نزول المسيح الى الجحيم
القديس ابيفانيوس القبرصي
خطاب في دفن جسد ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح، عن يوسف الذي من الرامة، عن نزول الرب إلى الجحيم نزولاً مستغرباً بعد الآلام الخلاصيّة
السكون
ما هذا الصمت غير المحدود، المخيّم على الأرض في هذا اليوم؟ صمتٌ عظيم وهدوء كثير. صمتٌ عظيم لأن الملكَ نائم. خشعت الأرض فاستراحت لأن الإله قد رقد بالجسد. مات الإله بالجسد وارتعدت الجحيم. رقد الإله قليلاً والذين رقدوا منذ الدهر أقامهم من الجحيم. أين هي الاضطرابات والأصوات والضجّة الآثمة المصعَّدة ضدّ المسيح؟ أين الجماهير والثورات والجنود والحراس والسيوف والرماح؟ أين الملوك والكهنة والقضاة المقضيّ عليهم؟ أين المشاعل المضاءة والسيوف والصرخات الفوضويّة؟ أين الجماهير المزمجرة والحرّاس العديمو الحشمة؟ لقد اختفى الجميع لأن الشعوب بالحقيقة دبّرت خططاً باطلة لا معنى لها. داسوا حجر لزاوية، المسيح فتحطّموا. ضربوا بمكر الصخرة الثابتة لكنهم تلاشوا كالزبد على مثال الموج الذي يضرب الصخور. دقّوا على السندان غير المنهزم فتقطّعوا إرباً إرباً. رفعوا الحجر على خشبة الصليب فتدحرج عليهم وقتلهم. كما قيّد الفلسطينيون شمشون الجبّار كذلك فعلوا بالمسيح الشمس، لكن هذا الأخير حطم السلاسل التي منذ القديم البعيد، وقضى على الأثمة والغرباء. غاب الإله المسيح شمس العدل في الأرض فنزل على اليهود ظلامٌ كثيف
الخلاص
اليوم الخلاص للذين يعيشون على الأرض وللذين تحتها منذ الدهر. اليوم خلاص العالم بأسره، المنظور والغير المنظور. اليوم حضور المسيح السيّد المزدوج: رأفة مزدوجة، نزول مزدوج مع تنازل، محبّة للبشر مزدوجة، افتقاد للبشر مزدوج. نزل المسيح من السماء إلى الأرض ومن الأرض إلى ما تحت الثرى. أبواب الجحيم تُفتح. افرحوا يا من ترقدون منذ الدهور البعيدة، الموجودين في الظلام وظلال الموت، تقبّلوا النور العظيم. يأتي الرب في ما بين عبيده، الإله فيما بين الأموات، الحياة في ما بين الموت، البريء فيما بين المذنبين. النور الذي لا يغرب فيما بين القابعين في الظلام، المحرّر فيما بين الأسرى، تحت الثرى هذا هو الذي أعلى من السماوات. جاء المسيح إلى الأرض وآمنا بذلك. نزل المسيح إلى الأموات فلننزل معه ولنتعلّم الأسرار الحاصلة هناك. لنتعرّف إلى العجائب الخفية الحاصلة تحت الأرض والتي لله الخفيّ. لنتعلم كيف أشرقت كرازة المسيح أيضاً على السالكين في الجحيم
البارحة واليوم
ماذا أيضاً؟ بنزوله إلى الجحيم هل يخلّص الإله الجميع بدون استثناء؟ لا، لأنه كما على الأرض هكذا أيضاً هناك، يخلّص الذين آمنوا به. البارحة رأينا مظاهر ضعف المسيح الخلاصي، واليوم نرى مظاهر قوته. البارحة عايشنا طاعته، واليوم نشهد لسيادته. البارحة علامات طبيعته الإنسانية، واليوم العلامات الإلهية. البارحة لطموه، واليوم ببرق لاهوته يشقّ مسكن الجحيم المظلم. البارحة قيّدوه، واليوم هو الذي يقيّد الطاغية الشيطان بقيود لا تنحل. البارحة حكموا عليه، واليوم يهب الحرية للمحكوم عليهم بالخطيئة. البارحة استهزأ به خدام بيلاطس، واليوم رأوه بوّابو الجحيم فارتعدوا
