عيد حلول الروح القدس العظة الأولى ليوحنا ذهبي الفم
1 ـ مرة أخرى نعيّد، مرة أخرى نحتفل، والكنيسة، تلك الأم المحبة جدًا ـ كثيرة الأولاد ـ تفتخر بكل هذا العدد من أولادها. ولكن ما فائدة تلك المحبة، إذا كانت لا ترى الأوجه المحببة لأولادها باستمرار، بل تراها في الأعياد فقط، مثل من يملك ثوبًا رائعًا ولكن لا يسمحون له بارتدائه باستمرار؟ لأن ثوب الكنيسة هو هذا الجمع الذي يأتي إلى الكنيسة، كما يقول النبي بالوحى الإلهي:” إنك تلبسين كلهم كحلى وتتنطقين بهم كعروس” (إش18:49).
وبالضبط كما أن المرأة العاقلة والحرة داخليًا تظهر أكثر احترامًا وأكثر احتشامًا عندما ترتدى الملابس الطويلة حتى قدميها، هكذا فالكنيسة تبدو اليوم أكثر بهجة لأنها محاطة بالعدد الغفير من أجسامنا ورداؤها طويل، ولا يمكن أن ترى اليوم جزءً منها عاريًا (خاليًا منا) [1] كما في الأيام السابقة، حيث كان الذين حضروا اليوم فقط سببًا في عرى الكنيسة بالأمس، هؤلاء الذين لا يهتموا بالأمر. ولكي نعرف أنه ليس بالخطر البسيط أن تُترك الأم عارية، علينا أن نتذكر قصة قديمة. لنتذكر ذلك الذي نظر والده عاريًا وعُوقب من أجل هذا فقط (تك20:9ـ27) ومع أنه لم يكن هو الذي عرى أبيه بل فقط نظره وهو عارٍ فإنه مع ذلك لم يُعف من العقاب. لكن الذين أتوا اليوم فقط ولم يأتوا في الأيام السابقة لم ينظروا الأم عارية، لكنهم هم الذين عروها. فإن كان ذاك الذي نظر العرى فقط لم يفلت من العقاب، فكيف يُصفح عن هؤلاء الذين كانوا سببًا في العرى.
وما أقوله هنا لا أريد به أن أوبخكم بل أريد أن أجنبكم العقوبة، لكي تتجنبوا لعنة “حام”، ولنتمثل بمحبة “سام” و”يافث” ونوقر نحن أيضًا أمنا دائمًا.
إن التقاليد اليهودية كانت تحتم على الشعب اليهودي أن يظهروا أمام الله ثلاث مرات في السنة. فقد قال لهم الرب” ثلاث مرات في السنة يظهر جميع ذكورك أمام السيد الرب” (خر7:23).
أما نحن فالرب يريدنا أن نظهر أمامه دائمًا. فهؤلاء كانوا يجتمعون ثلاث مرات فقط بسبب بُعد المسافات إذ أن عبادة الله حينذاك كانت محدودة في موضع معين، ولهذا كان ظهورهم أمام الله قليلاً، لأنه كان من الضروري أن يحجوا لأورشليم وليس لموضع آخر. ولهذا فقد أعطاهم وصية أن يظهروا أمام الرب ثلاث مرات في السنة، وكان بُعد المسافات عذرًا معقولاً بالنسبة لهم. الأمر الذي لا نعانى نحن منه. فقد كانوا مشتتين في كل أرجاء الأرض إذ يقول” وكان يهود رجال أتقياء من كل أمة تحت السماء ساكنين أورشليم” (أع5:2).
أما نحن، وإن كنا لا نقطن كلنا في مدينة واحدة، إلاّ أنه تجمعنا أسوار واحدة وفى كثير من الأحيان لا يفصلنا عن الكنيسة ولا حتى شارع ضيق، ومع ذلك فنحن نأتي إلى هذا الاجتماع المقدس مرات قليلة مثل هؤلاء الذين كانت تفصلهم بحار.
لهؤلاء أعطى الرب وصية أن يظهروا أمامه ثلاث مرات في السنة، أما لنا نحن فقد أوصانا أن نعيّد دائمًا، لأن لدينا عيدًا دائمًا ولكي تعلموا أن لدينا عيدًا دائمًا سأقول لكم عن موضوع كل عيد وستعرفون أن كل يوم هو عيد عندنا.
عيدنا الأول هو عيد الأبيفانيا: فما هو موضوع هذا العيد؟ يقول باروخ النبى:” وبعد ذلك تراءى على الأرض ومشى بين الناس” (باروخ38:3)، لأن ابن الله الوحيد هو معنا وإلى الأبد لأنه يقول” انظروا هاأنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر” (مت20:28)، ولهذا فمن الممكن أن نعيّد الثيوفانيا (عيد الظهور الإلهي) كل الأيام.
ولأي سبب نحتفل بالبصخة؟ (عيد القيامة) وما الداعى لهذا العيد؟،
فى ذلك العيد نبشر الكل بموت الرب، وهذا هو معنى البصخة، إلاّ أنه ولا حتى هذا نفعله في وقت معين.
والرسول بولس يريد أن يعفينا من التقيد بالتحديدات الزمنية، ولكي يبرهن لنا على أنه يمكننا أن نحتفل دائمًا بالبصخة فإنه يكتب قائلاً” لأنه في كل مرة تأكلون من هذا الخبز وتشربون من هذه الكأس تبشرون بموت الرب” (1كو26:11).
