي تحثنا على عمل الخير الممكن”[355] . إنّي أفهم الذين يفضّلون رعوية أكثر صلابة لا تفسح المجال لأي التباس. ولكني أؤمن فعلا بأن يسوع يريد كنيسة متنبهة للخير الذي يسكبه الروح القدس في قلب الضعف: فالأم [الكنيسة] ، وهي تعبّر بوضوحٍ عن تعليمها الموضوعي، “لا تتخلّى عن الخير الممكن، حتى إذا تعرضت للتلوّث بوحل الطريق”[356] . إن الرعاة الذين يقدمون للمؤمنين النموذج الإنجيلي الكامل وعقيدة الكنيسة، عليهم مساعدتهم أيضًا على تبني منطق التعاطف تجاه الأشخاص الضعفاء، وتجنب الاضطهاد أو الاحكام القاسية وغير الصبورة. يطلب منا الانجيل نفسه عدم الحكم وادانة الآخرين (را. متّى 7، 1؛ لو 6، 37). يسوع “ينتظر منا أن نتخلّى عن البحث عن تلك الملاجئ الشخصيّة أو الجماعيّة التي تسمح لنا بالبقاء بعيدين عن قلب المآسي البشريّة، حتى نقبل حقًّا بالاتّصال بوجود الآخرين الحسّي وبالتعرّف على قوّة الحنان. إذا فعلنا ذلك، تصبح حياتنا رائعة”[357] .
- إنه لمِن العناية الإلهية أن تتمّ هذه التأملات في سياق السنة المكرسة ليوبيل الرحمة، لأنه حتى حيال أكثر الأوضاع اختلافًا والتي تهم العائلة فإن “رسالة الكنيسة هي إعلان رحمة الله، القلب النابض للإنجيل، والتي عليها أن تبلغ قلب وعقل كل إنسان. إن عروس المسيح تتبنى موقف ابن الله الذي انطلق لملاقاة الجميع دون أن يستثني أحدًا”[358] . إنها تعرف جيّدًا أن يسوع قد قدم نفسه كراعي المائة خروف، وليس لتسعة وتسعين. إنه يحبهم جميعًا. وانطلاقًا من هذا الوعي، سيتمكن “الجميع، مؤمنين وبعيدين عن الإيمان، من الحصول على بلسم الرحمة كعلامة لملكوت الله الحاضر بيننا”[359] .
- لا نستطيع أن ننسى أن الرحمة “ليست فقط عمل الآب، وإنما تصبح المعيار أيضًا لفهم من هم أبناؤه الحقيقيون. لذلك نحن مدعوون لعيش الرحمة، لأننا قد رُحمنا أولا”[360] . الأمر لا يتعلق باقتراح رومنسي أو باستجابة ضعيفة حيال حب الله الذي يريد دائمًا تشجيع الأشخاص، لأن “الدعامة التي ترتكز إليها الكنيسة هي الرحمة. وكل نشاطها الرعوي ينبغي أن يُلفّ بالحنان الذي تتوجه به إلى المؤمنين؛ وينبغي ألا يفتقر أي جزء من إعلانها وشهادتها حيال العالم من الرحمة”[361] . صحيح أنه “غالبًا ما نتصرّف وكأننا مراقبون للنعمة، لا كميسرين لها. فالكنيسة ليست دائرة جمارك، إنها البيت الأبوي، حيث يتوفّر مكان لكلّ واحد مع حياته الصعبة”[362] .
- لا ينبغي على تدريس اللاهوت الأدبي أن يتوقف عن تقديم هذه الاعتبارات، لأنه، حتى ولو كان صحيحًا أنه يجب الحرص على شمولية تعاليم الكنيسة الأخلاقية، إلا أنه يجب إيلاء اهتمام خاص دائمًا في تسليط الضوء وتشجيع أسمى قيم الإنجيل الاساسية[363] ، ولا سيما أولوية المحبّة كرد على المبادرة المجانية لمحبة الله. أحيانًا يكلفنا الكثير إفساح المجال في رعوية حب الله غير المشروط[364] . لقد وضعنا الكثير من الشروط للرحمة لدرجة تفريغها من المعنى الملموس والمعنى الحقيقي، وهذا هو أسوأ وسيلة لإعلان الإنجيل. صحيح، على سبيل المثال، أن الرحمة لا تستبعد العدالة والحقيقة، لكن علينا قبل كل شيء أن نعلن أن الرحمة هي ملء العدالة والإعلان المضيء عن حقيقة الله. لذا، ينبغي دائمًا اعتبار أن “كل اقتناع لاهوتي يدعو في نهاية المطاف إلى التشكيك في قدرة الله ذاته، وعلى وجه الخصوص رحمته، هو اقتناع غير لائق”[365] .
- يوفر لنا هذا إطارًا ومناخًا يمنعانا من تطوير تعليم أدبي بارد، ونظري بحت، في التعامل مع القضايا الأكثر حساسية، ويضعنا بدلا من ذلك في سياق التمييز الرعوي المفعم بالحبّ الرحيم، الذي يجعلنا مستعدين دائمًا لأن نفهم، ونغفر، ونتابع، ونرجو، وقبل كل شيء نسعى لإدماج الآخرين. هذا هو المنطق الذي يجب أن يسود في الكنيسة، من أجل “عيش خبرة انفتاح القلب على أولئك الذين يعيشون في الضواحي الوجودية الأكثر نأيًا”[366] . أدعو المؤمنين الذين يعيشون في حالات معقدة إلى الاقتراب بثقة لمقابلة رُعاتهم أو العلمانيين المكرسين للرب. قد لا يجدون لديهم دائمًا تأكيدًا لأفكارهم أو لرغباتهم الخاصة، لكنهم سيحصلون بالتأكيد على الضوء الذي سيتيح لهم فهم أفضل لما يجري وسيكون بإمكانهم اكتشاف مسيرة للنضج الشخصيّ. وأدعو الرعاة للاستماع بكل مودة وصفاء، مع الرغبة الصادقة للوصول الى قلب مأساة الاشخاص وفهم وجهة نظرهم لمساعدتهم على العيش بشكل أفضل والتعرف على مكانهم في الكنيسة.
الفصل التّاسع
الروحانيّة الزوجيّة والعائليّة
- تتخذ المحبّة ملامح متعددة، وفقًا لحالة الحياة التي دُعي إليها كلّ واحد. والمجمع الفاتيكاني الثّاني، منذ بضعة عقود خلت، عند معالجته لرسالة العلمانيّين، كان يؤكد على الروحانيّة التي تنبع من الحياة العائليّة. وكان يؤكد أنّه على روحانيّة العلمانيّين “أن تتضمّن هيكليّة خاصّة بها وفقًا لشروط حياة كلّ فرد”، بما فيها “الحياة الزوجية والعائلية”[367] ، وأنّ الاهتمامات العائليّة لا ينبغي أن تكون غريبة عن نمط حياتهم الروحيّة[368] . لذا سيكون من المفيد التوقّف باختصار لوصف بعض الملامح الأساسيّة لهذه الروحانيّة الخاصّة، والتي تتطور في ديناميكيّة العلاقات الخاصة بالحياة العائليّة.
روحانيّة الشرّكة الفائقة للطبيعة
- تحدثنا دائمًا عن أن الله يسكن في قلب الانسان الذي يعيش في نعمته. ونستطيع اليوم القول أيضًا إنّ الثالوث الأقدس هو حاضر في هيكل الشَّرِكة الزوجيّة. هكذا كما يقيم في مدائح شعبه (را. مز 22، 4)، ويحيا في حميميّة الحبّ الزوجيّ الذي يمجّده.
- إن حضور الربّ يتجلى في العائلة الحقيقيّة والواقعيّة، ويرافق كافة معاناتها ونضالاتها، وأفراحها وطموحاتها اليوميّة. فعندما نعيش في أسرة، من الصعب أن يكون هناك مكان للتظاهر والكذب، وليس بإمكاننا أن نضع قناعًا. إن كان الحبّ هو الذي ينعش هذه الحقيقة، فإنّ الربّ يملك بفرحه وسلامه على تلك العائلة. تتكون روحانيّة الحبّ العائلي من آلاف اللفتات الملموسة والواقعيّة. فالله يتّخذ، في تنوع الهبات واللقاءات هذا، والذي يُنضّج الشركة، سكناه الخاص. إن هبة الذات هذه توحد معًا “الإنسانيّ والإلهيّ”[369] ، لأنها مفعمة من محبّة الله. الروحانيّة الزواجيّة، في النهاية، هي روحانيّة الرباط الذي تسكنه المحبّة الإلهيّة.