القديم والجديد
أنظر إلى آلام المسيح وما يفوق قدرة الكلام. أنظر إليها وارفع التسبيح. أنظر ومجّد عجائب الله العظيمة. انظر كيف يمضي الناموس الموسوي وتزهر نعمة المسيح، كيف تذهب الرموز والأشكال ويُكرز بالحقيقة، كيف يغيب الظلام وتعمّ الشمس المسكونة، كيف يُضحي العهد القديم لا فائدة منه ويُصدَّق على الجديد، كيف تمضي الأشياء وتهر الجديدة. شعبان وُجدوا في صهيون معاً في آلام المسيح (اليهودي والوثني) ملكان: بيلاطس وهيرودوس. رئيسا كهنة: حنّان وقيافا. هكذا يتم الفصحان معاً، ينتهي الفصح اليهودي ويبدأ الفصح المسيحي
في الليلة نفسها تُقدّم ضحيّتان، يتمّ فيها خص الأحياء والأموات. من جهة يقبض الشعب اليهودي على حمل الله ويذبحونه، ومن جهة أخرى يتعرّف الوثنيون إلى الله المتخذ جسداً. يقبض اليهود على المسيح ويطردونه خارجاً، فتتقبّله الأمم بنشاط. اليهود يقدّمون ذبيحة حيوانية، والأمم تقدم ذبيحة الإله اللابس جسداً بشرياً
حياة مزدوجة
اليهود يقدّمون ذبيحة الفصح تذكاراً لخروجهم من مصر، والأمم يعلنون فيها خلاصهم من ضلالة الأوثان. أين يتم ذلك؟ في صهيون مدينة الملك العظيم. فيها صُنع الخلاص في وسط الأرض، حيث ظهر يسوع أين الله بولادته بين حيوانين (الثور والحمار)، بين وجودين، جسديّ وروحيّ، يرمز إليهما الحيوانان. هذا الذي ظهر حياةً المولود من الحياة والواهب الحياة، الذي ولد في مزود في ما بين الملائكة والبشر، الذي وقف فيما بين شعبين وجعلهما واحد كحجر الزاوية، الذي كُرز به بين الناموس والأنبياء، الذي ظهر بين موسى وايليا على جبل ثابور، الذي بين لصين أُعلن إلهاً من قبل اللص الشكور، هذا الذي يجلس أبدياً على كرسي القضاء حيث تنتهي الحياة الحاضرة وتبدأ المستقبلة يظهر اليوم بيت الأحياء والأموات مانحاً الحياة والخلاص معاً، حياةٌ مزدوجة، ولادة مزدوجة مع إعادة ولادة. فأنظر إذاً إلى الأحداث وصفّق لعجائب ولادة المسيح المزدوجة
الولادتان
ملاكٌ يبشر والدة الإله مريم بالحبل المسيحي وولادته، وملاكٌ يبشر مريم المجدليّة ببشارة الفرح بقيامة المسيح من القبر. المسيح يولد ليلاً في بيت لحم، وكذلك ليلاً يولد من جديد من بين الأموات في صهيون. يولد في مغارة من صخر، ويولد ثانية عند القيامة من مغارة وصخرة. يُلف بالأقمطة عند الولادة وعند الدفن. هناك تقبل المرّ الذي قدمه المجوس، وهنا يتقبل دهنه بالطيب ودفنه على يد يوسف ونيقوديمس. هناك يخدمه يوسف خطيب مريم الذي لم يكن يعرفها، وهنا يوسف الذي من الرامة. هناك الرعاة بشّروا بولادة المسيح، وهنا رعاةٌ أيضاً، وهم تلاميذ المسيح، بشروا قبل غيرهم بولادته الجديدة من الأموات. هناك هتف الملاك بالعذراء “افرحي”، وهنا المسيح ملاك الرأي العظيم هتف بحاملات الطيب”افرحن”. في ولاته الأولى دخل المسيح إلى أورشليم الأرضية بعد أربعين يوماً، دخل إلى الهيكل وقدم لله كونه البكر زَوج حمام. أيضاً عند ولادته الجديدة من الأموات بكراً ولا فساد صعد بعد أربعين يوماً إلى أورشليم السماوية التي لم ينفصل عنها، إلى قدس الأقداس، وقدَّم لله الآب زَوج حمام بلا عيب وهما النفس والجسد، جسدنا. هناك في السماء تقبّله سمعان، ولكن أيَّ سمعان هذا؟ القديم الأيّام، الله الذي فبل الدهور، وكأن على ذراعيه، في حضنه ما يتعدّى كل وصف بشري. وإن اعتبرت كل ذلك خرافةً لا إيماناً حقاً أدانتك الأختام غير المنتهكة، أختام القبر السيّدي لقيامة المسيح. فإنه كما ولد المسيح من العذراء حافظاً أختام البتولية (تلك التي تُتح طبيعياً بالحبل عند النساء كافة) مصونةً، هكذا حصل بالضبط لدى قيامة المسيح من الأموات إذ أن أختام القبر لم تفتح هي أيضاً عند القيامة
يوسف ونيقوديموس
كيف، متى ومن دفن المسيح الحياة؟ لننظر ماذا يقول الكتاباتُ الشريفة. “لما كان المساء جاء رجل غنيّ من الرامة اسمه يوسف. هذا تجرّأ ودخل إلى بيلاطس وطلب جسد يسوع” (متى57:27-مرقس43:15). جاء المائت إلى المائت يطلب أن يأخذ إله البشر! الجبلة تطلب من الجبلة أن تأخذ جابل الكلّ! العشب يطلب من العشب أن يأخذ النار السماويّة! القطرة العدم تطلب من القطرة الأخرى أن تعطي المحيط بأسره! من شهد ومن سمع بمثل هذا الذي لا يسمع به قط: إنسان يهب إنساناً آخر صانع الكلّ! قاضٍ لا قضاء عليه يسمح بان يدفن محكوماً عليه وهو قاضي القضاة!
“لما كان المساء جاء رجل غنيّ اسمه يوسف”. بالحقيقة هو ني لأنه أخذ شخصَ الرب بكامله. بالحقيقة غنيّ لأنه أخذ من بيلاطس المسح بحضوريه. غنيّ لأنه استحق أن يأخذ اللؤلؤة الثمينة. غنيّ لأنه أخذ في يديه خزينةً تحتوي على الذخيرة الإلهية كاملة! كيف لا يكون غنياً هذا الذي حصل الحياة وخلاص العالم! كيف لا يكون يوسف غنياً بعد أن تقبل كهديّة ذاك الذي يغذّي الكلَّ ويدبّرهم؟ “لما كان المساء” : لقد غاب شمس العدل في الجحيم. لذلك جاء رجل غنيّ اسمه يوسف من الرامة بقي مختبئاً خوفاً من اليهود. جاء معه نيقودمس الذي كان قد زار يسوع في إحدى الليالي (يوحنا1:3-2،39:19)
سر محبة الله العظيمة
يا له من سر خفي أكثر من الأسرار كلَها! خفيّان يأتيان ليخفيا يسوع في القبر. وبطريقتهما الخفية يعلّمان السرَّ الخفي في الجحيم، سرَّ الله الذي توارى في الجسد. الواحد ينافس الآخر في حرارة استعدادهما نحو المسيح. من جهة يقدّم نيقوديمس الدهن والطيب بإكرام، ومن جهة أخرى يتقدم يوسف المستحق المديح إلى بيلاطس بجرأة وشجاعة. لكن لماذا، بعد أن رمى عنه كل خوف، يتقدم بيلاطس بجرأة ويطلب جسد يسوع؟ عندما يتقدم إليه بحذاقة كليّة من أجل أن يصيب هدفه. لذلك يستعمل في حديثه مع بيلاطس تعابير فاخرة لئلا يُغضبه ويفشل منذ البرهة، الذي شقّق الأرض والصخور، الذي شقّ حجابَ الهيكل إلى اثنين. لم يقل لبيلاطس شيئاً من ذلك على الإطلاق. لكن ماذا قال له؟
أعطني هذا الغريب
