علاقة الإيمان المسيحي بالمعرفة
وكان الآباء “اليونان” (الذين كتبوا باليونانية) ينظرون إلى المعرفة العلمية (έπιστήμη)، على أنها وقوف أو رسوخ العقل (διάνοια) على الحقيقة الموضوعية، وعلى أنها أيضًا الفهم اليقين والمؤكد. ولتعضيد هذا الرأي من الكتاب المقدس، كثيرًا ما كان الآباء يستشهدون بما جاء في الترجمة السبعينية “إن لم تؤمنوا فلن تفهموا” أو “فلن تثبتوا”[1].
حيث كانوا يؤكدون على أنه بالإيمان، تتلامس عقولنا مباشرة مع الحقيقة مستقلة عن ذواتنا، لأنه من خلال الإيمان تتقبل عقولنا الإدراك الباطني (البديهي) للأشياء وتخضع لقوتها الشاهدة لذاتها، كما تتكيَّف وتتهيأ لتعرف هذه الأشياء في طبيعتها الذاتية (الخاصة بها) (κατά φύσιν)[2].
وعلى هذا النوع من الاتصال الأساسي (المباشر) مع الحقيقة، ترتكز كل معرفة مؤكدة ويرسخ كل فهم صادق أصيل، كما أنه هو أيضًا الطريق الصحيح لكل بحث جديد ولكل محاولة لتعميق فهمنا للأمور.
وكما أن هذه العلاقة بين الإيمان والفهم تنطبق على كل معرفة علمية، فهي تنطبق بنفس القدر بل وبأكثر تحديد على معرفتنا لله، الذي هو الأساس والمصدر المطلق لكل قدرة على المعرفة والإدراكٍ وكل حق[3]، مثلما كان ق. أغسطينوس يقول دائماً: “نحن لا نسعى لفهم ما نؤمن به، ولكننا نؤمن لكي يمكننا أن نفهم”[4].
إذن ينبغي أن يكون واضحًا الآن، أن “الإيمان” حسب الفكر اللاهوتي النيقي، لم يكن نوعًا من علاقة غير مدركة أو غير مفهومة مع الله، بل كان إيمانًا يتضمن عمليات المعرفة والفهم والإدراك، إيمانـــًا له طـــابع فطــــرى (بديهي) للغــاية في تقبـــل العقـــل ـ بشكل مسئول ـ “للحق” الكامن في إعلان الله لذاته للجنس البشري.
فالإيمان ينشأ فينا نتيجة التأثير الخلاَّق لشهادة الله لذاته، ولكشف الله عن ذاته في “كلمته”، كما أنه ينشأ كذلك كاستجابة لمطالب “الحقيقة” الإلهية علينا، والتي لا نقدر أن نقاومها بمنطق العقل أو الضمير[5].
ويأخذ الإيمان شكل الطاعة (υπακοή τη̃ς πίστεως)[6] المنصتة لدعوة ونداء “كلمة” الله، كما أن المعرفة التي تتولد داخلنا، تتطلب في صميمها قبول ذهني وإدراكي (έπιστημονική συγκατάθεσις) “للحق” الإلهي، وتصبح مغلقًا عليها في داخل هذا الحق[7].
وقد أكد ق. هيلاري أنه حقًّا بهذه الطريقة عينها فقط، يتشابك الإيمان والفهم (الإدراك) وهو ما قد حدث في حالة الرسل أنفسهم، عندما “التحم “الحق” الذي سمعوه لأول مرة مع يقينهم الداخلي”[8]، وحين تحدث ق. هيلاري عن اعتراف الرسل “بأن المسيح هو ابن الله” على أن ذلك هو “صخرة الإيمان” التي بنيت عليها الكنيسة[9]، كان فهمه لهذه الحقيقة فهمًا موضوعيًّا، لأن الكنيسة بنيت على “الحق” الإلهي الذي اعترف به الرسل، وليس على اعترافهم في حد ذاته، هذا “الحق” الذي لا تزال الكنيسة تعتمد عليه في إيمانها.
وبالطبع كان من الأمور المُسلَّم بها أن اعتراف الرسل “بالإيمان” وفهمهم “للحق” محفوظ في الكتب المقدسة التي سلَّمها لنا الرسل، ولذا ينبغي أن نقول إن “الإيمان وكل جزء منه مُنطبع فينا بواسطة برهان الأناجيل وتعليم الرسل”[10].
