انتقال مريم أو رقادها في المنحولات السريانية
قلّما نال موضوع من المواضيع ما ناله موضوع انتقال العذراء(1) أو رقادها، في الأسفار المنحولة أو المكتومة، مع أن لا كلام عنه في العهد الجديد. فالنصوص عديدة و نحن نقرأها في اللغات المختلفة: في اليونانية واللاتينيّة، في القبطية والحبشية، في الأرمنية والجيورجيّة، بل في بعض اللغات الأوروبية. والتوسّعات كثيرة: موت مريم أو رقادها. إقامتها في الفردوس »الأرضي« تحت شجرة الحياة، أم في عدن مع الله. بيت مريم في أورشليم أو في بيت لحم. وجود الرسل والملائكة. وفي النهاية تقليد خاص بأفسس حيث يقال أن هناك كان بيتها، وهناك دُفنت. بعد لمحة إلى بعض هذه التقاليد، نتوقّف بشكل خاص عند العالم السريانيّ الذي يبدو من أقدم النصوص إن لم يكن أقدمها، والذي كان أول من احتفل بأعياد مريم الثلاثة: في 24 كانون الأول، في 15 أيار وفي 13 آب، طلباً لحماية مريم على الزروع وعلى السنابل وعلى الكروم. ويُذكر موت مريم وانتقالُها في 13 آب، قبل ان ينتقل العيد إلى 15 آب كما هو الحال الآن.
1- في العالم اليونانيّ والقبطيّ
اعتاد العلماء(2) أن يقسّموا الأخبار عن »الانتقال« ثلاثة أقسام: العالم السريانيّ وارتباطه بالعالم اليوناني ارتباطاً متبادلاً. العالم اليوناني وارتباطه بالعالم اللاتيني. العالم القبطي وما أخذ منه العالم الحبشيّ الذي اتصل بالعالم السرياني، لاسيّما وأن السريان هم الذين نقلوا الكتاب المقدس إلى اللغة الحبشيّة القديمة.
أ) العالم اليونانيّ
الوثائق عديدة في العالم اليونانيّ ونكتفي بذكر اثنتين:
الأولى: الرقاد اليوناني المنسوب إلى يوحنا(3)، يُعتبر من تأليف يوحنا الإنجيلي أو يوحنا اللاهوتيّ. هو يمثّل أفضل تمثيل تاريخ رقاد مريم وانتقالها(4). عُرف هذا النصّ في الشرق والغرب، فوصل إلينا، بالإضافة إلى اليونانيّة(5)، في اللاتينيّة(6) والعربية(7) والجيورجيّة(8). وقد تكون علاقة بين هذا المؤلّف والرقاد السرياني(9). ثم إن هذا الكتاب انتشر انتشاراً واسعاً في العالم السلافي حيث نجد نسختين(10) في لغتين (أو لهجتين) مختلفتين(11).
طُبع أول ما طُبع سنة 1805 ثم سنة 1856 ونُقل إلى أكثر من لغة ومنها الفرنسية(12). تبدأ كما يلي:
»خطبة يوحنا اللاهوتيّ حول رقاد القديسة أم الله. اعتادت أم الله الكليّة القداسة والمجيدة والدائمة بتوليتها، مريم، أن تمضي إلى داخل قبر سيّدنا لتُحرق البخور. ركعت على ركبتيها المقدستين وتوسّلت إلى المسيح الذي وُلد منها، إلى إلهنا، لكي يعود إليها. فلما رآها اليهود تأتي بتواتر إلى القبر الإلهي، مضوا إلى عظماء الكهنة وقالوا لهم إن مريم تزور القبر كلّ يوم. فدعا عظماء الكهنة الحرس الموكّلين بأن يمنعوا أي إنسان من الصلاة داخل القبر المقدس. سألوهم إن كانت تلك هي الحقيقة. فأجاب الحرس بأنهم لم يلحظوا أبدا شيئاً من هذا، لأن الله لم يسمح لهم أن يروا مريم حين كانت هناك. وفي يوم جمعة، مضت مريم كعادتها إلى القبر. وإذ كانت تصلّي انفتحت السماوات، ونزل إليها الملاك جبرائيل وقال لها: ”السلام عليك، يا من ولدتِ المسيح إلهنا! بلغت صلاتُك إلى السماوات، واستُجيبت لدى ذاك الذي وُلد منك. طلبتِ وبعد زمن قليل، تتركين هذا العالم وتنطلقين إلى السماوات، لدى أبنك من اجل الحياة الحقيقية والأبديّة«(13).
هكذا يبدأ الخبر مع مريم التي كانت تمضي كلّ يوم إلى قبر يسوع في أورشليم مع أنها تُقيم في بيت. وفي يوم جمعة، أعلن لها جبرائيل أنها ستترك هذا العالم. فطلبت من يسوع أن يتيح لها أن ترى يوحنا وسائر الرسل. وإذ خافت أن يُحرق اليهودُ جسدها، أكّد لها يسوع فقال إنه لن ينال الفساد. نُقل الرسل الأحياء والموتى بشكل عجائبيّ على السحب واجتمعوا لدى مريم، وأخبروها كلّهم من أين أتوا وكيف وصلوا إليها. واجتمع المرضى قرب بيت مريم. فشُفيَ الذين دعوها بهذا الدعاء: »يا قديسة مريم، يا من ولدت المسيح إلهنا، ارحمينا«. أراد اليهود أن يهاجموا البيت، ولكن نُقلت مريم مع الرسل من بيت لحم إلى أورشليم، ساعة تدخّل الملاكُ لدى المهاجمين. وفي الأحد التالي، نبّه الروح القدس الرسل باقتراب انطلاق مريم. بعد ذلك، ظهر يسوع لأمه وبشرها: »ها إنّ جسدك الكريم سيُنقل إلى الفردوس، وتتقبّل السماواتُ نفسك في كنوز أبي«.
بناء على طلب الرسل، وجّهت مريم إلى يسوع صلاة من أجل العالم، ولا سيّما من أجل الذين يحتفلون بتذكارها. تقبّل يسوع نفس مريم(14)، واهتم الرسل بجسدها. خلال جنازة مريم، حاول يهودي، اسمه يافونياس، أن يدنّس جسدها، فيبست يداه بشكل عجيب ولبثتا ملتصقتين بالتابوت. وما استعادهما إلاّ حين قال: »يا قديسة مريم، يا من ولدت المسيح الإله، ارحميني«. وضع الرسُل جسد مريم في قبر جديد، في »جتسيماني«، وسهروا عند القبر ثلاثة أيام، وهم يسمعون الأناشيد الملائكيّة ويتنشقون العطور اللذيذة. وفي اليوم الثالث توقّف الغناء، ففهم الرسل بهذه الإشارة أن جسد مريم نُقل إلى الفردوس(15).
توقّف المخطوط الأساسي عند هذه النقطة. وأضافت مخطوطات أخرى بأن الرسل نُقلوا برفقة مريم إلى الفردوس. بل شاهدوا احتفالاً فيه يكرم ذخائرَها اليصاباتُ وحنّة وقدّيسو العهد القديم. ونلاحظ التقليد الفلسفيّ اليونانيّ الذي يجعل النفس تنفصل عن الجسد: هذا يمضي إلى الفردوس قرب شجرة الحياة، وتلك إلى السماء. »أضاء وجه أم الربّ أكثر من النور. وإذ وقفت، باركت بيدها كلاً من الرسل، ومجّدوا الله جميعاً. ومدّ الربّ يديه الطاهرتين وتلقّى نفسها المقدّسة والتي لا عيب فيها«(16).
