حول تنشئة الأولاد – القديس بروفيريوس الرائي
يوجد لحالة الإنسان الروحيّة قسمٌ كبيرٌ من المسؤوليّة
تبدأ تنشئة الأولاد من لحظة تكوينهم
تبدأ تنشئة الأولاد من لحظة تكوينهم، فالجنين يسمع ويشعر وهو في أحشاء أمّه، أجل، إنّه يسمع ويرى بعينيّ الأم . يُدرك تحرّكاتها ومشاعرها، رغم أنّ فكره لم يكن قد نما.
يشحب وجه الأم، وكذلك وجه الجنين. تغضب الأم ويغضب الجنين. تشعر الأم بالحزن، بالألم، بالخوف، بالقلق….. فيتأثَّر الجنين بكلّ هذا. إذا رفضت الأم جنينها، إذا كرهته، يشعر الجنين بهذه الأحاسيس، فتتكوّن في نفسه الصغيرة جروحات ترافقه مدى عمره كلّه. ويحصل عكس ذلك مع مشاعر الأم المقدَّسة. وعندما يكون في قلبها الفرح والسلام، والمحبّة للجنين، تُنقَل هذه الفضائل سرّاً إلى مَن تحمل في أحشائها كما يحصل مع الأطفال المولودين. لهذا يجب على الأم أن تصلّي كثيراً خلال فترة الحمل وأن تحبّ الجنين وتداعب بطنها وأن تقرأ المزامير، وترنّم (الطروباريّات) التراتيل وتعيش حياةً مقدَّسة. وهذه الممارسة تعود بالنفع لها، بل وتضحياتها من أجل جنينها، لكي يصبح الولد كذلك أكثر قداسةً، ويمتلك من البداية إيداعات مقدَّسة .
أَرأَيتم كم هو دقيق أن تحمل المرأة ابناً ؟
كم هي المسؤوليّة كبيرة وكم هو الشرف عظيم!
سأقول لكم شيئاً له علاقة بما سبق، وعن كائنات حيّة غير عاقلة وستفهمون منه القليل.
في أميركا يختبرون ما يلي:
في قاعتَين متشابهتَين، درجات حرارتهما واحدة وريّهما واحد وكذلك تربتهما، يزرعون في القاعتين أزهاراً. فنلاحظ فرقاً واحداً وهو: في إحدى القاعَتين، يضعون الموسيقى الناعمة والفرحة.
النتيجة؟ ماذا أقول لكم؟! أزهار هذه الغرفة تُظهِر فرقاً شاسعاً بالنسبة إلى الثانية. ففيها حيويّة مميَّزة، لونها أكثر جمالاً ونموُّها أكبر لا يُقارَن.
حياة الوالدَين داخل البيت وحدها تحمي وتُنشئ أولاداً صالحين
حياة الوالدَين داخل البيت وحدها تحمي وتُنشئ أولاداً صالحين . يجب على الوالدِين أن يُعطوا أنفسهم لمحبّة الله. يجب أن يَصيروا بوداعتهم، بصبرهم، بمحبّتهم لبعضهم، قدّيسين بالقرب من أولادهم. أن يضعوا كلّ يوم خطّاً جديداً وشوقاً جديداً، وغيرةً ومحبّةً للأولاد. والفرح الذي سيغمرهم والقداسة التي ستكون قد زارتهم، سوف تُطلِق النعمةَ للأولاد، وسوء تصرُّف الأولاد ينتج عن خطأ الأهل بشكل عام. لا النّصائح ولا النّظام ولا القساوة تخلِّص الأولاد. إن لم يتقدَّس الوالدِين، إن لم يجاهدوا، يرتكبوا أخطاءً كبيرةً وينقلوا الشرّ الذي في داخلهم. إن لم يعِش الوالدون حياةً مقدَّسةً، إن لم يتكلَّموا بمحبّة، يُعذِّبهم الشيطان بردَّة فعل الأولاد. المحبّة، وحدةُ الحال، وتفاهم الوالدَيْن الجيّد كلُّها واجبة ولازمة للأولاد، وهي تُعطيهم أماناً كبيراً وثباتاً .
سلوك الأولاد له علاقة مباشرة بحالة الأهل
عندما ينجرح الأولاد من سوء تصرُّف فيما بين الوالدَيْن، يفقدون قواهم وشوقهم وتأهُّبهم للسير إلى الأمام ويُفسدون بناءَ أنفسهم ويُهدِّدون هذا البناء لحظة بلحظة للخطر حتى الهدم. أسوق لكم مثلَين:
جاء إليّ مرّة شابّتان، واحدة كانت مسالكها قبيحةٌ جدّاً، تسألانني عن سبب تلك المسالك. قلتُ لهما :
– من المنزل، من والديكما.
– وفيما كنت “أتبصَّر أعماق” واحدة منهما، قلت:
– أنتِ قد ورثتِ من والدتك هذا كلّه.
– قالت، ولكنّ أهلي هم أُناس كاملون. هم مســيحيّون، يعترفون ويتناولون القربان المقدَّس، ويُمكن أن يُقال: نحن نمارس ديانتنا ونعيشها. إلا.ّ…. إذا كانت الديانة تُخطئ، أجابت تلك .
قلتُ لهما:
– لا أُصدّق شيئاً ممّا تقولانه لي. أنا أرى شيئاً واحداً فقط : لا يعيش أهلكما فرحَ المسيح .
بناءً على هذا قالت الأخرى :
– إسمعي ماريّا، حسناً يقول الأب، إنّه على حقّ. نعم…..أهلُنا يذهبون لعند الأب الروحيّ، للإعتراف، للمناولة الإلهيّة، ولكن لم يكُن سلامٌ أبداً في المنزل! كان والدنا يتأفّف بصورة متواصلة من والدتنا. وكانا يتذمّران باستمرار، مرّة لم يكن يأكل الواحد مع الآخر ومرّة أخرى لم يكن يريد الآخر مرافقة الأوّل. إنّ الأب على حقّ.
– ما اسم والدك ؟ سألتها.
– قالت لي الاسمَ.
– ا اسم والدتك ؟
– قالت لي أيضاً.
-“إيه”، قلتُ، يبدو أنّ داخلكِ ليس على ما يُرام مع والدتكِ.
إسمعوا لي الآن: الّلحظة التي فيها كانا يقولان لي الإسم، “كنتُ أرى” الأب،كنتُ أرى نفسه. ولحظة قولهما لي إسم الأم، “كنتُ أرى” الأخيرة وكنت أرى كيف كانت الإبنة تنظر إلى والدتها.
مرّةً أخرى أتت أمٌّ مع إحدى بناتها وزارانني. كانت منزعجة وكانت تجهش بالبكاء وكانت تشعر بحزنٍ ،وبؤسٍ عميق .
سألتها، ما بكِ ؟
– إنّي يائسة مع ابنتي الكبيرة، التي طردت زوجها من البيت وكانت تضلّلنا قائلةً أكاذيب كثيرة.