الله هو الذي يعلن عن ذاته
وفي نهاية الأمر، فإننا لا بد أن نتعلم من الله ذاته، ما الذي يجب أن نفتكره عنه “لأن الله لا يمكن أن يُفهم إلاّ من خلاله هو ذاته”[11]. كما أن إيماننا يجب أن يرتكز على نفس “الحق”، الذي بنى عليه الرسل الأولون إيمانهم وفهمهم، مما يعنى أننا حينما نلجأ إلى أقوال الكتاب المقدس فعلينا أن نخضع عقولنا مباشرةً “للحق” الذي تشهد له الكتب المقدسة، لماذا؟
لأن نصوص (dicta) الكتاب المقدس يجب أن تُفسَّر في ضوء الأمور أو الحقائق (res) التي تشير إليها والتي بسببها كُتبت هذه الأقوال وليس العكس؛ إذ إن هذه الأقوال تحقق الغرض الإلهي المقصود منها عندما تنقل شهادة الله عن ذاته، وبالتالي تمكِّننا من الإيمان بالله والتفكير فيه بالطريقة الوحيدة المتاحة، والتي تتمشى مع الطريقة التي يقدِّم هو بها نفسه لنا[12].
ومن هنا يتضح أن الأهمية القصوى المعطاة “للإيمان” في معرفتنا لله، تعكس الأفضلية المطلقة لدور الله (حين يعلن هو عن ذاته ويجعلنا ندرك شيئًا عنه) على كل فكر بشري عن الله (نعتمد فيه على ذواتنا)، بل وحتى على الوسائط البشرية التي أوجدها الله لتخدم إعلانه عن ذاته[13].
[1] إش 9:7. ولذلك نجد ق. إيرينيئوس يقول في (Dem., 3) “والإيمان ينتج عن الحق؛ لأن الإيمان يقف أو يرتكز على الأشياء الحقيقية (أو التي هي بالحقيقة كائنة). ونحن نؤمن في أشياء حقيقية (أو بالحقيقية كائنة)، وبالإيمان في أشياء حقيقية، نظل واثقين بشدة فيها”؛ انظر أيضاً: Clement of Alex., Strom., 1.1; 2.2, 4; 4.21; Cyril of Jer., Cat., 5.4, etc.
[2] انظر استخدام مصطلح ’طبيعة‘ (φύσις) في الفكر الإسكندري:
See my Theology in Reconciliation, 1975, pp. 241f, 247ff; Archbishop Methodios Fouyas, The Person of Jesus Christ in the Decisions of the Ecumenical Councils, 1976, pp. 65ff.
[3] Cf. Hilary, De Trin., especially books 1-4,
وفي هذه الكتب الأربعة، يعرض ق. هيلاري المعرفة اللاهوتية بشكل مميز جداً.
[4] Augustine, De Trin., 7.5; In Jn. Ev., 27.9; 29.6; 40.9; De lib. arb.,
2.2.6; De div. quaest., 48 ; In Ps., 118, 18.3; Ep., 120.1, 3, etc.
[5] Hilary, De Trin., 1.18; 2.6f; 3.9f, 23; 4.14, 36; 5.20f; 6.13-16; 8.52.
[6] رو 5:1؛ 26:16.
[7] Cf. Clement Alex., Strom., 2.2ff, 6, 11f; 8.3; and Augustine, De spir. et litt., 21.54; 34.60.
[8] Hilary, De Trin., 6.34; see also 4.6.14.
[9] Hilary, De Trin., 6.36f; cf. 2.22f; 6.20f; and ‘The Liturgy of St James’ F. E. Brightman, Liturgies of Eastern and Western Churches, 1896, p. 54:
حيث إن ’الكنيسة الجامعة الرسولية‘ هي أيضاً تقول أنها تأسست على ’صخرة الإيمان‘.
[10] Hilary, De Trin., 2.22.
[11] Hilary, De Trin., 5.20f.
[12] Hilary, De Trin., 4.14; 5.4, 7; 8.52.
[13] Hilary, De Trin., 1.6, 16; 2.2ff, 12, 24ff, 52ff.
No Result
View All Result