“الزواج : أشواق وأشواك”.
هذه هي المرّة الثالثة نتوقف فيها عند محطّة “سرّ الزواج” للغوص والتأمّل في هذا السرّ الكبير الذي يحمل في معانيه أولى خطوات الأسرار. فهو السرّ الأول في البشريّة؛ يمكننا اعتباره الأول، لأنّ الكتاب المقدّس، عندما أرسى الربّ الإله أساسات الخلق ووضع لمساته الأخيرة في تزيينه، جعل بإرادة الرب الإنسان ذكراً وأنثى، لكي يترك الرجل أباه وأمّه ويلزم امرأته فيصيران كلاهما جسداً واحداً؛ وما جمعه الله لا يفرّقه إنسان. لقد توقف الكثيرون من شرّاح ووعاظ عند هذه العبارات وبنوا عليها الفكر والنهج والتطلّع، لأن إرادة الربّ في اتحاد شخصين لا تكون إلاّ نهائية بحيث لا يفرق بينهما إلاّ الموت.
سرّ الزواج يشكّل أساساً في نهج حياة الإنسان المؤمن الملتزم. لقد تهجّم عليه الكثيرون، بسبب نظرتهم القانونية تجاهه. لكننا عندما نلقي عليه النظر على ضوء قيمته المسيحيّة، الإنسانيّة والإجتماعيّة، لا يمكننا إلاّ أن نكشف عن جمالاته. ومتى قلنا “جمالاً” فإن هذا لا يعني الأمور السهلة بدون تعب وبدون عقد ومشاكل. لكن الجمال هنا يكمن في ارتفاع شأن الإنسان إلى مستوى “مشارك في الخلق وفي الجواب على طبيعة الحياة” تماماً كما أوجدها الله وكما أرادها أن تكون وأن تسير، وهذا يعني تحقيق الأهداف الكبيرة التي تضفي على الحياة معناها وعلى الإنسان حق وجوده وهي:
– عيش اللقاء والشركة والحبّ.
– حمل المسؤوليات، والوعي على واقع الإنسان فينا وإطلاق مقدراته.
– محاولة الالتزام والتمسّك بهدف معيّن في الحياة.
– استعمال اللذة بكل نواحيها، مع توجيهها إلى هدفها الأعلى في شركة الخلق وشركة التواصل بالحبّ.
الزواج مشروع حياة كاملة، كما ذكرنا: لقاء، خلق، مسؤولية والتزام. تبدأ هذه الحياة بفرحة، ثم يدخل فيها “الغموض”، بعض الضباب، بمعنى “المخاطرة المجازفة”. لكن الدافع للزواج طاقة أقوى هي تجعله ينجح حتى يصل إلى هدفه. لذلك، في مشروع الزواج لا يعيش المرء حياته خطاً مستقيماً، إنّما يسير خطّ حياته بحريّة، أحياناً يميل شمالاً وأحياناً أخرى يسير يمنة، يتراجع بعض الأوقات ثم يعود ليتقدّم. يمكننا أن نرسم حياتنا في الزواج وأن نجعل منها صورة جميلة عندما يمسك كلّ من الزوجين طرف هذا الخيط ويسيران به بكلّ حريّة وبكل إرادة صالحة وثابتة حتى يوجهانه بطريقة سليمة ليخط لهما الدرب التي تتجاوب مع تطلعاتهما إلى الإزدهار.
تعاكسنا الحياة فنحاول مقاومتها، تغلبنا فنتراجع، نغلبها فنتقدّم. فلا نقل أن كلّ شيء ضدّنا؛ إنّما إذا نظرنا نظرة واقعيّة إلى عيشنا نجد أشياء كثيرة حلوة، طبعاً ليس كلّ شيء وليس الكمال. ما يخلق جمال الكون، هو اختلاط الجمال الإلهي الذي هو الجمال بحدّ ذاته، مع واقع الإنسان. هذه هو هدف الزواج، أن يمتزج جمال الله في إرادته الحسنة، مع واقع الإنسان في جديّته. هكذا تتحقق العيلة المسيحيّة.
