الإنتحار – رؤية مسيحية
قيل أن بداخل كل إنسان فراغ لا يستطيع أن يملأه إلا الله، ولذلك الذين يفقدون الأمل ويلجئون إلى الانتحار هم وضعوا كل آمالهم على أمور غير مشبعة للنفس وبعيدة عن الله كغاية عظمى تدور في فلك ملكوته كل الغايات الصغرى كما تدور الهوام حول السراج المنير، ووضع هؤلاء المنتحرون آمالهم على أمور فضلا عن كونها لن تشبع نفوسهم، فهي أيضا قد تكون مستحيلة المنال وخارج سلطان قدرتهم البشرية، ودخلوا في إثر ذلك في موجات من الحزن الرديء، ونفوا بإيعاز من شيطان الحزن كل علاقة وكل أمل وكل رجاء في الله الذي هو غاية الحياة كلها، ولذلك فالكنيسة في ختام كل صلاة تطلب من الله أن ينجينا من كل حزن رديء ووجع قلب، وتعبير (وجع قلب) هي المصطلح المصري القديم عن الألم حيث أطلقوا عليه باللغة المصرية القديمة (إمكاه إنهيت) أي وجع القلب، وتسرب التعبير الفلسفي العميق العريق إلى حاضرنا من خلال ليتورجية الكنيسة القبطية.
القديس بولس الرسول بوحي الروح القدس تكلم عن نوعين من الحزن، الحزن الذي بحسب مشيئة الله الذي ينتج توبة بلا ندامة، وحزن العالم الذي ينشئ موتا (2 كو 7: 10)، ويقصد بالنوع الأول ندم الإنسان بالتوبة والرجوع لحضن الله، وإذ يكون هذا الحزن المقدس برعاية الروح القدس المعزي فهو يكون ممسوح بالرجاء والتطلع لمستقبل منير بالنعمة، أما النوع الثاني من الحزن فهو يكون برعاية أرواح شريرة متخصصة في الحزن والاكتئاب، ويتمحور حول الشفقة على الذات ورثاء النفس والانغماس المفرط في الشعور بالوحدة وفقدان الأمل وضياع الرجاء، وكمية غير قليلة من الشعور المزيف بالاضطهاد، وهذه الأحاسيس الفاسدة فضلا عن كونها مفسده ومدمرة لمشاعر الإنسان وأعصابه ومستهلكة للرجاء والأمل، فهي أيضا تحمل رسالة تجديف واضحة موجهة بوقاحة نحو مراحم الله الواسعة اللانهائية، وهو الإله الرقيق الذي قال من يقبل إلي لا أخرجه خارجا، وهو القائل تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم، هو الرب الذي مد يده المحيية الطاهرة لامرأة زانية مقبلة على الموت رجما، كاتبا بانحناءة قامته نحو شقاوتها عمرا جديدا لها، بل ساطرا بتنازله تجاه نجاستها فصلا جديدا في تاريخ الأمل والرجاء وعلاج الإنسانية الساقطة المتخبطة في الجهل والضياع.
هذا النوع من الحزن المقدس كم أنقذ نفوسا من الضياع والهلاك والتببد، فإن نسينا لا ننسى منسى الملك اليهودي الذي قيل عنه أنه سفك دما بريئا كثيرا جدًا حتى ملأ أورشليم من الجانب إلى الجانب، بل أيضا صنع رجاسات وعبادات صنمية وتجديفية فائقة للتصور، هذا الملك قد غضب الله عليه فأذله وجعل أعداءه يهزمونه ويأخذونه سجينا ذليلا من بعد الملك والسلطان، وما أن حرك الروح القدس هذا القلب المدنف بكل أثقال الشر والتجديف والعناد والكفر، حتى خرجت من أوتار صلاة التوبة الشهيرة التي صلاها في قيود السجن استجابة سمائية تفوق العقل، فأعاده الله من حضيض السجن إلى رفعة المجد والملك مرة أخرى، لا كإنسان شقي مستعبد للشرور والنجاسات، بل بالحري كتائب متواضع قد تعلم الدرس الثمين بيد الله الشديدة، واختطف بفطنه روحه التائبة فرصة عظيمة المقدار من عمق الفشل والذل والهوان، وبدلا من أن يفقد رجاءه وينغمس في الكآبة القاتلة للنفس، سعى بما تبقى له من أنفاس ضعيفة وقوة خائرا مادا يده المتسخة بالآثام نحو منبع الطهر كالمرأة نازفة الدم، وإذ بقوة عظيمة تخرج من هدب ثوب الله لتغسل هذا الإنسان الفطن من كل أوساخه وتجدد له العهود والوعود وتمنحه فرصة أكثر من عظيمة، وفي هذا صدق الروح القدس بفم ميخا النبي القائل “لا تشمتي بي يا عدوتي، إذا سقطت أقوم. إذا جلست في الظلمة فالرب نور لي” (مي 7- .
