اتضع لأجلك فلا تحتقر تواضعه
القديس غريغورويس النزينزي
احتاج الإنسان لدواء أكثر قوة لأن أمراضه كانت تزداد سوءا, مثل قتل الأخ والزني والقسم الكاذب, والجرائم الشاذة وأول وآخر كل الشرور أي عبادة الأصنام وتحويل العبادة الى المخلوقات بدلا من الخالق (رو1 :18ـ32) وبما ان هذه كانت تحتاج الي معونة أكبر, لذلك حصلت علي من هو أعظم. ذلك هو كلمة الله ذاته, الأبدي الذي هو قبل كل الدهور, وهو الغير منظور, غير المفحوص وغير الجسدي, البدء الذي من البدء, النور الذي من النور, مصدر الحياة والخلود, صورة الجمال الأصلي الأول, الختم الذي لا يزول, الصورة التي لا تتغير, كلمة الآب واعلانه, هذا اتي الى صورته [1], وأخذ جسدا لأجل جسدنا, ووحد ذاته بنفس عاقلة لأجل نفسي لكي يطهر الشبه بواسطة شبهه, وصار انسانا مثلنا في كل شئ ماعدا الخطية إذ ولد من العذراء التي طُهرت أولا نفسا وجسدا, بالروح القدس (لأنه كان يجب أن تُكرم ولادة البنين وأيضا أن تنال العذراوية كرامة أعظم), وهكذا حتي بعد أن اتخذ جسدا ظل الها, إذ هو شخص واحد من الاثنين,
ياله من اتحاد عجيب, الكائن بذاته يأتي الى الوجود, غير المخلوق يُخلق [2] , غير المحوي يُحوي بواسطة نفس عاقلة تتوسط بين الألوهة والجسد المادي, ذاك الذي يمنح الغني يصير فقيرا, فقد أخذ علي نفسه فقر جسدي, لكي آخذ غني ألوهيته. ذاك الذي هو ملئ يخلي نفسه, لأنه أخلي نفسه من مجده لفترة قصيرة, ليكون لي نصيب في ملئه. أي صلاح هذا؟! وأي سر يحيط بي؟! اشتركت في الصورة, ولم أصنها, فاشترك في جسدي لكي يخلص الصورة ولكي يجعل الجسد عديم الموت. هو يدخل في شركة ثانية معي أعجب كثيرا من الأولي, وبقدر ما أعطي حينئذ الطبيعة الأفضل, فهو الآن يشترك في الأسوأ [3] هذا العمل الأخير (التجسد) يليق بالله أكثر من الأول (الخلق) , وهو سامي جدا في نظر الفاهمين.
ما الذي سوف يقوله المعترضون والمجدفون علي الألوهية, أولئك المشتكون ضد كل الأمور الجديرة بالمديح, أولئك الذين يجعلون النور مظلما, والذين لم يتهذبوا بالحكمة, أولئك الذين مات المسيح لأجلهم باطلا, أولئك المخلوقات غير الشاكرة الذين هم من صنع الشرير؟ هل تحول هذا الاحسان الي شكوي ضد الله؟ هل تنظر اليه علي أنه صغيرا لأنه هو الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن الخراف (يو10 : 11) والذي أتي ليطلب الخروف الذي ضل فوق التلال والجبال والتي كانت تقدم فيها ذبائح لآلهة غريبة, وعندما وجده حمله علي منكبيه اللتين حمل عليهما خشبة الصليب, وأعاده الي الحياة الأسمي, وعندما أعاده حسبه مع أولئك الذين لم يضلوا أبدا؟ هل تحتقره لأنه أضاء سراجا الذي هو جسده, وكنس البيت, مطهرا العالم من الخطية, وفتش عن الدرهم اي الصورة الملكية التي دُفنت وغطتها الشهوات. وجمع الملائكة أصدقاءه, عندما وجد الدرهم جعلهم شركاء في فرحه والذين جعلهم أيضا مشاركين في سر التجسد؟