شيئاً واحداً أطلب منك يا سيّدي، غرضاً صغيراً جئت من أجله: أعطني أن أدفن جسد ذلك المائت، الذي حكمت عليه بالموت، جسد يسوع الناصري، يسوع الغريب، يسوع الفقير، الذي لا سقف له، يسوع المعلّق عرياناً، يسوع ابن النجار الحقير، المقيّد والمعروض في البرّية، الغريب المجهول بين الغرباء، المعلّق والمزدرى به بالحقيقة. أعطني هذا الغريب لأنه جاء من كورة بعيدة من أجل أن يخلّص الإنسان المتغرّب عن وطنه السماوي
أعطني هذا الغريب الذي نزل إلى الأرض المظلمة من أجل أن يرفع الغريب
أعطني هذا الغريب لأنه وحده غريب بالحقيقة
أعطني هذا الغريب الذي لا نعرف بلده نحن المغتربين
أعطني هذا الغريب الذي نجهل طريقه ومكانه نحن الغرباء
أعطني هذا الغريب الذي عاش حياة المغترب بين المغتربين
أعطني هذا الغريب الذي ليس له هنا ما يسند إليه رأسه
أعطني هذا الغريب الذي لا سقفَ له، ووُلد في مغارة كغريب بين الغرباء
أعطني هذا الغريب الذي، وهو بعد طفل خارج من المزود، هرب لكي ينجو من هيرودوس
أعطني هذا الغريب الذي تغرّب في مصر وهو بعد في الأقماط
أعطني ذاك الذي لم يكن له لا مدينة، ولا قرية، ولا بيت، ولا مسكن ثابت، ولا أي قريب من جنسه، لكن سكن مع أمه في كورة غريبة مع أنه يحوي كل شيء
سيّدي! اسمح لي أن أستر جسد المعلّق عرياناً على خشبة الصليب الذي ستر عري طبيعتي لخاصة. أعطني أدفِنَ ذاك المائت الذي دفن خطيئتي في مياه الأردن. أتوسّل إليك من أجل مائتٍ حُكم عليه من الجميع، سُلّم على يد تلميذه، تركه أصدقاؤه، طرده اخوته وضربه عبده! أتوسل إليك من أجل حكم عليه من قبل هؤلاء الذين حررهم من العبودية، جُرّح من قبل الذين شفاهم، تركه تلاميذه وحُرم حتى من أمّه. أطلب إليك يا بيلاطس، من أجل مائتٍ معلّق على الصليب، ليس له أحد يخدمه، لا أب على الأرض، لا صديق، لا أقارب، لا أحد يدفنه. هو وحده الابن الوحيد للآب الوحيد، الإله في هذا العالم، الذي لا إله سواه
ابتهال الأبرار
ومن هناك، من أسافل الجحيم كان الأنبياء والأبرار يبتهلون إلى الله بصلوات حارة ومستمرة طالبين الخلاص من الليل القاتم المظلم، الذي لا نهاية له، الحزين الموجع، السائد عليه الشيطان العدو. كان الواحد يقول لله: “من جوف الجحيم استغثت فسمعتَ صوتي”(يونان 3:2)، والآخر يصرخ: “من الأعماق صرخت إليك يا رب، يا رب استمع إلى صوتي”(مز1:129-2). آخر يبتهل: “أظهر وجهك علينا فنخلص”، وآخر يتوسل: “أنت الجالس فوق على عرش الشاروبيم اطّلع علينا”، وواحد آخر يصلّي: “يا رب شددني بسلاح قوتك الذي لا يُقهر وتعال إلي وخلصني”، وآخر بحزن: “يا رب ارثِ لنا ولتدركنا رأفتك”، وآخر يصرخ: “خلّص نفسي من أعماق الجحيم”، وآخر: “يا رب أخرج نفسي من الجحيم”، وأيضاً يا رب لا تترك نفسي في الجحيم”، وكذلك: “لترتفع حياتي من الهلاك إليك أيها الرب إلهي(يونان7:2). لقد سمع الله الجزيل التحنن هؤلاء كلهم، ولم يشأ أن يقدّم محبّته فقط إلى البشر الذين كانوا يعيشون معه على الأرض، لكنه بسط على كل المقيدين في الجحيم، الذين ينتظرونه في ظلام الموت وظلاله وقبل أن تذهب إليه. فافتقد الله الكلمة الذين إلى الأرض بجسده المتنفّس الحي وللنفوس التي تركت جسدها على الأرض وأصبحت في الجحيم ظهر بنفسه الإلهية الطاهرة بدون جسد ولكن ليس بدون ألوهيته.