– قلتُ، أيّة أكاذيب؟
– طردت زوجها من البيت منذ زمن ولم تخبرنا شيئاً عن ذلك. كنّا نسألها بواسطة الهاتف «كيف حال ستيليوس؟». «بخير، كانت تجيبنا، ذهب الآن لشراء الجريدة». وكانت تختلق كلّ مرّة عذراً لكي لا نشكّ بشيء. هذا دام سنَتين وكانت تُخفي طردَه عنّا. ومنذ أيّامٍ قليلة عرفنا بطرده منه شخصيّاً، إذ رأيناه صدفة.
حسناً، قلتُ لها:
– أنتِ وزوجكِ مخطئان وخطيئتك أنتِ هي الأكبر.
– أنا ! أنا التي كنتُ أُحبّ أولادي كثيراً وكنتُ لا أخرج من المطبخ، لم يكن عندي حياةٌ شخصيّة، كنتُ أقودهم إلى الله وإلى الكنيسة، كنتُ أنصحهم للخير. كيف أكون أنا خاطئة؟
توجّهت للإبنة الأخرى، التي كانت حاضرة :
– أنتِ، ماذا تقولين؟
– نعم، يا أمّي، إنّ الأب الشيخ على حقّ، لم نأكل أبداً أبداً خبزاً حُلواً مدى العمر بسبب المناكفات التي كنتِ ترتكبينها مع والدي
– أرأيتِ أَنّني علىحقّ؟ أنتما تخطئان، أنتما تجرحان الأولاد. لم يُخطئ أولادكما، لكنّهم يُعانون من العواقب.
تولَدُ بسبب الأهل حالة في نفس الأولاد، حالةٌ تترك آثاراً في داخلهم طيلة حياتهم، وتصرّفهم بالتّالي في حياتهم وعلاقتهم مع الآخرين تتعلّق مباشرة بمسالك الحياة التي اكتسبوها من سنيّ طفولتهم. يكبرون، يتعلّمون، ولكن في العمق لا يتبدّلون.
هذا يظهر وفي أدقّ ظواهر الحياة. مثلاً: تقعُ في نَهَم. تطلب الطّعام وتأخذه، تأكل، ترى قوتاً آخر، ترغب به وتبتغيه.وتشعر من جديد بالجوع. فإذا ما أكلتَ، يُمسككَ لعيانٌ وارتعاش. تخاف من أن تضعف وهذه الحالة نفسيّة لها تفسيرها. من الممكن القول إنّكَ لم تعرفْ أباً ولا أمّاً، أن تكون سفليّاً وجائعاً، فقيراً وضعيفاً، وهذا حدثٌ روحيٌّ، ينعكس ضعفاً في الجسد.
يوجد لحالة الانسان الروحيّة قسمٌ كبيرٌ من المسؤوليّة. لا تكفي النّصائح والضغوطات ولا المنطق والتّهديدات لتحرير الأولاد من مختلف المشاكل الداخليّة، وعلى الأرجح، تسوء حالتهم. يصير الاصلاح بتقديس الأهل وتطهيرهم.
صيروا قدّيسين ولن يكون عندكم أيّة مشكلةٍ مع أولادكم
قداسة الأهل تحرِّر الأولاد من المشاكل. يريد الأولاد أُناساً قدّيسين بقربهم، مع محبّة كبيرة، أُناساً لن يخيفوهم ولا يكتفوا بإرشادهم بل سيعطونهم صلاةً ويكونون لهم قدوةً مقدَّسة.
صلّوا، أنتم الأهل، صلّوا بصمتٍ وأياديكم مرفوعة نحو المسيح، معانقين أولادكم سرّاً. وعندما يُحدثون فوضى، خذوا بعض التدابير التربويّة، لكن دون أن تضغطوا عليهم وبالأخصّ صلّوا.
مرّاتٍ كثيرة، (وخصوصاً الأمّ)، يجرِّحُ الأهل الولدَ لفوضى ارتكبها، ويؤنّبونه بشدّة. عندها ينجرح هذا الولد. يفهم الولد ويلاحظ من خلال انفعالك الداخليّ أو من خلال نظرتك الوحشيّة له أنّك تؤنّبه وتغضب وإن لم يكن هذا التأنيب ظاهريّاً . عندها يعتقد الولد أنّ الأمّ لا تحبّه. يسأل الأمّ :
– أتحبّينني، يا أمّي؟
– أجل، يا ولدي، أحبّكَ.
لكنّه لا يقتنع. إنّه قد جُرِح. تحبّه أمّه، ستدلّله فيما بعد، لكن الولد يدير رأسه عن دلال أمّه. لا يتقبّل الغنج، يظنّ هذا خبثاً ورياءً لأنّه قد جُرِح.
الإفراط في الرعاية يترك الأولاد غير ناضجين
شيء آخر يؤذي الأولاد، هو إفراط الأهل في الرعاية، أي الإفراط في العناية والمبالغة في شغل البال والقلق. إسمعوا هذا الحدث: أمّ كانت تشكو لي أنّ ابنها البالغ من العمر خمس سنوات، كان لا يُطيعُها . كنتُ أقول لها «أنتِ تُخطئين» لم تفهم قَوْلي. وفي مرّةٍ من المرّات ذهبنا بسيّارة تلك الأم مشواراً إلى شاطئ البحر وكان ابنها معنا وهناك أفلتَ الصـغير من يدها وركض نحوالبحر. وعلى الشاطئ تجمّعت كومة رمل،انبسط البحر فجأة من خلفها. قلقت الأم وكادت أن تصرخ، أن تركض لأنّها شاهدت الصغير على كومة الرمل ويداه ممدودتان ليتوازن. هدّأتُ أنا من روعها، حينها أدارت ظهرها نحو الإبن وكنتُ أراقبها بطرف العين. عندما قطع الولد الأمل من إثارة أمّه ودفْعِها إلى الصراخ كالعادة، نزل هادئاً شيئاً فشيئاً واقترب منّا.
وهذا ما حدث ! عندها تلقَّنتِ الأمّ درساً في التربية الصحيحة.
أمّ أخرى كانت تشكو أنّ ابنها الوحيد لم يكن يأكل أصناف الأطعمة كلّها وخصوصاً اللبن. وكان هذا الصغير في الثالثة من عمره على وجه التقريب وكان يعذِّب أُمّه كلّ يوم. قلتُ لها :
“ستفعلين ما يلي: ستفرغين الثلاّجة من كلّ الأطعمة وتضعين مكانها كميّة معيّنة من اللبن وستعانون أنتم الأهل والأولاد لبضعة أيّام. أتى وقت الطعام؟، ستعطين بطرسَ لبناً. سوف لن يأكله. عند المساء قدّمي له الطعامَ نفسه. في اليوم التّالي الشيءَ نفسه. إيه، سيجوع فيما بعد، سيختبر شيئاً. سيبكي، سيصرخ.
ستتحمّلون ذلك وسيأكل اللبن فيما بعد بطيبة خاطر».هكذا حصل وأصبح اللبن الطعام المفضَّل لبطرس.
