يوحنا الذهبي الفم في كلامه عن العائلة
الفصل الحادي والعشرون: يوحنا الذهبي الفم في كلامه عن العائلة
عندما نقرأ عظات الذهبيّ الفم، نتوقَّف عند أوضاع حياة أربعة(1): الكهنوت، بعد أن ترك هذا القدّيس مؤلَّفًا في ستّة كتب يتحدَّث عن الروحانيّة الكهنوتيّة. هي حالة سامية لأنَّ هدفها خدمة الآخرين. وهي تسمو على الحياة الرهبانيّة، بقدر ما الخير العامّ يتفوَّق على الخير الخاصّ، وتفرض حبٌّا عظيمًا، لا لشخص المسيح فقط، بل لكنيسته أيضًا. من أجل هذه الخدمة التي تجعله منذ الآن في السماء، نال سلطانًا لم يُمنَح للملائكة، ولا لرؤساء الملائكة: أن يغفر الخطايا، أن يلد أولادًا جددًا في المعموديّة(2).
والوضع الثاني هو البتوليّة(3) والحياة الرهبانيّة. البتوليّة هي حصّة المسيحيّة: »بفضل الصليب، ارتفعت الطبيعةُ البشريّة إلى وضع الملائكة. بفضل الصليبِ، أقامت البتوليّة على الأرض. فمنذ أن جاء الابن من عذراء، عرف الإنسانُ طريق هذه الفضيلة«(4). وقال في شرح سفر التكوين: »يعيش البتولون على الأرض ويرتبطون بجسد، وفي الوقت عينه يقتدون بحياة الملائكة. لقد نالوا ميراث البتوليّة من الابن«(5).
والوضع الثالث هو الزواج. »إنَّه سرٌّ عظيم. فالرجل والمرأة يتَّحدان ليكونا جسدًا واحدًا. ها هو أيضًا سرّ الحبّ. فإن لم يكن الاثنان واحدًا، لن يصيرا كثيرين… ولكن إن اتَّحدا صارا عددًا كبيرًا. ماذا نستنتج من كلِّ هذا؟ إنّ قوّة الوحدة عظيمة«. ذاك ما قال في عظة شرح فيها الرسالة إلى الكولوسيّين(6). وقدَّمت عظاته الثلاث »حول الزواج«(7) نظرة شاملة ومتوازنة حول هذه الحالة المقدَّسة. وفي العظة الثالثة، قدَّم الذهبيّ الفم نصائح لاختيار الزوجة. وشرح الرمز الدينيّ للزواج، الذي هو وحدة لا تحلّ، مؤسّسة على الحبّ المتبادل وشريعة الله. وفي مقاله »حول المجد الباطل وتربية الأولاد«(8)، يدعو الأهل لأن ينقلوا إلى أولادهم غنى النفس قبل غنى العالم. قال: »لا شيء يكبح فساد العالم، لأنّ أحدًا لا يحفظ أولاده، ولا يكلِّمهم عن العفّة، عن احتقار الغنى والأمجاد الباطلة، وعن وصايا الله«.
