عظة قداسة البابا خلال قدّاس عيد زيارة العذراء مريم للقدّيسة أليصابات (عيدها 31 أيار)
إن الإنجيل الذي سمعناه يدخلنا في عمق لقاء امرأتين تتعانقان وتملآنِ كلّ شيء بالسعادة والتسبيح: يتهلّل الطفل فرحًا وتبارك أليصابات نسيبتها على إيمانها؛ مريم تتغنّى بالعجائب التي صنعها الربّ بأمته المتواضعة عبر نشيد الرجاء الكبير، نشيد الذين لم يعودوا قادرين على الترنيم لأنهم فقدوا أصواتهم… ترنيمة رجاء تريد إيقاظنا نحن أيضًا، ودعوتنا إلى إنشاده اليوم بواسطة ثلاثة عناصر ثمينة نشأت من تأمّل التلميذة الأولى: مريم تسير، مريم تلتقي، ومريم تبتهج.
مريم تسير… من الناصرة إلى بيت زكريا وأليصابات: إنها أوّل تنقّلات مريم التي يرويها الكتاب المقدّس. أولى تنقّلاتها الكثيرة. فسوف تذهب من الجليل إلى بيت لحم، حيث سيولد يسوع؛ وسوف تهرب إلى مصر لتنقذ الطفل من هيرودس. وسوف تصعد إلى أورشليم كلّ عام لتعيّد الفصح، إلى أن تصعد لآخر مرّة حيث ستتبع ابنها حتى الجلجلة. ولهذه التنقّلات ميزة خاصّة: لم تكن يومًا تنقّلات سهلة، فقد تطلّبت الشجاعة والصبر. وتخبرنا أن العذراء تعرف مشقّات “الصعود”، وتعرف “صعودنا”: هي أختٌ لنا في المسيرة. إنها خبيرة في التعب، وتعرف كيف تأخذنا بيدنا في الصعوبات، عندما نواجه أشدّ “الانحناءات” في حياتنا. وكالأمّ الصالحة، تعرف مريم أن المحبّة تشقّ طريقها عبر الأمور اليوميّة الصغيرة. محبّةٌ وإبداعٌ والديٌّ قادران على تحويل مغارة للبهائم إلى بيت يسوع، ببعض الأقمطة الفقيرة وجبلٍ من الحنان (الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل، 286).
إن التأمّل في مريم يسمح لنا بالنظر إلى العديد من النساء، أمّهات وجدّات هذه الأرض، اللواتي، بالتضحية والتستّر، وبإنكار الذات والعمل، يصنعنَ الحاضر ويحيكن أحلام الغد. عطاءٌ صامت، صلب، لا يلاحظه أحد، ولا يخشى أن “يشمّر عن سواعده” ويتحمّل المصاعب كي يدفع إلى الأمام بحياة الأبناء وجميع أفراد الأسرة، راجٍ “على غير رجاء” (روم 4، 18). فالحسّ القويّ بالرجاء الذي يعيش وينبض في شعبكم، أبعد من كلّ الظروف التي قد تعتمه أو تحاول إخماده، ما زال ذكره حيًّا. عبر التأمّل بمريم وبالعديد من وجوه الأمّهات، نختبر ونغذّي فسحة الرجاء (وثيقة أباريسيدا، 536)، الذي يولّد المستقبل ويفتحه. لنقل بقوّة: هناك مجال للرجاء في شعبنا. ولهذا السبب تسير مريم وتدعونا لنسير معًا.
مريم تلتقي بأليصابات (لو 1، 39- 56)، الطاعنة بالسنّ (آية 7). ولكنها هي، المرأة المسنّة، التي تتحدّث عن المستقبل، فتتنبّأ: وقد “امتَلأَت مِنَ الرُّوحِ القُدُس” (آية 41)، وتدعوها “مباركة” لأنها “آمنت” (آية 45)، مستبقة آخر تطويبة من الأناجيل: طوبى لمن آمن (يو 20، 29). ها إن الشابّة تذهب للقاء المسنّة بحثًا عن الجذور، وتولَد المسنّة من جديد وتتنبّأ للشابّة وتمنحها المستقبل. وهكذا، يجتمع الشبّان والمسنّون ويتعانقون ويستطيعون إيقاظ أفضل ما فيهم. إنها المعجزة التي تحقّقها ثقافة اللقاء، حيث لا يتمّ تجاهل أيّ شخص أو تصنيفه، بل على العكس، يشمل الاهتمام الجميع، لأنهم ضروريّون، كيما يتألّق وجه الربّ. لا يخافون من السير معًا، وعندما يحدث هذا، يأتي الله ويصنع المعجزات في شعبه.