اعتبر بعض العلماء أن هذا النصّ الذي هو أقدم ما كُتب عن رقاد مريم وانتقالها، يعود إلى العالم اليوناني. ومنه انتقل إلى السريانية(17). غير أننا نعتبر مع آخرين أن السرياني هو النصّ الأصلي(18) ومنه أخذت النسخة اليونانية. وأما تكاثر عددُ المخطوطات اليونانية تكاثراً كبيراً فبسبب استعمالها في الليتورجيا، في 15 آب من كل سنة.
الوثيقة الثانية نقرأها في مخطوط وُجد في رومة، في المكتبة الفاتيكانية(19). تبدأ كما يلي: »من القديس يوحنا، اللاهوتيّ والإنجيلي، خبر عن رقاد أم الله الكلّية القداسة، وكيف أن أم ربّنا التي لا دنس فيها نُقلت. بارك يا سيّد«. نلاحظ أن الترجمة طلبت بركة الربّ. بينما تُطلب البركة من المترئسّ. في هذا المعنى، نفهم أن لا يكون هذا العنوان من أصل النصّ، بل جُعل هنا من أجل القراءة الليتورجية، وفيها يستأذن القارئ ويطلب البركة. كما نفهم النسبة إلى يوحنا في اللغة اليونانية. فإذا صحّ هذا، نستطيع القول أننا أمام قسمين: رقاد مريم، انتقال مريم.
لُخّص هذا النصّ في اللاتينيّة، وعرف توسيعاً في الحبشيّة، وارتبطت به شذرات في الجيورجيّة. وما يلفت النظر هو العلاقات الأدبيّة الوثيقة مع الشذرات السريانية التي في أيامنا: مصير مريم الأخير، انتقالها إلى الفردوس تحت شجرة الحياة حيث ينضمّ الجسد إلى النفس. وجاء من يتحدّث عن عالم يهومسيحيّ أنتج هذا النصّ في القرن الثاني المسيحيّ. نلاحظ مواضيع النخل والفردوس وشجرة الحياة وعظمة البتولية وعبارة »الجسد والنفس والروح« وأهمية بطرس(20). غير أن رأياً آخر اعتبر هذا النصّ عائداً إلى القرن الخامس، بل السادس. في أي حال، نكتشف في هذه الوثيقة، التمتمات الأولى حول الانتقال: لا كلام عن موت مريم. بل يُقال: ستخرج مريم من جسدها. سوف تضع مريم جسدها(21).
ب) العالم القبطيّ
هناك أسر عديدة تتحدّث عن الانتقال في العالم القبطيّ. ولكنها تتوحّد على مستوى اللغة وفي السمات المشتركة(22): لا تقيم مريم في بيت لحم، بل في أورشليم. تأخّر الرسُل فما وصلوا في ساعات مريم الأخيرة، فقلقت مريم وخافت. أما السفر إلى ما وراء القبر، فما وجد له مكاناً في هذا التقليد. وإذا انتقلنا إلى المستوى الأدبي، نلاحظ أننا لا نجد خبراً متتابعاً كما في يوحنا المزعوم. بل مقتطفات آتية من إنجيل برتلماوس(23)، ومن عظات مرتبطة بعيد النياح الذي يحتفلون به في 21 توباه أي 16 كانون الثاني حسب الكلندار اليوناني، 29 كانون الثاني حسب الكلندار الغريغوري. يلمّح الخطباء إلى معطيات الأسفار المنحولة، ولكنهم يتحّفظون بالنسبة إليها على مثال ما نقرأ في النصوص الليتورجية(24).
ارتفعت مريم إلى السماء بنفسها وجسدها، وهذا يعني الموت والقيامة والصعود إلى الفردوس. تقول برديّة تعود إلى القرن الخامس: »ماتت مريم، شأنها شأن جميع البشر«. حين بلغت الستين من عمرها، تُوفيّت في أورشليم، ودُفنت في جتسيماني. أما التفاصيل المنحولة فتنطبع بطابع الإنجيل المنسوب إلى الرسل الاثني عشر وإلى الإنجيل المنسوب إلى برتلماوس في تدوينه القبطيّ(25): مضى آدم، هابيل، نوح، الآباء، الأنبياء، إلى »الزهرة«. ومضت حواء واليصابات وحنّة وصالومة إلى »العروس«. ووصل التلاميذ أيضاً، بعد أن اجتمعوا من كل أقسام »العالم«. وفي النهاية، وصل الربّ ترافقه جوقات الملائكة، ونشر حوله رائحة بخور، وقال لمريم: »تعزّي وتشجّعي، يا أم المسيح، لا تخافي. أبي يطلبك مثل تقدمة مرضيّة لأجل نقاوتك. جاءت كل مراتب الأرواح السماوية من العلاء كي تمدحك…«. وهكذا سلّمَته روحها في الحال. فنقل التلاميذ جسدها إلى جتسيماني ليضعوه هناك بعناية، ويحرسوه باستمرار إلى صعوده… »سلام لك، يا مريم! متِّ في وقت حدّده مسبقاً يسوع المسيح«!
وتمّت القيامة بعد ذلك الوقت بمئتين وستة أيام. فبعد أن ذكر السنكسار حدث توما الذي غاب في يوم الموت، ونُقل على غمامة بيضاء عبر طرق السماء، حيث كان التلاميذ، أعلموه بموت مريم فأجابهم: »لا اصدّق ما لم ارَ جسدها. فأنتم تعلمون أني شككتُ أيضا بقيامة ربّنا«. فمضوا إلى القبر ليروا الجسد. فلما فتحوه ما وجدوا (الجسد). فأخذتهم الدهشة. عندئذٍ روى لهم توما كيف التقى بجسدها المقدّس، وقال الروح له: »ما أراد الربّ أن يكون (الجسد) على هذا الأرض«. والربّ كان قد وعد التلاميذ بصريح العبارة أنه سيُريهم إياه مرّة بعد: وانتظروا حتى تحقيق هذا الوعد أي حتى 16 وهو اليوم الذي فيه تم«(26).
وحصل الانتقال في يوم القيامة. فما من نصّ يتحدّث عن تأخرّ، بل تعلن الوثائقُ الليتورجية في 16 مصرا: »اليوم حصل صعود جسد سيّدتنا… اما الرسل الذين نالوا بركتها، فرأوا »أنها صعدت قدامهم على عرش الكروبيم«(27). ويلمّح كتاب »الطروحات« إلى لقاء في الطريق إلى السماء: »وشهد توما الملقّب بالتوأم عنها حين نقلها (الكروبون)«.
ولا تشكّ الوثائق القبطية في طبيعة الفردوس: هو فردوس السماء حيث سعادة القدّيسين. قال السنكسار: »رآها الرسل مع جسدها جالسة في أبّهة عظيمة عن يمين ابنها وإلهها«. وقال كتاب الطروحات(27): »تكلّموا عنها منذ بداية الأزمنة، في ما يتعلّق بصلواتها من أجل جنسنا. وكانت جالسة عن يمين العرش«.
