التوبيخ بين التأنيب والتنبيه – ستة نصائح بولسية في استنهاض الآخر
يبدأ بولس الرسول نصه اليوم بعبارة رائعة “اسلكوا كأولاد للنور”. والنور، كما ورد في الكتاب المقدس وعلى لسان يسوع ذاته، يعني الحياة، والحياة مع الله وبحسب وصاياه، التي تجعلنا فهماء وحكماء. وعبارة كهذه تحمل من الرهبة والمسؤولية المقدار ذاته الذي تحمله من التشجيع.
لكن ليس من السهل أن يسلك من قُدِّر لهم أن يكونوا أبناءً للنور بحسب النور دائماً. فالجميع اعتمدوا وصاروا أبناء النور، ولكن ليست قليلة المرات التي يسلكون فيها في الظلمة. لذلك لم يتردد بولس الرسول أن يكرر بشكل أو بآخر ضرورة أن يستنهض الأخ أخاه، وإذا ما زلّ واحد أو سقط فعلينا أن ننهضه بالمحبة ونصلحه بالعون والنصح. إن هذه المسيرة هي من طبيعة حياتنا الكنسية، وتقتضي أن يهتم العضو بالأعضاء الأخرى، بروح المحبة والمسؤولية المشتركة. إن حياة الشركة الكنسية لا تعني فقط التعاون بحدود تناغم وتأمين المصالح كما في المؤسسات المدنية؛ بل بالعمق تعني التزام العضو بكامل الجسم، وشعوره بالمسؤولية تجاه كل آخر، فالمسيرة في الكنيسة ليست تسابقاً على طريق الخلاص بين أفراد، ولكن كل فرد هو بمثابة “مجذّف” في مركبة الخلاص، والجميع يجذّفون ليسرع المركب إلى شاطئ الأمان ويغلب عنفوان التاريخ، وسيصل الجميع في المركب معاً إلى برّ السلام. لذلك يستنهض الروحانيون ويصلحون بالتنبيه أي أخ غلبه الشرير أو قستْ عليه الظروف فقسرته فحادت به عن مسالك النور والحق. الكنيسة سفينة مُبحرة، ولن يذهب كل من فيها إلى خلاصه بمفرده. إن رابط الحب الذي يبني شركتها يجعل الجميع لا يقفزون من المركب فارين بمفردهم في الصعوبات إلى البر، وإنما يندفعون إلى استنهاض الواقعين ليخلص المركب بالجميع.
وهذا ما يدعو إليه بولس الرسول أهل أفسس في الرسالة التي سمعناها اليوم. إذ يوصي أبناء النور أن يسلكوا هم أولاً في النور، ومن ثمّ أن “يوبخوا” الأفعال الأخرى.
“التوبيخ” كلمة غير مستحبة، لكنها حقيقية فقط بالمعنى والأسلوب الذين يوصي بهما بولس الرسول. لهذا عندما يوصينا “لا تشتركوا بأعمال الظلمة… بل بالأحرى وبخوا عليها” يتابع مفسراً عدة معطيات روحية يجب أن تتلازم مع هذا “التوبيخ- تنبيه” لكي تصير كل الأمور “نوراً”، وهذه هي المعطيات بالتتابع:
1- كل ما يُوبَّخ عليه “فبالنور يُعلن”، فإذا كان من يوبخ لا يبغي الانتقام وإنما البنيان، لهذا لا يمكن أن يوقظ إلا من كان هو في النور، أي أنه من النور يرى بقعة الظلام. ليس لمن ينبّه مصلحة ذاتية، إلا أن يكون هو والجميع في النور، أي في طاعة الوصية الإلهية. فكل من يشعر انه يريد أن يوجه ملاحظة أو تنبيهاً، عليه أن يكون متأكداً أولاً أنه من النور يتكلم، وأنه يدرك أين هي رقعة الظلام، وما يُعلنه ليس من دوافعه ولكن لأن الروح يدفعه، أي بالنور يُعلن”، كما يقول الرسول.