هذا كلّه ليس بصعب. ولكن أُمّهات كثيرات لا يتبعنَه فيُلقِّنَّ أَولادهنَّ تربيةً سلبيّةً جدّاً. أُمّهات يلاحقنَ أَولادهنَّ دائماً ويضغطنَ عليهم، أي يُفرِطْنَ بالعناية بهم، فَشِلْنَ في عملهِنَّ. في حين أنّه يجب عليك أن تترك الولد يهتمّ وحده لتقدُّمه، عندها ستنجح. عندما تلاحق أَولادكَ باستمرار، تنطلق منهم ردّة فعل، فيتكاسلون ويضعفون وغالباً يفشلون في حياتهم.
هذا النوع من الإفراط في الحماية، يترك الأولاد غير ناضجين.
قبل بضعة أيّام، أتت أُمّ يائسة لفشل ابنها المتكرِّر في امتحانات الدخول للجامعة. تلميذ ممتاز في الابتدائي، ممتاز في التكميلي، ممتاز في الثانوي. بعدها كان فشل الولد، كان الإهمال، كانت ردّات فعلٍ غريبة. “أنتِ تُخطئين، قلتُ للأمّ، وأنتِ متعلّمة! ماذا كان سيفعل الولد؟ كلّ السنوات ضغط، ضغط، ضغط،” لِتكنْ الأوّل، لا تُخَجِّلُنا، عليكَ أن تصير عظيماً في المجتمع…..“.
تراجع فجأةً، والآن لم يعد يريد شيئاً. عليكِ أن توقفي هذا الضغط والإفراط في الحماية وعندها ســترَيْن كيف يعود الولد إلى توازنه . سوف يتقدَّم حين تتركينه حرّاً« .
يريد الولد بقربه أُناساً صلاتهم حارّة
يريد الولد بقربه أُناساً صلاتهم حارّة . لا أن تكتفي الأمّ بالملاطفة الحسّيّة لولدها، بل وأن تقدّم في الوقت نفسه دفء الصّلاة. يشعر الولد في عمق نفسه بالدفء الروحيّ الذي تبعثه أُمّه سريّاً له، فينجذب نحوها. يشعر بأمان واستقرار، عندما تغمره الأمّ سرّاً بالصّلاة الدائمة، الحارّة، والمصرّة، وتحرّره ممّا يُضيِّق عليه. تعرف الأمّهات القلقَ، والنُصْح والكثير من الكلام ولكن لم يتعلّمنَ الصّلاة. النّصائح والإرشادات العديدة تُسيء كثيراً.
لا للكلام الكثير للأَولاد. الكلام يقرع الأذنَين، أمّا الصّـلاة فتذهب إلى القلب. يُحتاج إلى صلاةٍ مع إيمانٍ وإلى مثالٍ صالحٍ ولكن دون قلق.
وفي يومٍ من الأيّام أتتنا إلى الدير أمٌ يائسة من وضع ابنها يورغو. كان ملبّكاً جدّاً، يعود متأخّراً ليلاً بصحبة زمرةٍ سيّئة الأخلاق، وكانت حالته تسوء يوماً بعد يوم،وكانت الأمّ تضطرب وتبكي .
قلتُ لها:
– لا تقولي أنتِ أيَّ شيء، بل صلّي فقط .
أقمنا ساعة صلاة مشتركة عند الساعة العاشرة والعاشرة والربع، قلتُ لها أن تصمت وأن لا تسـأل ابنها متى يخرج من البيت ولا متى يعود إليه…. بل أن تقول له بمحبّةٍ كبيرة: «كلْ، يا يورغو، في الثلاّجةِ طعامك». وأن لا تقول له غير ذلك. بصورة عامّة أن تعامله بمحبّة دون أن تترك الصّلاة. بدأت الأمّ بتطبيق ذلك، وما إن مرَّ عشرون يوماً حتى قال لها ابنها:
– أمّي، لماذا لا تكلّمينني ؟
– يورغو حبيبي، أنا لا أُكلِّمك؟
– أُمّي، تُضمرين شيئاً نحوي لذا لا تكلّمينني.
– ما تقوله لي أمرٌ غريب، يا يورغو. كيف لا أُكلِّمك؟ ألا أُكلِّمكَ الآن؟ ماذا تريد أن أقول لك؟
أمّا يورغو فلم يُجبها. وبعد هذا أتت الأمّ إلى الدَير وقالت لي:
– يروندا, ماذا يعني هذا الذي قاله لي ابني ؟
– لقد نجحت خطّتُنا !
– أيّة خطّةٍ ؟
– إنّي قلتُ لكِ أن لا تتكلّمي معه، أن تصلّي فقط في السرّ وسوف يعود الولد إلى رشده.
– أتعتقد أنّ هذا هو الحلّ؟
– هذا وحده هو الحلّ، قلت لها. يريد الأهمّيّة، يريد أن تعطيه الملاحظة «أين كنتَ؟ ماذا فعلتَ؟» . أمّا هو فيصرخ ويُقاوِم ويعود أكثر تأخُّراً في الليل.
– واعجباه ! كم من الأسرار المخفيّة!!
– أفهمتِ ذلك، والحالةُ نِصب عينَيكِ؟أراد بمشـاجرتكِ له، أن يقوم بما يحلو له. وعدم هذه المشاجرة يُزعجه. وبدل انزعاجكِ أنتِ من سوء تصرّفه ينزعج هو الآن بلا مبالاتكِ واهتمامكِ .
وفي يومٍ أعلمَ يورغو أهله في البيت أنّه سيترك عمله ليذهب إلى كندا. لقد قال لربّ عمله:
– ” أنا تاركٌ العمل، جِدْ آخر بديلاً عنّي«.
أمّا أنا، فقلتُ للأهل خلال هذه الأثناء :
– نحن، علينا بالصّلاة .
– ها هو حاضرٌ للسفر….. سأُنزِلُ به إلى الهاوية! قال الأب.
– كلاّ، لا تزعجه، قلتُ له.
– لكنّ الولد اتّخذ قراره بالرحيل، يروندا!
– لِيَرحلْ. أُعطوا ذواتكم للصّلاة وأنا معكم.
بعد يومَين أو ثلاثة أيّام كان الأحد.
باكراً جدّاً، قال لهم يورغو:
– أنا راحلٌ، سأذهب مع أصحابي.
– حسناً، مثلما تريد، قالوا له.
ذهب، آخذاً أصحابه برفقة فتاتَين وشابَّيْن، واستأجروا سيّارة واتّجهوا بها إلى منطقة خلكيذا. ذهبوا إلى هنا وهنالك، بعدها راحوا إلى دَير القدّيس يوحنّا الروسيّ ومنه أكملوا طريقهم إلى مناطق ماندوذي والقدّيسة حنّة، حتى وصلوا إلى فاسيليكا. ذهبوا ومارسوا السباحة في البحر الإيجي. أكلوا، شربوا، لَهَوْا. وبعدها أخذوا طريق العودة وكادَ الليل يُرخي عتمته. كان يورغو يقود السيّارة. وفي منطقة القدّيسة حنّة، اصطدم بحائط منزل. فتشوَّهت السيّارة. ما العمل الآن ؟ ساروا بالسيّارة روَيداً روَيداً وأتوا بها إلى أثينا.