دُرست النصوص القبطية حول الانتقال، ولكن النصوص لم تُكتشَف بعد كلّها. ويبدو أنها تتوزّع بين مجموعتين: الأقدم ترتبط بصعيد مصر، وقد جاءت في اللهجة الصعيدية فما عرفت سوى عيد الرقاد أو النياح. والثانية بحيرية، ترتبط بمصر السفلى، وهي لا تعرف سوى عيد الانتقال. هذا العيد الأخير، دخل إلى مصر في القرن السادس، بتأثير من فلسطين، وجاءت خطبة تيودوسيوس، بطرك الاسكندرية (537- 567)، تشرّع مثل هذا التجديد.
حين نعود إلى الشذرات الصعيديّة في انجيل برتلماوس، وهي الأقدم، نكتشف خبر الانتقال والرقاد مُقحَماً بين عدّة إيحاءات، يوصلها إلى الرسل المسيحُ القائم من الموت. وهدف المدوِّن واضح: إقامة رباط بين تمجيد مريم وتمجيد ابنها. وهناك مبارزة حبّية بين الرسل، تتوخّى أن تعرف من الذي عليه أن يسأل مريم. أما النسخات التي وُجدت فتدلّ على الحريّة التي تعامل معها الأقباط للكلام عن هذا الانتقال: جاء يسوع وبارك أمّه على فراش الموت.
تكاثرت الفجوات في المخطوط الأول. لذلك نبدأ فنورد ما في المخطوط الثاني: »باركها المسيح قائلاً: ”تكونين مباركة في السماء وعلى الأرض… يدعوك السرافيم مدينة الملك العظيم… حين تتركين جسدك، آتي أنا إليك مع ميخائيل وجبرائيل. لن نتركك تخافين أمام الموت، الذي يخافه العالم أجمع. أجعلك في مواضع الخلود، وتكونين معي في ملكوتي. وأجعل جسدك تحت شجرة الحياة. والكروب المسلّح بالسيف يسهر عليك. ويحمل هذا السيف إلى يوم مُلكي«.
والمخطوط الثالث يقول: »لتكن بركة الآب معك دوماً آمين. هللويا. قدرة الابن تظللك… فرح الروح القدس يُقيم معك على الدوام… وحين تتركين جسدك، آتي انا وأبي وميخائيل وجميع الملائكة، وتكونين معنا في ملكوتي. وأسلّم جسدك إلى الكروب المسلّح بسيفٍ من نار، ليسهر عليه. ويسهر عليه أيضاً 1200 ملاك آخر إلى يوم مجيئي«(29).
يشدّد المخطوط الثاني على حماية يمنحها المسيح لأمّه. ولكن الموضوع ليس غائباً من المخطوط الثالث: ففرقة عظيمة من جيوش الملائكة ترافق نفس مريم في سفر خطر إلى الآخرة. مثل هذه الفكرة نقرأها عند »خبر يوسف النجّار«(30)، كما في الأدب القبطيّ. ونجد ما يوازيها في النصوص اليهودية(31).
اتّفق المخطوطان على القول بأن جسد مريم سوف ينال حماية عجائبية. قال واحد إنه دُفن تحت شجرة الحياة، كما في النصوص السريانية. وقال الآخر: منع الكروب المسلّح بالسيف (تك 3: 24) الأرواح الشريرة من الاقتراب من جسد مريم بحيث يصيبه الفساد. وهكذا يُحفظ الجسد حتّى مجيء المسيح الثاني. في هذا قال نص نُسب إلى كيرلس الأورشليمي: حين وضع الرسل جسد مريم في القبر، سُمع صوت: »لا يبحث أحدٌ عن الجسد حتى اليوم العظيم يوم مجيء (باروسيا) المسيح«(32).
وتحدّث هذان المخطوطان عن رقاد مريم العذراء، في 21 توبا. وكانت مخطوطات أخرى تعيّد مع فلسطين عيد الرقاد في 16 مصرا. لن نذكر العظات التي تتوسّع في هذه الوجهة الجديدة(33). بل نورد شذرة بحيرية من إنجيل برتلماوس. بعد أن مرت مئتان وستة أيام على وضع جسد مريم في القبر، نزل يسوع على مركبة ناريّة، فوهب السلام للرسل المجتمعين وألقى أمام قبر أمه هذا الكلام: »يا مريم أمي، يا موضع راحتي الذي كنتُ فيه، قومي، أتركي وراءك هذه الأكفان واخرجي من القبر. فكما أقامني أبي من بين الأموات، أنا أقيمك وآخذك بقربي إلى السماء«(34).
وهكذا ظهر الباعث اللاهوتي للانتقال: هو تماثل بين الابن وأمّه. ويتواصل الخبر فيشدّد على التماهي بين الجسد القائم من الموت وجسد الحياة المائتة. والمركبة الناريّة التي تحمل مريم تذكّرنا بمركبة إيليا في 2 مل 2: 11. وفي النهاية، نرى الرباط بين انتقال مريم ومواصلة الصلاة من أجلنا: »قامت مريم، وهي عن يمين ابنها يسوع المسيح. هي تصلّي من أجل العالم كلّه، والربّ يتقبّل منها التضرّعات والصلوات من أجلنا، أكثر من (صلوات) جميع القديسين«. وهذا التمييز بين الرقاد والانتقال، يصل إلى الحبشة(35). أجل تموت مريم كما يموت جميع الناس، ولكن يسوع يقول لها: »أنا، حياة كل بشر، ذقتُ الموت في الجسد الذي أخذتُه منك، في جسد آدم جدّك. ولكن لأن لاهوتي كان فيه، أقمته من بين الأموات. أما أنتِ، فأردتُ أن أمنع الموت عنك وآخذك إلى السماوات مثل أخنوخ وإيليا…«!
2- في العالم السرياني
أشرنا إلى بعض ما في العالم اليوناني، وأطلقنا الكلام عن التقليد القبطيّ حول رقاد مريم أو انتقالها، بسبب اقترابه من التقليد السريانيّ. ولا بدّ من معالجة ما تركته لنا المنحولات السريانية التي لم تُنشر بعد كلّها. وقد تقلب مقاييس عديدة لو عُرفت على مستوى العيد، على مستوى انطلاقة هذه النصوص(36).
أ- نصّ سريانيّ قديم
جاءت الأسرة السريانية على اسم القديس يعقوب، لا على اسم القديس يوحنا، كما كان الأمر بالنسبة إلى العالم اليونانيّ، ولكنها وسّعت التعليمَ عينه. أما أقدم شاهد على ذلك فمقطع نشره رايت(37) سنة 1868، وهو يعود إلى النصف الثاني من القرن الخامس.
يبدأ المقطع بعد دفن مريم، على جبل الزيتون أو في وادي يوشافاط. جلس الرسل قرب القبر وتجادلوا بشكل لا يليق بهم، حول التعاليم التي يُعطون للعالم. كرز يوحنا واندراوس بخلقية قاسية. واعتبر الرفاق بولس متفلّتاً. وإذ كانوا يتكلّمون، نزل الربّ المسيح من السماء يرافقه الملاك ميخائيل، فوقف في وسطهم وحيّاهم كلّ واحد باسمه. »سلام عليك، يا بطرس، انت الاسقف، سلام عليك، يا يوحنا البتول«.