كيف سحق قوة الموت
لنسرع إذاً ونذهب بالفكر إلى الجحيم لكي نرى هناك كيف يتغلّب بقوة، بقدرة عظيمة على الطاغية المتسلّط على النفوس المقيدّة، كيف يأسر بلمعانه، بجيشه العظيم وبلا أيد جحافل الشياطين العديمة الموت! يرفع المسيح بصليبه من الوسط أبواباً لا نوافذ لها وغير خشبية بمسامير إلهية يسحق الأمخال الدهرية، وبيده الإلهيتين المربوطتين يذيب كالشمع السلاسل العسرة الحلّ. بالحربة التي طعنت جنبه الإلهي وبلا جسد يطعن فلب الطاغية. يسحق قوة قسيّه في الوقت الذي يبسط يديه الإلهيتين بمثابة قوس على الصليب. لذلك إن تبعت المسيح بهدوء، ترى الآن أين رُبِطَ الطاغية وأين عُلق رأسه، كيف نبش سجن الجحيم وحرر المقيدين، كيف داس هدم المتوسّط وأين حكم على التنين الخبيث، أين أمات الموت، كيف أفسد الفساد وكيف أعاد الإنسان إلى مرتبته الملكية الأولى
مواكب الملائكة
ذاك الذي البارحة بتنازله غير المحدود لم يلجأ إلى مساعدة الجيوش الملائكية قائلاً لبطرس: “باستطاعتي الآن أن أطلب أكثر من اثني عشر جيشاً من الملائكة” (متى53:26)، ينزل اليوم بموته إلى الجحيم، إلى الموت، ضدّ الشيطان الطاغية، كما يليق بالله وبالسيّد، على رأس جيوش عديمة الجسد والموت، طغمات غير منظورة، لا فقط اثني عشر جيشاً بل ربوات، ربوات آلاف آلاف من الملائكة، من رؤساء الملائكة، من السلطات، من العروش، من ذوات الستّة الأجنحة، من الكثيري الأعين، من الطغمات السماوية تتقدم المسيح بمثابة ملك لها وسيّد تواكبه، وتكرّمه. ليس ذلك التحالف معه ومؤازرته في الحرب. لا أبداً! إذ كيف يحتاج إلى حليف حربي من هو المسيح الكليّ القدرة؟ تواكبه تحتاج وتتشوّق إلى أن تكون دائماً إلى جانبه. تركض القوات الملائكية كعساكر مرافقة مسلّحة بالسيوف بمثابة صواعق بارقة، مسلّحة بالصواعق الإلهية الكليّة القدرة التي لملكها. تبادر القوات بحماس كبير ويفوق أحدها الآخر سرعةً ملبياً مجرد الإشارة الإلهية ومنفّذاً الأمر الإلهي ومكّلاً بإكليل الظفر ضدّ الأعداء الطغاة. لذلك فهي تنزل إلى سجون الأموات القدماء جداً ما تحت الثرى، في قلب الجحيم وأعمق من كل الأرض، وذلك لتُخرج الآن المكبلين بالسلاسل والراقدين منذ الدهر.
ارفعوا الأبواب ارفعوا
ما أن ظهر الرب بحضوره الإلهي المشعّ أمام أبواب الجحيم المقفلة، أمام السجون المظلمة القاتمة في قعر مغاور الجحيم، حتى تقدمه جبرائيل رئيس الجنود كونه اعتاد أن يجلب بشارة الفرح إلى البشر. وبصوت قويّ لائق برؤساء الملائكة يهتف بصوت طنّان كصوت الأسد نحو القوات المعادية: “ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم”، ويصرخ معه ميخائيل: “لتسقط الأبواب الدهرية”، ومن ثم تتابع القوات: “إلى الوراء أيها الحراس الأثمة” والسلطات تأمر بشدّة: “حطّموا السلاسل العسرة الحلّ” ورئيس آخر يضيف: “الخزي لكم يا طغاةً غير مبالين”. زكما يحدث عند حضور جيش ملكي رهيب لا يُقهر وكليّ القدرة، حين يسود القائد غير المقهور على الأعداء بالرعدة بالاضطراب، بالخوف الشديد، هكذا حصل فجأة ما أن حضر المسيح بهذا الشكل الغريب إلى أسافل الجحيم. من فوق برق قوي يعمي وجوه قوّات الجحيم المعادية، وفي الوقت نفسه كانت تُسمع هتافات الجيوش المرعدة. “ارفعوا الأبواب”. لا تفتحوا فقط بل اقتلعوها من أساساها، اخرجوا كليّاً من مكانها حتى لا تستطيع من بعد أن تقوم. ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم، لا لأن الرب لا يستطيع أن يفتحها، وهو إن شاء أمر ودخلها وهي مقفلة، لكنّه يأمركم كعبيد فارين بأن ترفعوا الأبواب الدهرية وتنقلوها من هنا. لا يأمر شعبه بل يأمركم أنتم الرؤساء: “ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم”(مز23:7-10).