فطالما نستطيع دائمًا أن نبشر علنًا بموت الرب، فإننا نستطيع دائمًا أن نحتفل بالبصخة (بعيد القيامة).
أتريدون أن تعلموا أنه يمكن الاحتفال كل يوم بالعيد الذي نعيّد له في هذا اليوم؟ لنرى سبب هذا العيد ودواعى احتفالنا به: نحتفل بهذا العيد لأن الروح القدس قد أتى إلينا، لأنه كما أن ابن الله الوحيد هو مع المؤمنين، هكذا فإن الروح القدس هو أيضًا بالتمام معكم. ومن أين نعرف هذا؟ يقول السيد المسيح إن “من يحبنى“، ويكمل قائلاً “سيحفظ وصاياى وأنا سأطلب من الآب فيعطيكم معزيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد” (يو15:14ـ 17). كما قال السيد المسيح عن نفسه” إنى سأمكث معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر” ولهذا نستطيع أن نعيّد لعيد الظهور الإلهى[2]، هكذا قال عن الروح القدس إنه معكم إلى انقضاء الدهر ولهذا نستطيع أن نعيّد دائمًا عيد الخمسين.
2 ـ أرأيت أنه لم يقيدك بوقت معين، لكنه يشجعك على أن يكون لك خمير نقى؟
وأريد أن أخصص كل عظتى لهذا الأمر لأن أولئك الذين يقبضون على آخرين بعد جهد كبير لا يخلون سبيلهم بسهولة. ولأنى أمسكتكم في شباكى بعد زمن طويل، أنتم الذين جئتم إلى هنا بعد غياب، فإنى لا أريد أن أترككم اليوم. ولكي لا تمضوا بدون أن تسمعوا شيئًا عن هذا العيد، فإنى سأخصص حديثى الآن عن سبب هذا العيد.
لقد أُعطى الجنس البشرى كله خيرات كثيرة من السماء ولمرات عديدة، أما مثل خيرات هذا العيد فلم يُعطَ أبدًا قبل هذا اليوم.
اعلموا إذن ما هي الخيرات السابقة وما هي خيرات اليوم لتعرفوا الفرق بينهما. يقول المزمور” وأمطر عليكم منًا للأكل، وبَرُّ السماء أعطاهم” (مز24:78).
إذن فقد أكل الإنسان خبز الملائكة. إن هذا الأمر عظيم وجدير بمحبة الله للبشر. ثم بعد هذا أرسل نارًا وأعاد شعب إسرائيل إلى طريق الرب بعد أن كانوا قد ابتعدوا عنه، ثم أصعد ذبيحتهم من على المذبح. ثم سقط المطر مرة أخرى عندما كادوا يهلكون من الجوع وجعل حصاد ذلك العام وفيرًا.
عظيمة هي هذه المعجزات، لكن أعظم منها هي معجزات اليوم. لأن اليوم لم يسقط مَنّ ولا نار ولا مطر من السماء، لكن هطلت بركات روحية غزيرة. سقط من السماء مطر لا لكي يجعل الأرض تفيض بالأثمار، بل لكي يقنع الجنس البشرى فيقدم ثمار الفضيلة لفلاّح البشرية (المسيح). وهؤلاء الذين تقبلوا قطرة من هذا المطر السماوى، أنكروا ذواتهم على الفور، وفجأة امتلأت الأرض كلها بملائكة، ملائكة ليست سماوية لكن مظهرين بأعمال أجسادهم البشرية فضائل القوات غير المتجسدة.
لأن الملائكة لم تهبط من السماء، لكن الأمر الأكثر عجبًا هو أن البشر قد صعدوا إلى مرتبة فضائل الملائكة. وأعنى أنهم لم يتجولوا كنفوس مجردة عارية، بسبب إهمالهم الاهتمام بأجسادهم، لكنهم وهم في الجسد صاروا ملائكة في الفضيلة.
ولكي تعلم أن العقاب الأول (لآدم) لم يكن عقابًا، أى عندما قال الله” أنت تراب وإلى التراب تعود” (تك19:3) فقد تركك لتبقى على الأرض، لكي تظهر بالأكثر قوة الروح القدس، وذلك حينما يصل هذا الجسد الترابى إلى مثل تلك الإنجازات (الروحية). (إذًا بواسطة عمل الروح القدس في الإنسان) أمكن للمرء أن يرى لغة تخرج (من فم) ترابى وتقدر أن تشفى المرض، وأكثر من هذا، فإنه لم تُرَ اليد فقط، لكن أشياء أكثر أعجازًا، فظلال الأجساد التي هي من طين أمكنها أن تنتصر على الموت وعلى قوات الشر غير المتجسدة، وأعنى الشياطين.
لأنه كما ينقشع الظلام بشروق الشمس وكما تختبئ الوحوش الكاسرة داخل جحورها وكما يهرب القتلة واللصوص ونباّش القبور إلى قمم الجبال، هكذا عندما بدأ بطرس الرسول كلامه، انقشع ظلام الضلالة وهرب الشيطان، وفرت قوات الشر واختفت الأمراض الجسدانية، وشُفيت النفوس المريضة، وتلاشت كل الشرور وعادت الفضيلة إلى الأرض.
وكما أنه إن استطاع أحد العاملين بالخزائن الملّكية التي تحوي الذهب والأحجار الكريمة أن يحصل بموافقة المختصين على إحدى هذه الجواهر أو الأحجار حتى ولو كانت صغيرة، فإنه يصير غنيًا جدًا. هكذا صار أيضًا للكلمات التي خرجت من أفواه الرسل، إذ أن أفواههم كانت خزائن ملكية حُفظ في داخلها كنز شفى أمراضًا كثيرة. وكل كلمة خرجت كانت سببًا في ثراء روحى كبير.