2- “فإن كل ما يُعلَن هو نور”، وبهذا يقصد الرسول أن كل الأمور التي تُعلن على ضوء الوصية وتحت توجيهها يصير نوراً. فالنور يبدد الظلام. وكل ما هو في الظلمة عندما يُعرض النور يصير نوراً. الخطأ ليس خطيئة عندما يكون جهلاً. الخطيئة هي أن نرى النور ونفضل عليه كسل الظلمة. ليس كل من في الظلمة عدواً للنور. إن من يقبل كلام النور سيصير نوراً. لأن كل ما يُعلن (بالنور كما سبق وأوصى بولس) هو نورٌ في النهاية.
3- “استيقظ أيها النائم” وقم من بين الأموات! إن لغة التوبيخ البولسية ليست استحقاقاً إنما هي استنهاض. وهذا يعني أن من ينبه هو على ثقة أن النائم يحمل في داخله طاقات النور، ولكنه يحتاج أن يلتفت إليه. إن الخطأ غير الخاطئ، والشر غير الشرير وكل عضو في الكنيسة قد يكون في الظلمة مرةً لكنه ليس مظلماً، وقد يقترف شراً لكنه أبداً ليس شريراً. إن الثقة بمن أخطأ تدفعنا إلى توبيخ أفعاله، لأننا نؤمن أنه بالأصل هو ابن النور.
4- “فيضيء لك المسيح”، أيمكن لمن ذاق حرارة نور المسيح أن يحتمل برودة الظلمة لأخيه. “تعال لقد وجدنا المسيّا” صرخ فيلبس إلى نثنائيل. حول يسوع فقط سنكون جميعاً في النور. إن “التوبيخ” هو على الأعمال، أما الإنسان فيستحق “الإيقاظ” ليحيا مع المسيح. إن شوقنا إلى المسيح يدفعنا أن نذهب مع الآخر إليه.
5- “مفتدين الوقت فإن الأيام شريرة”. لا يبدو هنا أن بولس يحتمل غياب ابن النور في الظلمة. والواضح أنه يستعجل لأن الخسارة ليست عادية بل كبيرة. “إن من ليس معنا هو علينا”، كلمة يسوع هذه تفسّر أيضاً على الزمن. لا شك أن الظلمة هي الظرف السائد دون تسليط كلمة النور عليها دوماً وباستمرار. يفتقد العالم إلى النور والزمان يتدهور نحو المغرب إذا لم توجهه نصائح الروح نحو المشرق. إن الظروف إذا تركت على عفويتها على الأغلب ستصير أياماً شريرة. لهذا صرخ بولس بتلميذ “وبّخ في وقت مناسب وغير مناسب”. ويقصد الرسول هنا بكلمة “مفتدين الوقت” أمرين؛ الأول ألا يضيع زمن البشارة والخدمة بسبب تباطئٍ لدينا أو تردد، والثاني أن نعوض عما ضاع، عما جرى في زمن الظلمة.
6- “فاهمين مشيئة الرب”، وهذا هو عمل النور بالروح القدس. إن بولس الرسول ذاته هو المثال الأول لمن كان في الظلمة وأضحى بالتوبيخ “لماذا تضطهدني؟” ابناً للنور. ولقد افتدى الوقت.
والكلام هنا على لسان بولس، وهذه النصائح الروحية تخص كل من يريد أن يوقظ مخطئاً عن جهل. لأنه كما يقول الكتاب “أدب الحكيم يحبك وأدّب الجاهل يبغضك”. فكلام التنبيه هذا البنّاء يوجه فقط لمن يعمل لربما عمل الظلمة لكنه بالأصل يحب أعمال النور وهذا هو الحكيم حين يخطأ. ولا يوجه التنبيه إلى الجاهل الذي رأى النور لكنه أحب الظلمة.
“فاهمين مشيئة الرب” التي تجمعنا برباط المحبة وتظللنا بستر الطاعة لها، عندها نوبخ بالروح الأفعال غير المثمرة لنصير جميعنا في النور ونكلم بعضنا بعضاً فقط بلغة وكلمات المزامير والتسابيح والأغاني الروحية، فنرتل من قلبنا للرب آمين.
المتروبوليت بولس يازجي
نقلاً عن رسالة أبرشية حلب
No Result
View All Result