ثم أشار إلى ميخائيل الذي دعا في الحال بصوته القوي الكتائب الملائكيّة، فوصلوا على ثلاث غمامات، وحملت كلّ غمامة ألفاً منهم. أمر الربّ، فنقل ميخائيل جسد مريم على إحدى هذه الغمامات، وانطلق الرسل أيضاً مع يسوع والملائكة وتوجّهوا إلى الفردوس. بعد دخول احتفاليّ إلى هذا المكان، جُعل جسد البتول تحت شجرة الحياة. وجاء الملائكة بنفس مريم التي انضمت إلى جسدها وما تأخّرت. حينئذٍ ذكّر الرسُل ربّنا بوعده أن يُريهم معجزات عجيبة ورهيبة، في يوم انتقال مريم. وما إن قالوا هذا حتى أشار المخلص إلى غمامة فحملتهم ومريم معهم إلى ما وراء القبور(38).
لا يعود هذا النصّ إلى فلسطين، لأنهم ما كانوا يتكلمون بعد، في أورشليم، في نهاية القرن الخامس وبداية السادس، عن موت العذراء ولا عن قبرها. بل هو يعود إلى الأوساط السريانية، وقد عاصر عظة يعقوب السروجيّ حول دفن العذراء. ولكن حين صمت السروجي حول قيامة مريم وانتقالها، تحدّث هذا المقطع السريانيّ عنهما بصريح العبارة. ونقرأ النصّ السريانيّ بحرفيته:
»سهر الرسل ثلاثة أيام أمام قبر مريم، وتجادلوا مع بولس حول التعليم الصريح للمعلّم. وإذ كان جميع الرسل جالسين أمام مدخل قبر مريم وهم يناقشون أقوال بولس، أتى ربّنا يسوع المسيح من السماء مع الملاك ميخائيل، وجلس في وسط الرسل ساعة هم يناقشون كلام بولس. فحيّى يسوع الرسل وبيّن أن بولس كان على حقّ. وبعد هذا أشار ربّنا إلى ميخائيل، فشرع ميخائيل يتكلّم بصوت ملاك قدير. فنـزل الملائكة على ثلاث غمامات. وكان عدد الملائكة على كل غمامة ألفاً، وكانوا ينشدون المدائح قدّام يسوع. فقال ربّنا لميخائيل: »احمل لهم جسد مريم في الغمام«. وحين حُمل جسد مريم في الغمام، قال ربّنا للرسل بأن يقتربوا من الغمام. ولما صاروا في الغمام، أنشدوا بأصوات ملائكية. وأمر ربّنا الغمام بأن يمضي إلى مدخل الفردوس. وحين دخلوا إلى الفردوس، جُعل جسد مريم تحت شجرة الحياة وجاؤوا بنفسها وجعلوها في جسدها. وفي الحال أمر ربّنا فمضى الملائكة إلى أماكنهم«(39).
ونقرأ الخبر اليوناني القريب من هذا النصّ السريانيّ:
»حمل الرسل مريم إلى القبر ووضعوا الجسد، وجلسوا كلهم معاً منتظرين الربّ كما سبق وقال لهم… وإذ كانوا يتجادلون في ما بينهم حول التعليم والإيمان ومواضيع أخرى كثيرة، وهم جالسون قدّام باب القبر، وصل الربّ يسوع من السماء ومعه ميخائيل وجبرائيل… وأشار إلى ميخائيل، فتكلّم ميخائيل بصوت ملاك قويّ، فنـزل الغمام إليه. وكان عدد الملائكة في كل غمامة ألفاً… وحين وصلوا إلى الفردوس، وضعوا جسد مريم تحت شجرة الحياة. وحمل موسى نفسها المقدسة وجعلها في جسدها«(40).
وينتهي النص اللاتيني كما يلي:
»وحملوا جسد الطوباوية مريم إلى القبر، ولبثوا هناك ثلاثة أيام. وكان الرسل يتحدّثون عن تعليم المعلّم. وإذ كانوا يتكلّمون، جاء ربّنا يسوع على السحب مع الملائكة ورؤساء الملائكة. فاختُطف الرسل في السحب مع جسد مريم، فقادتهم السحب إلى الفردوس، فوضعوا هناك جسد الطوباوية مريم. وأخذ الربّ جسدها من رئيس الملائكة ميخائيل وأعاده إلى نفس مريم. فوقفت مريم على قدميها ومشت، فأنشد الملائكة نشيداً«(41).
هو كلام عن رقاد العذراء وانتقالها ونحن نقرأه لدى غريغوريوس، أسقف تور (في فرنسا)، فنرى فيه تأثير هذه القطعة السريانية التي أوردناها. يقول: »اجتمع الرسل من مختلف المناطق في بيتها وإذ سمعوا أنها ستؤخذ من بين العالم، سهروا معها. وإذا ربّها جاء مع ملائكته فأخذ نفسها وسلّمها إلى ميخائيل… أخذ الرسل جسدها… أمر الربّ أن يؤخذ على الغمام وأن يُوضع في الفردوس…(42)
ب) نصوص سريانية اخرى
اولاً: ثلاث قطع قصيرة
تحدثنا عن نصّ سرياني أول يمكن أن يكون عنوانه: مرافقة (ل و و ي ه) السيدة مريم. حمل يسوع النفس، ووضع الرسل الجسد في الفردوس. ثم عادت النفس واتّحدت بالجسد. واعتبر الأب كوتنيه(43) أن هذا النص ارتبط بالعالم اليهومسيحي، بحيث يمكن أن يعود أصله إلى القرن الثالث. واستند الأب المذكور إلى مقاربات أدبيّة ليُسند نظريته التي أخذ بها أكثر من لاهوتي(44).
وهناك نصّ سرياني ثانٍ وُجد في المكتبة البريطانية، في لندن، عنوانه: خبر (ت ش ع ي ت ا) القديسة والدة الله البتول. هو كلام عن موت مريم وما حصل لها بعد موتها. جاء هذا النصّ متأخراً حسب رايت(45). واعتبر بعض الاخصائيين أنه تأثر بالنصّ اليونانيّ المنسوب إلى يوحنا. ولكننا لا نستطيع أن نجزم شيئاً في ما يتعلّق بهذا النصّ السرياني. كل ما نستطيع أن نعرف، هو أنّ بيت مريم يقع في بيت لحم، لا في أورشليم، وأن التعليم عن الرقاد يتلاقى والنصّ اليونانيّ.
وحُفظ نصّ سرياني ثالث حول رقاد مريم، في المكتبة البريطانية (لندن) أيضاً. نقصت البداية. ولكن النهاية تتيح لنا أن نكتشف العنوان: خبر حول رحيل أو انتقال (ش و ن ي ه) والدة الله، الأم المباركة. هذا المقطع الذي نشره رايت(46) وصل إلينا في حالة شبه كاملة، فما نقص سوى البداية والنهاية. قاربه بعضهم من الرقاد اليوناني المنسوب إلى يوحنا، وآخرون من الرقاد العربيّ المدعو »الكتب الستّة«(47). ولكن يبدو أن هذا النص السرياني يبتعد عن هذا وذاك(48).
نجد في هذه القطعة السريانية إشارات مكانية (طوبولوجية) وتعليميّة. على مستوى المكان، يحدّد موقعُ بيت مريم في بيت لحم. كما يحدّد موقعُ قبر مريم في أورشليم، في وادي جبل الزيتون، في إحدى المغاور الموجودة هناك. وعلى المستوى التعليمي، نعرف عقيدة الرقاد. أما الخبر فجاء كما يلي: حمل الرسل مريم، وهي بعدُ حيّة إلى وادي جبل الزيتون. فدفنوها في إحدى المغاور الثلاث، كما أمرهم الروح القدس. ثم نزل يسوع والملائكة والقديسون ليأخذوا جسد مريم وينقلوه إلى الفردوس، برفقة التلاميذ. ووُضع الجسد »تحت الأشجار العذبة في فردوس عدن«. ولكن نقص النصّ، فما استطعنا أن نعرف كيف ماتت مريم، ولا الزمن الذي يفصل وضعها في القبر ونقلها إلى الفردوس. ولكن التعليم عن الرقاد واضح.