فقد كان ممكنًا حينذاك أن يرى المرء بالفعل أن كلمات الرب كانت تمثل مشتهى كثيرين أكثر من الذهب والأحجار الكريمة. إذ أن الأمر الذي استعصى تنفيذه بواسطة الذهب والأحجار الكريمة تحقق بكلام بطرس الرسول. فبالفعل كم هي عدد الدراهم التي كان يمكن أن تشفى ذلك الذي كان مقعدًا منذ ولادته؟ لكن استطاعت كلمات بطرس أن تقيمه من عجزه الطبيعى هذا. فقد قال له “ باسم يسوع المسيح قم وامش” (أع6:3) وقوله تحقق في الحال.
أرأيت كيف أن كلمة الرب هي مشتهاة أكثر من الذهب والأحجار الكريمة؟ أرأيت كيف أن أفواه الرسل كانت خزائن ملكية؟
بالفعل كان الرسل أطباء، وزرّاع، وربانية سفن؛
كانوا أطباء، لأنهم شفوا مرضى،
وزرّاع، لأنهم بذروا كلمة التقوى،
وربانية، لأنهم أسكتوا نوات الضلال.
ولهذا فقد قال لهم الرب مرة” اذهبوا واشفوا المرضى” (مت8:15). كما لو أنه يتحدث إلى أطباء،
ومرة أخرى قال لهم” أرسلكم الآن لتحصدوا ما لم تتعبوا في غرسه” (يو38:4)، كما لو كان يتكلم مع زرّاع،
وفى موضع آخر قال لهم “سأجعلكم صيادى الناس” (مت19:4)، وقال لبطرس” لا تخف، من الآن تكون تصطاد الناس” (لو10:5) وكأنه يتحدث إلى ربانية سفن وصيادين. وهكذا فقد كان من الممكن أن يرى المرء معجزة تلى معجزة.
لقد صعدت الطبيعة البشرية قبل عشرة أيام إلى عرش الله الملوكى واليوم حلّ الروح القدس عليها. لقد أصعد الرب باكورتنا وأرسل لنا الروح القدس. والروح أيضًا هو رب، وهو واهب هذه العطايا. فهو والآب والابن يدبرون كل احتياجاتنا.
فقبل عشرة أيام صعد المسيح إلى السماء، وأرسل لنا مواهب روحية، وعطايا هذه المصالحة. ولكي لا يشك أحد إذن، أو يتساءل:” ماذا فعل المسيح عندما صعد إلى السماء، هل صالحنا مع الآب؟ هل جعل الآب يسامحنا؟ ولكي يُظهر لنا أنه قد صالح الجنس البشرى بالآب، فقد أرسل لنا مباشرة عطايا هذه المصالحة، لأنه عندما يتصالح الأعداء، فإنهم حالاً ما يتبادلون كلمات الأمنيات الطيبة والولائم والهدايا.
لقد قدمنا نحن إيماننا، وأخذنا عطايا سماوية، قدمنا طاعة، وأخذنا تبريرًا.
3 ـ ولكي تعلموا أننا أخذنا الروح القدس كعطية تصالح الله معنا. سأحاول أن أقنعكم من الكتاب المقدس. وسأبدأ أولاً بمحاولة إثبات العكس وإثبات أن الله لا يرسل نعمة الروح القدس إذا كان غاضبًا منا، لكيما إذا اقتنعت بأن غياب الروح القدس هو دليل غضب الله، تتأكد أن إرساله مرة أخرى هو دليل المصالحة، لأنه لو لم تكن المصالحة قد تمت لَما أرسل الروح القدس. من أين لنا أن نعرف ذلك؟
كان عالى (الكاهن) إنسانًا متقدمًا في السن وكان صالحًا وتقيًا في كل شئ، غير أنه لم يكن يعرف كيف يُصلح أخطاء أولاده، إذ كان يحبهم بطريقة مبالغ فيها، واسمعوا أنتم يا من لديكم أبناء، وليكن لديكم المعايير المناسبة في محبتكم لأولادكم (حتى لا تفسدوهم) وليكون الاحترام قائم بينكم.
لقد أثار عالى، بفعله هذا، غضب الله جدًا إلى الحد الذي جعل الله يصرف وجهه عن كل جنس عالي الكاهن. ولكي يُظهر كاتب السفر موقف الله الغاضب قال “ وكانت كلمة الرب عزيزة في تلك الأيام لم تكن رؤيا كثيرًا” (1صم1:3)، ومعنى أن الكلام عزيز هو ندرته، إذ بقوله هذا أوضح أن النبوات كانت نادرة.
وشخص آخر كان يبكى وينتحب لأجل غضب الله” ليس لنا في هذا الزمان رئيس ولا نبي ولا قائد ولا محرقة ولا ذبيحة ولا تقدمة ولا بخور ولا موضع لتقريب البواكير أمامك” (دا38:3)، والإنجيلي يقول أيضًا “ لأن الروح لم يكن قد أُعطى بعد لأن يسوع لم يكن قد مُجد بعد” (يو39:7). بمعنى أنه لم يكن “قد صُلب” بعد، فإن الروح لم يكن قد أُعطى بعد للبشر وذلك لأن “قد صُلب” معناها” قد مُجد” ورغم أن عملية الصلب بطبيعتها عملية مهينة، لكن لأنها تمت لأجل من أحبهم، فلهذا يدعوها المسيح “مجد”.