والوضع الرابع هو الترمُّل(9). نتذكَّر هنا أنّ الحروب العديدة التي فيها يموت المقاتلون، تركت عددًا من الأرامل. فوضعُ الأرملة ليس بالمشين، بل يحمل الكرامة والمجد(10). هنا يستند يوحنّا إلى بولس الرسول: »أنظري، أيَّتها الأرملة، إلى المدائح المعطاة للترمُّل، وذلك في الشريعة الجديدة حين شعَّ أيضًا جمالُ البتوليّة. ومع ذلك، فبهاء البتوليّة لم يقدر أن يكسف شعاعات الترمّل الباهرة. فكلّ مرّة نذكر لفظ الترمّل، فلا تستسلمي للوهن، ولا ترَيْ في هذه الحالة أيّ عار. فلو كان الترمُّلُ عارًا، لكانت البتوليّة أيضًا. ولكنَّ الأمر ليس كذلك، لا سمح الله. بما أنَّ النساء اللواتي مارسن العفّة، وأزواجهنَّ أحياء، هو موضوع إعجابنا وموافقة الجميع، فلماذا لا نُبدي إعجابنا ونكيل المدائح لمن برهنَّ عن العواطف نفسها، بعد موت أزواجهنّ؟
»لا شكّ في أنَّك حين كنت تعيشين مع زوجك، كنتِ تذوقين ثمار الكرامة والاهتمام التي تنتظرين من رجل كريم. أمّا الآن، فلكِ مكانه الله، سيِّدُ الكون، الذي كان حاضرًا معك منذ البداية، وسيكون حضوره بعد الآن أوسَع همّة ونشاطًا. فقد أعطانا برهانًا كبيرًا عن عنايته: حفظك وسط لهيب الاهتمامات والأحزان، سالمة، كاملة، وما سمح بأن تقاسي ضررًا ولا خسارة. ذاك الذي في مثل هذه العاصفة، ما سمح أن يكون غرق، كم يحفظ نفسك بعد أن عاد الهدوء، ويخفِّف ثقل الترمُّل والشرور التي قد تنتجُ عنه!«(11)
1- كيف بدا وجه الزواج
كانت فئة الغنوصيّين تمنع الزواج، »تَقرف« منه. فردّ يوحنّا بأنّ هؤلاء يدلُّون أنّهم لا يعرفون الإنسان. بل يتبعون أبا الكذب فيسبِّبون هلاك المؤمنين(12). كما ردَّ على البتولات اللواتي احتقرن المتزوِّجين والمتزوِّجات، وقال: »تعترضين: ماذا يهمُّني ذلك بعد أن ودَّعتُ الزواج؟« (أجاب): »أيّتها التعيسة، هذا سبب هلاكك، لأنَّك ظننتِ أنَّك غير معنيّة بالتعليم عن الزواج. فحين عاملت الزواج باحتقار كبير، جدَّفت على حكمة الله، وافتريتِ على الخليقة كلِّها. فإن كان الزواج نجاسة، فجميع الذين يولَدون فيه نجسون. وأنت أيضًا نجسة. بل الطبيعة البشريّة كلّها. فكيف يمكن أن تكون النجسةُ بتولاً؟ فها هنا نوع ثانٍ، بل نوع ثالث من الفساد والنجاسة. أنت تتخيَّلين! يا من تهربين من الزواج على أنَّه دنسٌ، تصبحين أنتِ حين تهربين منه، أكثر الأنجاس في العالم، وتجعلين البتوليّة أشنع من الزنى« (في البتوليّة، ص 114-115).
ويقابل يوحنّا هذه البتول مع اليهود. إنَّها تختلف عنهم، لأنَّهم لا يرضون بما تقول: »هم يكرّمون الزواج، ويُعجَبون بخلق الله«. إنَّها ترفض سماع كلام المسيح بفم بولس: »الزواج مكرَّم عند جميع الناس، والفراش الزوجيّ طاهر« (عب 13: 4). ثمّ يقابلها مع اليونان. هم يرذلونها لأنَّها أكثر شرٌّا منهم. فقد أعلن أفلاطون أنّ »ذلك الذي صنع هذا الكون هو صالح« وقال: »لا حسد يُولَد في قلب إنسان ممّا هو صالح«(13) وأنتِ تقولين: إنَّه رديء وصانع أعمال شرّيرة (كما يقول المانويّون) ولكن لا تخافي: يقاسمُك هذا التعليم إبليسُ وملائكتُه« (البتوليّة، ص 114-117).
كان للزواج وجهان: أن يكثر نسلُ البشر، وأن يُهدئ نار الرغبة في الإنسان. أمّا اليوم، فضاع الوجه الأوّل، وبقي الوجه الثاني. قال: ”أعطيَ الزواجُ من أجل الإيلاد، وأكثر من ذلك، ليهدئ نار الرغبة الملازمة لطبيعتنا. هذا ما يشهد له بولس حين يقول: ”لتجنُّب الزنى، يكون لكلِّ واحد امرأته” (1كور 7: 2). هو لا يقول: لكي نلد أولادًا. وحين يدعو (الزوج والزوجة) لكي يستعيدا الحياة المشتركة، لم يكن ذلك من أجل نسل كبير، ولكن، لماذا؟ قال: ”لئلاّ يجرِّبكم الشيطان” (آ5). وبعد ذلك، لا يقول: إذا رغبوا في أولاد، بل ”إن لم يستطيعوا أن يكونوا أعفّاء، فليتزوَّجوا” (آ9). قلت في البداية إنّ للزواج وجهين. ولكن بعد أن امتلأت الأرض والبحر والكون كلّه، لا يبقى سوى وجه واحد، إلغاء الفسق والفجور«(14).