ثانياً: الكتب الستة
مجموعة »الكتب الستة«(49) وصلت إلينا في مخطوطات عديدة(50). أما أقدمها فحُفظ في لندن، في المكتبة البريطانية، وهو يعود إلى القسم الثاني من القرن السادس. إن كان هذا التاريخ صحيحاً، نكون أمام أقدم مخطوط كامل يحتوي خبر مصير العذراء الأخير، بحيث يتفوّق على جميع التقاليد الأدبية حول رقاد مريم وانتقالها(51). أما العنوان فهو، خروج (م ف ن ه) سيّدتنا مريم من هذا العالم.
هذا المؤلّف السرياني الذي نشره رايت(52) هو خبر مركّب من عدّة عناصر، ومقسوم إلى ستّة كتب:
الأول: مطلع يروي تكوين المؤلّف وصياغته مع عناصر من اكتشاف الصليب المقدس في أورشليم (وهذا نجده أيضاً في الكتاب الثاني).
الثاني: دعوة الرسل ليأتوا إلى مريم. ونجد هنا أيضاً مراسلة الملك أبجر مع طيباريوس قيصر بواسطة سابينس.
الثالث: عجائب العذراء.
الرابع: رقاد مريم.
الخامس: وحي لمريم (البداية) وخبر زيارة الفردوس.
السادس: وحي لمريم (النهاية) وخبر زيارة جهنّم.
هذا التقسيم إلى ستّة كتب قديم جداً، ونحن نجده في جميع المخطوطات الكاملة. وهذا »الرقاد« يقدَّم على أنه ترجمة لخبر يوناني نُسب إلى الرسل، وبشكل خاص إلى يعقوب، أسقف أورشليم. ونحن نقرأ في الكتاب الاول ما يلي: »أنا يعقوب، أسقف أورشليم، كتبتُ بيدي، في هذا المصنّف، أنه في سنة 345 ( للتاريخ السلوقي)(53)، تركت قديستُنا مريم هذا العالم. ستّة كتب دُوّنت في شأنها. وكل كتاب دوّنه رسولان. وأشهد أن هذه الكتب دوّنت وأن يوحنا الشاب اعتاد أن يحملها معها، وأن بطرس وبولس عرفا أين كانت«.
مؤلّف صنّفته الحلقة الرسولية، وقدّمه يعقوب. ويُعلمنا الكتاب الاول بالظروف التي فيها نُسخ: وجّه ثلاثةُ رهبان من دير جبل سيناء، رسالة إلى قورش(54)، أسقف أورشليم، وطلبوا منه نسخة عن مؤلّف يروي الأحداث التي أحاطت »بخروج مريم من هذا العالم«. ما وجد قورش الكتاب، فنصحهم بالذهاب إلى يوحنا وكنيسة أفسس حيث يجدون المؤلف: لينسخوا نسخة لهم ونسخة له.
والمراسلة بين أبجر وطيباريوس (الكتاب الثاني) نجدها أيضاً في تعليم أداي، ولكن الاختلاف واضح بين النصين. في »الرقاد السرياني« عرف أبجر أن اليهود يمنعون مريم من الاقتراب من قبر يسوع، فطلب من طيباريوس أن يتدخّل. شكر طيباريوس أبجر، وأعلمه أنه طلب من الحاكم (سابينس) أن يرتّب الأمر. أما في »تعليم أداي«، فقد رغب أبجر أن ينتقم لموت يسوع. وإذ لم يكن له أن يعبر الفرات، لأسباب دبلوماسية، كتب إلى طيباريوس يشرح له الجور الذي رافق صلب يسوع. كل هذا يعني أننا لا نستطيع القول إن »الكتب الستة« هي مترجمة من اليونانية إلى السريانية، بل يبدو أن النص اليوناني ضغط النصّ السرياني وأوجزه(55). وهذا ما يبعدنا عن القول بأن النص اليونانيّ هو أقدم النصوص.
في هذه »الكتب الستة« موقع بيت مريم في بيت لحم. وقبرُها في إحدى المغاور الثلاث الموجودة في وادي جبل الزيتون. والتعليم عن رقاد مريم جاء مشابهاً، بشكل عام، للنصوص السريانية التي سبق وقرأناها. غير أن الخبر يبدو كاملاً، ويشمل عدداً من التفاصيل: حمل الرسل جسد مريم إلى وادي جبل الزيتون. هي ما زالت حيّة، وهناك أسلمت الروح. نُقلت نفسها إلى »مساكن الآب«. أما جسدها فما دُفن، بل نُقل إلى »فردوس عدن« حيث وُضع، في حضور الرسل. بعد ذلك، أقام يسوع مريم وجعلها تزور الفردوس وجهنّم. ولما انتهت الزيارة، رافق أمّه إلى »فردوس عدن« حيث تنتظر مع الأبرار »السعادة الآتية«.
وذُكرت في هذه »الكتب« ثلاثة أعياد ما زالت تحتفل بها الليتورجيا السريانية: 24 كانون الاول (الزروع)؛ 15 أيار (السنابل) 13؛ آب (الكروم). هذا ما قرأناه في الكتاب الرابع، الذي نجد فيه أيضاً تشديداً على يوم الأحد. خمس مرّات قال الروح القدس للرسل: كانت البشارة يوم أحد وكذلك الميلاد والقيامة والصعود. وفي يوم أحد تمجّدت مريم(56).
وفي النهاية، نفهم أن »الكتب الستة« هي في أساس عدد من النصوص التي تتحدّث عن رقاد العذراء وانتقالها. نذكر بينها »الكتب الخمسة« السريانية(57)، والكتب الستة العربية، و»الكتب الستة« الحبشيّة(58).
التقاليد الكتابية المرتبطة برقاد مريم
أ- ملاحظات تلفت الانتباه
تنوّعٌ كبير على مستوى النصوص التي تتحدّث عن رقاد مريم أو انتقالها. فهناك من يجعل بيت مريم في بيت لحم، ويتوقّف عند نقل جسد مريم إلى الفردوس الأرضي دون قيامة حقيقية. وهناك من يجعلها تُقيم في أورشليم مع تخوّف امام الموت الآتي. والفئة الثالثة تجعل مريم تقيم في أورشليم وتنال سعفة نخل من الفردوس. وُضع جسدُها تحت شجرة الفردوس.