لكن ما هو السبب في أن الروح القدس لم يُعط قبل الصلب؟ لأن البشرية كانت تعيش في الخطية وفى العثرات، وفى البغضة والضلال، إذ أن الحمل الذي حمل خطايا العالم، لم يكن قد قُدم ذبيحة بعد. المسيح لم يكن قد صُلب، لذلك لم تكن هناك مصالحة، وبما أنه لم تكن هناك مصالحة، كان من المناسب عدم إرسال الروح القدس. وبالتالى، بما أنه أرسل الروح القدس فهذا يعنى أن المصالحة قد تمت. ولهذا قال السيد المسيح” إنه خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى” (يو7:16). إن لم أنطلق ـ يقول ـ لا تتم المصالحة مع الآب، ولذلك لن أرسل لكم المعزى.
أرأيتم بكم من البراهين أشرنا إلى أن غياب الروح القدس من بين البشر كان علامة على غضب الله؟” كانت كلمة الرب عزيزة، ولم تكن رؤيا كثيرًا“،” ليس لنا في هذا الزمان رئيس ولا نبي ولا قائد ولا محرقة ولا ذبيحة ولا تقدمة ولا بخور ولا موضع لتقريب البواكير أمامك“، لماذا “لأن الروح لم يكن قد أُعطى بعد لأن يسوع لم يكن قد مُجد بعد“.” خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى“. وعندما ترى أن الروح القدس يأتى بغنى فلا تشك إطلاقًا في أن هذه المصالحة قد تمت.
ويمكن أن يسأل أحد: أين هو الروح القدس الآن؟. لأنه عندما كانت تحدث المعجزات، ويقوم الأموات، ويتطهر البرّص، كان يمكن التحدث عن عمل الروح القدس، أما الآن كيف نثبت أن الروح القدس معنا؟ لا تخافوا لأنى سأبين لكم كيف أن الروح القدس معنا الآن. كيف وبأى طريقة؟ إن لم يكن الروح القدس معنا الآن بالفعل، كيف يتطهر الذين تعمدوا من خطاياهم في تلك الليلة المقدسة لأنه لا يقدر أحد أن يتخلص من خطاياه بدون فعل الروح القدس.
واسمعوا الرسول بولس الذي يقول” لأننا نحن أيضًا كنا أغبياء وغير طائعين ضالين مستعبدين لشهوات ولذّات مختلفة عائشين في الخبث والحسد ممقوتين مبغضين بعضنا بعضًا، ولكن حين ظهر لطف مخلصنا الله وإحسانه لا بأعمال في بر عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس” (تيطس3:3ـ5). وفى موضع آخر يقول” لا تضلوا لا زناة ولا عبدة أوثان ولا فاسقون ولا مابونون ولا مضاجعو ذكور ولا سارقون ولا طماعون ولا سكيرون ولا شتامون ولا خاطفون يرثون ملكوت الله” (1كو9:6ـ10)، أرأيت كل هذه الشرور “وهكذا كان أناس منكم لكن اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا” (1كو11:6).
كيف تم هذا؟ هذا ما نريد أن نعرفه. هل غُفرت الخطايا بعمل الروح القدس؟ فلنسمع” لكن اغتسلتم بل وتقدستم لأنكم اعتمدتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا“. أرأيت إذن أن الروح القدس يمحو كل هذه الخطايا؟
4 ـ أين هم الآن الذين يجدفون على الروح القدس؟ لأنه إن كان لا يمحو الخطية، فستكون المعمودية بلا هدف، وإن كان يمحو الخطايا، فباطل إذن تجديف الهراطقة.
وإن لم يكن هناك الروح القدس، فلم نكن لنستطع الاعتراف بأن يسوع هو رب “ ليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلاّ بالروح القدس” (1كو3:12). ولو لم يكن الروح القدس موجودًا لما استطاع المؤمنون أن يتضرعوا قائلين” أبانا الذي الذي في السموات” (مت9:6). ومثلما لم نكن نقدر (بدون الروح القدس) أن نشهد أن المسيح رب، هكذا أيضًا لم نكن نقدر بدونه (بدون الروح) أن ندعو الله أبانا. وبماذا نثبت قولنا هذا؟ من قول الرسول نفسه” وبما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخًا يا أبا الآب” (غلا6:4)، حتى أنك عندما تدعو الله قائلاً:” أبانا” فتتذكر أنك استحققت أن تدعو الله أباك بسبب أن الروح قد دفعك إلى هذا.
وإن لم يكن الروح القدس موجودًا لما كان في الكنيسة روح الحكمة والمعرفة “ لأنه لواحد يعطى بالروح كلام حكمة ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد” (1كو8:12). ولو لم يكن الروح موجودًا في الكنيسة لما كان فيها رعاة ومعلمين. إذ أن هؤلاء يقيمهم الروح القدس كما يقول بولس الرسول” … ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه” (أع28:20). وأنظر أيضًا فإنه حتى ما يحدث هنا هو من عمل الروح القدس.
فإن لم يكن الروح القدس في أبينا ومعلمنا هذا[3] والذى صعد منذ قليل على المنبر وبارككم جميعًا قائلاً “السلام لجميعكم” لِما قلتم له جميعًا” ولروحك أيضًا”. وأنتم لا تجاوبونه هكذا فقط عندما يصعد إلى المنبر، أو عندما يعظكم أو يصلى لكم، ولكن أيضًا عندما يقف بجانب هذه المائدة المقدسة وهو مزمع أن يقدم عليها هذه الذبيحة المهوبة، والمرتلين يعرفون ما أقوله.