وصل إلى البيت قبل بزوغ الفجر. لم يقُلْ له أهله شيئاً. أمّا هو فارتمى على سريره ونام. وعندما استيقظ من نومه قال لوالده:
– يا أبي، حصل ما حصل….. يجب الآن إصلاح السيّارة والكلفة كبيرة. قال له:
– أنتَ تعلم يا ولدي أنّني مديونٌ، وأَخواتِكَ ما زلنَ على عاتقي….. ماذا سيحِلُّ بنا؟
– ماذا أفعل أنا، يا أبي؟
– إفعل ما تريد. أنتَ بالغٌ وعاقلٌ. إرحَلْ إلى كندا لِتحصل على المال، إلخ…
– لا أستطيع، قال له. يجب الآن إصلاح السيّارة.
– لا أدري، قال له، رتِّب أنتَ أُمورك.
إستغرب الولد قَوْل أبيه ورَحَل…..
ذهب، فوجد ربَّ عملِه وقال له:
– يا سيّدي، حصل ما حصل معي. لن أَترك عملي، فلا تتعاقد مع غيري.
– حسناً، حسناً، يا بنيّ!!
– ولكنّني أُريد مالاً.
– نعم، ولكنّكَ تريد الرحيل. وتوقيع والدِك واجبٌ.
– أنا سأُوقِّع لكَ. والدي لا يتدخَّل. هذا ما قاله لي. سأعمل أنا وسأفيكَ مالكَ. أليس ما حصل أعجوبة من الله؟ وعندما عادت الأمّ مجدَّداً قلتُ لها:
– نجحت الطريقة التي اتّبعناها وصلاتنا سُمِعت من الله. والحادث كان من الله وسيبقى الولد في البيت وسوف يعود إلى رشده. هكذا حصل من خلال صلاتنا.
حصلت أُعجوبة. صامَ الأهل وأقاموا الصّلاة والصّمت ونجحوا. ثمّ بعد فترة قصيرة أتاني الولد دون أن يوجّهه أحدٌ من أهله. أصبح يورغو عنصراً جيّداً وهو يعمل الآن في شركة طيران وأسّس عائلةً صالحةً .
صلاة كثيرة وكلمات قليلة للأولاد
كلّ شيءٍ يأتي من الصّلاة، من الصّمت ومن المحبّة. أَفهمتم نتائج الصّلاة ؟ محبَّة في الصّلاة، محبّةٌ في المسيح. هذه هي التي تفيد بالفعل. بقدر ما تحبّون الأولاد محبّةً إنسانيّةً – محبّة تكون غالباً عاطفيّة ومن الأهواء أي«pathologique» – بالقدْر نفسه سيتلبَّكون ويكون تصرّفهم سلبيّاً. لكن، عندما تكون المحبّة فيما بينكما ونحو أَولادكم مسيحيّةً ومقدَّسةً، عندها لن يكون عندكم أيّة مشكلة.
قداسة الأهل تخلِّص الأولاد.
حتى يتحقَّق هذا الأمر، يجب أن تؤثِّر النعمة الإلهيّة على نفوس الأهل. لا أحد يتقدَّس وحده. النعمة الإلهيّة نفسها ستُنير، ستولِّد الحرارة والنشاط في نفوس الأولاد.
مرّات كثيرة يتّصلون بي هاتفيّاً ومن الخارج ويسألونني عن أًولادهم وعن مواضيع أُخرى.
إتّصلت بي اليوم من ميلانو أُمٌ وسألتني كيف تتصرَّف مع أولادها؟ فقلتُ لها ما يلي:
– “عليكِ أن تصلّي وعند الضّرورة أن تتكلَّمي مع الأولاد بمحبّة. عليكِ، زيادةً، أن تُصلّي، مع كلامٍ قليلٍ يُوَجَّه إليهم. صلاة كثيرة وكلام قليل مع الجميع. علينا أن لا نصبح مزعجين، بل أن نصلّي سرّاً وبعدها نتكلّم مع الآخر والله سيؤكِّد لنا في داخلنا إذا كان كلامنا مقبولاً لدى الآخرين. إن لم يكن هكذا فلن نتكلَّم. سوف نصلّي فقط سرّاً. لأنّه إن تكلَّمنا نصبح مزعجين ونسبِّب ردّةَ فعلٍ للآخرين وفي بعض الأحيان نثير غضبهم، لهذا من الأفضل أن يتكلَّم الإنسان سرّاً في قلوب الآخرين عن طريق الصّلاة السرّيّة من أن يتكلَّم في الأُذن.»
إسمعي ما أقوله لكِ: «عليكِ أن تصلّي أوّلاً وبعدها أن تتكلَّمي هكذا إفعلي مع أَولادك. إن كنتِ تعطيهم النصّائح باستمرار، ستكونين ثقيلة الظلّ عليهم، وعندما سيكبرون، سيشعرون بنوع من الضغط.عليكِ إذاً أن تفضّلي الصّلاة. أن تكلّميهم بالصّلاة. وكلّ ما تريدين قوله لهم قوليه لله، والله سوف يتكلَّم في داخلهم. هذا يعني أنّه يجب أَلاّ تنصحي أولادكِ بالصّوت الذي يسمعونه في آذانهم. تقدرين أن تفعلي هذا، لكن قبل كلّ شيء عليكِ أن تكلّمي الله عن أولادكِ. أن تقولي: ” يا ربِّ يسوع المسيح، أَنِر أَولادي الصغار. أنا أُقدِّمهم إليك. أنتَ أعطَيتهم لي، وأنا ضعيفة، لا أستطيع أن أُوجِّهَهُم . لهذا، أرجوكَ، أَنِرهُم“. الله سيُكلِّمهم وسوف يقولون: ”آه ! كان ينبغي لي أن لا أُزعج الأمّ بالذي فعلتُه!“ .وهذا سيخرج من داخلهم بنعمة الله».
هذا هو التصرُّف الكامل. أن تتكلَّم الأمّ مع الله والله يكلِّم الولد. إذا لم يكن هذا، تقولين، تقولين وتقولين… كلَّ شيء “في الأذن”، وفي النهاية يصبح الكلام نوعاً من الضغط. وعندما يكبر الولد وتبدأ ردّة فعله، أي يثأر بطريقة ما من أبيه وأمّه الّلذين ضغطا عليه ، في حين أنّ الكمال واحدٌ ، وهو أن تتكلَّم المحبّة بالمسيح، وبقداسة الأب والأم. إشعاع القداسة يصيّر أولاداً صالحين، لا المحاولة البشريّة .
عندما يكون الأولاد مجروحين في نفوسهم من جرّاء مسألة خطيرة، فلا تتأثَّروا إذا كانت ردّة فعلهم وألفاظهم سيّئة. في الحقيقة، لا يريد الأولاد ذلك، لكنهم لا يقدرون أن يفعلوا عكس ذلك في الّلحظات الصّعبة. بعدها يندمون. لكن إن أنتم تنفعلون وتغضبون، تصيرون واحداً مع الشرّير فيلهو بكم جميعاً .