وقيل عن الزواج إنّه عبوديّة. إمّا بسبب تباين العقليّات. زوج متَّزن وامرأة شرّيرة، ثرثارة، أو: امرأة وديعة، متواضعة، وزوج متوحِّش، مستهزئ، غضوب، يفتخر بماله أو بقدرته. هل تكون مثل هذه المرأة عونًا لرجلها؟ والجواب: هي عون مادّيّ، وعون روحيّ. قال الرسول: »تخلِّصين زوجَك« (1كور 7: 16).
2- المرأة وزوجها
هنا نعود إلى شرح يوحنّا لرسالة القدّيس بولس إلى أهل أفسس: »أيَّتها النساء إخضعن لأزواجكنّ كما لربِّنا، لأنَّ الرجل رأس المرأة، كما أنَّ المسيح رأس الكنيسة ومخلِّص جسده. إذًا، كما كانت الكنيسة خاضعة للمسيح، هكذا تخضع النساء لأزواجهنّ في كلِّ شيء« (أف 5: 21-24). وهذه عظة الذهبيّ الفم:
أ- من المرأة إلى الرجل
رجل حكيم عدَّد مطوَّلاً التطويبات، فأضاف هذه إليها: »الوفاق بين المرأة وزوجها« (سي 25: 1). وعاد إلى الموضوع في مكان آخر، فجعل هذا الوفاق بين التطويبات. فمنذ البداية، اهتمَّ الله اهتمامًا خاصٌّا بالاتِّحاد الزواجيّ. تحدَّث عن الاثنين وكأنَّهما واحد: »جعلهما من جنسين« (تك 1: 27). وبعد ذلك: »لا تمييز بين رجل وامرأة« (غل 3: 28)… أراد رجل قدّيس أن يعبِّر عن أنعم العواطف بمناسبة موت صديقٍ كان جزءًا من نفسه، فما مضى يبحث عن إلهامه في قلب أبٍ أو أمّ، أو ابن أو أخ أو صديق. فأين إذًا؟ قال داود ليوناتان: »حبُّك سقط عليّ مثل حبِّ النساء« (2صم 1: 26). في الواقع، هذا الحبّ ليس الأكثر استبدادًا في الاستبدادات. فهناك استبدادات تساويه في العنف: حين ينضمّ العنف إلى عناد لا يُكبَح.
هناك حبٌّ مخفيّ في عمق الكيان، ولا ينكشف فينا إلاّ حين يتمّ هذا الاتِّحاد. لهذا جاءت المرأة الأولى من الرجل، وبعد ذلك تسلسلت الأجيالُ بالرجل وبالمرأة. هل رأيتم هذه العقدة المقدَّسة، التي تستبعد كلَّ جوهر آخر؟ اعتبروا أيضًا أنَّ هذا الاتِّحاد كان سببًا في عدد من الظروف. فلا القرابة أوقفت عمله ولا الهويّة نفسها: هي قوّة أوّليّة تتوق إلى التوحيد، كما بين الحجارة. فالعمل لا ينطلق من الخارج، بحيث لا يبدو أنَّه يدمج شيئين غريبين. وهو لا يتوقَّف فقط عند الاتِّحاد الزواجيّ، بحيث يبقى الرجل معزولاً عن باقي الكائنات، ولامؤثِّرًا في العالم الخارجيّ.
كما أنّ الأشجار الجميلة واللافتة للنظر، هي التي لها جذع واحد فتزدهر في عدد من الأغصان، ساعة التي تفرخ حيث هي وتتعب في تكثير الجذور، لا تستحقّ هذا الانتباه. كذلك هنا، فالخالقُ جعل الجنس البشريّ كلَّه يأتي من آدم الواحد، فأخضعه لضرورة آمرة، بحيث لا يأتي شي فيحطِّم الوحدة. وإذ أراد أن يقوّي هذا التماسك، منع منذ الآن الزواج مع الإخوة والبنات. هو ما أراد أن يتركَّز حبُّنا على نقطة واحدة، ولا أن ننفصل بعضنا عن بعض. من هنا هذا القول: »ذاك الذي صنعهما صنعهما من الجنسين« (مت 19: 4).