- إنّ شركة عائليّة مُعاشة بطريقة جيّدة، هي مسيرة قداسة حقيقيّة في الحياة الاعتياديّة، ونموّ صوفي، ووسيلة اتحاد حميم مع الله. في الواقع، الاحتياجات الأخويّة والجماعية للحياة العائليّة هي فرصة لفتح القلب أكثر فأكثر، وهذا يجعل اللقاء الكامل بالربّ ممكنًا. تقول كلمة الله إن “مَن أُبغَضَ أَخاه فهو في الظَّلامِ وفي الظَّلامِ يَسير” (1 يو 2، 11)، و”يبَقى رَهْنَ المَوت” (1 يو 3، 14) و”لم يعرف الله” (1 يو 4، 8). لقد قال سلفي بندكتس السّادس عشر إنّ “من يَغْلقُ عينيه أمامَ قريبه يعمي نفسه عن مشاهدة الله أيضًا”[370] وإنّ الحبّ بالأساس هو النّور الوحيد الذي “يُنيرُ دائمًا العالمَ المظلمَ”[371] . وإنّه “إِذا أَحَبَّ بَعضُنا بَعضًا” حينها فقط يكون “الله فينا مُقيمٌ ومَحَبَّتُه فينا مُكتَمِلَة” (1 يو 4، 12). وبما أنّ “البُنْية الطبيعية للشخص البشري تنطوي على بُعْدٍ اجتماعي”[372] وأن “البُعْد الاجتماعي للشخص تجسَّد، أوّلا وأصلا، في الزوجين والأسرة”[373] ، فالروحانيّة تتجسّد في الشَّرِكة العائليّة. من ثمَّ، فإن أصحاب الرغبات الروحيّة العميقة، لا ينبغي أن يشعروا بأنّ العائلة تبعدهم عن النموّ في الحياة الروحيّة، بل أنها تشكّل دربًا يختارها الربّ كي يقودهم إلى قمّة الاتحاد الروحانيّ.
- إذا استطاعت العائلة أن تتمحور حوّل المسيح، فهو يوحد وينير الحياة العائليّة بأسرها. فتُختبر الآلام والمصاعب بشّركة مع صليب الرب، وتسمح معانقته بتحمّل أسواء الأوقات. فتكون أيّام العائلة المرّة، اتحادًا مع المسيح المتروك، والذي يعينها على تجنّب فسخ العلاقة. فتصل العائلات رويدًا رويدًا إلى “تحقيق قداستها، من خلال الحياة الزوجية، بنعمة الروح القدس وبالمشاركة أيضًا في صليب المسيح، الذي يحوِّل الصعوبات والآلام الى عطية حب”[374] . من ناحية أخرى، تُختبرُ لحظات الفرح، والراحة أو العيد، وحتى الجنس، كمشاركة في ملء حياة قيامته. يشكل الأزواج، عبر مختلف اللفتات اليوميّة، “الفسحة اللاهوتيّة التي من خلالها يستطيعون اختبار الحضور الروحيّ للربّ القائم من بين الأموات”[375] .
- إنّ الصلاة في العائلة هي وسيلة متميزة للتعبير عن هذا الإيمان الفصحيّ وتقويته[376] . فبإمكان أفراد العائلة أن يجدوا بعض الدقائق كلّ يوم كي يبقوا متّحدين أمام الرب الحيّ، ويخبروه بالأمور التي تقلقهم، ويصلوا من أجل احتياجات العائلة، ومن أجل شخص يمرّ بوقت صعب، ويطلبوا منه أن يساعدهم ليحبوا، ويشكروه على الحياة وعلى الأشياء الجيدة، ويطلبوا من السيّدة العذراء الحماية تحت ظل عباءتها الأموميّة. وبعبارة بسيطة، وقت الصلاة هذا يستطيع أن يفعل الكثير من الخير للعائلة. وتعتبر مختلف تعابير عبادات التقوى الشعبيّة كنزًا روحيًّا للعديد من العائلات. إن مسيرة الصلاة الجماعيّة تصل إلى ذروتها في المشاركة في الإفخارستيا، خاصّة في أيام الآحاد. فيسوع يقرع على باب العائلة كي يتشارك معها عشاء الإفخارستيا (را. رؤ 3، 20). هنا، يستطيع الزوجان من جديد ختم العهد الفصحيّ الذي جمعهما، والذي يعكس العهد الذي مهره الله على الصليب مع الإنسانيّة[377] . إنّ الإفخارستيّا هي سرّ العهد الجديد الذي فيه يتحقق عمل المسيح الفادي (را. لو 22، 20). هكذا نلاحظ الروابط الوثيقة القائمة بين الحياة العائلية والإفخارستيا[378] . فقوت الإفخارستيّا يشكّل قوّة وحافزًا كي نعيش كلّ يوم العهد الزوجيّ مثل “كنيسة بيتيّة”[379] .
- نحيا في الزواج أيضًا معنى الانتماء الكامل لشخص واحد. فيقبل الزوجان التحدّي والتوق ليشيخا ويقضيا العمر معًا، وهكذا يعكسان أمانة لله. هذا القرار الحازم الذي يعبّر عن نمط حياة، هو “مقتضى داخلي يفرضه عهد الحب الزواجي”[380] ، لأنّ “مَن لا يقرّر أن يحبّ إلى الأبد، من الصعب أن يستطيع أن يحبّ بصدق ولو ليوم واحد”[381] . لكنَّ هذا لن يكون له معنى روحانيّ إذا كان مجرد استسلام لقانون ما. إنّه انتماء القلب، حيث الله وحده يمكنه أن يرى (را. متّى 5، 28). فالإنسان كلّ صباح، عند الاستيقاظ، يجدّد أمام الله عهد الوفاء هذا، مهما حصل خلال ذاك النهار. وكلّ واحد، عندما يأوي إلى الفراش، ينتظر أن يستيقظ لاستكمال هذه المغامرة، واضعًا ثقته بمعونة الله. هكذا، كلّ شريك يكون بالنسبة للآخر علامة وأداة للتقرّب من الرب، الذي لا يتركنا بمفردنا: “وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ” (متّى 28، 20).
- هناك نقطة يصل عندها حبّ الزوجين إلى أقصى درجات التحرّر، ويصبح فسحة من الاستقلاليّة السليمة: عندما يكتشف كلّ منهما أنّ الآخر ليس ملكه، بل لديه مالك أهمّ بكثير، ربه الأوحد. ما مَن أحد يستطيع أن يزعم أنّه يملك الخصوصيّة الشخصيّة والسريّة للغاية للإنسان المحبوب، وحده الله يستطيع أن يستحوذ على صميم حياته. في الوقت عينه، يقتضي مبدأ الواقعيّة الروحيّة ألا يزعم الشريك أنّ على الآخر أن يلبّي احتياجاته بالكامل. فمن الضروريّ أن يساعد المسار الروحيّ كلّ واحد – كما يشدّد عليه بونهوفر Dietrich Bonhoeffer – على عدم السقوط في “خيبة الأمل” من الآخر[382] ، والتوقف عن التوقع من ذاك الشخص ما هو بالحقيقة مرتبط بحبّ الله. إنّ ذلك يتطلّب تخليًّا داخليًّا. إن الفسحة الحصريّة التي يكرّسها أيّ من الشريكين لعلاقته الشخصيّة مع الله، لا تسمح فقط بمعالجة جروح التعايش معًا، بل أيضًا باكتشاف معنى وجوده الخاص في محبّة الله. نحتاج كلّ يوم إلى استدعاء عمل الروح القدس، كي تصبح هذه الحريّة ممكنة.
روحانيّة الاعتناء، والتعزية والتشجيع
- “الزوجان المسيحيان هما معاونان للنعمة، وشاهدان للإيمان، الواحد للآخر، وأمام الأبناء وسائر أفراد العائلة”[383] .يدعوهما الله للإنجاب ولرعاية بعضهما البعض. لهذا السبب تبقى العائلة “دائمًا »المستشفى « الأقرب”[384] . دعونا إذا نعتني بعضنا ببعض، ونساعد بعضنا البعض، ونشجع بعضنا البعض بتبادلية، ولنحيا كل هذا كجزء من روحانيتنا العائليّة. فحياة الشريكين هي مشاركة في عمل الله الخصب، ويكون أحدهما للآخر، تحريضًا دائمًا للروح. إنّ حبّ الله يُعبَّر عنه “من خلال الكلمات الحيّة والواقعيّة التي يتبادلها الرجل والمرأة في حبّهما الزوجيّ”[385] . هكذا، يكون الاثنان فيما بينهما انعكاسًا للحبّ الإلهيّ الذي يُعزي من خلال الكلمة، والنظرة، والمساعدة، واللمسة والعناق. غير أن، “الرغبة في تأسيس عائلة تعني التصميم على أن نكون جزءًا من حلم الله، نختار أن نحلم معه، وأن نريد أن نبني معه، وأن ننضم إليه في ملحمة بناء عالم لا يشعر أحد فيه بالوحدة”[386] .
- إن حياة العائلة بأسرها هي “مرعى” رحيم. حيث يرسم ويكتب كل واحد، بعناية، في حياة الآخر: “أَنْتُمْ رِسَالَتُنَا، مَكْتُوبَةً فِي قُلُوبِنَا […] لاَ بِحِبْرٍ بَلْ بِرُوحِ اللهِ الْحَيِّ” (2 قور 3، 2- 3). كلّ واحد هو “صيّاد بشر” (لو 5، 10) يرمي، باسم المسيح، الشباك (را. لو 5، 5) في الآخرين، أو فلاح يحرث في تلك الأرض الجديدة والتي هي أحبّاؤه، محفِزًا أفضل ما لديهم. إنّ الخصوبة الزوجيّة تشمل الترويج، لأن “محبة شخص تعني أن تنتظر منه شيئًا لا يمكن تعريفه، شيئًا لا يمكن التنبؤ به؛ وفي الوقت عينه، منحه، بشكل ما، الوسيلة للجواب على هذا الانتظار”[387] . إنها عبادةٌ لله، لأنّ الله هو الذي غرس العديد من الأشياء الصالحة في الآخرين، على رجاء أن نعمل على تنميتها.