يعوزنا الوقت إن استرسلنا في دراسة الحالات التي اختطفت لنفسها في عمق الحزن رجاءا في مراحم الله اللانهائية، فانتفضت كالعنقاء من وسط دخان اليأس، ذلك الطائر الأسطوري الذي قيل عنه أنه إذا تم حرقه حتى التفحم، فإنه يعود ويخرج من وسط الرماد بقوة شبابية متفجرة، وهناك أسئلة عويصة يطلقها الكتاب المقدس نحو أصحاب ثقافة الانتحار، فمثلا أيوب الذي أصابته بلايا متزامنة متلاحقة غير مبررة، حتى أن زوجته التي بقيت له بعد موت جميع بنيه وضياع ثروته وصحته عايرته على تمسكه بالرجاء، وحتى أصحابه المقربين الذين أتوا يواسوه لم يلبثوا أن أتعبوه بالكلام الجارح حتى وصفهم بأنهم معزون متعبون، وظل نظره منوطا بالسماء واثقا بشكل مطلق في بر الله، وإذ بالله البار لا يبدد تلك الفتيلة المدخنة في قلبه، ويرجعه أفضل مما كان بسبعة أضعاف، فلماذا لم ينتحر أيوب في عمق شقاءه وألمه وكآبته؟،
لماذا لم ينتحر طوبيا البار الذي بالرغم من بره وأمانته الشديدة في أرض السبي أصابته بلايا شديدة وصعبة، وكانت زوجته توبخه على بره الذي رأت أنه لم يجني منه سوى المعاناة والمرض والذل وضياع المال والأمل، وإذ بالله يكرم تلك القصبة المرضوضة التي تفنن الجميع في قصفها والتنكيل بها.
لماذا لم ينتحر يوسف البار العفيف، الذي بسبب حلم نبوي برئ تشرد عن أبيه وبيته، وبيع كعبد، وفي أرض العبودية عانى من السجن بسبب طهارته وأمانته، وفي السجن عانى من الإهمال وضياع القيمة والأمل، وفي كل ذلك لم يفقد رجاءه ولم يصاحب الحزن ولم يزامل الاكتئاب بل تمسك بالله الذي لا يترك الصديقين.
لماذا لم ينتحر بطرس الرسول وهو الذي شتم وجدف وكذب وأنكر كل صله له بالسيد المسيح خوفا من بطش اليهود، لقد قال الكتاب المقدس أنه بكى بكاءا مرا، وعلى جانبيه اصطف فريقين من ملائكة الرجاء وشياطين اليأس، أما هو فبفطنة الروح القدس وجه وجدانه نحو صوت الملائكة الرقيق العذب، واختطف لنفسه فرصة ثانية، وكأنه اجتر من ذاكرته كل المواقف التي عاينها مع الرب، وكان الرب فيها مشجعا محتضنا محتويا وقابلا للتوبة ومعطيا فرصا جديدة لكل من يمد يده مستنجدا بالمراحم الإلهية الشاسعة.
لماذا لم تنتحر القديسة مارينا الراهبة؟، التي صمتت كشاه تساق إلى الذبح، ووقفت مطرقة الرأس فيما راح الجميع يتهمونها بالزنا مع امرأة، وفضّلت أن تتحمل الظلم كسيدها على أن تفسد تعب السنين وتفضح تدبيرها الرهباني وهي امرأة بارة أحبت أن تحيى غريبة عن العالم بل عن هويتها الجنسية، في سبيل أن تتمتع بالعبادة الخالصة لله، معتبره أن كرامتها الشخصية هي ذبيحة حب قدمتها للرب على الصليب لعله يقبل أن تشارك في أن تكمل نقائص شدائد المسيح في جسدها كالمعلم البارع بولس الرسول.
جميع ما سبق وأكثر أمثلة حقيقية واقعية عاشت في رجاء وانتقلت في مجد، وتعرضت لظروف أكبر من التي يتعرض لها أي إنسان في ظل المدنية الحديثة، ومارست النوع الأول من الحزن بحسب تصنيف القديس بولس، وهو الحزن المقدس الذي هو بحسب مشيئة الله.