العيلة هي ركن المجتمع وركن في الكنيسة. إنّها الكنيسة البيتيّة التي منها تنطلق “حضارة المحبّة” في مواجهتها “لحضارة الموت”. لقد أسس يسوع حضارة المحبّة منذ ولادته على الأرض وذلك في قلب العيلة المقدّسة. فالعيلة المسيحيّة هي ضمانة للقيم المسيحيّة لأنّها ترسي قواعدها على ثلاث ركائز:
1- ترتكز على الإيمان بالله الثالوث الذي يفيض حبّه على البشر كلّهم.
2- ترتكز على الإيمان بالكنيسة وتعمل فيها لتحقق دورها. لذلك هي رسولة، أي الرسولة الأولى التي تحمل البشرى للإنسان منذ حداثته فتطبع صورة المسيح وتأتي الكنيسة فتكمّل هذه الصورة من خلال التعاليم والأسرار.
3- ترتكز على الإيمان بدورها الرسولي أي نشر الملكوت من خلال الشهادة للإنجيل (أي إنها تحكي عن المسيح المكتوب، الكلمة المطبوعة ليس في كتاب من ورق بل في كتاب وسفر الحياة)، من خلال الاستشهاد، أي الموت، عن الخطيئة لتأسيس الملكوت وتوطيده. إنّه مملكة المحبّة التي صارت اليوم “حضارة المحبّة”.
أمام هذه الباقة من ورود وأشواق الحبّ الذي قدّسه الربّ، نرانا نصطدم بعرش الأشواك التي بها تُوّج رأس يسوع الفادي. فلا بدّ للعيلة وبالأخص العيلة المسيحيّة التي تاجها من ورد، من أن تشترك بتاج المسيح للحفاظ على رونق ورودها. لذا سوف نتحدّث اليوم عن هذا الأشواك وباختصار. يمكننا تحديدها بعشر شوكات تنفذ إلى أعماق الزواج والعيلة لتذكر أبناءها أن السعادة لا تدوم إلاّ إذا علَت فوقَ الأشواك.
1) فقدان الحوار والإصغاء: الإصغاء والحوار عنصران أساسيان في العلاقات الإنسانيّة والتواصل بين الناس، وهما ضروريان في البيت الذي بنى أساساته على الصخر.
يساعد الإصغاء على انفتاح الأشخاص بعضهم على بعض وتكون النتيجة فهم بعضهم البعض بحيث يعطي الواحد للآخر الحق في الكلام والتعبير وإيصال ما عنده من معاناة وأفكار. من أهداف الإصغاء أنّه يجعل الحوار ناجحاً وبناء لأنّه يؤدّي بالإنسان إلى فهم الغير والتفاهم معه وإلى تصويب الكلام والأفكار والتطلّعات نحو جوهر المشكلة لحلّها. أمّا الحوار فإنّه من ناحيته يساعد على الشرح والتوضيح وعلى جعل الأمور على بساط البحث للخروج من الغموض وكسر كلّ جليد وسدّ الطريق على العزلة والإنعزال. يجعل الناس تتعاطى مع بعضها البعض بطريقة غير اصطناعيّة انّما طبيعيّة كما ويساعدهم على قبول فروقاتهم والقناعة بما عندهم. يؤدّي الحوار إلى التفاهم وتخطّي العقبات التي تعترض مسيرة الزوجين والعيلة. عندما نفقد الحوار في قلب البيت الواحد هذا يعني انّنا ندفع الأشخاص إلى الإنعزال والسقوط بكلّ نتائجه: كالغضب، والحقد، والتخيلات والافتراء، وتناقل الكلام مع الزوائد المؤذية، والافتراضات الوهميّة؛ هذا بالإضافة إلى الرفضيّة وروح الإنتقام والتخلّي عن الغير حتى إرادة موته… أمّا فقدان الإصغاء فإنّه يرمي بأصحابه في التحجر والتمسك بأفكاره الخاصة حتى درجة الانغلاق والعيش ضمن حدود ضيقّة ومجالات غير واسعة وعدم القبول وبالتالي الغرور. هذا هو شرّ كبير يعطّل الحياة وفرحها، ويؤدي أحياناً كثيرة إلى خرابها.