هنا يكمن ينبوعُ الشرور الكبيرة والخيور الكبيرة للأسَر وللمدن. فلا شيء يجعل الحياة متناغمة مثل حبِّ الرجل والمرأة. وبدفع من هذا الحبّ، يتَّخذ الكثيرون السلاح ويضحّون بنفوسهم حتّى الموت. لهذا، بحقٍّ بيَّن بولس غيرة كبيرة للحفاظ على ذلك. قال: »لتخضع النساء لأزواجهنَّ كما للربّ«. لماذا؟ لأنَّه حين يكون التناغم بينهما، يتربّى الأولاد التربية الصالحة، ويكون النظام بين الخدم. والجيران والأصدقاء والأقارب يتنشَّقون العطر المحيي الذي ينبعث من هذه الأسرة. وإن كان الأمر غير ذلك، فكلُّ شيء يكون في الفوضى وفي الغموض: إذا توافق قوّاد الجيش بعضهم مع بعض، تسير المجموعة بانتظام. وإن انقسموا تبلبل كلُّ شيء راسًا على عقب. هذا ما يحصل اليوم. لهذا جاءت توصية الرسول.
»لتخضع النساء لأزواجهنّ كما للربّ« (كو 3: 18). ماذا يعني هذا؟ وكيف قال المعلِّم الإلهيّ: »من لا يتخلّى عن امرأته أو عن زوجه، لا يستطيع أن يتبعني« (لو 14: 33). بما أنَّ مثال الخضوع خضوع واجب علينا للربّ، فكيف يجب، باسم الربّ، أن ينفصلا؟ يجب عليهما، ولا شكّ في ذلك. فالتشبيه لا يدلُّ دومًا على المساواة. أو ما هو معنى النصّ الذي نقرأ: أطعن وأنتنَّ عارفات وكأنَّكنّ في ذلك تخدمن الربّ. أو نحن نستطيع أن نفهم: حين تراعين أرادة زوجك، فاقتنعي بأنَّك تطيعين الربّ. إن كان صحيحًا أنّ »الذي يقاوم السلطات البشريّة، حكّام المدينة، يقاوم النظام الذي وضعه الله« (روم 13: 2)، فكم بالأحرى نقول عن مقاومة سلطة الزوج. فإرادة الله تجلَّت من البدء.
إذًا، نُثبت أنّ الرجل يأخذ مكان الرأس، والمرأة مكان الجسد. وفي أيِّ حال، برهان بولس يقدِّم لنا بوضوح هذه الصورة: »كما أنّ المسيحيّ هو رأس الكنيسة ومخلِّص جسده الخاصّ«. وأيضًا: ”كما أنّ الكنيسة تخضع للمسيح، على النساء أن يخضعن لأزواجهنّ«. ونلاحظ هذا الكلام: »الرجل رأس المرأة، كما المسيح رأس الكنيسة«. ويأتي بعده: »مخلِّص جسده الخاصّ«. ثمّ إنّ الجسد يخلَّص بالرأس. نستطيع القول إنّ هذه هي أسس المجتمع، والحصّة المعطاة لكلٍّ من الزوجين في الواجبات التي تلهمها المحبّة. للواحد، سلطةٌ تستبق الأمور. وللأخرى، خضوعٌ مليء بالثقة.