فهو لا يمس القرابين الموضوعة أمامه قبل أن يدعو لكم بنعمة الرب، وأنتم تجاوبونه قائلين “ومع روحك أيضًا”. وبهذه الإجابة تذكرون أنفسكم بأن هذه الجواهر ليست من صنعه أو من صنع إنسان، بل هي هكذا بواسطة نعمة الروح القدس، الحاضر والذي يرفرف فوق الجميع، ليعد تلك الذبيحة السرية.
لأنه حتى وإن كان الذي يقف هناك هو إنسان، غير أن الله هو العامل فيه. فلا تنشغل إذن بالإنسان الذي تراه، بل اهتم بأن تعي عمل نعمة الله غير المنظورة. فلا شئ مما يحدث في هذا الهيكل المقدس هو بشرى، فلو لم يكن الروح القدس حاضرًا لما تأسست الكنيسة، وطالما أنه توجد الكنيسة فهذا بفضل حضور الروح القدس.
وربما يتساءل أحد، لماذا لا تحدث معجزات اليوم؟ هنا أرجوكم أن تنتبهوا بشدة، لأني أسمع عن هذا الأمر من كثيرين وفى كل مكان وباستمرار يطلبون تفسيرًا له. لماذا كان الذين تعمدوا حينذاك يتكلمون بألسنة عديدة والآن لا يحدث نفس هذا الأمر؟ فلنعرف أولاً ماذا يعنى أنهم كانوا يتكلمون بألسنة وبعد ذلك سنتحدث عن سبب ذلك. ماذا يعنى إذن أنهم كانوا يتكلمون بألسنة غريبة؟
فالذي تعمد حينذاك كان يتكلم مباشرة بلغات الهنود والمصريين والفرس والعرب وكان الشخص الواحد منهم يتكلم عدة لغات. ولو كان الذين قد تعمدوا اليوم، قد تعمدوا حينذاك لسمعناهم يتكلمون مباشرة لغات مختلفة. لأن بولس يقول إنه تقابل مع جماعة كانوا قد تعمدوا بمعمودية يوحنا فقال لهم” هل قبلتم الروح القدس لما آمنتم؟ فأجابوا: ولا سمعنا أنه يوجد الروح القدس” (أع2:19). فأشار عليهم مباشرة أن يتعمدوا “ولما وضع بولس يديه عليهم حل الروح القدس فطفقوا يتكلمون بألسنة” (أع6:19).
فلماذا إذن رُفعت هذه الموهبة وغابت من بين البشر؟ ليس بسبب أن الله لا يُكرّمنا، بل على العكس لأنه يُكرّمنا جدًا، كيف؟ سأقول لكم.
لقد كانت تصرفات البشر حينذاك أكثر مجونًا إذ لم يكن قد مضى وقت طويل على تركهم لعبادة الأوثان، وكانت أذهانهم أكثر بُعدًا عن فهم الأمور الروحية بل وغير حساسة لما يحدث أمامهم فصاروا مندهشين لما يدور حوله. ولم يكن لديهم أى معرفة عن المواهب الروحية أو حتى عن ماهية النعمة الروحية التي يستطيع المرء بالإيمان فقط أن يدركها، ولهذا حدثت المعجزات. لأنه من بين العطايا، يوجد ما هو غير مرئى ويمكن إدراكه بالإيمان فقط، والبعض الآخر مصحوب بعلامات لكي يراها المؤمنين.
وكمثال لما أقصده هو الآتى: غفران الخطايا، هو أمر روحى، هو عطية غير مرئية، إذ أننا لا نرى بعيون الجسد كيف نتطهر من خطايانا. لكن لماذا؟ لأن النفس هي التي تتطهر والنفس لا ترى بعيون الجسد.
التطهير من الخطايا إذن، هي إحدى العطايا الروحية ولا يمكن رؤيتها بعين الجسد، وأن يتكلم شخص بألسنة غريبة هو بالطبع أيضًا عطية روحية من فعل الروح القدس، ولكنه يُعطى بعلامة حسية يدركها المؤمنين بسهولة. فاللغة لأننا نسمعها، فهى إظهار ودليل على الطاقة غير المرئية التي تحدث داخل نفوسنا “لكنه لكل واحد يعطى إظهار الروح للمنفعة” (1كو7:12).
فأنا إذن لست بحاجة إلى دليل أو علامة، ولماذا؟ لأني تعلمت أن أؤمن بالرب بدون أن يعطيني أية آية، لأن ذلك الذي لا يؤمن يحتاج إلى ضمان، أما أنا فلا أحتاج إلى ضمان لأني أؤمن، ولا حتى إلى علامة، ولكن حتى وإن كنت لا أتكلم بلسان غريب، فأنى أعرف أنى قد تطهرت من الخطية.
فهؤلاء الذين تعمدوا حينذاك، لم يكونوا ليؤمنوا إن لم يكونوا قد حصلوا على علامة. لهذا فقد أعطاهم آية كضمان للإيمان الذي آمنوا به. وبالتالي فقد أعطاهم آية ليس لأنهم كانوا مؤمنين بل لأنهم كانوا غير مؤمنين ولكي يصيروا مؤمنين، هكذا يقول بولس الرسول” إذًا الألسنة آية لا للمؤمنين بل لغير المؤمنين” (1كو22:14).