2) فقدان الثقة:
إذا عدنا إلى الأصل الأجنبي لكلمة “ثقة” نجد فيه معنى “وضع ما هو خاص به عند الغير ومعه”. وبالمعنى العام نفهم بالثقة هذه الراحة والإرتياح للغير إلى درجة أننا نصدقه ولا نطرح الأسئلة حول ما يقول وحول ما هو ملتبس بالنسبة إلينا. عادة الثقة لا تكون من جهة واحدة وإلا انكسرت، تكون متبادلة. ثقة الواحد تولد ثقة الآخر. وما يفقدنا الثقة هو الخوف، وعدم الوضوح، والقلق والاضطراب، وعدم السلام. وعندما تضيع الثقة تكثر الشكوك والظنون ونفقد السلام كلياً. تضيع الثقة عندما نستند على معطيات مغايرة لتوقعاتنا ومخالفة لاتفاقاتنا ومعاكسة للحقيقة. وغالباً ما تبدأ الظنون والمخاوف. ما يساعد على إزالتها كلها هو الحوار والإستيضاح، والتدرب على الصراحة دون قلق على نتائجها. نبني الثقة من خلال الصدق والشفافية ومن خلال عيش الحقيقة ومطابقتها مع الواقع الذي نعيش.
3) فقدان الراحة:
إننا نعيش في عصر مشهور بالسرعة وكثرة المتطلبات، لذلك نرانا منهمكين بشؤون كثيرة وهي ضروريّة، ولذلك يتعب الإنسان. ونحن لا نعرف الراحة، إذ نعيش نوعية حياة مربكة، فنعتبر أن الراحة نوع من ضياع للوقت، بينما هي في الواقع جزء لا يتجزأ من عملنا، لأنه بدون راحة، لا يمكننا العودة إلى العمل والإنتاج. نحتاج إلى تنظيم عملنا وراحتنا بشكل متناغم للنجاح. فكثرة الهموم تؤدي إلى فقدان السلام وبالتالي لا يعود أهل البيت الواحد قادرين على الإصغاء والتفاهم، يفقد الإنسان التركيز على الأشخاص بسبب الإنهماك بالأشغال. تحتاج العيلة كثيراً إلى الاحتكاك العاطفي وليس فقط إلى أداء الفروض والواجبات. كل إنسان عنده حاجاته الشخصيّة، وعلى الآخر أن يكون حاضراً كي يشعر بها حتى يساعده على ترتيبها وتلبيتها. عندما لا نكون مرتاحين تتعب الأعصاب وتكثر الأزمات العصبيّة ولا يعود هنالك صبر وطول أناة وبالتالي تكثر المشاجرات والزعل…
4) فقدان الاحترام:
الاحترام يعني اعتبار الشخص الآخر في كل مقوماته الفكرية والإنسانية والروحية وغيرها. يترجم هذا الإعتبار بالتقدير، باعطاء الحق، وبإعطاء الدور. غالباً ما ينكسر الاحترام بالتسلّط أو باستصغار الآخر، بحيث يركز المرء على نقطة ضعف الآخر ويتعامل معه من خلالها بدون اعتبار غير نقاط القوة والقيم عنده. بمعنى آخر يزيد في فتح جرحه حتى يؤلمه أكثر فأكثر وبالتالي لا يعود عنده قدرة على الخروج من مشكلته. امّا من ناحية ثانية فإن عدم الاحترام يقوم على جهل الشخص وعلى الاعتداد بنفسه وغروره إلى درجة يغطي عدم مقدرته الذاتية بإهانة الآخر. أمّا الدرجة الثالثة من عدم الاحترام فتعود إلى تكبّر الإنسان الذي يريد التعالي بدون الاستناد إلى معطيات كافية، فيتعلّق بالشكليات ويفقد الجوهر، لذلك نرى الكثيرين يتمسّكون بسخافات يعتبرونها اساسية للتعاطي مع الغير لأنّهم لا يملكون غيرها، وبالتالي يحكمون جوراً على غيرهم وبالأخص إذا كانوا يملكون بعض المعطيات المادية تجعلهم يشعرون أنهم يتفوقون على غيرهم. هذا النوع من الاعتداد بالنفس الشكلي لا يدوم إلى أن يفتضح أمره عندما تبرز حقائق الأمور التي تفرض ذاتها.