ب- من الرجل إلى المرأة
إذًا، »كما الكنيسة خاضعة للمسيح«، رمز الأسرة الإلهيّ، »على النساء أن يخضعن لأزواجهنَّ كما للربّ«. ونسمع ما يلي من النصّ: »أيّها الرجال، أحبّوا نساءكم كما المسيح أحبّ الكنيسة«. ترون عظمة اللغة الرسوليّة. لقد امتدحكم بولس وأعجبتم به حين نظَّم بحكمة كبيرة نظام حياتنا. هذا الرجل روحيّ حقٌّا، وبالتالي يستحقُّ كلَّ إعجاب. لا بأس. ولكن اسمعوا الآن (أيُّها الرجال) ماذا يطلب منكم. رسمَ واجبَكم وواصل كلامه عن التشبيه عينه: »أيُّها الرجال أحبّوا نساءكم كما المسيح أحبَّ الكنيسة«. رأيتم مقدار الخضوع. والآن ترون مقدار المحبّة. تريد أن تخضع لك المرأة، كما الكنيسة للمسيح، فاهتمّ بها كلَّ الاهتمام، كما المسيح اهتمّ بالكنيسة. قد تبذل حياتك من أجلها، قد تقطَّع إربًا، قد تحتمل كلَّ العذابات. فلا تتراجع. وحين تعمل كلَّ هذا، فماذا تكون فعلتَ إلاّ مثل المسيح. أنت تفعله لشخص اتَّحد بك. أمّا يسوع فيفعل من أجل نفس ترذله وتبغضه. اهتمَّ بها واهتمّ، فظفر على نفورها وبغضها واحتقارها وطبعها المتبدِّل. وجعلها عند قدميه. لا بالتهديد، ولا بالكلام القاسي، ولا بالخوف، ولا بشيء مماثل: فافعل أنتَ مثله مع امرأتك.
إن رأيتها متشامخة، مستخفّة، متبدِّلة، تستطيع أيضًا أنت أيضًا أن تجعلها عند قدميك باهتمامك، بحبِّك، بتضحيتك. فلا قوّة تماثل هذه القوّة، خصوصًا بين الرجل والمرأة. الخادم، تُخضعه بالخوف وربّما تجبره، بهذه الوسيلة، على الهرب. أمّا رفيقة حياتك، وأمّ أولادك، وسبب سعادتك الحقيقيّة، فلا تحاول أن تقيِّدها بالخوف والتهديد، بل أن تأمرها بالحبّ واللطف. هل من اتِّحاد حين ترتجف المرأة أمام زوجها؟ وأيّ فرح ينعم به الزوج حين يعامل امرأته مثل خادمة، لا مثل إنسانة حرّة؟
أتعذّبت من أجلها؟ لا تلُمْها. فالمسيح أعطاك في ذلك مثالاً: »أسلم ذاته من أجلها، ليطهِّرها ويقدِّسها«. إذا كانت نجسة، دنسة، مشوَّهة، بشعة، أيٌّا تكن المرأة التي تأخذها، لن تكون أبدًا في الحالة التي فيها وجد المسيح الكنيسة وأخذها. ولن تكون أبدًا بعيدة عنك كما كانت الكنيسة بعيدة عن المسيح. ولكنَّه لم يُبدِ لها قرفًا ولا بغضًا بسبب شكلها المشوَّه. ولكي نعرف إلى أيّ حدٍّ كانت مشوَّهة، إسمع أيضًا قول بولس: »بالأمس كنتم ظلمة« (أف 5: 8). أيّ سواد! وهل أشدّ سوادًا من الظلمة؟ وانظروا أيضًا وقاحتها: »عشتم في الخبث والحسد« (تي 3: 3). وانظروا أيضًا نجاستها: »في التمرُّد والضلالة«. ولا أقول بعدُ ما فيه الكفاية. ففي الجنون، كان التجديف في فمها، ومع ذلك، ضحّى بنفسه من أجل هذه العروس المشوَّهة، كما كان يعمل لو أنَّه سُحر بجمالها وفُتن. وما استطاع بولس إلاّ أن يُبدي دهشته وإعجابه، فقال: »حين كنّا بعدُ خطأة، مات المسيح من أجلنا« (روم 5: 7-9) وبعد أن قبلها كما هي، طهَّرها. وما تراجع أمام أيّة مهمّة جديدة. فبجّلها، »قدّسها مطهِّرًا إيّاها في معموديّة الماء، بالكلمة، لكي يجعلها لنفسه كنيسة مجيدة، لا وصمة فيها ولا تجعُّد ولا شيء يشبه ذلك، عروسًا مقدَّسة، لا عيب فيها«(15).
3- الآباء والبنون
انطلق الذهبيّ الفم أيضًا من الرسالة إلى أفسس: »أيّها الأبناء، أطيعوا والديكم، فهذا عين الصواب: أكرم أباك وأمَّك، تلك أولى وصيّة يرتبط بها وعد، وهو لتنال خيرًا وتطول أيّامُك في الأرض« (6: 1-2).