فبعد سراج السابق الذي أعد الطريق, يأتي النور الذي يفوقه في البريق, وبعد “الصوت” أتي “الكلمة” وبعد صديق العريس جاء العريس, صديق العريس الذي أعد الطريق للرب شعبا مختارا, مطهرا اياهم بالماء ليجهزهم للروح القدس؟ هل تلوم على كل هذا؟ هل علي هذا الأساس تعتبره وضيعا لأنه شد الحزام على وسطه وغسل أرجل تلاميذه(يو 13 : 4), وأظهر أن التواضع هو أفضل طريق للرفعة؟ لقد اتضع لأجل النفس التي انحنت الى الحضيض لكي يرفعها معه, تلك النفس التي كانت تترنح لتسقط تحت ثقل الخطية, كيف لا تتهمه أيضا بجرم الأكل مع العشارين وعلى موائد العشارين (لو 5 : 27) , وأنه يتخذ تلاميذا من العشارين, لكي يربح … وماذا يربح؟ خلاص الخطاة. وان كان الأمر هكذا, فيجب أن نلوم الطبيب بسبب أنه ينحني علي الجروح ويحتمل الرائحة النتنة لكي يعطي الصحة للمرضي, أو هل نلوم ذاك الذي من رحمته ينحني لكي ينقذ حيوانا سقط في حفرة كما يقول الناموس (تث22: 40) (لو 14: 5)
المسيح أُرسل, لكنه أُرسل كانسان لأنه من طبيعة مزدوجة [4], لأنه شعر بالتعب وجاء وعطش وتألم وبكى حسب طبيعة كائن له جسد, وإذا استعمل تعبير “أُرسل” عنه, فمعناه أن مسرة الآب الصالحة يجب أن تعتبر ارسالا, فهو يرجع كل ما يختص بنفسه إلى هذه الارسالية, وذلك لكي يكرم المبدأ الأزلي [5] وأيضا لأنه لا ينبغي أن يُنظر إليه علي أنه مضاد لله. فقد كتب عنه أنه سُلم بخيانة وأيضا سلم ذاته, وأيضا كتب عنه أنه أُقيم بواسطة الآب وأنه أُصعد, ومن جهة أخرى أنه قام وصعد. فما ذكر أولا في كل عبارة فهو من ارادة الآب (أنه سُلم وأنه أُقيم), أما الجزء الثاني من كل عبارة فيشير إلى قوته هو. فهل تفكر في الأمور التي تجعله يبدو وضيعا, أما الثانية التي ترفعه فأنت تتغافل عنها. وتضع في حسابك أنه تألم, ولا تحسب أن هذا الألم بارادته.
انظر فحتى الآن لا يزال الكلمة يتألم. فالبعض يكرمونه كاله ولكن يخلطون بينه وبين الآب [6], والبعض الآخر يحقرونه كمجرد جسد ويفصلونه عن اللاهوت [7]. فعلي من يصب جام غضبه بالأكثر؟ أو بالأحري من هم الذين يغفر لهم؟ هل الذين يخلطونه بطريقة جارحة أو أولئك الذين يقسمونه؟ فالأولون كان يجب أن يميزوا (بين الأقانيم) والآخرين كان يجب أن يوحدوه (مع الآب). الأولون من جهة عدد الأقانيم والآخرون من جهة الألوهية, هل تتعثر من تجسده؟ هذا ما فعله اليهود. ربما تريد أن تدعوه سامريا؟ ولن أذكر ما قالوه عن المسيح بعد ذلك (يو 8: 48) هل تنكر ألوهيته؟ هذا لم يفعله حتي الشياطين. للأسف كم أنت أقل إيمانا من الشياطين! وأكثر جهلا من اليهود! فهؤلاء اليهود قد فهموا أن اسم ابن يدل علي أنه مساو في الرتبة (أي مساوي لله), أما أولئك الشياطين فعرفوا أن الذي طردهم هو اله, لأنهم اقتنعوا بذلك بسبب ما حدث لهم. أما أنت فلا تعترف بالمساواة ولا تقر بلاهوته. كان من الأفضل أن تكون أما يهوديا أو شيطانا (لو عبٌرت علي ذلك بطريقة مضحكة), عن أن يتسلط على ذهنك اشر وعدم الايمان وأنت أغلف وبصحة جيدة.