5) فقدان الروح والانغماس بالمادة:
يعتبر الكثير من الناس أنهم مؤمنون ولقد وفوا الله حقّه ببعض الصلوات وبعض العادات والتقاليد الموروثة بدون فهم، أو ببعض التقادم يرفعونها إلى الكنيسة وذلك وفاء لواجب مراضاة الله لكي يبعد عنهم الويلات، أي عطايا نابعة من شعور بالخوف يريدون تغطيته بأمور محقّة. أمّا ما يختص بحياتهم وعيشهم فهو يرتكز على كل ما هو غير حضور الله والإيمان. المهم أن تكون الأشغال ماشية والربح كثير حتى ولو على حساب الضمير. حتى التعاطي مع شريك الحياة وشركاء البيت مرهون بما هو “ربح”، لا تعود القيم الإنسانية والروحية رائدة في العلاقات، بل حسابات أخرى هي تدير العلاقات. كم من العيال يفقد بعض افرادها الأخلاق وتفلت كل حدود التهذيب والاحترام الى درجة جفاف العاطفة. كم من الأوقات نجد عيالاً لا يهمها الله ولا يهمها الإنجيل ولا الكنيسة، كل الهم هو أن نأكل ونشرب ونمرح ونلبس، هذا هو واجبنا قد أمّناه ولقد أدّينا دورنا. الباقي لا يهمنا؛ انه يخص اولئك الروحانيين (المعقّدين). نلاحظ عند هذا النوع من الناس انّ القاعدة الذهبية هي “الأنانية” بدون أن يقولونها. ما يهتمّون له هو الراحة الشخصيّة، فلا يحرّكون اصبعاً نحو القيم، يعتبرون انّ السعادة في امتلاك كل ما يريدون والقناعة بعيشة مكتفية ذاتياً. وعندما تنقص المادة تبدأ التعاسة. ليس عندهم غنى داخلي، متى فقدوا كل شيء. هذا النوع من الانغماس في المادة يفقد المرء شعوره واحساسه ويجعله جافاً. متى كان أحد اعضاء العيلة بهذه النفسية حوّل العيشة إلى معاناة.
6) تصارع الأجيال والعقليات:
لكلّ خبرته وميزاته وطبعه؛ هذا يتأتى من الخبرة والعمر، ومن التربية والعوائد والعادات. نعتبر أحياناً كثيرة أن فارق العمر يولد النزاعات بين افراد البيت. هذا ليس بصحيح بشكل عام. نرى احياناً كثيرة ان الاحفاد يتفقون مع الأجداد وأن الأهل يتفهّمون أولادهم أكثر من الأولاد فيما بينهم. فارق العمر ليس بمشكلة ضرورية لخلق النزاعات. ما يخلقها هو الفرق في العقليات وما بين العقليّة المتحجرة والعقليّة المتساهلة إلى درجة التفلّت، وما بين العقليّة المترفعة إلى درجة الضياع في المثاليات وفقدان الواقع، والعقليّة المادية المحض التي لا تحسب إلاّ حساب الأمور الماديّة متناسية ورافضة الأمور الروحية والمعنوية. وهناك أيضاً العقليّة الرجعيّة التي تتعلّق بالماضى وامجاده ولا تعرف إلاّ ما يريحها مما اعتادت عليه ولا يمكنها أن تتزحزح من أفكارها وإلاّ فقدت سلامها وتعبت. والعقليّة المتطورة العصريّة التي ترفض الماضي وكل ما هو تراث ولا تركز إلاّ على ما هو جديد عصري، هذا ما يعطيها الفرح والسعادة. فقدان الانسجام بين هذا التنوع من العقليات هو يولد النزاعات والتصارع، بحيث يريد كل منها ان يسيطر على الساحة ويزيل غيره من الوجود معتبراً أنّه الأصح والكل غلط. أمّا ما يلزم فهمه هو اعتراف كل عقلية بالأخرى ومحاولة ايجاد التناغم معها والانسجام مع تطلعاتها لأن لها قيمة بحد ذاتها وذلك لخلق الساحة للكل حتى يجدوا مكانهم ويتراجع كل منها امام الأخرى لتجد مكانها معها. هذا هو الاحترام وهذا هو النجاح في التناغم وليس فقط في التعايش.