حين نبدأ في تكوين جسد، نبدأ بالرأس، ويتواصل العمل مع الرقبة وينتهي بالقدمين. هكذا راح الرسول في كلامه. تحدَّث عن الرجل، ثمّ عن المرأة التي هي السلطة الثانية. والآن، انتقل إلى العنصر الثالث في الأسرة، الذي يتألَّف من الأولاد. الرجل يأمر المرأة، والرجل والمرأة يأمران الأولاد. تفحَّصوا ما يقول: »أيّها الأولاد، أطيعوا والديكم في الربّ. هي الوصيّة الأولى في الوعد«.
ما عاد يقول شيئًا عن المسيح، ولا عمّا هو رفيع. بعد الآن، يتوجَّه إلى البسطاء، فيوجز إرشاده، لأنّ الأولاد لا يقدرون أن يسمعوا عظة طويلة. ولا شيء أيضًا عن الملكوت السماويّ، وهذا ليس في متناول من هو في عمر مبكر. فما يرغب فيه فوق كلِّ رغبة. هو أن تكون حياته طويلة. إذا سألنا: لماذا لم يتكلَّم بولس هنا عن الملكوت، فيكتفي بأن يورد ما تقول الشريعة، نقول: مراعاة للطفولة. فهو يعرف أنَّه حين الرجلُ والمرأة يتوافقان مع القاعدة التي رسمها لهما، يَخضعُ الأولادُ بدون صعوبة كبيرة. وحين تكون البداية حسنة، ونقطة الانطلاق متينة ومُرضية للعقل، كلُّ شيء فما بعد يمشي بنظام، وينمو بسهولة كبيرة. فالصعب في كلِّ شيء هو أن تضع الأساس. فلا تتزعزع القاعدة.
»أيّها الأولاد، أطيعوا والديكم في الربّ«. أي: بحسب الربّ. هكذا يأمر الربّ، ولكن إن فرض الوالدان عملاً سيِّئًا؟ ما من أب يفرض ذلك على ولده. بالإضافة إلى ذلك، اكتسبتم مناعة بهذا الكلام »في الربّ«. في ما لا يشمل إغاظة الربّ. إن تكلَّم أبوك كعابد وثن أو ضال، أنت لا تطيعه، لأن هذا لن يكون »في الربّ«.
وكيف يضيف الرسول: »هي وصيّة أولى«، حين يجب أن تمرّ قبلها الوصيّة »لا تزنِ« وهذه الأخرى: لا تقتل؟ ينطبق ذلك على الوعد، لا على الأمر المطلَق. في هاتين الوصيّتين، اللتين موضوعهما الإشارة إلى شرّ ووصيّة للهروب منه، لا كلام عن الوعد. أمّا الوصيّة التي ندرس (الرابعة) فقد ارتبط بها وعد، وموضوع هذه الوصيّة هو تتميم خير.
أ- إكرام الوالدين
فانظروا كيف أنّ الرسول أقام بشكل عجيب قاعدة الفضيلة، في واجب مراعاة الوالدين وإكرامهم. لا شيء منطقيٌّا أكثر من ذلك: بعد أن حاد بنا عن الأعمال السيِّئة، وأراد أن يُدخلنا في مسيرة الأعمال الصالحة، أوصانا أوَّلاً بالمهابة تجاه والدينا. بعد الله، هما السبب الأوّل لوجودنا. إذًا، يليق بهما أن يكونا أوّل من ينعم بالخير الذي نعمله. بعد ذلك، نُوصله إلى سائر البشر، إن لم يكن الأمر كذلك، لن أكون يومًا بارٌّا ولا صالحًا وعادلاً تجاه الغرباء.
ب- واجبات الوالدين
ما أن أوصى الأولاد بما يعنيهم، توجّه إلى الوالدين: »وأنتم أيّها الآباء، لا تُثيروا غضب أولادكم، بل ربّوهم في التأديب وعلم الربّ«. ما اهتمّ بأن يقول لهم: أحبّوهم. فهي عاطفة تفرضها الطبيعة عليهم، بالرغم منهم. وهكذا كلُّ شريعة في هذا المجال تكون بلا فائدة. فماذا قال إذًا؟ »لا تدفعوا أبناءكم إلى الغضب«. هذا ما يعمله الكثيرون حين يستبعدونهم من الميراث، حين ينكرونهم، حين يعاملونهم مثل عبيد ساقطين، لا مثل أشخاص أحرار. لهذا قال: »لا تدفعوا أولادكم إلى الغضب«.