لأن الروح القدس هو الذي يشجّعنا على الخروج من ذواتنا، ومن انغلاقنا وخصوصيّاتنا، كي يعلّمنا أن ننظر إلى ما وراء المظاهر ويمنحنا الفرصة لنحسن القول بالآخرين -“نباركهم”- وخاصّة بالكثير من إخوتنا الذين واجهوا العواصف، والمحرومين ربما ليس فقط من السقف أو من القليل من الخبز، إنما من الصداقة ومن دفء مجتمع يحتضنهم، ويحميهم ويستضيفهم. ثقافة اللقاء التي تدفعنا نحن المسيحيّين إلى اختبار معجزة أمومة الكنيسة التي تبحث عن أبنائها وتدافع عنهم وتوحّدهم. ففي الكنيسة، عندما تجتمع الطقوس المختلفة، عندما لا نضع أوّلا انتماءنا الخاص، أو جماعتنا أو مجموعتنا الإثنية، إنما شعب الله الذي يعرف كيف يحمد الله سويًّا، تحدث حينها أشياء عظيمة. لنقل بقوّة: طوبى لمن آمن (يو 20، 19) ولمن لديه الشجاعة لخلق اللقاء والشركة.
مريم التي تسير وتلتقي بأليصابات تذكّرنا بالمكان الذي أراد الله أن يسكنه ويعيش فيه، ما هو ملاذه وحيث يمكننا سماع دقّات قلبه: وسط شعبه. فيه يسكن، وفيه يعيش، وفيه ينتظرنا. ونشعر أن دعوة النبي إلى عدم الخوف وعدم الاستسلام، هي موجّهة إلينا. لأن الربّ إلهنا هو في وسطنا، الجبّار الذي يخلّص (صف 3، 16- 17)، هو في وسط شعبه. هذا هو سرّ المسيحي: الله في وسطنا، الجبّار الذي يخلّص. وهذا اليقين، كما كان الحال بالنسبة لمريم، يسمح لنا بالترنيم والابتهاج فرحًا. مريم تبتهج، وهي تبتهج لأنها تحمل الـ عمانوئيل، الله معنا. “أن نكون مسيحيّين يعني الفرح بالروحِ القُدس” (الإرشاد الرسولي افرحوا وابتهجوا، 122). فدون الفرح نبقى عاجزين، عبيدًا لحزننا. وغالبًا ما لا تكون مشكلة الإيمان هي الافتقار إلى الوسائل والهيكليّات، والكمّية، ولا حتى وجود أشخاص يرفضوننا؛ مشكلة الإيمان هي قلّة الفرح. فالإيمان يتعثّر عندما نراوغ في الحزن والإحباط. عندما نعيش في حالة من عدم الثقة، وننغلق على أنفسنا، فإننا نتناقض مع الإيمان، لأنه بدلاً من أن نشعر بأننا أبناء يصنع الله لهم أشياء عظيمة (آية 49)، نعطي كلّ شيء حجم مشاكلنا وننسى أننا لسنا يتامى؛ في الحزن ننسى أننا لسنا يتامى، أنه لدينا أب وسطنا، مخلّص وقويّ.
ومريم تساعدنا لأنها، بدلاً من أن تحجّم، تعظّم، أي “تعظّم” الربّ، وتشيد بعظمته. هنا سرّ الفرح. تبدأ مريم، الصغيرة والمتواضعة، من عظمة الله، وعلى الرغم من مشاكلها -التي لم تكن قليلة- تفرح، لأنها تثق بالربّ في كلّ شيء. وهي تذكّرنا بأن الله يقدر أن يصنع دائمًا المعجزات إذا دمنا منفتحين عليه وعلى إخوتنا. نفكّر في شهود هذه الأرض العظماء: أشخاص بسيطون وثقوا بالله وسط الاضطهاد. لم يضعوا رجاءهم في العالم، إنما في الربّ، وهكذا مضوا قدمًا. أودّ أن أشكر هؤلاء الظافرين المتواضعين، هؤلاء القدّيسين “الذين عاشوا بجوارنا” والذين يدلّونا على الطريق. لم تكن دموعهم عقيمة، بل كانت صلاة ارتفعت إلى السماء وروت رجاء هذا الشعب.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، مريم تسير وتلتقي وتفرح لأنها حملت شيئًا أعظم من ذاتها: حملت بركة. لا نخافنّ من أن نحمل نحن أيضًا، على غرارها، ما تحتاجه رومانيا من بركات. كونوا مشجّعين لثقافة اللقاء التي تُسقِط اللامبالاةَ وتُسقِط الانقسامَ وتَسمح لهذه الأرض بأن ترنّم بمراحم الربّ بقوّة.
الزيارة الرّسولية إلى رومانيا
عظة قداسة البابا فرنسيس
خلال قدّاس عيد زيارة العذراء مريم للقدّيسة أليصابات
بوخارست– كاتدرائية القدّيس يوسف الكاثوليكية
الجمعة 31 مايو / أيار 201
موقع الكرسي الرسولي.
No Result
View All Result