نلاحظ أولاً اكتشاف ذخائر الشهداء، مثل اسطفانس سنة 415، ولكن لا ذخائر مريم. ففي الفردوس فقط، نستطيع أن نكرم جسدها الكريم والمقدس. مقابل هذا تتوافق الأخبار لتجعل قبرها المؤقت في أورشليم، في وادي قدرون. ونلاحظ ثانياً أن التقوى الشعبية تحدّثت عن مريم قبل أن توزّع الليتورجيا أعيادها. والبداية كانت مع »إنجيل يعقوب« الذي يعود إلى نهاية القرن الثاني، والذي يحاول أن يدافع عن بتوليّة مريم ضد افتراءات اليهود. ونلاحظ ثالثاً أننا لا نستطيع الكلام عن الفردوس وكأنه »السماء« حيث يُقيم الله(59). نقرأ مثلاً في الرقاد المنسوب إلى يوحنا: »ها الآن جسدك الكريم يُنقل ويكون في الفردوس، ساعة تكون نفسك المقدسة في السماء، في كنوز أبي« (ف 39). ونلاحظ رابعاً حرية النسّاخ. أوجزوا أو أضافوا حسب الحاجات، حسب التقاليد المحليّة، كما فعلوا بالنسبة إلى سير القديسين.
يمكن أن نقابل أخبار الرقاد مع فنّ أدبي هو فنّ الوصيات. يُحسّ أبٌ من الآباء، أن ساعته اقتربت، فيدعو أولاده وتلاميذه ليعلن لهم موته، ويعبّر عن تخوّفه من مستقبل تهدّده الأخطار، ويعطي توصياته الأخيرة. ذاك كان وضع وصيّات الآباء الاثني عشر(60)، التي هي كتاب يهودي أحبّته الجماعات المسيحية. وفي أخبار الرقاد، عرفت مريم بموتها القريب بواسطة ملاك. فطلبت أن يحيط بها الرسل الذين تشتّتوا في العالم، فاجتمعوا على السحب. فدعتهم مريم ليسهروا بمصابيح جديدة خلال أيامها الأخيرة على الأرض. المهمّ هو أن نعرف كيف تستعد مريم للموت وكيف يستقبلها ابنها، وكيف يُحفظ جسدُها من عداوة اليهود. ويتوجّه الانتباه إلى مصير جسدها: أتُراه ينجو من الفساد(61).
كما يمكن أن نقابل هذه الأخبار مع أخبار الرؤى والسفَر إلى الحياة الأخرى(62). ففي النصوص السريانية والقبطية، نرى مريم تستكشف الفردوس وجهنم برفقة الرسل. هذا ما نجده في سفر أخنوخ(63) الذي يطرح سؤالاً حول زمن المجيء، ويتوسّع في أشكال العذاب الذي يُصيب الخطأة. ويُقال عن الفردوس: »أرانا حديقة كبيرة مفتوحة، مليئة بالأشجار الخصبة والثمار المباركة. امتلأت من الأريج المعطر الذي وصلت رائحته إلينا…«. أما صعود موسى »فيخبرنا عن السماوات السبع«.
والأسئلة التي طرحتها مريم على الملاك حين بشّرها بموتها القريب، قد تُلقي ضوءاً على المرمى الارشاديّ في الرقاد. نحن أمام شهادة تقوى تجاه مريم أمّ المسيح والدائمة بتوليّتها. كما نحن أمام تعليم روحيّ: »من هم الذين تأخذهم إلى الفردوس؟«. هم الذين يحفظون(64) وصايا الله ويلبثون بلا عيب على الأرض. هذا ما يربطنا بالتيّار التعفّفي الذي نقرأ عنه في أعمال الرسل المنحولة(65). فخادمات مريم الثلاث يمثّلن العذارى اللواتي تكرّسن لله، واللواتي يُدعَون إلى السهر في الصلاة. وهناك أرملتان تتسلّمان ثوباً من العذراء. وحمل النصّ العزاء إلى »الذين يبكون وكأن لا رجاء لهم«. لا تبكوا لئلا تقول الجموع: »هم أيضاً يخافون الموت«. وكل هذا يغمره مناخ من الأناشيد والصلوات: »أباركك لأوجد أهلاً للإفخارستيا التامة، ولكي أشارك في تقدمتك من العطر الطيّب الذي هو قسمة جميع الأمم«.
ب) سعفة شجرة الحياة
في إطار بحثنا هذا في أصل أخبار الرقاد، نتوقّف عند المواضيع المدراشيّة(66) والجليانيّة(67). ونبدأ بسعفة شجرة الحياة. يعلن الملاك العظيم لمريم: »إنهضي يا مريم، وخذي علامة الظفر هذه، التي أعطاني إياها ذاك الذي غرس الفردوس، وأعطيها أنا للرسل ليحملوها وهم يُنشدون المدائح أمامك، لأنك تتركين جسدك بعد ثلاثة أيام«.
اللفظ المستعمل يذكّرنا بما يُعطى للرابح في الألعاب. ورد مرّتين عند القديس بولس. الأولى حين حضَّ الكورنثيين على الجهاد لنوال الجائزة (1 كور 9: 24). والثانية حين تحدّث عن جهاده لكي يبلغ إلى المسيح (فل 3: 14). أما »في الرقاد« فلسنا أمام إكليل من غار، بل أمام سعفة (غصن) أُخذت من شجرة الحياة. هي علامة النصر التي تسير في مقدمة »الجنازة«. لهذا خافت مريم من أن يتشاجر الرسل لكي يعرفوا من يكون له شرف حملها.
ما أن تلقّت مريم إشارة بموتها، حتّى مضت إلى جبل الزيتون فانحنت الأشجار ساجدة. وصلّت مريم، فدلّت على خوفها من أن تكون فريسة قوى الشرّ. عندئذٍ صارت العلامة عربوناً بأن يسوع يأتي ويعين أمّه. وتصلّي مريم وتكرر صلاتها: هي تريد أن يهتمّ ملاك بجسدها، بل هي تنتظر حماية الله.
ونطرح السؤال: بمَ ترتبط سعفة الفردوس هذه؟ بعيد المظال. فقد اعتادوا أن يستعملوا السعف مع باقة من أربع نبتات (ل و ل ب). نحن نقرأ في مز 118: 37: »زيّنوا الموكب بالأغصان المورقة«. حين يحتفل العبرانيون بعيد المظال، يتذكرون الإقامة تحت الخيام، بحضور الربّ في خيمة الاجتماع في البريّة، أربعين يوماً. كما يتطلّعون إلى التدخّل الاسكاتولوجيّ الذي به يتجلّى الرب على جبل الزيتون كملك الأرض كلها (زك 14: 16). ودخول يسوع إلى أورشليم يرسم أمامنا طقس العيد مع السعف والهتافات.
في »الرقاد« تبدو خلفيّة الفردوس أساسيّة. لسنا أمام سعف وأغصان شجر عاديّة، بل أمام سعفة أُخذت من شجرة الحياة. هنا نتذكّر أخباراً عديدة حول نخلة الفردوس. ففي ما نُسب إلى متّى، عطشت العائلة المقدسة. فانحنت النخلة وقدّمت ثمرها. حينئذٍ أعلن يسوع الطفل: »أيتها النخلة، أمنحُك هذا الامتياز، بأن يُنقل أحد أغصانك بيد ملائكتي ويُزرع في فردوس أبي. وهذه تكون بركتي: من انتصر في قتال ما يقال عنه: ”نلت السعفة”. وأيضاً: »هذه النخلة التي نقلتُها ستكون في متناول جميع القديسين في موضع اللذات، كما كانت بمتناولكم في البريّة«(68).