- إنّها خبرة روحيّة عميقة، خبرة تأمّل كلّ قريب بعيون الله والتعرف على المسيح فيه. يتطلّب هذا استعدادًا مجّانيًّا يسمح بتقدير كرامته. يمكنك أن تكون موجودًا بشكل كامل أمام الآخر إذا تمت هبة الذات دون تبرير، ناسيًا كلّ ما هو حولك. هكذا يستحقّ الإنسان المحبوب كلّ الانتباه. لقد كان يسوع نموذجًا، لأنّه عندما كان أحد يسعى لأن يكلّمه، كان ينظر إليه ويثبّت نظره عليه، كان ينظر إليه بحبّ (را. مر 10، 21). لم يكن أحدًا يشعر بأنّه مهملٌ بحضرته، لأنّ أقواله وأفعاله كانت تعبيرًا عن هذا السؤال: “مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ؟” (مر 10، 51). هذا ما نعيشه في الحياة العائليّة اليوميّة. فيها نتذكّر أنّ الإنسان الذي يعيش معنا، يستحقّ كلّ شيء، لأنّه صاحب كرامة لامتناهية، لكونه موضوع حبّ الآب العظيم. هكذا يتدفق الحنان، القادر على أن “يثير في الآخر فرحَ الشعور بأنّه محبوب. حنان يتجلَّى خصوصًا عندما يلتفت بانتباه وبرقة نحو الآخر في حدوده –لا سيما عندما تظهر للعلن- بطريقة جلية”[388] .
- إن النواة العائليّة، تحت تأثير الروح القدس، لا ترحّب بالحياة وحسب، من خلال الإنجاب في أحضانها، بل تنفتح، وتخرج من ذاتها، لتسكب خيرها الخاص على الآخرين، لترعاهم وتسعى لسعادتهم. يتبلور هذا الانفتاح خاصّة في حُسن الضيافة[389] ، المُشجع من كلمة الله بطريقة مؤثرة: “لا تَنسَوُا الضِّيافَة فإِنَّها جَعَلَت بَعضَهم يُضيفونَ المَلائِكَةَ وهُم لا يَدْرون” (عب 13، 2). فعندما تستضيف العائلة فهي تذهب تجاه الآخرين، لا سيما تجاه الفقراء والمنبوذين، وهذا هو “رمز وشهادة ومشاركة في أمومة الكنيسة”[390] . إن الحبّ الاجتماعي، انعكاس للثالوث، هو في الواقع يوَّحِّد بين حسّ العائلة الروحيّ ورسالتها الخارجية، إذ أنّه يجعل الكرازة حاضرة، مع جميع متطلباتها الاجتماعيّة. تعيش العائلة روحانيتها الخاصّة بصفتها، في الوقت عينه، كنيسة بيتيّة وخليّة حيّة لتغيير العالم[391] .
- إن كلمات المعلّم (را. متّى 22، 30) وكلمات القدّيس بولس (را. 1 قور 7، 29- 31) عن الزواج، هي مدرجة، ليس من قبيل الصدفة، في البعد الأخير والنهائي لوجودنا، والذي نحن بحاجة لإعادة تقييمه. بهذا الشكل يستطيع الزوجان التعرّف على معنى المسيرة التي هما على وشك الانطلاق فيها. بالفعل، كما ذكرنا عدّة مرّات في هذا الإرشاد، ما من عائلة هي واقع كامل ومنجز دفعةً واحدة وللأبد، بل تتطلّب تطوّرًا متصاعدًا لقدرتها الخاصّة على الحبّ. هناك دعوة تنبع دائمًا من الشَرِكة التامة للثالوث، ومن الاتحاد الرائع بين المسيح وكنيسته، ومن هذه الجماعة الجميلة، والتي هي عائلة الناصرة، ومن الأخوّة والموجودة بين القدّيسين في السماء. غير أن، التأمّل في الكمال الذي لم نصل إليه بعد، يسمح بطرح نسبية المسيرة التاريخية التي نقوم به كعائلات، كي نكف في العلاقات الشخصية عن الإصرار على الكمال، ونقاء النوايا، واستقامة سنجدها فقط في الملكوت النهائيّ. من جهّة ثانية، يمنعنا هذا من إدانة الذين يعيشون في حالات ضعف كبير بقسوة. فنحن جميعًا مدعوون للمحافظة على السعي الحي نحو الحياة الأخرى، إلى ما بعد أنفسنا وما بعد حدودنا، وكلّ عائلة يجب أن تعيش هكذا في تحفيز ثابت. لِنَسر، أيّتها العائلات، ولنجدَّ في السير! فما وُعدنا به هو دائمًا أعظم. علينا ألاّ نفقد الرّجاء بسبب محدوديّاتنا، إنما علينا أيضًا ألا نتراجع أبدًا في البحث عن كمال الحبّ والشركة الذي وعدنا به.
يا يسوع، مريم، ويوسف
نتأمّل بروعة الحبّ الحقيقيّ فيكم
وبثقة، نعتمد عليكم.
عائلة الناصرة المقدّسة،
اجعلي عائلاتنا أيضًا
أماكن شَرِكة، وعليّات صلاة،
مدارس أصيلة للإنجيل
وكنائس بيتيّة صغيرة.
عائلة الناصرة المقدّسة،
إعملي على ألا يكون بعد الآن في العائلات ابدًا
مواقف عنف وتقوقع وانقسام،
وليعزَّ ويشفَ سريعًا
أي شخص قد جرح أو تعثر.
عائلة الناصرة المقدّسة،
اجعلينا ندرك
طابع العائلة المقدّس وغير القابل للانتهاك،
وندرك جمالها في تدبير الله.
يا يسوع، مريم ويوسف،
استمعوا لصلاتِنا واستجيبوا لدعائنا.
آمين.
أعطي في روما، بالقرب من القدّيس بطرس، في اليوبيل الاستثنائيّ للرّحمة، في 19 مارس / آذار 2016، عيد القدّيس يوسف، عام 2016، السّنة الرّابعة لحبريّتي.
فرنسيس
الفهرس
الفصل الأول على ضوء الكلمة [8]
أنتَ وزوجتك [9 – 13]
أبناؤكَ كغراس الزيتون [14 – 18]
درب من المعاناة والدم [19 – 22]
تعب يديك [23 – 26]
لُطف العناق [27 – 30]
الفصل الثّاني واقع العائلات وتحدّياتها [31]
واقع الأسرة الحالي [32 – 49]
بعض التحديات [50 – 57]
الفصل الثّالث النّظرُ موَجَّهٌ نحو يسوع: دعوة العائلة [58 – 60]
يسوع يسترجع التدبير الإلهي ويتمّمه [61 – 66]
العائلة في وثائق الكنيسة [67 – 70]
سرّ الزواج [71 – 75]
بذار الكلمة وحالات عدم الكمال [76 – 79]
نقل الحياة وتربية الأطفال [80 – 85]
العائلة والكنيسة [86 – 88] 67
الفصل الرّابع الحبّ في الزواج [89]
محبّتنا اليوميّة [90]
المَحبَّةُ تَصبِر [91 – 92]
موقف الرّفق [93 – 94]
المحبة لا تَحسُد [95 – 96]
دون تباهٍ ودون تبجح [97 – 98]
اللّطف [99 – 100]
تجرد سخي [101 – 102]
دون حنق [103 – 104]
الصفح [105 – 108]
الفرح مع الآخرين [109 – 110]
تَعذُر كل شيء [111 – 113]
تصدّق كل شيء [114 – 115]
الرجاء [116 – 117]
تتحمل كل شيء [118 – 119]
النمو في المحبّة الزوجية [120 – 122]
كل الحياة، كل شيء مشترك [123 – 125]
الفرح والجمال [126 – 130]
زواج عن حب [131 – 132]
الحب الذي يظهر وينمو [133 – 135]
الحوار [136 – 141]
الحب المتقد [142]
عالم المشاعر [143 – 146]
الله يحب فرح أبنائه [147 – 149]
البعد الجنسيّ للحبّ [150 – 152]
العنف والتلاعب [153 – 157]
الزواج والتبتل [158 – 162]
تحوّل الحب [163 – 164]
الفصل الخامس الحب الذي يصبح مثمرًا [165]
استقبال حياة جديدة [166 – 167]
الحب في انتظار مدّة الحمل [168 – 171]
حب الأم والأب [172 – 177]
خصوبة موسّعة [178 – 184]
تميّيز الجسد [185 – 186]
الحياة في العائلة الموسّعة [187]
أن نكون أبناء [188 – 190]
المسنّون [191 – 193]
أن نكون أخوة [194 – 195]
قلبكبير [196 – 198]
الفصل السّادس بعض الإمكانيات الرعوية [199]
إعلان إنجيل العائلة اليوم [200 – 204]
توجيه المخطوبين في مسيرة التحضير للزواج [205 – 211]
الإعداد للاحتفال بالزواج [212 – 216]
المرافقة في السنوات الأولى من الحياة الزوجية [217 – 222]
بعض المصادر [223 – 230]
إنارة الأزمات، القلق والصعوبات [231]
تحدي الازمات [232 – 233]
جراح قديمة [239 – 240]
المرافقة بعد حدوث الانفصالات والطلاق [241 – 246]
بعض الحالات المعقّدة [247 – 252]
عندما ينشب الموت مخالبه [في جسد العائلات] [253 – 258]
الفصل السابع تعزيز تربية الأبناء [259]
أين هم الأبناء؟ [260 – 262]
تنشئة الأولاد الأخلاقية [263 – 267]
قيمة العقوبة كحافز [268 – 270]
واقعية صبورة [271 – 273]
الحياة العائلية كإطار تربويّ [274 – 279]
نعم للتربية الجنسيّة [280 – 286]
نقل الايمان [287 – 290]
الفصل الثّامن المرافقة، والتميّيز وقبول الضعف [291 – 292]
التدرّج في الرعويّة [293 – 295]
تمييز الحالات المُسمّاة بـ “الشاذة عن القانون” [296 – 300]
الظروف المُخفِفة في التمييز الرعويّ [301 – 303]
المعايير والتميّيز [304 – 306]
منطق الرحمة الرعويّة [307 – 312]
الفصل التّاسع الروحانيّة الزوجيّة والعائليّة [313]
روحانيّة الشرّكة الفائقة للطبيعة [314 – 316]
معًا في الصلاة على ضوء الفصح [317 – 318]
روحانيّة الحبّ الحصريّ والحرّ [319 – 320]
روحانيّة الاعتناء، والتعزية والتشجيع [321 – 325]
صلاة للعائلة المقدّسة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سينودس الأساقفة، الجمعية العامة غير العادية الثالثة (نصوص السينودس)، 18 أكتوبر / تشرين الأول 2014، 2. من الآن وصاعدا: من نصوص السينودس 2014.