قداسة الأهل في الربّ هي أفضل تربية للأولاد
فلنرَ الله في وجه الأولاد ولنعطِ محبَّته لهم….. ولْيتعلّمِ الأولادُ الصّلاة. لكي يصلّي الأولاد، يجب أن يكون عندهم دمُ أهلٍ يُصلّون. وهنا، يقع بعض الناس خارج جوهر المعنى ويقولون:
«طالما أنّ الأهل يُصلّون، هم أتقياء، يطالعون الكتاب المقدَّس،وقد غذّوا الأولاد ”وربّوهم بتأديب الربّ وإنذاره “ أ(ف 6: 4)، إذاً، يكون هؤلاء أولاداً صالحين» .ومع ذلك نرى نتائج عكسيّة بسبب الضغط. وليس بكافٍ أن يكون الأهل أتقياء. عليهم أن لا يضغطوا على الأولاد، ليجعلوا منهم بالقوّة صالحين. من المحتمل أن نُبعد الأولاد عن المسيح. وذلك أن نعيش الفروض الدينيّة بأنانيّة. لا يُريد الأولاد ضغطاً . لا تُلزموهم أن يتبعوكم إلى الكنيسة. باستطاعتكم القول لهم : «مَن يشاء؛ بمقدوره أن يأتي معي الآن أو لاحقاً»
إتركوا الله يتكلَّم في نفوسهم. وسبب الضغط هو الذي يجعل الأولاد عندما يكبرون، مقاومينَ – لبعض الأهل الأتقياء-; فيبتعدون عن الكنيسة ويتركون كلّ شيء ويسرعون إلى أماكن أخرى لإشباع رغباتهم الذاتيّة وهذا بالتأكيد، ما يسبّبه الضغط الذي يمارسه الأهل «الصالحون» على الأولاد. «الأهل الأتقياء» شكلاً، الذين اعتنوا لجعل أولادهم «مسيحيين صالحين» عن طريق محبّتهم البشريّة، ضغطوا عليهم وصار عكس ما رغبوا.
يُضغط الأولاد عندما يكونون صغاراً وعندما يصبحون في السادسة عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة من عمرهم، يصلون إلى النتيجة العكسيّة … يبدأون- من ردّة فعلٍ – بالذهاب مع زُمرٍ سيّئة الأخلاق ويقولون أقوالاً فاسدة. ولكن، عندما ينمو الأولاد داخل الحريّة، و يشاهدون في الوقت نفسه المثَل الصالح عند الكبار، نُسَرّ برؤياهم ونفرح بهم. هذا هو السرّ أن تكون صالحاً، أن تكون قدّيساً لكي توحِيَ وتَشِعّ. يبدو أنّ إشعاع حياة الأولاد نتيجة إشعاع الأهل. يصرّ الأهل : »هلاّ اعترِف، هلاّ تناوَل، هلاّ افعل….. «النتيجة لا شيء.
هل يراك ولدُك فاعلاً ما تقوله له ؟ ما تعيشه، تشعّه أنتَ. أيَشِعُّ المسيح في داخلكَ؟ هذا ينتقل إلى ولدك، وهنا يكمن السرّ. وإن تحقَّق هذا، وولدك ما زال صغيراً في السنّ، لن يحتاج أن يتعب كثيراً عندما يكبر. بناءً على ما سبق، يستخدم سليمان الحكيم تحديداً صورة رائعة مشدِّداً على المعنى المتضمِّن الإنطلاقة الجيّدة، البداية الحسنة، الأساس المتين. يقول في مكان ما: «مَن بكَّر في طلبها (الحكمة) لا يتعب لأنّه يجدها جالسة (بالقرب-… ) عند بابه ( حكمة 6: 14 ) المبكِّر في طلبها» هو الإنشغال بها -أي الحكمة- من عمر الشباب . الحكمة هنا هي المسيح . كلمة «πάρε» تعني «موجود بالقرب».
عندما يكون الأهل قدّيسين وينقلون هذه القداسة إلى الولد ويهبونه تربية في الربّ، إذ ذاك لا يتأثَّر الولد بمحيطه تأثُّراً سيّئاً، لأنّ الحكمة أي المسيح ستكون على عتبة بابه . لن يتعب لكي يمتلكها.
يبدو من الصعب جدّاً أن تكون صالحاً، أمّا في الحقيقة فهو سهل جدّاً، عندما تنطلق، وأنتَ صغير، بمسالك حياة صالحة، وعندما تكبر لا يُحتاج إلى التّعب، لأنّك تمتلك الصّلاح في داخلك وتعيشه. أنتَ لا تتعب، أنتَ قد عِشته، فهو إِرثك، الذي تحفظه وترعاه في الوقت ذاته طيلة حياتك – إذا انتبهت عليه – …
وفي المدرسة- تستطيعون أن تساعدوا الأولاد بالصلاة والقداسة
الحاصل مع الأهل ممكنٌ أن يحصل مع التربويّين. وفي المدرسة تستطيعون أن تساعدوا الأولاد بالصّلاة والقداسة. يمكن أن تظلّلهم نعمة الله وبها يصيرون أولاداً صالحين. لا تحاولوا تصحيح الحالات السيّئة بطرق بشريّة، لأنّ ذلك لا يُؤتي بأيّ نفعٍ. بالصّلاة فقط ستجنون النتائجَ الحسنة. اطلبوا النعمة الإلهيّة للجميع، لتذهب إلى أعماق نفوسهم لتبدّلهم وتغيّرهم. هذا يكون مسيحيّاً .
أنتم التربويّون تنقلون القلق سرّاً إلى الأولاد وتؤثِّرون عليهم من حيث لا تدرون. بالإيمان يرحل القلق. نقول في الطلبات: «لنودعْ أنفسنا وبعضنا بعضاً وكلّ حياتنا للمسيح الإله».
قابلوا الأولاد بمحبّة الأطفال المميَّزة. هكذا، إن أحبّوكم، ستستطيعون اقتيادهم إلى جانب المسيح. ستصبحون أنتم الواسطة. لتكن محبّتكم صادقة. أن لا تحبّوهم محبّة بشريّة كما يفعل الأهل عادةً، بهذا لن تساعدوهم. محبّة في الصّلاة، محبّة في المسيح. هذه هي التي تفيد بالفعل. صلّوا من أجل كلّ ولد ترَونه والله سيرسل نعمته ويوَحِّده معه. قبل أن تدخلوا الصفّ، وخصوصاً الصـعبة منها، قولوا صلاة يسوع: «يا ربِّ، يسوع المسيح، إرحمني أنا الخاطئ». وعندما تدخلون الصفّ اغمروا بنظرتكم كلّ الأولاد، صلّوا ثمّ تكلّموا مقدِّمين لهم كلّ ذواتكم. عندما تقومون بهذه التقدمة في المسيح، سوف تفرحون. هكذا ستتقدَّسون أنتم مع الأولاد. ستعيشون داخل محبّة المسيح وداخل الكنيسة، لأنّكم تصبحون صالحين داخل العمل.