7) تضارب المصالح:
ما يخرب الزواج هو “المصلحة”. هذه الكلمة تزعج الصفاء في النوايا، بحيث يركز الإنسان على انانيته ولو كانت على حساب الغير وخرابهم. كلنا نرفض هذا الوقع، وغالباً ما تنكسر الصداقات وتنقطع العلاقات في الحلقة الواحدة بسبب بروز هذه الآفة. يعلّمنا الضمير والإيمان أنّه على المرء أن يغلب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة وهذا يقتضي منه التضحية، التواضع والوداعة، البذل والحس الجماعي. هذا كلّه يساعد الإنسان على عيش روحانيته العمليّة التي تكمن في العطاء والمشاركة. عندما يبدأ كلّ إنسان يعمل لحساب مصلحته، تبدأ عندها صراعات المصالح فتدمّر كل ما يكون بناه الناس وتعبوا عليه. أخطر ما في الزواج أن تلعب المصالح الخاصة فيه، فإنّها تبنيه على أساس كاذبة غالباً ما تخور وتتلاشى وتزول ويخرب الزواج معها. عندما تلعب المصلحة دورها يبرز بوضوح عمل “الأنانية” التي تكون في أساس اغلاط كثيرة وبشاعة العيش.
8) جنوح الطبيعة:
المقصود هنا ضعف الطبيعة البشريّة التي يستغلّها الشيطان ليوقع بالإنسان في حبال تجاربه وبالتالي يجعله يسقط في الخطيئة حيث تدب بين افراد العيلة روح الحزن والحقد والرفض وبالتالي يفصل بينهم وبين الله ويوقعهم في الدمار. الطبيعة البشريّة ميالة مع كل ريح. والتجارب متعدّدة انطلاقاً من روح التحرر، روح الإنفتاح على كل جديد وكل مُباح، وروح التفرّد والانغلاق، وروح المرح والتساهل بخلق جو الضحك والنكتة… كل هذا يعطي للإنسان مبررات لكي يتساهل مع ذاته إلى درجة التسامح حتى تخطّي كل الحدود. مبادئ عصرنا جيدة لكن يلزم التعاطي معها بروح الخبرة والنقد، وبروح الحيطة والحذر لئلا تخدعنا. من هنا ضرورة تقوية الإرادة ضد التجارب من خلال الصلاة والتمرّس الروحي لتشكل حصناً منيعاً ضدّها. إننا نعيش بعض “الإباحية” بكل معنى هذا العنوان العريض. أي لم يعد هناك محرمات؛ فمع التكنولوجيا والتطور أصبح الإنسان يعيش في عالمه الصغير ومن خلاله يدخل إلى حيث لم يكن قادراً ولم يكن يسمح لذاته بالولوج فيه. هذا ما كسّر قيوداً كثيرة. إذا لم نكن محصّنين بقوة الإرادة والإيمان والتمسّك بالقيم المسيحيّة نسقط بسرعة في زلاّت لم نكن نقصد الدخول فيها. لذلك نتدرّب في حوارنا وروحانيتنا على معرفة انتقاء ما يفيد وتحاشي ما يؤذي. ومتى كانت الطبيعة ضعيفة وأسقطتنا في معاثر الخطيئة، ليس لنا إلا باب الغفران والمسامحة والتوبة، هناك نجد العودة إلى الحياة بعد السقوط في الموت. يقول المثل: درهم وقاية ولا قنطار علاج.
من هنا ضرورة : التحفّظ بالكلام والإيحاءات، السهر على النظر والسمع، توطيد الحبّ داخل البيت والتفاهم لإعادة الحياة دائماً إلى مجراها الصحيح. هذا بالإضافة إلى الصلاة وتوطيد رباط الحبّ والسلام برباط الروح القدس الذي يقوّي في الشدائد. هكذا نصون الحبّ المقدّس من قبل الربّ وهكذا نعطي لطبيعتنا قوّة تساعدها على مواجهة الجنوح.