أرأيتم أن توقف الله عن عمل المعجزات هو دليل ليس على عدم تكريم الله لنا بل على تكريمه لنا؟. ولماذا فعل هذا معنا؟ لأنه يريد أن يُظهر إيماننا، إننا نؤمن به بدون ضمانات أو معجزات. إن أولئك الذين تعمدوا حينذاك، لو لم يكونوا قد حصلوا على بعض الضمانات والإثباتات أولاً، لَما كان في استطاعتهم أن يؤمنوا بالله بواسطة أمور لا تُرى. أما أنا فبدون هذه الأمور (المرئية) فإنى أؤمن بكل قلبى. وهذا هو السبب إذن في عدم حدوث معجزات الآن.
5 ـ أود أن أتكلم أيضًا عن سبب هذا العيد وأن أبيّن بالضبط ما هو عيد الخمسين ولماذا أُعطيت مواهب الروح القدس على هيئة ألسنة نار في ذلك اليوم، ولماذا كان ذلك بعد صعود المسيح بعشرة أيام.غير أنى أرى إنى أطلت الحديث، ولهذا سأتوقف بعد أن أضيف شيئًا صغيرًا” ولِمّا حضر يوم الخمسين كان الجميع معًا بنفس واحدة، وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار واستقرت على كل واحد منهم” (أع1:2ـ3).
ليست ألسنة من نار، لكن كأنها من نار، لئلا تعتقد أن الروح القدس هو شئ محسوس، مثلما في نهر الأردن حيث حل، ليس كحمامة، لكن في شبه حمامة. وهكذا هنا ظهر لا نار (فعلاً) بل في شبه نار. وأيضًا يذكر سفر الأعمال أنه” صار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة” (أع2:2)، لا يقول إنه هبوب ريح، بل يقول “كما من هبوب ريح عاصفة “.
وما هو السبب في أن حزقيال لم يأخذ موهبة النبوة بشكل مماثل وعلى هيئة نار لكن أخذه في درج (حز9:2)، بينما أخذ الرسل المواهب بواسطة ألسنة كأنها من نار؟
بالنسبة لحزقيال، يقول الكتاب إن الله أعطى له درج مكتوب فيه مراثى ونحيب وعويل، وكان مكتوبًا من الداخل ومن قفاه (حز10:2). فأكل حزقيال الدرج فصار في فمه كالعسل حلاوة (حز3:3). أما عن الرسل فلا يقول هكذا بل يقول “ وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار”. فلأى سبب إذن ظهر هناك درج وهنا ألسنة كأنها من نار؟ لأن حزقيال كان سيذهب ليرثى خطايا اليهود وينتحب على خرابهم، أما الرسل فإنهم كانوا سيذهبون في شتات الأرض ليغفروا خطايا جميع الناس. ولهذا فإن حزقيال قد أخذ درجًا كتب فيه الخراب الذي كان مزمعًا أن يحدث لليهود، أما الرسل فقد أخذوا نارًا ليحرقوا خطايا البشر ويغفروها. لأنه كما أن النار تقع على الأشواك فتمحوها، هكذا تمحو نعمة الروح القدس خطايا البشر.
لكن اليهود، عديمى الإحساس، عندما حدث هذا، بينما كان عليهم أن يتعجبوا وفى رهبة يسجدون لذلك الذي منح هذه المواهب، نراهم قد أظهروا مرة أخرى عدم فهمهم متهمين الرسل الذين نالوا بغنى مواهب الروح القدس، بأنهم سكارى إذ قالوا “ وكانوا آخرون يستهزئون قائلين إنهم قد امتلأوا سلافة” (أع13:2). لاحظ هنا كيف ينكر البشر المعروف وكيف يقدره الملائكة، إذ أن الملائكة عندما نظروا باكورتنا[4] وهو صاعد إلى السماء، فرحوا وقال “ ارتفعن أيتها الأبواب الدهريات فيدخل ملك المجد” (مز8:24).
أما البشر فعندما رأوا نعمة الروح القدس وهى تحل علينا قالوا إن هؤلاء الذين تقبلوا هذه النعمة سكارى. بل أن هؤلاء اليهود لم يعرفوا حتى مواسم السنة الزراعية، لأنه من غير الممكن أن يتواجد في فصل الربيع (وقت الاحتفال بعيد الخمسين حينذاك) هذا النوع من العنب حلو المذاق الذي يصلح لعمل هذا النوع من الخمر.
لكن لنترك هؤلاء، ولنفحص نحن عطية الله محب البشر لنا. لقد أخذ المسيح طبيعتنا وأعطانا في المقابل نعمة الروح القدس. وكما يحدث في الحرب التي يطول مداها أنه عندما تتوقف المعارك ويحل السلام، فإن الأعداء يتبادلون الضمانات والأسرى، هكذا صار بين الله والبشر، فلقد أصعد المسيح باكورة طبيعتنا إلى السماء، إلى الله كعربون وضمان، وأرسل لنا الله الروح القدس كضامن.
وما يبين أن ما لدينا هو عهد وضمان ما يأتى. المتعهد والضامن لابد أن يكونا من جنس ملوكى. ولهذا أرسل الروح القدس إذ هو من جوهر ملوكى فائق، وأيضًا ما قُدم من جهتنا كان من جنس ملوكى، إذ كان من نسل داود ولهذا فنحن لا نخاف بعد، طالما أن باكورتنا هي في السماء. وحتى إن هددنى شخص بالعذاب الأبدى وبالنار التي لا تُطفأ أو بأى عقاب آخر، فلن أخاف إذن. أو بالحري سأخاف غير أنى لن أكون يائسًا من خلاصى. لأنه لو كان الله لم يَرِد خيرات عظيمة للإنسان، لما كان قد قَبِلَ باكورتنا في السماء.