[2] سينودس الأساقفة، الجمعية العامة العادية الرابعة عشر، التقرير النهائي، 24 أكتوبر / تشرين الأول 2015، 3.
[3] خطاب بمناسبة ختام اجتماع الجمعية العامة العادية الرابع عشر لسينودس الأساقفة (24 أكتوبر / تشرين الأول 2015). أوسرفاتوري رومانو، 26–27 أكتوبر / تشرين الأول 2015، ص 13. را. لجنة الكتاب المقدس الحبرية، Fede e cultura alla luce della Bibbia. وقائع الجلسة العامة للجنة الكتاب المقدس الحبرية عام 1979، تورينو، 1981. المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور الرعائي فرح ورجاء، 44؛ يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة، رسالة الفادي (7 ديسمبر / كانون الأول 1990)، 52: أعمال الكرسي الرسولي 83 (1991)، 300؛ الرسالة العامة فرح الإنجيل (24 نوفمبر / تشرين الثاني 2013)، 69. 117: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، 1049، 1068 – 1069.
[4] خطاب أثناء اللقاء بالعائلات في سانتياغو – كوبا (22 سبتمبر / أيلول 2015): أوسرفاتوري رومانو، 24 سبتمبر / أيلول 2015، ص 7.
[5] Jorge Luis Borges, “Calle desconocida”, en Fervor de Buenos Aires, Buenos Aires 2011, 23.
[6] عظة خلال القداس الإلهي في بويبلا دي لوس انجليس (28 يناير / كانون الثاني 1979)، 2: أعمال الكرسي الرسولي 71 (1979)، 184.
[7] را. نفس المرجع.
[8] يوحنا بولس الثاني، الارشاد الرسولي، ما بعد السينودس، وظائف العائلة المسيحيّة (22 نوفمبر / تشرين الثاني 1981)، 4: أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982)، 84.
[9] من نصوص السينودس 2014، 5.
[10] مجلس أساقفة اسبانيا، Matrimonio y familia، (6 يوليو / تموز 1979)، 3. 16. 23.
[11] التقرير النهائي للسينودس 2015، 5.
[12] من نصوص السينودس 2014، 5.
[13] التقرير النهائي للسينودس 2015، 8.
[14] كلمة قداسة البابا فرنسيس أثناء الجمعية العامة لكونغرس الولايات المتحدة (24 سبتمبر 2015): أوسرفاتوري رومانو، 26 سبتمبر 2015، ص. 7.
[15] التقرير النهائي للسينودس 2015، 29.
[16] من نصوص السينودس 2014، 10.
[17] اجتماع الجمعية العامة غير العادية الثالثة لسينودس الأساقفة، رسالة، 18 أكتوبر / تشرين الأول 2014.
[18] من نصوص السينودس 2014، 10.
[19] التقرير النهائي للسينودس 2015، 7.
[20] نفس المرجع، 63.
[21] مجلس أساقفة كوريا الكاثوليك، نحو ثقافة حياة! (15 مارس / آذار 2007).
[22] من نصوص السينودس 2014، 6.
[23] المجلس الحبري لشؤون الأسرة، وثيقة حقوق العائلة (22 أكتوبر / تشرين الأول 1983)، 11.
[24] را.التقرير النهائي للسينودس 2015، 11- 12.
[25] المجلس الحبري لشؤون الأسرة، وثيقة حقوق العائلة (22 أكتوبر / تشرين الأول 1983)، مدخل.
[26] نفس المرجع، 9.
[27] التقرير النهائي للسينودس 2015، 14.
[28] من نصوص السينودس 2014، 8.
[29] را.التقرير النهائي للسينودس 2015، 78.
[30] من نصوص السينودس 2014، 8
[31] التقرير النهائي للسينودس 2015، 23؛ را. رسالة البابا فرنسيس بمناسبة اليوم العالمي للمهاجر واللاجئ 2016 (12 سبتمبر / أيلول 2015): أوسرفاتوري رومانو، 2 أكتوبر / تشرين الأول 2015، ص. 8.
[32] نفس المرجع، 24.
[33] نفس المرجع، 21.
[34] نفس المرجع، 17.
[35] نفس المرجع،20.
[36] نفس المرجع،15.
[37] خطاب بمناسبة ختام اجتماع الجمعية العامة العادية الرابع عشر لسينودس الأساقفة (24 أكتوبر / تشرين الأول 2015). أوسرفاتوري رومانو، 26–27 أكتوبر / تشرين الأول 2015 (باللغة الإنكليزية) ص 13.
[38] مجلس أساقفة الأرجنتين، Navega mar adentro (31 مايو / أيار 2003)، 42.
[39] مجلس أساقفة المكسيك، Que en Cristo Nuestra Paz México tenga vida digna (15 فبراير / شباط 2009)، 67.
[40] التقرير النهائي للسينودس 2015، 25.
[41] نفس المرجع، 10.
[42] المقابلة العامة (22 أبريل / نيسان 2015): أوسرفاتوري رومانو، 23 أبريل / نيسان 2015، ص. 7.
[43] المقابلة العامة (29 أبريل / نيسان 2015): أوسرفاتوري رومانو، 30 أبريل / نيسان 2015، ص. 8.
[44] التقرير النهائي للسينودس 2015، 28.
[45] نفس المرجع، 8.
[46] نفس المرجع، 58.
[47] نفس المرجع، 33.
[48] من نصوص السينودس 2014، 11.
[49] مجلس أساقفة كولومبيا، A tiempos difíciles, colombianos nuevos (13 فبراير / شباط 2003)، 3.
[50] الرسالة العامة فرح الإنجيل (24 نوفمبر / تشرين الثاني 2013)، 35: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، 1034.
[51] نفس المرجع، 164: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، 1088.
[52] نفس المرجع.
[53] نفس المرجع، 165: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، 1089.
[54] من نصوص السينودس 2014، 12.
[55] نفس المرجع.
[56] نفس المرجع، 16.
[57] التقرير النهائي للسينودس 2015، 41.
[58] نفس المرجع، 38.
[59] من نصوص السينودس 2014، 17.
[60] التقرير النهائي للسينودس 2015، 43.
[61] من نصوص السينودس 2014، 18.
[62] نفس المرجع، 19.
[63] التقرير النهائي للسينودس 2015،38.
[64] يوحنا بولس الثاني، الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس، وظائف العائلة المسيحية (22 نوفمبر / تشرين الثاني 1981)، 13: أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982)، 94.
[65] من نصوص السينودس 2014، 21.
[66] التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1642.
[67] نفس المرجع.
[68] المقابلة العامة (6 مايو / أيار 2015): أوسرفاتوري رومانو (7 مايو / أيار 2015)، ص 8.
[69] القديس لاوون الكبير Epistula Rustico Narbonensi Episcopo, Inquis. IV: PL 54, 1205 A; cf. HINCMAR OF RHEIMS, Epist. 22: PL 126, 142.
[70] را. بيوس الثاني عشر، الرسالة العامة Mystici Corporis Christi(29 يونيو / حزيران 1943): أعمال الكرسي الرسولي 35 (1943)، 202: «Matrimonio enim quo coniuges sibi invicem sunt ministri gratiae».
[71] را. مدونة القانون الكنسي ق.ق. 1116؛ 1161 – 1165؛ مجموعة قوانين الكنائس الشرقية، ق. 832؛ ق.ق. 848- 852.
[72] نفس المرجع، ق. 1055 البند 2؛ مجموعة قوانين الكنائس الشرقية، ق. 776 البند 2.
[73] من نصوص السينودس 2014، 23.
[74] يوحنا بولس الثاني، الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس، وظائف العائلة المسيحية (22 نوفمبر / تشرين الثاني 1981)، 9: أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982)، 90.
[75] التقرير النهائي للسينودس 2015، 47.
[76] نفس المرجع.
[77] عظة قداسة البابا فرنسيس خلال قدّاس ختام اللقاء العالمي الثامن للعائلات، فيلادلفيا (27 سبتمبر/أيلول 2015): أوسرفاتوري رومانو، 28- 29 سبتمبر / أيلول 2015، ص. 7.
[78] التقرير النهائي للسينودس 2015، 53- 54.