9) انهيار الصحّة:
يتعرّض الجسم الإنساني لهجمات الضعف مما يؤدي إلى مرضه. وتكون الأمراض على صعيدين، أولهما هو مرض الجسد البيولوجي. يشهد عصرنا الكثير من الأمراض المستعصية وأصعبها الأمراض الطويلة الأمد والمزمنة مما يخلق حالات قلق وخوف وحالات ارتباك في قلب العيلة وهذا يتطلّب مجهوداً كبيراً من الصبر والاحتمال ومن الرجاء لئلا يقع الجميع في اليأس والانهيار. الحضور الدائم إلى جانب المريض، تحمّل نفسيته المرهقة، خلق الجو الملائم لمساعدته، انتظار النكسات الكبرى المفاجئة، حمل صليب الألم… كلها حالات صعبة تقتضي جهداً كبيراً وإيماناً عميقاً لمتابعة مسيرة العيش ايجابياً. أمّا الصعيد الثاني فإنّه الصعيد النفساني بحيث يكون الشخص يعاني من جروح نفسيّة تؤدي به بعد صدمة أو تعب وارهاق إلى فقدان الإتزان النفساني والعاطفي فيقع في ما نسمّيه العوارض النفسيّة التي تشكّل على مدى تفاعلها حالات نفسيّة مَرَضيّة. تدخل هنا العيلة في حالة صراع مؤلم وتعيش معاناة كبيرة تتطلّب الصبر والاحتمال إلى جانب العلاجات الطويلة والبطيئة. هذا النوع من الأمراض (النفسيّة والصحيّة) المزمنة، يشكّل صليباً كبيراً يحمله جميع الأفراد ويؤدّي إلى وضع الجماعة، العيلة أو الزوجين، في ظروف صعبة لا تحتمل أحياناً وتكون نتيجتها الفشل.
10) ضياع الإنتماء:
إنّه النوع الطبيعي لعلاقة البيت الزوجي بأهل الأزواج وتدخل العيال والأهل في شؤون البيت الجديد الخاصة. هذا ما يجعل أحياناً كثيرة أحد الزوجين ينزلق بعدما يكون عنده الاستعداد المسبق نحو التعلّق بالأهل اكثر من بيته الزوجي. يفقد نوعيّة انتمائه ويضيع عن خط التزاماته نحو العيلة الجديدة التي أسس وهو مسؤول عنها. ولكن هذا لا يفرض على الأشخاص التنكّر لوالديهم ورفض التعاطي معهم. ما نقصده هو خلق الفراغ في الانتماء إلى البيت الجديد بسبب عدم التمكّن من التحرر من القديم. فالزيادة في الانتماء الأول تنقص من الانتماء الجديد وهو المحق. غالباً ما يفشل الزواج لهذه الأسباب التي تبدأ عادية ثم تتطور لتزيد وتثقل الحياة، فتولد الفراغات والغيرة والانتقاص من حقوق الشريك على حساب الغير.
11) الفشل في التربية:
هذا النوع الأخير من أشواك الحياة الزوجيّة نريد التحدّث عنه تاركين الباقي للمجهود الشخصي. تدخل العيلة في أزمة عندما لا يعود الولد مطيعاً بشكل دائم، يعيش العصيان، ويخلق نمط حياة شخصيّة بعيدة كل البعد عن الجو العائلي، فينساق وراء الأهواء ويطلق العنان لعيشة التبذير، الفلتان، والفوضى. يفتش عن كل ما يروي حاجاته ولو غير مشروعاً وغريباً عن مبادئ الحياة العائلية… يشعر الأهل بالفشل، فيعيشان أزمة الخوف والقلق، إما يتركان الولد بدون أي مقدرة، (يرفعان العشرة) مستسلمين. وإمّا يقسوان عليه فيتخذان الإجراءات القوية لردعه وضبطه. تشكل التربية جزءاً كبيراً من الحياة الزوجية: فتتطلّب السهر، والحوار، والاقتراب، والتفاهم، والمرافقة والحضور الدائم. هكذا يشق الأهل طريق ولدهم بخلق الأجواء السليمة والصحيّة له، ليس فقط بأداء واجباتهم نحوه، إنّما وأيضاً بتأمين الجو المناسب لنمو صحيح من خلال احترامهما لبعضهما ومن خلال عيش حياة مشتركة سليمة وناجحة.
