خميس الجسد
بعد عيد العنصرة إحتفلنا بعيد الثالوث الأقدّس واحتفلنا بعده هذا الأسبوع بعيد جسد الرّبّ أي عيد القربان الاقدّس.. والهدف من هذه الأعياد المتلاحقة هو متابعة تعليم المؤمنين بأسرار الايمان المسيحي عن طريق هذه الإحتفالات الليتورجيّة السنوية . فعن طريق الاحتفال الليتورجي يتمّ شرح عقيدة الإيمان وعيشها.
وأنا أستفيد من هذه الأعياد لكي أشرح بطريقة بسيطة وشخصية ما نعيشه في الليتورجيا.. وبالرغم من صعوبة الكثير من عقائد الإيمان المسيحي فإني أزعم بأنه من الممكن تبسيطها وتوضيحها للمؤمنين آملاً أن أكون على قدر المسؤولية، وهذا ما أسمّيه “تعميم اللاهوت” اي توصيل اللاهوت الى عامّة الناس والى الجميع بصورة سهلة سلسة وبسيطة، أي أن ينزل اللاهوت من برجه العاجي العالي الى أرض الواقع العادي.
واليوم سأتحدّث عن سر الإفخارستيا بمناسبة الإحتفال بعيد الجسد:
يسوع ينبىء عن هذا السرّ: ونجد ذلك في خطاب خبز الحياة في الفصل السادس من انجيل القديس يوحنا اذ أنّ السيد المسيح بعد أعجوبة تكثير الخبز والسمكات إنتقل الى مجمع كفرناحوم وهناك قام بنقلة نوعية من الخبز المادي الذي يأكله الانسان فلا يشبع الى الخبز الرّوحي فلا يجوع ابداً، والقضية ليست فقط معنوية ولكن حقيقية اذا إنّ السيّد المسيح يؤكد “إن جسدي مأكلٌ حقاً ودمي مشربٌ حقاً”.
وبالرّغم من إستغراب الناس وحتى التلاميذ فانه يتابع بأنه “إن لم تأكلوا جسد إبن الإنسان وتشربوا دمه فلن تكون لكم الحياة في أنفسكم”. ولا يتراجع يسوع عن جدّيّة تصريحاته حتى بعدما انسحب الكثير من الجماهير لدرجة أنه قال للتلاميذ “أتريدون أنتم أيضاً أن تذهبوا مثلهم” عندها قال بطرس جملته الشهيرة “إلى أين نذهب يا رّبّ وعندك كلام الحياة الابدية؟”
يسوع يؤسس سرّ الافخارستيا: في العشاء الأخير وفي العلّيّة أسّس السّيّد المسيح سرّ القربان الأقدس إذ أنه قام بنقلة نوعية أخرى عندما أخذ خبزاً وقال “خذوا كلوا هذا هو جسدي” وعندما أخذ الكأس وقال “خذوا فاشربوا هذه هي كأسُ دمي” ولكي يستمر العمل بهذا السرّ أسّس سرّ الكهنوت إذ قال للتلاميذ “إصنعوا هذا لذكري”.
يسوع يحقّق سرّ الإفخارستيا: كان السيّد المسيح جادًّجداً، فما أنبأ به في خطاب خبز الحياة، وما أسّسه في العشاء الأخير حقّقه فعليًّا على جبل الجلجلة ـ وبالذات على خشبة الصليب إذ قام بنقلة نوعية حقيقية من الحمل الفصحي الى حمل الله الحامل خطايا العالم، حيث قدّم ذاته ضحيَّةً وذبيحةً فصحيةً فأصبح الكاهن والذبيحة والهيكل بنفس الوقت.. فأصبح هو فصحنا… أي أنه بذل نفسه في سبيل أحبّائه…
الجماعة المسيحية الأولى تكسر الخبز: في الفصلين الثاني والرابع من أعمال الرسل نجد كيف فهمت الجماعة المسيحية الاولى هذا السرّ المقدّس، إذ أننا نقرأ “بأنّ جماعة الذين آمنوا كانوا قلباً واحداً ونفساً واحدة” وكانوا يجتمعون في يوم الأحد للصلاة وسماع تعليم الرسل وكسر الخبز.. وهذا يعني بأنّ الرّسل طبّقوا فعلياً تعليم السّيّد بحذافيره..
والدليل على ذلك هو تعليم القديس بولس الواضح في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس الفصل العاشر عندما يؤكد بأنّ اجتماعات المؤمنين ليست للأكل والشرب ولكن لإحياء ذكرى العشاء الأخير: “أليس الخبز الذي نكسره مشاركة في جسد المسيح؟ أليس كأس البركة التي نشربها مشاركة في دم المسيح؟ فاذا أكلنا من الجسد الواحد وشربنا من الجسد الواحد أصبحنا جسداً واحداً”.