إذا حدث وخلق تلميذٌ مشكلة، وجّهوا أولاً ملاحظة عامّة قائلين:
– أيّها الأولاد، أتينا إلى هنا للدرس، للعمل الجدّي. أنا هنا إلى جانبكم لأساعدكم. وأنتم تتعبون لتنجحوا في الحياة. وأنا، الذي أحبّكم كثيراً كثيراً، أتعب من أجلكم. لهذا، أرجوكم أن تحافظوا على الهدوء لِنصل إلى هدفنا.
لن تنظروا إلى الذي أساء التصرُّف. إذا استمرّ، تتوجَّهون إليه لا بغضب بل بجِدِّية وحزم. ستنتبهون كيف تُثبِتون ذواتكم في الصفّ، لتستطيعوا التأثير على نفوسهم . لا يُخطئ الأولاد الصعاب . هذا يعود إلى الكبار.
لا تقولوا للأولاد الكثير عن المسيح، عن الله، لكن صلّوا لله من أجلهم. الكلام يطنّ في الآذان، أمّا الصّلاة فتذهب إلى القلب. إسمعوا سرّاً واحداً: لا تعطوا درساً في اليوم الأوّل الذي تدخلون فيه الصفّ. تكلّموا معهم بعذوبة كلمة كلمة. تصرّفوا معهم بمحبّة . في البداية، لا تكلّموهم أبداً عن الله ولا عن النفس. بل في المرّات الّلاحقة. تهيَّأوا جيّداً في اليوم الذي ستكلّمونهم عن الله قائلين لهم:
هناك موضوع يشكّ فيه الكثيرون. هو موضوع «الله». ما رأيكم فيه؟ ثمّ تبدأ المناقشة.
وفي يوم آخر كلّموهم عن موضوع «النّفس».
– هل هناك «نفس»؟
ثمّ تكلّموا عن الشرّ من ناحية فلسفيّة. قولوا لهم إنّنا نملك ذاتَين، الخيِّرة والشرّيرة. يجب أن نزرع الخيّر فهو يريد التقدّم، الصّلاح، المحبّة . يجب أن نوقظ هذا كي نصبح أُناساً محقّين في المجتمع. تذكّروا ذلك القول: «يا نفسي، يا نفسي، إنهضي، لماذا ترقدين؟» لا تقولوا لهم هكذا بل بكلمات أُخرى على الشكل التّالي: «يا أولاد، كونوا يقظين من أجل العلم، من أجل الصّلاح، من أجل المحبّة. فقط المحبّة تجعل كلّ شيء جميلاً وتملأ حياتنا وتُكسبها معنىً وجمالاً. الذّات الشرّيرة تريد الخمول، الإهمال. لكن هذا يجعل الحياة بلا مذاق، بلا معنى ودون جمال».
لكن، كلّ هذا، بحاجة إلى استعداد. المحبّة تتطلّب تضحيات وفي كثير من الأحيان تضحية وقتٍ. أُعطوا الأولويّة للتّحضير لتكونوا جاهزين عند تقديم ما أنتم بصدد إعطائه للأولاد وحاضرين لقوله بمحبّة وقبل كلّ شيء بفرح. اظهروا لهم محبّتكم واعرفوا ماذا تريدون وماذا تقولون لهم. ولكن، هذا كلّه يتطلّب فنّاً، كيف ستتصرّفون مع الأولاد. بناءً عليه، سمعتُ شيئاً عذباً. إستمعوا إليه:
هناك أستاذ، كان مسروراً من كلّ الأولاد، لكنّه كان يعاني من فوضى تلميذ مشاغب، وكان يريد أن يطرده من المدرسة. في مثل هذه الأثناء، أتى أستاذ شاب واستلم الصفّ. إستعلم جيّداً عن التلميذ المحدَّد. عرف الاستاذ الجديد أنّ ذاك التلميذ كان يحبّ بشغف ركوب الدرّاجة. في اليوم الثاني، عندما دخل الصفّ، قال :
– أيّها الأولاد، لديّ مشكلة. أسكن بعيداً وأُعاني من أَلم في رجليّ، يمنعني من المشي وأودّ أن أستعمل درّاجة، لكننّي لا أعرف استخدامها. هل يقدر أحدٌ منكم أن يعلّمني؟
حسناً، أسرع التلميذ المشاغب، وقال:
أنا، سأعلّمك!
– أتعرِف ذلك؟
– نعم، أعرِف .
ومنذ ذلك الوقت أصبحا صديقَين عزيزَين إلى حدّ أحزن الأستاذ القديم، الذي كان يراه. شعر أنّه لم يكن كفوءاً لفرض ذاته على التلميذ.
تحدث مرّات كثيرة أن يوجد في المدرسة أَولاد يتامى. اليتم شيء صعب. كلّ مَن حُرِم من أهله، وفي عمرٍ مبكرٍ، أصبح بائساً في الحياة. إن حدث واكتسب والِدَيْن روحِيَّين، المسيح والكلّيّة القداسة، أصبح قدّيساً. تصرّفوا مع الأولاد اليتامى بمحبّة وتفهّم، واجتهدوا خصوصاً بربطهم بالمسيح وبالكنيسـة .
علّموا الأولاد أن يطلبوا مساعدة الله
الدواء والسرّ الكبير لتقدّم الأولاد هو التّواضع. الثّقة بالله، تُعطي ضمانةً مطلقةً. الله هو الكلّ. لا يستطيع أحد القول بأنّه هو الكلّ. هذا القول يدعم الأنانيّة. ألله يريد أن نقود الأولاد إلى التّواضع. لن نقوم نحن بشيء ولا الأولاد بدون التّواضع. علينا أن ننتبه، عندما تشجِّعون الولد، يجب أن لا تقولوا له: «أنتَ ستحقِّق كلّ شيء، أنت مهمّ، أنت شابٌ، أنت شجاعٌ، أنت كامل !…….». بهذا الكلام لا تفيدون الولد. يمكنكم أن تطلبوا منه الصّلاة. قولوا له: «يا بنيّ، المواهب التي لديك نِعَمٌ قد وهبك إيّاها الله. صلِّ لِيُعطِيَك الله قدراتٍ لكي تزرعها وتُنمِّيها وتنجح بها. ليُعطيَك الله نعمته». بهذا يكون الكمال.
على الأولاد أن يطلبوا مساعدة الله في كلّ المواضيع. المديح للأولاد مؤذٍ. ماذا تقول كلمة الله؟ «يا شعبي ! إنّ مرشديك يضلّونك وقد أفسدوا سبيل طرقك» ( أشعياء 3: 12 ). كلّ مَن يمدُحنا، يضلّنا ويفسد طرق حياتنا.