ج- ماهيّة الطاعة
وعالج حالاً النقطة الرئيسيّة، فعلَّمهم كيف تكون الطاعة. أعاد كلَّ شيء إلى الينبوع، إلى مبدأ السلطة ذاتها. سبق فبيّن أنّ خضوع المرأة يرتبط جوهريٌّا بالرجل. لهذا كانت نصائح إلى الرجل تحثُّه على السيادة بقوّة المحبّة. ونقول الشيء عينه هنا: المبادرة تعود إلى الأب. »ربّوهم في التأديب وعلم الربّ«. ترون أيضًا: إن تأمَّنت الخيراتُ الروحيّة، أُحضرت الخيرات المادّيّة بالفعل ذاته. أتريد لك ابنًا طائعًا، ربِّه منذ البداية في التقوى ومعرفة الربّ، فلا تحسب أن لا فائدة من إسماعه الكتب المقدَّسة. فيسمع أوّلاً: »أكرم أباك وأمَّك«.
إذًا، أنت تعمل من أجل نفسك: هذا الدرس صالح للرهبان فقط، ولا أريد ابني أن يكون راهبًا. ليس من الضروريّ أبدًا أن يكون. ولماذا تخاف ممَّا فيه لك فائدة لا تقدَّر؟ إجعل منه مسيحيٌّا، على الأقل. فالناس العائشون في العالم، يحتاجون هم أيضًا تعاليم يتضمَّنها الكتاب، ولاسيّما الأولاد. فالجهلُ كبيرٌ في هذا العمر، والكتّاب الدنيويّون يزيدون مخاطره. فالأبطال الذين يقدّمونهم للإعجاب، هم عبيد الرذائل، ويرتجفون أمام الموت. والشاهد على ذلك أخيلس، المتحرِّك المتقلِّب، الذي مات من أجل سريّة. وآخر انطفأت حياته في السكر والقصوف. وأمثلة عديدة مشابهة. فلا بدّ من تصليح للشبيبة.
د- تربية في علم الربّ
أما يكون من العبث أن نجعله يهتمّ بالآداب والفنون، وأن لا نهمل شيئًا من أجل نجاحه هنا، لا أن نربّيه »في التأديب وعلم الربّ«؟ لهذا نكون أوّل من يذوق ثمار مثل هذا التأديب: نغذّي أولادًا امتلأوا تشامخًا. لا اعتدال عندهم ولا أخلاق. متمرِّدون، منحطّون. إذًا، لا نفعل هكذا، بل نخضع لوصايا هذا القدّيس العظيم: نربّي أولادنا في التأديب وفي علم الربّ، ونهتمّ بأن يقرأوا، منذ صغرهم، وباستمرار، الأسفار المقدَّسة.
أوّاه! بعد أن صرتُ أكرز الأمور عينها، حُسبتُ مجنونًا. لا بأس. لكن أتوقَّف على القيام بالواجب المفروض عليّ. وتقولون: لماذا لا نقتدي بالقدماء؟ وأنتنّ أيّها النساء، بشكل خاصّ، لماذا لا تقتدين بتلك النساء العجيبات؟ وُلد لك ولد، سيري في خطى أمّ صموئيل. أنظري كيف كان سلوكها. أخذته إلى المعبد وما تأخَّرت. فهل هناك فيكنّ واحدة لا تحبّ أن ترى ابنها يصير كصموئيل، بدلاً من أن تراه يملك على العالم، بل على ألف عالم؟ فتقلن: كيف يمكن أن تتحقَّق مثل هذه الأمنية؟ ولماذا لا يكون هذا ممكنًا؟ لأنَّك لا تريدين ذلك. بل أنتِ لا تسلّمينه إلى من يريد ذلك. وتسألين أيضًا: ومن يقدر؟ أجيب: الله. فإليه سلّمت صموئيلَ الفتى أمُّه.