[79] نفس المرجع، 51.
[80] المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور الرعائي فرح ورجاء، 48.
[81] را. مدونة القانون الكنسي ق. 1055 البند 1:«Ad bonum coniugum atque ad prolis generationem et educationem ordinatum» ؛ مجموعة قوانين الكنائس الشرقية، ق. 776 البند 1: “مرتب بطبيعة أمره لخير الزوجين وإنجاب البنين وتربيتهم”.
[82] التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 2360.
[83] نفس المرجع، 1654.
[84] المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور الرعائي فرح ورجاء، 48.
[85] التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 2366.
[86] را. بولس السادس، الرسالة العامة الحياة البشرية (25 يوليو / تموز 1968)، 11- 12: أعمال الكرسي الرسولي 60 (1968)، 488- 489.
[87] التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 2378.
[88] مجمع العقيدة والإيمان، التعليم هبة الحياة (22 فبراير / شباط 1987)، II، 8: أعمال الكرسي الرسولي 80 (1988)، 97.
[89] التقرير النهائي للسينودس 2015، 63.
[90] من نصوص السينودس 2014، 57.
[91] نفس المرجع، 58.
[92] نفس المرجع، 57.
[93] التقرير النهائي للسينودس 2015، 64.
[94] من نصوص السينودس 2014، 60.
[95] نفس المرجع، 61.
[96] مدونة القانون الكنسي ق. 1136؛ را. مجموعة قوانين الكنائس الشرقية، ق. 627.
[97] المجلس الحبري لشؤون الأسرة، الحياة الجنسية البشرية: حقيقتها ومعناها (8 ديسمبر / كانون الأول 1995)، 23.
[98] المقابلة العامة (20 مايو / أيار 2015): أوسرفاتوري رومانو، 21 مايو / أيار 2015، ص 8.
[99] را. يوحنا بولس الثاني، الارشاد الرسولي، ما بعد السينودس، وظائف العائلة المسيحيّة (22 نوفمبر / تشرين الثاني 1981)، 38: أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982)، 129.
[100] را. خطاب بمناسبة انعقاد جمعية روما الأبرشية (14 يونيو / حزيران 2015): أوسرفاتوري رومانو، 15- 16 يونيو / حزيران 2015، ص. 8.
[101] من نصوص السينودس 2014، 23.
[102] التقرير النهائي للسينودس 2015، 52.
[103] نفس المرجع، 49- 50.
[104] التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1641.
[105] را. بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة الله محبة (25 ديسمبر / كانون الأول 2005)، 2: أعمال الكرسي الرسولي 98 (2006)، 218.
[106] الرياضات الروحية، تأمل للتوصل إلى المحبة، 230.
[107] أوكتافيو باز، La llama doble، برشلونة 1993، 35.
[108] توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية II-II، س. 114، ق. 2، 1.
[109] المقابلة العامة (13 مايو / أيار 2015): أوسرفاتوري رومانو 14 مايو / أيار 2015، ص 8.
[110] الخلاصة اللاهوتية II-II، س. 27، ق. 1، 2.
[111] نفس المرجع، ق. 1.
[112] المقابلة العامة (13 مايو / أيار 2015): أوسرفاتوري رومانو 14 مايو / أيار 2015، ص 8.
[113] يوحنا بولس الثاني، الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس، وظائف العائلة المسيحية (22 نوفمبر / تشرين الثاني 1981)، 21: أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982)، 106.
[114] عظة ألقيت في الكنيسة المعمدانية، شارع دكستر، مونتغومري، ألباما، 17 نوفمبر / تشرين الثاني 1957.
[115] يفهم القديس توما الأكويني الحب على أنه “قوة موحدة” vis unitiva، (الخلاصة اللاهوتية I، س. 20، ق. 1، 3). متبنيًا قولا لديونيجي الاريوباغي (أسماء الله، IV، 12: PG، 3، 709).
[116] توما الأكويني الخلاصة اللاهوتية II-II، س. 27، ق. 2.
[117] الرسالة العامة، الزواج العفيف casto connubio (31 ديسمبر / كانون الأول 1930): أعمال الكرسي الرسولي 22 (1930)، 547- 548.
[118] يوحنا بولس الثاني، الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس، وظائف العائلة المسيحية (22 نوفمبر / تشرين الثاني 1981)، 13: أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982)، 94.
[119] المقابلة العامة (2 أبريل / نيسان 2014): أوسرفاتوري رومانو 3 أبريل / نيسان 2014، ص 8.
[120] نفس المرجع.
[121] يوحنا بولس الثاني، الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس، وظائف العائلة المسيحية (22 نوفمبر / تشرين الثاني 1981)، 9: أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982)، 90.
[122] توما الأكويني الخلاصة ضد الأمم، III، 123، را. أرسطو، منشورات Etica Nic، 8، 12، Bywater، Oxford1984، 174.
[123] الرسالة العامة نور الإيمان (29 يونيو / حزيران 2013)، 52: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، 590.
[124] سر الزواج، I، 2: مناقشات، III، 5، 3 (منشورات Giuliano، Napoli 1858، 778).
[125] المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور الرعائي فرح ورجاء، 50.
[126] نفس المرجع، 49.
[127] را. الخلاصة اللاهوتية I- II، س. 31، ق. 3، 3.
[128] المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور الرعائي فرح ورجاء، 48.
[129] توما الأكويني الخلاصة اللاهوتية I- II، س. 26، ق. 3.
[130] نفس المرجع، س. 110، ق. 1.
[131] اعترافات القديس أوغسطينوس، VIII، III، 7: PL 32، 752.
[132] كلمة البابا فرنسيس إلى أسر العالم بمناسبة حجهم إلى روما في سنة الإيمان (26 أكتوبر / تشرين الأول 2013): أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، 980.
[133] صلاة التبشير الملائكي (29 ديسمبر / كانون الأول 2013): أوسرفاتوري رومانو، 30- 31 ديسمبر / كانون الأول 2013، ص. 7.
[134] كلمة البابا فرنسيس إلى أسر العالم بمناسبة حجهم إلى روما في سنة الإيمان (26 أكتوبر / تشرين الأول 2013): أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، 978.
[135] الخلاصة اللاهوتية II-II، س. 24، ق. 7.
[136] المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور الرعائي فرح ورجاء، 48.
[137] مجلس أساقفة التشيلي، La vida y la familia: regalos de Dios para cada uno de nosotros، سانتياغو، 21 يوليو / تموز 2014.
[138] الدستور الرعائي فرح ورجاء، 49.
[139] أ. سرتيانج، L’amour chrétien، باريس 1920، 174.
[140] را. توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية II-I، س. 24، ق. 1.
[141] نفس المرجع، س. 59، ق. 5.
[142] الرسالة العامة الله محبة (25 ديسمبر / كانون الأول 2005)، 3: أعمال الكرسي الرسولي 98 (2006)، 219- 220.
[143] نفس المرجع، 4: أعمال الكرسي الرسولي 98 (2006)، 220.
[144] را. توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية II-I، س. 32، ق. 7.
[145] نفس المرجع، II- II، س. 153، ق. 2: “إن وفرة من المتعة، نتيجة الجماع الجنسي، وفق المنطق، لا يتعارض والفضائل”(Abundantia delectationis quae est in actu venereo secundum rationem ordinato, non contrariatur medio virtutis).
[146] يوحنا بولس الثاني، اللقاء العام (22 أوكتوبر / تشرين الأول 1980)، 5: تعاليم III، 2 (1980)، 951.
[147] نفس المرجع، 3.
[148] نفس الكاتب، اللقاء العام (24 سبتمبر / أيلول 1980)، 4: تعاليم III، 2 (1980)، 719.
[149] المقابلة العامة (12 نوفمبر / تشرين الثاني 1980)، 2: تعاليم III، 2 (1980)، 1133.
[150] نفس المرجع، 4.
[151] نفس المرجع، 5.
[152] نفس المرجع، 1: 1132.
[153] المقابلة العامة (16 يناير / كانون الثاني 1980): تعاليم III، 1 (1980)، 151.
[154] يوزف بييبر، Über die Liebe، ميونيخ 2014، 174.
[155] يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة إنجيل الحياة (25 مارس / آذار 1995)، 23: أعمال الكرسي الرسولي 87 (1995)، 427.
[156] بولس السادس، الرسالة العامة الحياة الإنسانية (25 يوليو / تموز 1968)، 13: أعمال الكرسي الرسولي 60 (1968)، 489.
[157] المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور الرعائي فرح ورجاء، 49.
[158] المقابلة العامة (18 يونيو / حزيران 1980)، 5: تعاليم III، 1 (1980)، 1778.
[159] نفس المرجع، 6.
[160] را. المقابلة العامة (30 يوليو / تموز 1980)، 1: تعاليم III، 2 (1980)، 311.
[161] المقابلة العامة (8 أبريل / نيسان 1981)، 3: تعاليم IV، 1 (1981)، 904.
[162] المقابلة العامة (11 أغسطس / آب 1982)، 4: تعاليم V، 3 (1982)، 205- 206.
[163] الرسالة العامة الله محبة (25 ديسمبر / كانون الأول 2005)، 5: أعمال الكرسي الرسولي 98 (2006)، 221.
[164] نفس المرجع، 7.
[165] التقرير النهائي للسينودس 2015، 22.