كم هي حكيمة أقوال الله ! المديح لا يُهيِّئ الأولاد لأيّة صعوبة في الحياة، فينشـأون غير متأقلمين إجتماعيّاً فيتيهون وفي النهاية يفشلون. الآن، فَسُدَ العالم. يقولون للولد كلّ أنواع المديح. علينا أن لا نزعجه ولا نعاكسه ولا نضغط عليه . يتلقّى الولد هذا ولكنّه لا يستطيع أن ينفعل حقّاً حتى و في أصغر صعوبة. وفي أيّة لحظة يعاكسه أحد، ينفجر غضباً، فيَفْقُدُ طاقته .
الأهل هم أوّل مَن يتحمَّل فشل الأولاد في الحياة ومن ثَمّ المعلِّمون والأساتذة، لأنّهم يمدحونهم باستمرار. يقولون لهم أقوالاً ذاتيّةً وأنانيّةً. لا يجلبونهم إلى روح الله، يبعدونهم ويغرِّبونهم عن الكنيسة. عندما يكبرون قليلاً ويذهبون إلى المدرسة مع هذه الأنانيّة، يهربون من الديانة ويحتقرونها، يفقدون الإحترام تجاه الله، تجاه الأهل وتجاه الجميع . يصبحون مقاوِمين، وقساةً، لا يشعرون بالألم، ولا يحترمون، لا الديانة ولا الله . ونكون هنا قد خرّجْنا إلى الحياة أنانيّين لا مسيحيّين .
لا يُبنى الأولاد بالمديح المتواصل
لا يُبنى الأولاد بالمديح المتواصل. بل يُصبحون أنانيّين ومحبّين للمجد الباطل والفارغ. يرغبون أن يُمتَدحوا من الجميع باستمرار في حياتهم كلّها حتى ولو كان المديح كذباً. تعلّم الجميع القول مصحوباً بالأكاذيب وللأسف ويتقبّلها محبّو المجد الفارغ وهي غذاؤهم، «ويؤيّدون قولها ولو كانت كذبةً ولو كانت مذمّة» .لله لا يريد ذلك. الله يريد الحقيقة. لكن، هذا و للأسف لا يفهمه الجميع ويفعلون عكسه بالكلِّية.
عندما تَمدح الأولاد بصورة متواصلة دون تمييز، ينزعجون ممّن يعاكسهم. تثيرهم سِهام الأنانيّة التي اعتادوها من الصِّغر من ضلال مديح الأهل والمعلّمين، ربّما يتقدّمون في الدروس، لكن ما الفائدة؟ في الحياة يخرجون أنانيّين وغير مسيحيّين. الأنانيّون لا يقدرون أبداً أن يكونوا مسيحييّن. يريد الأنانيّون باستمرار أن يمدحهم الجميع، أن يحبّهم الجميع، أن يقول عنهم الكلّ أقوالاً حسنة وهذا شيء لا يريده إلهنا، كنيستنا، ولا مسيحنا .
لا تريد ديانتنا هذه الطريقة، هذه التنشئة. بل على العكس، تريدهم أن يتعلّموا من الصِّغر عن طريق الحقيقة .
حقيقة المسيح تؤكِّد على أنّ، إذا امْتدحتَ إنساناً تجعله أنانيّاً. الأنانيّ هو المرتبك، الأنانيّ مُقادٌ من الشيطان ومن الروح الشرّير. وهكذا، يكون عمله الأوّل – وهو ينمو ضمن الأنانيّة – أن ينكر الله وأن يكون إنساناً أنانيّاً غير متآلف داخل المجتمع. يجب أن تقول الحقيقة، أن يتعلّمها الانسان. وإلاّ تدعمه في جَهْل علمه. عندما تقول الحقيقة لواحدٍ ما، يُرشَد هذا إلى مَوقعه، ينتبه، يسمع الآخرين ويضبَط نفسه، وهكذا، ستقول الحقيقة إلى الولد، تلومُه، لِيُدرك أنّ ما يقوم به غير صالحٍ. ماذا يقول سليمان الحكيم: «مَن لم يستعمِل عصاه يُبغِض إبنه والذي يحبّه يبتكر إلى تأديبه». ( (أمثال13: 2). لكن، لا أن تضربه بالعصا . عندها نبتعد عن الحدود ويصير العكس.
نقود الأولاد بالمديح منذ صِغرهم إلى الأنانيّة. والأنانيّ يمكنك أن تسخر منه، يكفي أن تقول له إنّه صالح، أن تنفخ أناه. فيجيبك: «آه، هذا الذي يمدحني هو إنسان صالح».
ليست هذه أشياءُ حقّة. لأنّ الانسان يكبر مع الأنانيّة، يبدأ الإرتباك في داخله، يعاني، ولا يعرف ماذا يفعل؟ الأنانيّة هي سبب عدم استقرار النّفس، حتى أطبّاء النّفس، إن فتّشوا عن عدم هذا الإستقرار، سيجدون أنّ الأنانيّ هو إنسان مريض.
يجب أن لا نمدح أبداً الناس العائشين معنا وأن لا نلاطفهم، بل علينا أن نقودهم إلى التّواضع، وإلى محبّة الله. كما ولا نطلب نحن محبّة الآخرين بمدحنا لهم . لِنتعلّم أن نحبَّ، لا أن نطلب المحبّة من الآخر. لِنحبَّ الجميع ونقوم بقدر المستطاع بتضحياتٍ كبيرةٍ دون مقابل لكافة الإخوة في المسيح، دون أن ننتظر مدحاً ومحبّة منهم. وهؤلاء سيقدّمون لنا ما يقوله الله لهم. إن كانوا هم مسيحيّين، يعطون مجداً لله، لأنّنا وُجدنا معهم أو ساعدناهم أو قلنا لهم كلمةً جميلةً.
وهكذا عليكم أن تقودوا أولاد المدرسة. هذه هي الحقيقة، وبغير ذلك لا يُصبحون متآلفين مع الآخرين. لا يعرفون ماذا يفعلون ولا أين يسيرون، وسبب ذلك هو نحن.
لم نَقِدْهم إلى الحقيقة، إلى التّواضع، إلى محبّة الله. جعلناهم أنانيّين وها هي النّتيجة الآن!
هناك أولاد يأتون من صِغرهم من أهل متواضعين، كلّموهم عن الله وعن التّواضع المقدَّس. هؤلاء الأولاد لا يأتون بمشاكل مع الناس العائشين معهم. لا يغضبون عندما تشير إلى غلطهم، بل يحاولون أن يصحّحوه، ويصلّون إلى الله أن يساعدهم كي لا يصبحوا أنانيّين.
أنا، ماذا أقول لكم؟ عندما قد ذهبتُ إلى الجبل المقدَّس، زرتُ آباءً شيوخاً كثيريّ القداسـة. هؤلاء لم يقولوا لي أبداً كلمة “Bravo” كانوا ينصحونني دائماً كيف أحبّ الله و كيف أكونُ متواضعاً. أن أسأل الله لكي يقوِّيني في نفسي و أن أحبَّه كثيراً. ولم أكن أعرف هذا ال «برافو» وما طلبته أبداً. على العكس، كنتُ أنزعج إذا لم يَلُمْني آبائي الشـيوخ. كنتُ أقول : «بالله، لم أجد آباءً شيوخاً صالحين!».كنتُ أريد أن يعذِّبوني، أن يلوموني، أن يتصرّفوا معي بقساوة. هذه الأمور التي أقولها لكم الآن، إن سمعها مسيحيٌّ،ماذا سيقول؟ سيفقد صوابه وسيرفضهم.