من الآن فصاعداً لن تكونوا رؤساء متسلّطين على أحد مع أنكم حتى الآن سدتم باطلاً على الراقدين. لن تسودوا بعد الآن عليهم ولا على غيرهم ولا حتى على أنفسكم. ارفعوا الأبواب لأن المسيح أتى وهو الباب السماوي. افتحوا الطريق أمامه فقد داس بقدمه معقل الجحيم. اسمه “رب” والرب له الحق والقدرة أن يخترق أبواب الموت، لأن مدخل الموت قد صنعتموه أنتم وهو آتٍ لكي يعبره. لذا افتحوا بسرعة ولا تتأخروا. افتحوا ولا تُرجئوا. إن ظننتم أنه سوف ينتظركم فباطلاً تفعلون، لأنه سوف يأمر أن تنفتح الأبواب من نفسها وبدون أيدٍ: انفتحي أيتها الأبواب الدهرية!
تزعزعت القوات المعادية
ما أن صعد هتاف القوات الملائكية حتى انفتحت الأبواب في اللحظة نفسها. في اللحظة نفسها تحطمت الأمخال والسلاسل، فسقطت المفاتيح وتزعزعت أساسات السجن. هرعت القوات المعادية إلى الهرب فجأة: واحد يدفع الآخر، آخر يتشابك بين أقدام غيره، كل واحد يحث الذي بجانبه على الفرار بسرعة. ارتعدت، تزعزعت، ضاعت، اضطربت، تغيّرت ألوانها، خافت، وقفت وتحيّرت، تحيّرت وارتجفت. بقي الواحد فاغراً فمه، والثاني ستر وجهه بين ركبتيه، والثالث سقط على الأرض جامداً من الخوف. آخر وقف بلا حراك كأنه مائت. الواحد يجمد في مكانه، والآخر يركض طالباً النجاة بعيداً.
من هو هذا ملك المجد؟
في هذه الساعة قطع المسيح رؤوس الطغاة المذهولين. تعطّلت ألجمتهم وأخذوا يتساءلون: “من هو هذا ملك المجد”؟ من هو هذا الذي جاء إلى هنا قائماً بمثل هذه الأعمال الغريبة؟ من هو هذا ملك المجد الذي يفعل الآن في الجحيم ما لم يُفعل فبها قبلاً على الإطلاق؟ من هو هذا ملك المجد الذي يُخرج من هنا المكبّلين منذ الدهر؟ من هو هذا الذي به انحلّت سلطتنا وجسارتنا غيرُ المقهورتين حتى الآن. وقُضي عليهما؟
وكانت قوّات الرب تجيبها قائلة: أتردين معرفة من هو ملك المجد؟ “إنه الرب القوي في القتال” الكليّ القدرة وغير المنهزم. هو الذي طردكم من الأخبية السماوية ورماكم خارجاً أنتم الطغاة الأثمة الأشقياء. هو الذي سحق في مياه الأردن رؤوس تنانيكم. هو الذي جعلكم مشهداً للجميع على صليبه. شهّرَ بكم ونزع عنكم كل قوّة. هو الذي قيدكم ورماكم في الظلمة والهوّة. هو الذي سيقضي عليكم نهائياً في النار الأبدية وجهنّم. فلا تتأخروا، ولا تنتظروا، بل أسرعوا وأخرجوا المكبّلين الذين ابتلعتموهم إلى الآن برداءة. من الآن فصاعداً لن تكون لكم أيّة قدرة. زالت سلطتكم الطاغية تحطّم كبرياؤكم بصورة تثير الشفقة. امّحت قوتكم وزالت إلى الأبد