وأعطيت السعفةُ لمريم، فكانت عربون رجاء وعامل حماية، فلا القوات الجهنمية ولا اليهود يقدرون أن يُسيئوا إلى جسد مريم. وقد تعني سعفة النصر أيضاً أن مريم ستنضمّ إلى ملكوت ابنها مثل الشهداء في رؤيا يوحنا (7: 9). إن كان الأمر هكذا، يجب أن ننتظر كلاماً عن عرش محفوظ لمريم وعن إكليل، كما هو الحال بالنسبة إلى الأبرار في »صعود أشعيا«. غير أننا لا نجد شيئاً من ذلك. ولكن تبقى مريم أمّ الفروع الاثني عشر، أمّ الرسل الاثني عشر. وهكذا يهتم النصّ بالكلام عن حفظ جسد مريم من كل فساد، لا عن طريقة حياة مريم في الفردوس.
ج) وجود الملائكة
في جميع المنحولات، يحتلّ الملائكة مكاناً هاماً. وكذا نقول عن »رقاد« مريم. فميخائيل وجبرائيل يقودان النفوس إلى مسكنها الأخير. وإلى ميخائيل يسلّم يسوع نفس أمّه الكليّة الطهارة. ويبقى غموض حول الهويّة الحقيقية للملاك العظيم الذي يحمل السعفة. هذا يدلّ على قدم الفكرة. سألته مريم فأجاب: »هو عجيب ولا تقدرين أن تسمعيه«. هنا يستعيد الكاتب عبارات نقرأها في مشهد الإعلان عن ولادة شمشون (قض 13: 6-17). نحن في خطّ العهد القديم حيث يظهر ملاك الرب (خر 3: 2؛ قض 6: 11). ويتساءل النص المنحول: هل هو ملاك من مرتبة سامية؟ هل هو »الكروب العظيم، كروب النور«؟ أم هو وجه الله الذي يكشف عن نفسه بالكلمة كشفاً شبه خفيّ؟ وحدها مريم ستنال وحي السرّ على جبل الزيتون. نلاحظ هنا بعض اللاتماسك في النصّ. تارة يتكلم وكأنه المسيح فيقول: »كما أرسلني أبي لخلاص البشر…«. وطوراً يتميز هذا الملاك عن المسيح: »كما قام مخلّصنا في اليوم الثالث، آخذك في اليوم الرابع«. هذه الطريقة في التعبير تدلّ على تقليد قديم يعتبر أن المسيح هو »ملاك المشورة العظيمة« (اش 9: 5). في هذا الاطار، يُعطي يوستينس لكلمة الله لقب ملاك ولقب رسول (الدفاع الاول 13). وفي »رسالة الرسل« ظهر المسيح لمريم »بشكل الملاك جبرائيل«. نتذكرهنا ان الملاك هو الرسول. وهكذا يكون يسوع الملاك الملاك والرسول الرسول. ثم كما أن ملاك الربّ يفتح الطريق أمام الربّ لكي يتدخّل في حياة موسى مثلاً، فالمسيح هو ذاك الذي يدلّنا على الآب. وهكذا نكون أمام التمتمات اللاهوتية الأولى التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعهد القديم.
حين يظهر المسيح عند سرير مريم، فهو سيّد الجيوش السماوية. يتسلم نفس أمّه المقدسة ويضعها في يديّ ميخائيل ويغطيها بجلد لئلا يظهر بهاؤها. هذا الجلد يقابل الثوب الذي أعطاه الله لآدم وحواء حين طُردا من جنة عدن (تك 3: 21)، كما يوافق ثياب المجد التي تمثّل حيّزاً واسعاً في سفر الرؤيا (3: 4- 5، 18؛ 16: 18)، وفي »صعود أشعيا«.
ولكن اختلف خبر الرقاد عن صعود أشعيا، في أنه لا يذكر الروح القدس. جاء شبيهاً بإنجيل يعقوب (العدد 11 يتكلّم فقط عن قوّة الله). كل هذا يدلّ على أن ينبوع خبر الرقاد جاء قبل الجدال حول الروح القدس الذي قويَ في النصف الثاني من القرن الرابع، وتَتوّجَ في مجمع القسطنطينية الذي عُقد سنة 381.
د) جنازة مريم
ذكرت نصوص الرقاد تدخلاً خاصاً من قبل المسيح لدى أمّه، في ساعة موتها، وهذا ما كانت طلبته وألحّت. وأعطاها المسيح قبلة أخيرة، وتسلّم نفسها النقيّة، ثم سلّمها إلى الملائكة. كل هذا يدلّ على علاقة خاصة، علاقة حميمة بين المسيح وأمّه.
وطال السهر حول الجسد الميت ثلاثة ايام، ثم تنظّم الموكبُ إلى القبر. وحصل حدث بلبل الترتيب الجميل، وهو معارضة اليهود. نحن أمام صدى للصراع بين اليهود والمسيحيّين. ففي الدفاع الاول (عدد 31) ليوستينس، نعرف أن القائد ابنَ الكوكب لاحقَ اليهومسيحيين الذين رفضوا أن يشاركوه الحرب على رومة، في الثورة اليهودية الثانية (132- 135). ويروي استشهاد بوليكربوس (17: 2)، أسقف ازمير (سميرنة)، أن اليهود حرّضوا الشعب ضدّ المسيحيين وحاولوا أن يمنعوهم من أن يأخذوا من النار بقايا جسد أسقفهم الذي مات شهيداً. وهنا خافت مريم أن يأخذ اليهود جسدها ويحرقوه. ويتوسّع النص بعد ذلك، فيبيّن أن البعض اهتدوا، والآخرين قسّوا قلوبهم. أما يافونياس الذي تجرّأ ووضع يده على تابوت مريم، كما فعل عزّة مع تابوت العهد ( 2 صم 6:6)، فما مات، ولكنه ما تمكن أن يستعيد يده إلاّ بعد إعلان إيمان صريح: »باسم الربّ يسوع المسيح، ابن الله وابن مريم الحمامة الطاهرة، المخفي في حنانه…«. نقرّب هذا الحدث من يَباس يد صالومة، القابلة التي رفضت أن تؤمن ثم ندمت(69).
إن التقارب بين هذا الحدث وخبر عزّة، قد يُتيح لنا أن نرى في مريم تابوت العهد. في أي حال، حين تحدّث القديس لوقا عن زيارة مريم لنسيبتها أليصابات، جعلها في تنقّلها تشبّه انتقال تابوت العهد إلى أورشليم. والعلاقة واضحة بين انتقال مريم وآية المرأة الملتحفة بالشمس (رؤ 12)(70).
هـ) مصير مريم بعد موتها
تتحدّث النصوص حول »الرقاد« عن قبر »جديد« مثل ذاك الذي فيه دُفن يسوع. ولكن بعد سهر دام ثلاثة أيام، اختفى الجسد. قالت الأخبار القديمة: وُضع في الفردوس الذي يتميّز عن السماء. هنا نورد بعض النصوص: »حين وصلوا إلى الفردوس، وضعوا جسد مريم تحت شجرة الحياة، وحمل ميخائيل نفسها المقدسة ووضعها في جسدها«(71). وأيضاً: »تقبّل الرب نفسها من يد ميخائيل رئيس الملائكة وأعادها إلى جسد مريم، فقامت مريم الطوباوية على قدميها، ومشت والملائكة يُنشدون التسابيح«(72). وأيضاً: »ولما انتهى اليوم الثالث، لم يُسمع بعد صوت. فعرفوا كلّهم عندئذٍ أن جسدها الكريم والذي لا عيب فيه، قد انتقل إلى الفردوس«. هذا ما استنتجوه ولكنهم لم يلمسوه. ولكن تأخرّ توما جعلهم يفتحون(73) القبر فيجدونه فارغاً… فظنوا أنه نُقل إلى الفردوس بيد ملائكة بهيئة إلهية.