فقبل ذلك ـ عندما كنا نتطلع إلى السماء ونفكر في القوات السمائية غير المتجسدة، كنا نتأكد بالأكثرـ بالمقارنة مع هذه القوات ـ من ضعفنا. أما الآن، فعندما نريد أن نرى ما صار لنا من كرامة فإننا نتطلع عاليًا نحو السماء إلى عرش الله نفسه لأن هناك تجلس باكورتنا. وهكذا سيأتى ابن الله من السماء ليديننا. فلنستعد إذن لكي لا نخسر ذلك المجد لأن سيدنا قادم بالتأكيد ولن يتأخر. سيأتى ومعه قوات وطغمات الملائكة وأرباب ورؤساء ملائكة، وأجيال الشهداء وجماعات الأتقياء، وكثير من الأنبياء والرسل ووسط هذه الكوكبة سيظهر الملك بمجد لا يُوصف ولا يُعبر عنه.
6 ـ لنفعل إذن كل ما في جهدنا لكي لا نخسر ذلك المجد. أتريدون أن أقول لكم عن الأشياء المخيفة أيضًا؟ لا لكي أحزنكم بل لكي أًصلِحَكم. حينذاك سوف يجرى نهر من نار قدامه (دانيال 10:7) وسوف تُفتح الأسفار. وستكون محاكمة رهيبة. فكما في المحكمة تُقرأ عرائض تخص أعمالنا، وهكذا يتكلم الأنبياء عن هذه الأسفار. فيقول موسى” والآن إن غفرت خطيتهم. وإلاّ فامحنى من كتابك الذي كتبت” (خر32:32). كما أن السيد المسيح قال لتلاميذه” لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم بل افرحوا بالحري أن أسماءكم كُتبت في السموات” (لو20:10) وداود أيضًا كتب قائلاً” رأت عيناك أعضائي وفى سفرك كلها كتبت” (مز16:138). وأيضًا قال “ليُمحو من سفر الأحياء ومع الصديقين لا يُكتبوا” (مز29:69).
أترى أن البعض تُكتب أسمائهم والبعض تمحى أسمائهم؟ أتريد أن تعلم أنه ليس فقط أسماء الأبرار هي التي تُكتب في هذه الأسفار بل وأيضًا خطايانا؟
اليوم عيد واليوم نتعلم أمورًا تقدر أن تنجينا من الهلاك. الكلمات مرعبة لكنها مفيدة ونافعة، إذ هي قادرة أن تنقذنا من التهاون في حياتنا الروحية. ولنعلم إذن أن خطايانا تُسجل، وأيضًا ما نقوله هنا في الحال يُكتب هناك. لكن من أين عرفنا هذا؟ لأنه ليس من اللائق أن نتكلم باستخفاف في أمور هكذا. يقول ملاخي لليهود” لقد أتعبتم الرب بكلامكم” وبأى طريقة؟ يقول “بقولكم كل من يفعل الشر فهو صالح في عينى الرب” (ملاخى17:2).
هذه الكلمات هي أقوال عبيد ينكرون المعروف ومع هذا فقد قبلهم الله إذ يقول الكتاب إنه قَبِل هؤلاء الذين لم يخدموه بل قالوا عنه” عبادة الله باطلة وما المنفعة من أننا حفظنا شعائره وأننا سلكنا بالحزن قدام رب الجنود والآن نحن مطوبون المستكبرين” (ملاخى14:3ـ15)، أى يقولون إنهم طوال النهار يعملون وآخرين يتمتعون بالخيرات. مثل هذه الأقوال يرددها العبيد دائمًا أمام سادتهم.
وأن يقولها إنسان لإنسان آخر مثله، فهذا أمر ليس بهذه الخطورة، أما أن يقول شخص مثل هذه الكلمات لرب الكون كله ـ الذي هو رحيم ومحب البشر ـ فهذا أمر خطير فعلاً ويفوق كل حكم ويستحق أشد العقاب. لكن لنعلم أن هذه الأقوال تُدون، أسمع ما يقوله النبي “والرب أصغى وسمع وكتب أمامه سفر تذكرة للذين اتقوا الرب وللمفكرين في اسمه” (ملاخى16:3). وهذه الأقوال تُدون، لا لأن الله سيذكّرنا باليوم الذي قلناها فيه لكن لكي يحضر لنا السفر كشهادة علينا لإدانتنا.
ربما أكون قد أثرت مشاعر الخوف في نفوسكم، وليس فقط نفوسكم بل بالحري في نفسي أنا أولاً أيضًا. وهيا لأختم عظتى، بل بالحري لأوقف الخوف، والأفضل من ذلك، أنى لا أوقف الخوف فقط، بل أتكلم بكلمات معزية لنفوسكم. لأنه حتى إن بقى الخوف، فليبق ليطهر ولينقى نفوسنا، ولنجعله أكثر احتمالاً.