[166] المقابلة العامة (14 أبريل / نيسان 1982)، 1: تعاليم V، 1 (1982)، 1176.
[167] Glossa in quatuor libros sententiarum Petri Lombardi، IV، XXVI، 2 (Quaracchi، 1957، 446).
[168] يوحنا بولس الثانيالمقابلة العامة (7 أبريل / نيسان 1982)، 2: تعاليم V، 1 (1982)، 1127.
[169] نفس الكاتب، المقابلة العامة (14 أبريل / نيسان 1982)، 3: تعاليم V، 1 (1982)، 1177.
[170] نفس المرجع.
[171] نفس الكاتب، الرسالة العامة، فادي الإنسان (4 مارس / آذار1979)، 10: أعمال الكرسي الرسولي 71 (1979)، 274.
[172] را. توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية II-II، س. 27، ق. 1.
[173] المجلس الحبري لشؤون الأسرة، الأسرة، الزواج و “المساكنة قبل الزواج كأمر واقع” (26 يوليو / تموز 2000)، 40.
[174] يوحنا بولس الثانيالمقابلة العامة (31 أكتوبر / تشرين الأول 1984)، 6: تعاليم VII، 2 (1984)، 1072.
[175] بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة الله محبة (25 ديسمبر / كانون الأول 2005)، 8: أعمال الكرسي الرسولي 98 (2006)، ص. 224.
[176] يوحنا بولس الثاني، الارشاد الرسولي، ما بعد السينودس، وظائف العائلة المسيحيّة (22 نوفمبر / تشرين الثاني 1981)، 14: أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982)، 96.
[177] المقابلة العامة(11 فبراير / شباط 2015): أوسرفاتوري رومانو، 12 فبراير/ شباط 2015، ص. 8.
[178] نفس المرجع.
[179] المقابلة العامة(8 أبريل / نيسان 2015): أوسرفاتوري رومانو، 9 أبريل / نيسان 2015، ص. 8.
[180] نفس المرجع.
[181] را. المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور الرعائي فرح ورجاء، 51: “الجميع يعلم أن حياة الإنسان ومهمة إعطائها، لا تنحصران في آفاق هذا العالم، كما أنهما لا تجدان فيه أبعادهما الكاملة ولا معناهما الكامل؛ إنما ترتبطان بمصير البشر الأبدي“.
[182] رسالة إلى الأمانة العامة لمؤتمر الأمم المتحدة الدولي حول السكان والتنمية (Lettera alla Segretaria generale della Conferenza internazionale dell’Organizzazione delle Nazioni Unite su popolazione e sviluppo)، (18 مارس / آذار 1994): تعاليم XVII، 1 (1994)، 750- 751.
[183] يوحنا بولس الثانيالمقابلة العامة(12 مارس / آذار 1980)، 3: تعاليم III، 1 (1980)، 543.
[184] را. نفس المرجع.
[185] كلمة البابا فرنسيس خلال اللقاء مع الأسر في مانيلا (16 يناير / كانون الثاني 2015): أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، 176.
[186] المقابلة العامة(11 فبراير / شباط 2015): أوسرفاتوري رومانو 12 فبراير / شباط 2015، ص 8.
[187] المقابلة العامة(14 أكتوبر / تشرين الأول 2015): أوسرفاتوري رومانو 15 أكتوبر / تشرين الأول 2015، ص 8.
[188] مجلس أساقفة أستراليا الكاثوليك، الرسالة الرعوية لا نعبثّن بالزواج، 11 (24 نوفمبر / تشرين الثاني 2015).
[189] المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور الرعائي فرح ورجاء، 50.
[190] يوحنا بولس الثاني، المقابلة العامة (12 مارس / آذار 1980)، 2: تعاليم III، 1 (1980)، 542.
[191] را. نفس الكاتب، الرسالة الرسولية كرامة المرأة (15 أغسطس / آب 1988)، 30- 31: أعمال الكرسي الرسولي 80 (1988)، 1727- 1729.
[192] المقابلة العامة (7 يناير / كانون الثاني 2015): أوسرفاتوري رومانو 7- 8 يناير / كانون الثاني 2015، ص 8.
[193] نفس المرجع.
[194] المقابلة العامة (28 يناير / كانون الثاني 2015): أوسرفاتوري رومانو 29 يناير / كانون الثاني 2015، ص 8.
[195] نفس المرجع.
[196] التقرير النهائي للسينودس 2015، 28.
[197] المقابلة العامة (4 فبراير / شباط 2015): أوسرفاتوري رومانو (5 فبراير/ شباط 2015)، ص 8.
[198] نفس المرجع.
[199] المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور الرعائي فرح ورجاء، 50.
[200] المؤتمر العام الخامس لأساقفة أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، وثيقة أباريسيدا (29 يونيو / حزيران 2007)، 457.
[201] التقرير النهائي للسينودس 2015، 65.
[202] نفس المرجع.
[203] كلمة البابا فرنسيس خلال اللقاء مع الأسر في مانيلا (16 يناير / كانون الثاني 2015): أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، 178.
[204] ماريو بنديتي، “Te quiero”، ضمن Poemas de otros: بوينوس أيريس 1993، 316.
[205] را.المقابلة العامة (16 سبتمبر / أيلول 2015): أوسرفاتوري رومانو 17 سبتمبر /أيلول 2015، ص 8.
[206] المقابلة العامة (7 أكتوبر / تشرين الأول 2015): أوسرفاتوري رومانو 8 أكتوبر / تشرين الأول 2015، ص 8.
[207] بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة الله محبة (25 ديسمبر / كانون الأول 2005)، 14: أعمال الكرسي الرسولي 98 (2006)، ص. 228.
[208] را. التقرير النهائي للسينودس 2015، 11.
[209] المقابلة العامة (18 مارس / آذار 2015): أوسرفاتوري رومانو، 19 مارس / آذار 2015، ص. 8.
[210] المقابلة العامة (11 فبراير / شباط 2015): أوسرفاتوري رومانو، 12 فبراير / شباط 2015، ص. 8.
[211] را. التقرير النهائي للسينودس 2015، 17- 18.
[212] المقابلة العامة (4 مارس / آذار 2015): أوسرفاتوري رومانو، 5 مارس / آذار 2015، ص. 8.
[213] المقابلة العامة (11 مارس / آذار 2015): أوسرفاتوري رومانو، 12 مارس / آذار 2015، ص. 8.
[214] الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس، وظائف العائلة المسيحية (22 نوفمبر / تشرين الثاني 1981)، 27: أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982)، 113.
[215] يوحنا بولس الثاني، كلمة البابا إلى المشاركين في المنتدى الدولي حول المسنين (5 سبتمبر / أيلول 1980)، 5: تعاليم III، 2 (1980)، 539.
[216] التقرير النهائي للسينودس 2015، 18.
[217] المقابلة العامة (4 مارس / آذار 2015): أوسرفاتوري رومانو، 5 مارس / آذار 2015، ص. 8.
[218] نفس المرجع.
[219] كلمة البابا فرنسيس خلال اللقاء مع المسنين (28 سبتمبر / أيلول 2014): أوسرفاتوري رومانو 29- 30 سبتمبر / أيلول 2014، ص. 7.
[220] المقابلة العامة (18 فبراير / شباط 2015): أوسرفاتوري رومانو، 19 فبراير / شباط 2015، ص. 8.
[221] نفس المرجع.
[222] نفس المرجع.
[223] يوحنا بولس الثاني، الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس، وظائف العائلة المسيحية (22 نوفمبر / تشرين الثاني 1981)، 18: أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982)، 101.
[224] المقابلة العامة (7 أكتوبر / تشرين الأول 2015): أوسرفاتوري رومانو 8 أكتوبر / تشرين الأول 2015، ص 8.
[225] من نصوص السينودس 2014، 30.
[226] نفس المرجع، 31.
[227] التقرير النهائي للسينودس 2015، 56.
[228] نفس المرجع، 89.
[229] من نصوص السينودس 2014، 32.
[230] نفس المرجع، 33.
[231] نفس المرجع، 38.
[232] التقرير النهائي للسينودس 2015، 77.
[233] نفس المرجع، 61.
[234] نفس المرجع.
[235] نفس المرجع.
[236] نفس المرجع.
[237] را. من نصوص السينودس 2014، 26.
[238] نفس المرجع، 39.
[239] مجلس أساقفة إيطاليا. اللجنة الأسقفية للعائلة والحياة، توجيهات رعائية حول التحضير لسر الزواج والأسرة (22 أكتوبر / تشرين الأول 2012)، 1.
[240] اغناطيوس دي لويولا، الرياضات الروحية، شروح 2.
[241] نفس المرجع، شروح 5.
[242] يوحنا بولس الثانيالمقابلة العامة (27 يونيو / حزيران 1984)، 4: تعاليم VII، 1 (1984)، 1941.
[243] المقابلة العامة (21 أكتوبر / تشرين الأول 2015): أوسرفاتوري رومانو، 22 أكتوبر / تشرين الأول 2015، ص. 12.
[244] مجلس أساقفة كينيا، رسالة زمن الصوم (18 فبراير / شباط 2015).
[245] را. بيوس الحادي عشر، الرسالة العامة، الزواج العفيف Casti connubii (31 ديسمبر / كانون الأول 1930): أعمال الكرسي الرسولي 22 (1930)، 583.