أول مسألة تُطرح في هذا الإطار، مسألة انفصال النفس عن الجسد. هنا تختلف العقلية الساميّة حيث الإنسان كلٌّ واحد، عن العقلية اليونانية التي عرفت منذ أفلاطون انفصال النفس عن الجسد. والمسألة الثانية، حالة الأبرار بين الموت والدينونة العامّة. لا شكّ في أن الرسول أعلن أن المؤمنين، بعد الموت، يكونون مع الربّ كل حين (1 تس 4: 17). ولكن التردّد ما زال قائماً حول مصير الأبرار قبل الدينونة العظيمة. وقراءة رؤيا يوحنا تبيّن أنه كان تساؤل حول مصير الشهداء قبل المجيء، ومصير سائر الموتى. ولكن جاءت تطويبة تشجع المؤمنين: »الطوبى، منذ الآن، للأموات الذين يموتون في الربّ! أجل، يقول الروح، ليستريحوا من أتعابهم، فإن أعمالهم تصحبهم« (رؤ 14: 13). هم يستريحون، لا شك في ذلك. ولكن في أيّة حالة تكون نفوس الشهداء تحت المذبح السماويّ.
قالوا: »حتّى متى أيها السيد القدوس والحقّ، لا تقضي ولا تنتقم لدمنا من سكان الأرض« (رؤ 6: 10). والثوب الأبيض الذي يُعطى لهم، هو عربون رجاء بانتظار أن يتمّ عدد رفاقهم الذين في الخدمة وإخوتهم الذين سيُقتلون مثلهم« (رؤ 6: 11). والجواب الكامل أعطي في رؤ 20 مع رؤية المُلك لألف سنة: »فحَيوا وملكوا مع المسيح ألف سنة. أما باقي الأموات فلم يحيوا إلى تمام ألف سنة« (رؤ 20: 4- 5 ). إذن، ينعم الشهداء بمصيرٍ مميّز: يقتربون من شجرة الحياة (رؤ 2: 7 ؛ 22 : 2) ويشاركون المسيح في ملكه(74).
إذا كانت هذه الأسئلة طُرحت بالنسبة إلى الشهداء، فهذه الأخبار القديمة حول الرقاد قد طرحَتها بالنسبة إلى مريم. هنا يطرح السؤال حول تطوّر هؤلاء المؤلّفين للفردوس. رأى فيه الأقدمون : جنّة عدن، جنّة الأطياب. وهو على جبل عالٍ، ومنه طُرد آدم. إليه مضى أخنوخ وصوّره قال: »هذا الجبل العالي الذي تشبه قمّتُه عرشَ الله، هو كرسيّ يجلس عليه القدوس، العظيم، ربّ المجد، الملك الأبديّ، حين ينـزل ليفتقد الأرض في رضاه. أما الشجرة المعطّرة فلا يحقّ لبشر أن يلمسها قبل يوم الدينونة العظيمة«(75). هذا يُذكرنا بأن رؤيا يوحنا تتحدّث هي أيضاً عن شجرة الحياة وعن ثمرها (رؤ 2: 7؛ 22: 2). وما يميّز هذه الأوصاف هو أهميّة العطور. وترى »رؤيا بطرس« الآباء يقيمون »في جنة عظيمة مفتوحة مليئة بالأشجار الخصبة والثمار المباركة. وقد امتلأت بالأريج المعطّر«. أما في نصّ الرقاد فيتميّز الفردوس برائحته العذبة.
وحياة آدم وحواء في اليونانية(76) تقدّم لنا صورة عن المسافة الزمنيّة بين الانتقال إلى الفردوس والقيامة. حين مات آدم، دُعيت حواء إلى أن توقف ندامتها: »ها زوجك آدم ترك جسده، فانظري كيف يصعد الروح إلى الذي خلقه« (42: 4). هي مركبة ناريّة تحملها أربعة نسور تنقل (الأرواح) إلى الفردوس بانتظار اليوم العظيم الرهيب الذي فيه أحاسب العالم، يقول الله« (27: 5). أما الجسد، فأمرَ الله الملائكة بأن يحنّطوه ثم ينقلوه »إلى مناطق الفردوس، إلى الموضع الذي فيه حفر فأخذ تراباً وجبل آدم«. وفي حوار آخر، ذكر الله آدم أن عليه أن يعود إلى الأرض. مقابل هذا، وعده بالقيامة، له ولنسله (ف41).
بحسب هذه الصورة، اجتماع النفس والجسد لا يعني بعدُ ملء التمجيد الذي ننتظره في الدينونة العامّة. أما نصّ »الرقاد« اليونانيّ فلا يقول شيئاً عن دور مريم بعد انتقالها إلى الفردوس. ولكن في النصوص السريانية والحبشيّة، استكشفت مريم والرسل مواضع السعادة والشقاء، ثم عادوا إلى نقطة الانطلاق. هي تحت شجرة الحياة، وهم إلى الأرض.
وفي النهاية، يبقى السؤال الأساسي في أخبار »الرقاد« القديمة: عدم فساد جسد مريم. وهذا اللافساد يربطه اللاهوت بعدم وجود الخطيئة. قال منحول يوحنا: »جسدك المقدس والكريم لن يعرف الفساد…«. وقال يسوع: »حين تخرجين من الجسد، آتي أنا إلى جسدك، في اليوم الرابع«. هنا نقرأ مليتون السرديسي في صلاة تلاها الرسل عند قبر مريم: »أيها الربّ اخترت أمتك لتكون مقامك الذي لا عيب فيه…من العدل أنه كما قهرتَ الموتَ وملكتَ في المجد أن يقوم جسد مريم وتقودها في ملء الفرح إلى السماء«(77).
خاتمة
تلك كانت مسيرتنا في النصوص المنحولة، ولا سيما السريانية منها، للكلام عن رقاد مريم وانتقالها. تعرّفنا إلى العالم اليوناني والعالم القبطي. وكان بإمكاننا أن نتوقّف عند العالم اللاتيني والعالم الحبشيّ، لأن التوسّعات لم تكتفِ بأن تنقل ما سبق، بل أضافت أو نقّصت بحسب حاجتها. وتعرّفنا أيضاً إلى العالم السرياني، وكان بالإمكان أن نعود إلى امتداده في العالم الأرمني مع تشديده على الناحية النسكية. وفي النهاية، حاولنا اكتشاف المواضيع البيبليّة اليهودية في إطار الفكر اللاهوتيّ المنطلق من العهد الجديد والواصل بنا إلى نيقية وما بعد نيقية، كما إلى الصراع بين تقليد يحتفظ بيوم الأربعاء للعذراء مريم ويوم الأحد ليسوع، وتقليد يجمع مريم إلى يسوع ويحتفل بأعيادها يوم الأحد. أخبار الرقاد هذه نبتت في فلسطين، واغتنت بتقاليد حول موسى وأخنوخ، قبل أن تطرح السؤال حول موت مريم وحفظ جسدها من الفساد بعد أن حُفظ من الخطيئة. المسيح أتى إليها بنفسه والرسل اجتمعوا حولها، وقبرها وُجد فارغاً مثل قبر يسوع. بهذه الأخبار امتدحوا مريم بعد موتها وأنشدوا الأمَة التي صنع الله فيها عظائم.