يجب ألا نخاف من الفشل. فبدل أن يدمّرنا لأننا علقنا به وتكبلنا بالخسارة نحوّله إلى مدرسة تفيدنا. مدرسة تساعدنا على مراجعة حساباتنا لدرس أسباب الفشل والتغلّب عليها. كما وهو مدرسة لعيشة التواضع، أي نتعرّف على محدوديتنا ونتعرّف على ضعفنا حتى نحصنه ونعطيه ما يكفي من العلاج للإصلاح. مدرسة تعلّمنا التوبة أي الرجوع عن الخطأ بعد الإقرار به. مدرسة تعلّمنا اللجوء إلى كل مرجع يمكنه تقديم العون إلينا في هذه الحالات. هكذا نصل إلى التغلّب على الفشل ونتعلّم منه حتى نطوّر أداءنا وننمّي مسيرتنا.
إذا أردنا استعراض المآسي والمعاناة تطول بنا اللائحة إلى لا نهاية من تفاصيل وأخبار. نكتفي إلى هذا الحدّ من سرد الأمور لننتقل إلى طرح أبواب تفتح أمامنا مجالات الخلاص والتغلب. أن نتحدّث عن مشاكل وأشواك أمر سهل وأمر عادي، ولكن التوقف عند هذا الحد دون سواه هو دليل تقهقر واستسلام. إنّه لمن الطبيعي أن نواجه مشاكل، ولكنّه غير سليم أن نبقى عندها. المطلوب التحرّك والسعي إلى الخروج. نعرض هنا بعض مفاتيح للخروج، تشكل بمجملها مسيرة نمو وعمل ذاتي وقناعة عميقة تدفع نحو الأمام.
نذكر هذه المفاتيح على سبيل المثال وليس حصراً، حتى ننطلق منها في مسيرة النهوض والإقدام.
1- اللجوء إلى نبع الحلول أي الصلاة:
صلاة العيلة صخرة، عليها تتحطّم أمواج الصعاب والأزمات. ونريد بالصلاة هنا كل ما يمت بِصِلة إلى العلاقة مع الرب. منها صلاة الشركة، أي صلاة العيلة بعضها مع بعض من خلال قراءة الإنجيل وتلاوة المسبحة والإجتماع حول الكلمة وتبادل الخبرات. ومنها الصلاة الليتورجية التي تشركنا بعمليّة الخلاص الإلهيّة من خلال الأسرار وبالأخص سرّي التوبة والقربان. وتشكل الصلاة بذاتها حصناً حصيناً للعيلة وللأزواج، لأنّها تفتح الباب للنعمة التي تفعل في النفوس وتزرع الخير والبركة.
2- اللجوء إلى نبع المعاني:
عندما يفقد الإنسان المعنى يفقد شهية الحياة. وما يُعيد إليه المعنى هو التأمّل بكلمة الله. ونقصد بالكلمة هنا كلمة الله المقروءة في الإنجيل والمسموعة في المشاركة. كلمة الله تصل إلينا عبر قنوات متعددة: الوعظ، الإذاعة ? صوت المحبّة والتلفزيون (النورTele Lumiere )، اللقاءات المختصّة بالعيال وغيرها، الرياضات الروحيّة، المرافقة الروحيّة والإرشاد، شهادات الحياة…
3- اللجوء إلى مرافق:
إنّه المرشد الروحي، صاحب الخبرة الروحيّة والصلة الخاصة مع الروح القدس، يساعد على قراءة علامات كثيرة يصعب عادة فهمها. إنّها إشارات من الربّ. يرسلها ليعلّمنا ويقود خطانا نحو الأفضل. هذا المرافق يمشي مع الأشخاص الطريق ويكون دوره: الإصغاء، التوجيه، المراقبة عن بعد. بالمختصر إنّه الدليل إلى إرادة الله. نلجأ إليه عند الصعوبة حتماً، ولكن نستشيره في الأوقات الهنيئة حتى يساعدنا على تركيز مسيرتنا وبلورتها على ضوء الإيمان وعلى ضوء تعاليم الكنيسة. ويمكن اختيار المرافقون من الأصدقاء أصحاب الثقة والصلاح يساعدوننا في التفكير والحوار حول أمور العيلة والزواج، وهذا دون نفي دور المرشد الروحي.
Discussion about this post