فكيف سنستطيع إذن أن نحدّ من هذا الخوف؟ إن نحن بيّنا أن الخطايا لا تُدون فقط لكنها أيضًا تُمحى. ففى المحاكم هنا تدون الأقوال التي يُدان بها المتهم، في صحائف فورًا، ولا يمكن أن تُمحى هذه الأقوال بعد ذلك. أما في ذلك السفر حتى وإن فعلت بعض الشرور وأردت أن تمحى فإنها تُمحى.
ومن أين نعرف هذا؟ من الكتاب المقدس إذ يقول” استر وجهك عن خطاياى وامح كل آثامى” (مز9:51). ولن يستطيع شخص أن يمحو شيئًا لم يُكتب وبالتالى إذا كانت هذه الآثام قد دونت، فالآن هو يصلى أن تُمحى.
وشخص آخر يعلّم كيف تُمحى هذه الآثام فيقول” بالرحمة والحق يستر الإثم” (أم6:16). فهى لا تُشطب فقط بل تُمحى تمامًا حتى أنه لا يتبقى لها أثر. وليست الخطايا التي عملناها بعد المعمودية فقط هي التي تُمحى ؛ بل والتي عُملت قبلها أيضًا. فكل الخطايا قد مُحيت بمياه المعمودية وبصليب المسيح. تمامًا كما يقول الرسول بولس” إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض الذي كان ضدًا لنا وقد رفعه من الوسط مسمرًا إياه بالصليب” (كو14:2). أرأيت كيف أن ذلك الصك قد مُحى ولم يُمح فقط بل قد تمزق إذ مزقته مسامير الصليب، فأصبح بلا قيمة.
فتلك الخطايا قد انمحت كلها بنعمة وقوة المسيح الذي صُلب عنا لأجل محبته لنا، أما خطايانا نحن بعد المعمودية فإنها تحتاج إلى جهاد عظيم لكي نتطهر منها، وإذ لا توجد معمودية ثانية، بل يتم ذلك بدموعنا، بتوبتنا، بأعمال الرحمة، بالصلاة وبكل سبل التقوى. وهكذا فبعد المعمودية تتنقى الخطايا بكثير من الجهد وبكثير من التعب. فلنحاول إذن بكل طريقة أن نتطهر منها في هذه الحياة (هنا) حتى نفلت من الخجل والعقاب في الدهر الآتى (هناك).
لأنه وحتى إن كنا قد فعلنا خطايا لا تحصى، فإننا إن أردنا، نستطيع أن نلقى عنا كل حمل هذه الخطايا. فلتكن لنا هذه الإرادة إذن، لأنه من الأفضل جدًا أن نتعب قليلاً هنا وأن نعتق من العقاب الشديد بدلاً من أن نهمل أثناء فترة حياتنا القصيرة ونعبر إلى ذلك العقاب الأبدى.
7 ـ والآن قد حان الوقت لنلخص ما قلناه: نلوم هؤلاء الذين يأتون إلى هنا مرة واحدة في السنة (فى العيد) لأنهم يقبلون أن يعّروا أمهم (الكنيسة). وذكّرناهم بحدث قديم، ببركة ولعنة. تحدثنا عن أعياد اليهود ولماذا أعطاهم الرب وصية أن يظهروا أمام الرب ثلاث مرات فقط في العام. وقلنا أن أعياد الخمسين والقيامة والظهور الإلهى هي أعياد دائمة. وشرحنا كيف أن العيد يُحتفل به بقلب نقى وليس بتحديدات زمنية.
وبعد ذلك كان حديثنا عن العطايا التي أتت إلينا من السماء وبيّنا أنها دليل على المصالحة بين الله والإنسان. وأثبتنا أن الروح القدس هو العامل في غفران الخطايا، في جوابنا على قول الكاهن في الصلاة” السلام لجميعكم”، وفى كلام الحكمة (الإلهية)، في معرفتنا (لله)، في السيامات، وفى الذبيحة السرائرية. وقلنا إن المسيح كباكورة لنا هو عربون، والروح القدس هو ضمان. ثم ذكرنا الأسباب التي من أجلها لا تحدث معجزات الآن. وبعد ذلك ذكّرناكم بالدينونة وبالأسفار التي ستُفتح وأن كل خطايانا تُدون، كما بيّنا أنه لو أردنا فإن هذه الخطايا يمكن أن تُمحى أيضًا.
فلتتذكروا كل هذا إذن، وإن كان من الصعب تذكرها جميعًا، فعلى الأقل فلتتذكروا الكلام عن تلك الأسفار (التي تُدون فيها الخطايا). وبكل ما سوف تجيبون به وكأنكم أما شخص يدون ما تقولونه، لذلك فليكن كلامكم بحذر ولتذكروا دائمًا ما قد قيل. حتى أن من كانت أسمائهم مسجلة في سفر الأبرار يجاهدون بالأكثر، ومن كانت لديهم خطايا مدونة عليهم، يتطهرون منها هنا على الأرض بدون أن يعرف أحد، حتى يتجنبوا التشهير بهم في يوم الدينونة. لأنه، وحسبما بيّنا أنه من الممكن حقيقة أن نمحو بالصلاة والتقوى والجهاد كل الخطايا المدونة علينا.
ولنهتم كل لحظة لكي نستطيع الحصول على الغفران الآن حتى أننا عندما نذهب إلى الحياة الأخرى، نتجنب كلنا العقاب الشديد، ولنأمل أن نكون مستحقين لملكوت السموات بنعمة ربنا يسوع المسيح ومحبته للبشر الذي له المجد والقوة مع الآب والروح القدس، الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور. آمين.
عيد حلول الروح القدس العظة الأولى ليوحنا ذهبي الفم