ولكن، هذا هو الصحيح، الوضيع، النقيّ. لم يقلْ لي أهلي أبداً كلمة “Bravo” وما كنت أرغب بها ال “Bravo” لهذا، كلّ ما كنتُ أقوم به، كان دون مقابل. والآن عندما يمدحني الناس، أشعر بامتعاضٍ كبير. ماذا أقول لكم…..أنغلق في داخلي، عندما يقـول الآخرون لي”Bravo ” لكن، لم تؤْذِني هذه الكلمة لأنّني تعلَّمت التّواضع. والآن، لماذا لا أُريد أن يمدحوني؟ لأنّني أعرف أنّ المديح يجعل الإنسان فارغاً ويطرد نعمة الله. ونعمة الله تأتي فقط بالتّواضع المقدَّس. الإنسان المتواضع هو الإنسان الكامل. أَليست هذه كلّها جميلةً؟ أَليست حقيقيّة؟……
إذا قلتَ كلّ هذا لأيّ إنسان، «يُجيب ماذا تقول يا صاحبي، إن لم تمدح الولد فليس بمقدوره أن يدرس، لن، ولن، ولن…..». نعم، يقع هذا، لأنّنا نحن هكذا ويكون الولد حصيلة عملنا. أي إنَّنا قد ابتعدنا عن الحقيقة. الأنانيّة أخرجت الإنسان من الفردَوس، هي شرٌّ عظيم. الناس الأوّلون، آدم وحوّاء، كانوا بسطاء ومتواضعين، لهذا، كانوا يعيشون في الفردَوس. لم يكن عندهم أنانيّة. كان عندهم، كما يُقال في اللغة اللاهوتيّة، الولادة الأصليّة –Archégono– عندما نقول الولادة الأصليّة –Archégono-، نقصد النِّعَم التي أعطاها الله في البدء، عندما كوَّن الإنسان. يعني الحياة، عدم الموت، الضّمير، الإكتفاء، المحبّة، التّواضع، إلخ…..
بعدها، حقَّق الشيطان نجاحه بالمديح وضلّلهم. امتلأوا أنانيّة. لكنّ طبيعة الإنسان، كما جبلها الله في البدء هي طبيعة تواضع . في حين أنّ الأنانيّة شيء غير طبيعيّ،هي مرض، هي ضدّ الطبيعة .
حسناً، عندما نخلق نحن عند الولد «الأنا الفائق» عن طريق المديح، ننفخ فيه الأنانيّة، ونؤذيه كثيراً، ونجعله أكثر مَيْلاً للأشياء الشيطانيّة. وهكذا مع تنميتنا له “الأنا الفائق”، نبعده عن كلّ قِيَم الحياة. ألا تعتقدون أنّ هذا هو سبب ضياع الأولاد وإثارة الناس؟
السَّبب هو الأنانيّة التي قد زرعها الأهل فيهم ونشأوا -هُمْ- (أي الأهل) عليها.
الشيطان هو الأنانيّ وكوكب الصبح الأكبر، أي إنَّنا نعيش الشيطان في داخلنا، لا التّواضع.
التّواضع هو من الله، هو شيء ضروريّ لنفس الإنسان، كما وإنّه شيء عضوي. وعندما ينقص التّواضع يكون كما لو نقص القلب من الجسد. القلب يُعطي الحياة لبنية الإنسان والتّواضع يُعطي حياة للنَّفس. الإنسان بأنانيّته في النهاية، شريك مع الروح الشرّيرة، أي إنَّه ينمو مع روح الشرّ لا مع الصّالح.
هذا ما استطاع الشيطان أن يفعله، حوَّل الأرض جحيماً، كي لا نستطيع أن نتفاهم فيما بيننا. ما الذي حلّ بنا ولا نفهمه؟
أَرأيتم كيف ضُلِلنا؟ حقّاً، أرضُنا وعصرُنا أضحيا مستشفى للأمراض النفسيّة! ولا نفهم سبب ذلك؟ الكلّ يتساءل:” ماذا حلّ بنا؟، أين نحن ذاهبون؟ لماذا شرد أولادنا في الطرقات؟ لماذا رحلوا من بيوتهم، لماذا تخلّوا عن الحياة، لماذا تركوا ثقـافتهم؟ لماذا، لماذا كلّ هذا؟….”
استطاع الشيطان أن يُخفِيَ ذاته وأن يجعل الناس يستخدمون أسماءَ أخرى. يقول غالباً الأطبّاء ومحلِّلو النفس عندما يمرض الانسان: «آه! عندك عصبيّة!» أو ما يشابهها، «آه! عندك قلق!» وما إلى ذلك.لا يعترفون بأنّ الشيطان هو الذي يحرِّك ويثير الأنانيّة عند الإنسان. ولكن الشيطان موجود، هو الروح الشرّير. إن قلنا لا يوجد الشيطان، نكون كمن نرفض الإنجيل الذي يتكلّم عنه. هذا هو عدوّنا، محاربُنا في الحياة، معاكس المسيح، ويقال عنه ضدّ المسيح.
أتى المسيح إلى الأرض، ليُحرِّرنا من الشيطان ويمنحنا الخلاص.
النتيجة التى نستخلصها هي: علينا أن نعلّم الأولاد أن يعيشوا بتواضع وببساطة، و أن لا يطلبوا المديح والـ «Bravo». لِنعلِّمهم أنّ التّواضع موجود وهو صحّةُ الحياة.
تفكير مجتمع اليوم يُسيء إلى الأولاد. له نفسيّةٌ أخرى، تربيةٌ أخرى، تتوجَّه إلى أولاد ملحدين. هذا التفكير يقود إلى الإستقلاليّة. النتائج ظاهرة عند الأولاد وعند الشـباب الذين يصــرخون اليوم ويقولون: «يجب أن تفهمونا!». يجب ألاّ نذهب إليهم، بل على العكس، سنصلّي من أجلهم، سوف نقول الحقّ، سنعيشه، سنعظه، لكن لا نتأقلم بروحهم. أن لا نفسد عظمةَ إيماننا. ليس من المعقول مساعدتهم في تبنّي تفكيرهم. يجب أن نكون ما نحن وأن نكرز بالحقيقة وبالنور.
من الآباء الروحيّين يتعلَّم الأولاد. تعليم الآباء الروحيّين يُعلِّم أولادنا عن الاعتراف، عن الأهواء، عن الشّرور، كيف كان ينتصر القدّيسون على ذواتهم الشرّيرة. ونحن نضرع إلى الله لكي يسكن في داخلهم.
No Result
View All Result