اليوم في القداس نحن نعيّد ونحتفل بسرّ الإفخارستيا: نعم الى يومنا هذا ومنذ ألفي سنة نقوم تماماًّبما قام به السيد المسيح في العشاء الأخير وما حققه السيّد المسيح على خشبة الصليب ولكن طبعاً بطريقة غير دمويّة لأنّ ذبيحة السيّد المسيح الدمويّة كانت واحدة وأبدية أما إحتفالنا بالقداس بسرّ الإفخارستيا فهو إحتفال حقيقي بجسد المسيح ودمه لأنّ بولس يؤكد بوضوح: “كلما أكلتم هذا الخبر وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرّبّ إلى أن يأتي”.
إنّ هذا الإستعراض الكتابي التركيبي لفكرة سرّ القربان الأقدس تساعدنا على تقوية إيماننا بهذا السرّ العظيم الذي أراده المعلّم بوضوح لكي يبقى معنا حاضراً حضوراً حقيقياً، ويغذينا ويروينا جسدياً وروحياً، ويقوّينا وسط صعاب ومشقات هذه الحياة.
طبعاً إنّ الموضوع أوسع من هذا العرض السريع، فيمكننا أن نتحدث عن شروط التناول الجيّد، وعن أقسام القداس الالهي، وعن مفاعيل وفوائد القربان الأقدس، وعن الاثار الروحيّة والانسانيّة والاجتماعيّة لتناول القربان الاقدّس… ولكن أكتفي في هذا المقام ببعض الإعتبارات العملية المفيدة لحياتنا اليومية:
القربان الأقدّس هو سرّ الحضور الدائم لله بيننا: كما نرتّل “تعال بيننا أقم عندما وخذ من قلوبنا لك مسكناً” ونحن نؤمن بالحضور الحقيقي وليس الرمزي فقط للمسيح بجسده ودمه ليس فقط أثناء الذبيحة وبعد كلام التقديس (التحول والإستحالة) ولكن أيضا بعد القدّاس في بيت القربان.. إنه يحضر، يحل، يقيم، يسكن، يبقى، يتجسّد، يستمر فيما بيننا.. فيا له من شرفٍ عظيم لنا ويا لها من مسؤولية جسيمة؟!
القربان الاقدّس سرّ الإتحاد والوحدة مع السيد المسيح: إذ أنّ المعلم يقول بوضوح “مَن أكل جسدي وشرب دمي اقام فيَّ وأقمتُ فيه” وبكلمات اخرى “ثبتَ فيَّ وثبتتُ فيه” وهذه الإقامة والثبات تعني أنه يصبحُ جزءاً لا يتجزّأ منا ونصبحُ جزءاً لا يتجزأ منه.. فجسده يتفاعل تفاعلاً كيماوياً عضوياً روحياً مع جسدنا فيحوّل أجسادنا على صورة جسده المجيد وبالتالي نصبحُ نحن بيتَ قربانٍ يقيم فيه الرّبّ، وعندما نخرج من القدّاس بعد التناول نحمل وننقل ونُشِعّ ونظهر وننشر حضور الرّبّ بين الناس.. فيا لها من مسؤولية فردية جسيمة؟!
القربان الاقدّس هو سرّ الشركة بين المؤمنين في الكنيسة: عندما نشتركُ في الجسدِ الواحد نصبحُ جسداً واحداً.. وهذا يعني بأنّ الإفخارستيا تبني الجماعة المسيحية وتوحّدها.. الكنيسة تقوم بسرّ القربان وتبني عليه وتتغذى به وبالتالي تصبح كنيسة واحدة وجماعة واحدة وقلباً واحداً ونفساً واحدة.. بمعنى آخر جماعة المؤمنين تصبح بيت قربان واحد متجوّل لا بل كنيسة واحدة متنقلة… فيا لها من مسؤولية جماعية جسمية؟!
القربان الأقدس هو سرّ البقاء والخلود الأبدي: لقد أكد السيّد المسيح مِراراً وتكراراً بأن تناول جسده ودمه عربون للحياة الأبدية: “مَن أكل جسدي وشرب دمي يحيا إلى الأبد وأنا أقيمه في اليوم الاخير”. والبرهان العقلي على هذا هو في السؤال التالي: إذا كنا نؤمن بأنّ المسيح يقيم فينا عندما نتناوله، فهل سيسمح الرّبّ أن يهلك مَن يحمل في جسده وكيانه جسد المسيح؟ فكما أُقيم المسيح من بين الاموات سنقوم نحن معه للحياة الابديّة. فيا له من شرف عظيم وحظوة جسيمة؟!
لن ننهي أبداً لو أسهبنا في سبر غور هذا السرّ العظيم ولكننا نقول بإختصار على شكل صلاة قصيرة: شكراً لك يا ربّ على حضورك بيننا ومحبتك لنا وإتحادك بنا وتوحيدنا معاً وخلودنا أجمعين معك. شكراً يا غذاءنا وقوّتنا ووحدتنا وشركتنا وخلودنا وحياتنا وقيامتنا.
رعية مار أنطونيوس – الجديدة-المتن
No Result
View All Result