هـ- عالي وأولاده
ما كان عالي رجلاً قادرًا على تربيته، وهو الذي لم يتمكَّن من توجيه أولاده الأخصّاء: هذا العمل تمّ بواسطة إيمان سخيّ لدى امرأة. ما كان لها سوى هذا الولد، وما كانت تعلم إن كان سيكون لها غيره فيما بعد. ما قالت: أنتظر أن يكبر الولد، أن يختبر الحياة بعض الشيء، أقلَّه في عمره الأوّل. كلاّ. بل تجاوزت جميع هذه الاعتبارات، فكانت كلّها في هذه الفكرة الفريدة: أن تقدِّم لله هذه الصورة الحيّة والروحيّة.
أيّها الرجال، إخجلوا أمام فلسفة هذه المرأة. كرَّست لله ولدها، وتخلَّت عنه. حينئذٍ أحاط زواجَها بهاءٌ جديد، لأنَّها طلبت أوّلاً الخيور الروحيّة، لأنَّها قدَّمت الباكورة: فصار حشاها خصبًا، وكان لها أولاد آخرون. كما أنّها رأت ذلك يشعُّ بمجدٍ نقيّ. إذا كان الأشخاص الذين تكرمهم، يسرّون بأن يعيدوا لنا الإكرام، فكم بالأحرى الله! فهو يكرمنا حتّى عندما لا نكرمه. إلى متى لا نكون سوى بشر؟ إلى متى نبقى منحنين باتِّجاه الأرض؟ بل نجعل فوق كلِّ شيء العناية بالأولاد وتربيتهم »في التأديب وعلم الربّ«. إن تعلَّموا باكرًا ممارسة الفلسفة (الحكمة)، اقتنوا أفضل الثروات جميعًا. ومجدًا يسود كلَّ شيء. حين تمنحوهم التعليم الذي يقودهم إلى الغنى، تكونون قد عملتم الكثير من أجلهم، حين تنقلون إليهم العلم الذي يلهمهم احتقار العلم. أتريدون أن يكون ابنكم غنيٌّا، تلك هي الوسيلة التي تأخذون. فالغنيّ الحقيقيّ ليس ذاك الذي يرغب في الخيرات الكثيرة ولا يمتلكها، بل ذاك الذي لا يحتاج شيئًا. قدِّموا له هذا التعليم، غذّوه بهذه العواطف: تلك الدرجة العالية في الغنى. لا تبحثوا كيف يقتني ابنُكم ثقة وشهرة في الدروس الدنيويّة. بل فكّروا بأن تجعلوه يستخفّ بمجد هذه الدنيا، فيكبر ويكبر ويكون محترمًا(16).
الخاتمة
تلك نظرة سريعة إلى الأسرة عند يوحنّا الذهبيّ الفم، مع قراءة مطوَّلة لعظتين في الرسالة إلى أفسس. لا شكّ في أنَّ هناك أمورًا عديدة ترتبط بالمحيط الذي عاش فيه هذا القدّيس، من بحث عن البتوليّة في غطاء من أجل حياة لا ترضي الله. وبما أنّه تربّى مع أمّ أرملة، كان له اهتمام خاصّ بالأرامل، ولاسيّما في خطّ بولس الرسول. وفي خطّ بولس أيضًا شدَّد على صعوبات الحياة الزوجيّة التي اعتبرها شرٌّا لا بدّ منه. ومع ذلك، نلاحظ أنّ الأخطار التي يتحدَّث عنها ما زالت حاضرة في أيّامنا. نحن لا نأخذ هذا التعليم على حرفيّته، ولكن بروحيّته، فنفهم أهميّة تربية أولادنا، كما نفهم أهمّيّة الوفاق في الأسرة من أجل خير الأفراد، ومن أجل الإشعاع الروحيّ كمؤمنين في عالم يعيش فيه الكثيرون الروح الوثنيّة بحيث يتوقّفون عند الجسد واحتياجاته وينسون أن يرفعوا رؤوسهم إلى فوق. بالنسبة إلى الذهبي الفمّ: »’أطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبرّه، والباقي تزدادونه«. ذاك هو الشعار الأساسيّ الذي ينير الطريق. ومن عرف الغنى مع الله، عرفَ قيمة غنى العالم. أمّا علم الله فهو الذي يلقي الضوء على ما يأخذه أولادنا من علوم. حينئذٍ تتحلّى شخصيَّتهم بالاتّزان ممّا يرضي الله ويُفرح قلب الوالدين.