[246] يوحنا بولس الثاني المقابلة العامة (4 يوليو / تموز 1984)، 3. 6: تعاليم VII، 2 (1984)، 9. 10.
[247] التقرير النهائي للسينودس 2015، 59.
[248] نفس المرجع، 63.
[249] الدستور الرعائي فرح ورجاء، 50.
[250] التقرير النهائي للسينودس 2015، 63.
[251] من نصوص السينودس 2014، 40.
[252] نفس المرجع، 34.
[253] نشيد روحي ب، XXV، 11.
[254] من نصوص السينودس 2014، 44.
[255] التقرير النهائي للسينودس 2015، 81.
[256] نفس المرجع، 78.
[257] المقابلة العامة (24 يونيو / حزيران 2015): أوسرفاتوري رومانو، 25 يونيو / حزيران 2015، ص. 8.
[258] يوحنا بولس الثاني، الارشاد الرسولي، ما بعد السينودس، وظائف العائلة المسيحيّة (22 نوفمبر / تشرين الثاني 1981)، 83: أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982)، 184.
[259] من نصوص السينودس 2014، 47.
[260] نفس المرجع، 50.
[261] را. المقابلة العامة (5 أغسطس / آب 2015): أوسرفاتوري رومانو، 6 أغسطس / آب 2015، ص. 7.
[262] من نصوص السينودس 2014، 51؛ را. التقرير النهائي للسينودس 2015، 84.
[263] من نصوص السينودس 2014، 48..
[264] الرسالة البابويّة الرب يسوع، القاضي الرحيم Mitis Iudex Dominus Iesus(15 أغسطس / آب 2015): أوسرفاتوري رومانو، 9 سبتمبر / أيلول 2015، ص.ص.3- 4؛ الرسالة البابويّة يسوع الوديع والرحيم Mitis et Misericors Iesus(15 أغسطس / آب 2015): أوسرفاتوري رومانو، 9 سبتمبر / أيلول 2015، ص.ص.5- 6.
[265] الرسالة البابويّة الرب يسوع، القاضي الرحيم Mitis Iudex Dominus Iesus(15 أغسطس / آب 2015) الديباجة، III: أوسرفاتوري رومانو، 9 سبتمبر / أيلول 2015، ص.3.
[266] التقرير النهائي للسينودس 2015، 82.
[267] من نصوص السينودس 2014، 47.
[268] المقابلة العامة(20 مايو / أيار 2015): أوسرفاتوري رومانو، 21 مايو/ أيار 2015، ص. 8.
[269] المقابلة العامة (24 يونيو / حزيران 2015): أوسرفاتوري رومانو، 25 يونيو / حزيران 2015، ص. 8.
[270] المقابلة العامة (5 أغسطس / آب 2015): أوسرفاتوري رومانو، 6 أغسطس / آب 2015، ص. 7.
[271] التقرير النهائي للسينودس 2015، 72.
[272] نفس المرجع، 73.
[273] نفس المرجع، 74.
[274] نفس المرجع، 75.
[275] را. المرسوم وجه الرحمة، 12: أعمل الكرسي الرسولي 107 (2015)، 409.
[276] التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 2358؛ را. التقرير النهائي للسينودس 2015، 76.
[277] را. نفس المرجع.
[278] التقرير النهائي للسينودس 2015، 76؛ را. مجمع العقيدة والإيمان، اعتبارات حول مقترحات منح الاعتراف القانوني بالزواج بين أشخاص مثليين (3 يونيو / حزيران 2003)، 4.
[279] التقرير النهائي للسينودس 2015، 80.
[280] را. نفس المرجع، 20.
[281] المقابلة العامة (17 يونيو / حزيران 2015): أوسرفاتوري رومانو، 18 يونيو / حزيران 2015، ص. 8.
[282] التقرير النهائي للسينودس 2015، 19.
[283] المقابلة العامة (17 يونيو / حزيران 2015): أوسرفاتوري رومانو، 18 يونيو / حزيران 2015، ص. 8.
[284] نفس المرجع.
[285] را. التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 958.
[286] نفس المرجع.
[287] را. أحدث جولة من المحادثات، “الكتاب الأصفر” للأم أغنيس، 17 يوليو / تموز 1897: الأعمال الكاملة، مدينة الفاتيكان – روما 1997، 1028. وفي هذا الصدد، مهمة هي شهادة الأخوات حول وعد القديسة تيريزا بأن يكون رحيلها من هذا العالم “مثل وابل من الورود” (نفس المرجع. 9 يونيو / حزيران، 991).
[288] جوردانو دي ساسونيا، Libellus de principiis Ordinis prædicatorum، 93،Monumenta Historica Sancti Patris Nostri Dominici، XVI، روما 1935، 69.
[289] را. التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 957.
[290] المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور العقائدي نور الأمم، 49.
[291] الارشاد الرسولي، فرح الإنجيل (24 نوفمبر / تشرين الثاني 2013)، 222: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، 1111.
[292] المقابلة العامة (20 مايو / أيار 2015): أوسرفاتوري رومانو، 21 مايو / أيار 2015، ص. 8.
[293] المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور الرعائي فرح ورجاء، 17.
[294] المقابلة العامة (30 سبتمبر / أيلول 2015): أوسرفاتوري رومانو، 1 أكتوبر / تشرين الأول 2015، ص. 8.
[295] المقابلة العامة (10 يونيو / حزيران 2015): أوسرفاتوري رومانو، 11 يونيو / حزيران 2015، ص. 8.
[296] را. التقرير النهائي للسينودس 2015، 67.
[297] المقابلة العامة (20 مايو / أيار 2015): أوسرفاتوري رومانو، 21 مايو / أيار 2015، ص. 8.
[298] المقابلة العامة (9 سبتمبر / أيلول 2015): أوسرفاتوري رومانو، 10 سبتمبر / أيلول 2015، ص. 8.
[299] التقرير النهائي للسينودس 2015، 68.
[300] نفس المرجع، 58.
[301] إعلان حول التربية المسيحية، الأهمية القصوى للتربية Gravissimum Educationis 1.
[302] التقرير النهائي للسينودس 2015، 56.
[303] إيريك فروم، فن الحب The Art of Loving، نيويورك 1956، ص. 54.
[304] الرسالة العامة كن مُسبّحا (24 مايو / أيار 2015)، 155.
[305] المقابلة العامة (15 أبريل / نيسان 2015): أوسرفاتوري رومانو، 16 أبريل / نيسان 2015، ص. 8.
[306] را. التقرير النهائي للسينودس 2015، 13- 14.
[307] حول البتولية المقدسة، 7، 7: PL 40، 400.
[308] المقابلة العامة (26 أغسطس /آب 2015): أوسرفاتوري رومانو، 27 أغسطس / آب 2015، ص. 8.
[309] التقرير النهائي للسينودس 2015، 89.
[310] نفس المرجع، 93.
[311] من نصوص السينودس 2014، 24.
[312] نفس المرجع، 25.
[313] نفس المرجع، 28.
[314] را. نفس المرجع، 41. 43؛ التقرير النهائي للسينودس 2015، 70.
[315] من نصوص السينودس 2014، 27.
[316] نفس المرجع، 26.
[317] نفس المرجع، 41.
[318] نفس المرجع.
[319] التقرير النهائي للسينودس 2015، 71.
[320] نفس المرجع.
[321] من نصوص السينودس 2014، 42.
[322] نفس المرجع، 43.
[323] الارشاد الرسولي، ما بعد السينودس، وظائف العائلة المسيحيّة (22 نوفمبر / تشرين الثاني 1981)، 34: أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982)، 123.
[324] نفس المرجع، 9: 90.
[325] را. المقابلة العامة (24 يونيو / حزيران 2015): أوسرفاتوري رومانو، 25 يونيو / حزيران 2015، ص. 8.
[326] عظة بمناسبة القداس الإلهي مع الكرادلة الجدد (15 فبراير / شباط 2015): أعمال الكرسي الرسولي 107 (2015)، 257.
[327] التقرير النهائي للسينودس 2015، 51.
[328] من نصوص السينودس 2014، 25.
[329] يوحنا بولس الثاني، الارشاد الرسولي، ما بعد السينودس، وظائف العائلة المسيحيّة (22 نوفمبر / تشرين الثاني 1981)، 84: أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982)، 186. في مثل هذه الظروف، إن الكثير من الأشخاص، مدركين وراضين بإمكانية العيش معا “كأخ وأخت” التي تعرضها الكنيسة عليهم، يلاحظون أنه حين تنقص بعض التعابير الحميمة، ليس من النادر أن “تتعرضُ الأمانةُ الزوجية كما وخير البنين للخطر” (المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور الرعوي فرح ورجاء، 51).
[330] يوحنا بولس الثاني، الارشاد الرسولي، ما بعد السينودس، وظائف العائلة المسيحيّة (22 نوفمبر / تشرين الثاني 1981)، 84: أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982)، 186.
[331] من نصوص السينودس 2014، 26.
[332] را. نفس المرجع، 45.
[333] بندكتس السادس عشر، كلمة بمناسبة اللقاء العالمي السابع للعائلات، ميلانو (2 يونيو / حزيران 2012)، جواب 5: تعاليم VIII، 1 (2012)، 691.
[334] التقرير النهائي للسينودس 2015، 84.
[335] نفس المرجع، 51.