أما النوع الثاني من الحزن فهو حزن العالم الذي ينشئ موتا، وما أبرع قوة التعبيرات النبوية في الكتاب المقدس، إذ أنه سبق فوضح بكل جلاء إن الحزن بعيدا عن الله قد ينشئ موتا، ولأن تعليم الكنيسة سابق لكتابة الإنجيل، فلم تذهب الكنيسة بعيدا عن هذا المفهوم، فقيل عن صلاة اليوم الثالث الطقسية أنها لصرف روح الحزن، وروح الحزن مقصود به شيطان الحزن، ولم يكن الشيطان ليخصص فريقا منه في الحزن إن لم يكن هذا الحزن خطية موجهة ضد رحمة الله وضد سلامة النفس البشرية الثمينة، وإن هذا الحزن ينشئ هلاكا أبديا، فلذلك اهتم إبليس بدعمه، واهتمت الكنيسة على الجانب الآخر بطرده، هذا الحزن هو عينه حزن يهوذا بعد أن أسلم دما بريئا، فبدلا من أن يرجع للرب كبطرس ويقول له أنت تعلم أني أحبك، فإنه استسلم لهمسات إبليس بأن لا توبة له، فمضى وخنق نفسه.
وكذلك فعل أخيتوفل، ذلك المشير الحكيم الذي خان سيده وولي نعمته داود النبي، وانضم إلى التمرد الغاشم بقيادة إبشالوم الابن العاق الطامع في المُلك على جثة أبيه، وكان أن داود رجل الله النبي القديس قد رفع عينيه إلى السماء وهمس في أذن الله قائلا “حمّق يارب مشورة أخيتوفل”، فسمع الله واستجاب، ولأن الله هو ضابط الكل، فقد حول قلب إبشالوم ليستحسن مشورة حوشاي الأركي على مشورة أخيتوفل الجيدة، ولكون أخيتوفل مملوء من الكبرياء والاعتداد بالذات، فحزن حزنا لا رجاء فيه، ومضى وخنق نفسه!، وهكذا نرى كم هي هشة وضعيفة نفوس الأشرار، فبعد أن يستسلم الإنسان للخطايا نافيا الله من وجدانه، فإنه يصبح أقرب وأقرب للإنصات لصوت شيطان الحزن المفرط الذي يمسك بيده ويضعه على حافة هوة الهلاك، ثم يدفعه للانتحار بلا شفقة.
وهكذا يا أحباء نرى كم هي متسعة مراحم الله، وكم هي عظيمة نعمة الروح القدس، وكم هي رقيقة بالبشر يد الله ومشورته، فالله الذي صنع الإنسان بالحب وتجسد من أجل خلاصه لا يتغير، وهو كل يوم يقول بالفعل والقول أنه لا يشاء موت الخاطئ مثلما يرجع وتحيى نفسه، وأنه لم يأت ليدين العالم بل ليخلص به العالم، وأنه يهتم بخلاص النفس وليس بهلاكها، هو من بكى لحزن مريم ومرثا وأقام لعازر بعد ثلاثة أيام، ومن لمس نعش ابن أرملة نايين الشاب الوحيد لأمه وأحياه، هو الذي سار ستة ساعات في شمس محرقة ليفتقد السامرية بالرحمة، وهو الذي وقف على الطريق فاتحا أحضانه لعودة الابن الضال، إنه الإله الذي يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون، فلا يصح أن ينغمس الإنسان الذي قبل نعمة المسيحية في الكآبة والحزن، ولا أن يتفكر في الانتحار كحل لمشاكل مؤقتة، وأن لا يعطي فرصة لحزن العالم عديم الرجاء، بل عليه أن يدرك أن الحزن المفرط خطية، وأن الكآبة خطية، وأن اليأس خطية، وأن يحول دائما طاقة الحزن إلى طاقة رجاء وتوبة، ووقتها سيعاين عذوبة الله ورحمته وحبه وحنانه غير الموصوف.
___________________________________
* بقلم: أ. جرجس
* الصورة المرفقة لعمل نحت للفنان الفرنسي (Gislebertus) تصور انتحار يهوذا برؤية فنية بديعة تظهر فيها أن الشياطين هي من قامت بخنقه كناية على استسلامه لروح الحزن وعدم الرجاء.
No Result
View All Result