[336] حتى فيما يتعلق بنظام الأسرار، بما أن التمييز يقدر أن يعترف أنه في حالة معينة، ليس هناك من ذنب عظيم. هنا يطبّق ما قد أكّدته في وثيقة أخرى: را. الرسالة العامة فرح الإنجيل (24 نوفمبر / تشرين الثاني 2013)، 44. 47: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، 1038- 1040.
[337] التقرير النهائي للسينودس 2015، 85.
[338] نفس المرجع، 86.
[339] يوحنا بولس الثاني، الارشاد الرسولي، ما بعد السينودس، وظائف العائلة المسيحيّة (22 نوفمبر / تشرين الثاني 1981)، 33: أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982)، 121.
[340] التقرير النهائي للسينودس 2015، 51.
[341] را. الخلاصة اللاهوتية II-I، س. 65، ق. 3، 2؛ الشر، س. 2، ق. 2.
[342] نفس المرجع، 3.
[343] عدد 1735.
[344] را. نفس المرجع، 2352؛ مجمع العقيدة والإيمان، حول القتل الرحيم: الحقوق والقيم (5 مايو / أيار 1980)، II: أعمال الكرسي الرسولي 72 (1980)، 546. قد اعترف يوحنا بولس الثاني، في انتقاده فئة “الخيار الأساسي”، أنه “ما من شك في أنه قد يكون هناك حالات معقدة جداً وغامضة على الصعيد النفساني، لها تأثيرها الكبير على مسؤولية الخاطئ الشخصية” (الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس المصالحة والتوبة [2 ديسمبر / كانون الأول 1984] ، 17: أعمال الكرسي الرسولي 77 [1985] ، 223).
[345] را. المجلس الحبري للنصوص التشريعية، إعلان حول جواز قبول الأشخاص المطلقين المتزوجين ثانية في سر المناولة (24 يونيو / حزيران 2000)، 2.
[346] التقرير النهائي للسينودس 2015، 85.
[347] الخلاصة اللاهوتية II-I، س. 94، ق. 4.
[348] مشيرًا إلى المعرفة العامة للقاعدة، والمعرفة الخاصة للتمييز العملي، يتوصّل القديس توما إلى القول بأنه “إذا كانت هناك إحدى هاتين المعرفتين فقط، فمن الأفضل أن تكون هذه المعرفة معرفةَ الواقع الخاص، التي هي أقرب إلى التصرف. (التعليق على كتاب الأخلاق لأرسطو، VI، 6 [ed. Leonina، t. XLVI، 354] ).
[349] كلمة بمناسبة اختتام الجمعية العامة العادية الرابعة عشرة لسينودس الأساقفة (24 أكتوبر / تشرين الأول 2015): أوسرفاتوري رومانو، 26- 27 أكتوبر / تشرين الأول 2015، ص. 13.
[350] في بحث عن أخلاقيات عالمية: نظرة جديدة على الشريعة الطبيعية، (2009)، 59.
[351] قد يكون أيضًا في بعض الحالات بمساعدة الأسرار. لذا، “أذكّر الكهنة بأن كرسي الاعتراف يجب ألا يكون قاعة تعذيب بل مكانا لرحمة الرب” (الارشاد الرسولي، فرح الإنجيل (24 نوفمبر / تشرين الثاني 2013)، 44: أعمال الكرسي الرسولي 105 [2013] ، 1038). أشير أيضًا أن الافخارستيا “ليست مكافأة مخصّصة للكاملين، بل إنها دواء سخي وغذاء للضعفاء” (نفس المرجع، 47. 1039).
[352] الرسالة العامة فرح الإنجيل (24 نوفمبر / تشرين الثاني 2013)، 44: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، 1038- 1039.
[353] التعليم المسيحي للمبتدئين، I، 14، 22: PL 40، 327؛ را. الارشاد الرسولي، فرح الإنجيل (24 نوفمبر / تشرين الثاني 2013)، 193: أعمال الكرسي الرسولي 105 [2013] ، 1101.
[354] من نصوص السينودس 2014، 26.
[355] الرسالة العامة فرح الإنجيل (24 نوفمبر / تشرين الثاني 2013)، 44: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، 1038.
[356] نفس المرجع 45: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، 1039.
[357] نفس المرجع 270: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، 1128.
[358] المرسوم وجه الرحمة (11 أبريل / نيسان 2015)، 12: أعمل الكرسي الرسولي 107 (2015)، 407.
[359] نفس المرجع، 5: 402.
[360] نفس المرجع، 9، 405.
[361] نفس المرجع، 10: 406.
[362] الرسالة العامة فرح الإنجيل (24 نوفمبر / تشرين الثاني 2013)، 47: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، 1040.
[363] را. نفس المرجع، 36- 37 : أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، 1035.
[364] إن بعض الكهنة، وربما لارتياب ما متخفٍّ تحت غطاء الرغبة القوية في الأمانة للحقيقة، يفرضون على التائبين وعدًا بالإصلاح الواضح، “فتُدفَنٌ” الرحمةُ هكذا في ظلِّ البحثِ عن برٍّ من المفترض أن يكون طاهرًا. لذا فمن المفيد أن نتذكّر تعليم القديس يوحنا بولس الثاني، الذي أكّد بأن التكهّن بسقطةٍ جديدة لا “يؤثّر على صدق الوعد” (رسالة إلى الكاردينال ويليم و. باوم بمناسبة الدورة حول أعماق النفس التي نظمتها المحكمة الكنسية الرسولية [22 مارس / آذار 1996] ، 5: تعاليم XIX، 1 [1996] ، 589).
[365] اللجنة اللاهوتية الدولية، رجاء الخلاص للأطفال الذين يموتون دون معمودية (19 أبريل / نيسان 2007)، 2.
[366] المرسوم وجه الرحمة (11 أبريل / نيسان 2015)، 15: أعمل الكرسي الرسولي 107 (2015)، 409.
[367] مرسوم حول العلمانيين، النشاط الرسولي، 4.
[368] را. نفس المرجع.
[369] المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور الرعائي فرح ورجاء، 49.
[370] الرسالة العامة الله محبة (25 ديسمبر / كانون الأول 2005)، 16: أعمال الكرسي الرسولي 98 (2006)، 230.
[371] نفس المرجع، 39: أعمال الكرسي الرسولي 98 (2006)، 250.
[372] يوحنا بولس الثاني، الارشاد الرسولي، ما بعد السينودس، العلمانيون المؤمنون بالمسيح (30 ديسمبر / كانون الأول 1988)، 40: أعمال الكرسي الرسولي 81 (1989)، 468.
[373] نفس المرجع.
[374] التقرير النهائي للسينودس 2015، 87.
[375] يوحنا بولس الثاني، الارشاد الرسولي، ما بعد السينودس، الحياة المكرسة (25 مارس / آذار 1996)، 42: أعمال الكرسي الرسولي 88 (1996)، 416.
[376] را. التقرير النهائي للسينودس 2015، 87.
[377] را. يوحنا بولس الثاني، الارشاد الرسولي، ما بعد السينودس، وظائف العائلة المسيحيّة (22 نوفمبر / تشرين الثاني 1981)، 57: أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982)، 150.
[378] يجب ألّا ننسى أنه يُعَبَّرُ عن عهد الله مع شعبه بمثابة خطوبة (را. حز 16، 8. 60؛ أش 62، 5؛ هو 2، 21- 22)، ويتم تقديم العهد الجديد أيضًا كزواج (را. رؤ 19، 7؛ 21، 2؛ أف 5، 25).
[379] المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور العقائدي نور الأمم، 11.
[380] يوحنا بولس الثاني، الارشاد الرسولي، ما بعد السينودس، وظائف العائلة المسيحيّة (22 نوفمبر / تشرين الثاني 1981)، 11: أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982)، 93.
[381] نفس الكاتب، عظة خلال القداس الإلهي من أجل العائلات في كوردوبا – أرجنتين (8 أبريل / نيسان 1987)، 4: تعاليم X، 1 (1987)، 1161- 1162.
[382] را. Gemeinsames Leben، ميونيخ 1973، 18 (الترجمة الإنكليزية: Life Together، نيو يورك 1954، ص. 27).
[383] المجمع الفاتيكاني الثاني، مرسوم حول العلمانيين، النشاط الرسولي 11.
[384] المقابلة العامة (10 يونيو / حزيران 2015): أوسرفاتوري رومانو، 11 يونيو / حزيران 2015، ص. 8.
[385] يوحنا بولس الثاني، الارشاد الرسولي، ما بعد السينودس، وظائف العائلة المسيحيّة (22 نوفمبر / تشرين الثاني 1981)، 12: أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982)، 93.
[386] كلمة بمناسبة عيد العائلات وسهرة الصلاة، فيلادلفيا (26 سبتمبر / أيلول 2015): أوسرفاتوري رومانو، 28- 29 سبتمبر / أيلول 2015، ص. 6.
[387] غبريال مارسيل، Homo viator. Prolégomènes à une métaphysique de l´espérance، باريس 1944، 63.
[388] التقرير النهائي للسينودس 2015، 88.
[389] را. يوحنا بولس الثاني، الارشاد الرسولي، ما بعد السينودس، وظائف العائلة المسيحيّة (22 نوفمبر / تشرين الثاني 1981)، 44: أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982)، 136.
[390] نفس المرجع، 49: أعمال الكرسي الرسولي 74 (1982)، 141.
[391] حول الجوانب الاجتماعية للعائلة، را. المجلس الحبري للعدالة والسلام، ملخص العقيدة الاجتماعية للكنيسة، 248- 254.