مزار سيدة الحبس – العاقورة
بيت للصلاة وتكريم العذراء جسدته أيادي الإيمان الممزوجة بالمثابرة والصبر والعنفوان
عندما تعجز الكلمات عن إبراز المعاني، والصور عن إظهار الجمال، والروايات عن إخبار الحقيقة، تطلق العنان للمخيلة البشرية فيصبح بإمكانها تصديق ما لا يصدق. ففي قرية العاقورة في قضاء جبيل، هذه القرية الأثرية الغنية بالكتابات والنقوش التي تعود إلى العصر الروماني، والتي لم تتمكن العولمة من خرق جدران منازلها القرميدية ولا من تغيير أطباع الناس التي تأويهم، مزار للسيدة يعتني به ويطوره عكازان وهمة رجل في العقد الثامن من عمره.
تقع كنيسة سيدة الحبس في مدينة العاقورة, وتعتبر من أقدم الكنائس الكاثوليكية في لبنان، وتتربع على تلة أطلق عليها أيضاً اسم ”سيدة الحبس”؛ وذلك بسبب لجوء عدد من الرهبان إليها اختباءً وابتعاداً عما كانوا يقاسونه من ظلم واضطهاد, ويوجد داخل المغارة أيضاً نبع للمياه. يوجد بجانب الكنيسة درج طويل يوصل إلى الجبل والى مزار سيدة الحبس.
تاريخ المزار
مشروع تأسيس مزار سيدة الحبس المؤلف من كابيلا وكنيسة وأدراج وتماثيل على تلة في العاقورة، بدأ في رحلة صيد، عندما كان العم بولس يحاول أن يحتمي من الثلوج التي غطت قريته، وكان عمره آنذاك 15 عاماً، فوصل إلى طريق وعر ووقعت عيناه على مجموعة من الصور للعذراء مريم وسائر القديسين تحميها صخور طبيعية، فالثلج لا يصل إلى هذا المكان. واستذكر العاقوري ما شعر به آنذاك قائلاً: ”شعرت وكأن قلبي انسلخ أمام هذه العذراء. صليت وتعهدت أن أكون متعبدا لها ووعدتها بأن أزورها كل يوم وأن أقيم لها أجمل مقام إذا قدرني الله”.
حمل العم بولس هذا العهد والصور التي وجدها وعاد أدراجه إلى منزله فأخبر والده بما جرى، وشرح له هذا الأخير بأن تلك التلة يطلق عليها اسم ”سيدة الحبس” لأنه على أيام القديس مارون، وحين كان الموارنه يتعرضون لشتى أشكال الإضطهاد، لجأ إليها عدد من الرهبان للإستحباس والإبتعاد عن الشهوات والأمور المادية. وبعد أن عبر بولس لوالده عن رغبته ببناء مقام للصور، بنى له هذا الأخير كابيلا صغيرة، أصبحت في ما بعد واجهة للمزار لأن ”طريق الزفت” مرت بمحاذاتها.
ومرت الأيام، ولم ينس العم بولس عهد سنوات المراهقة، فبعد عمل دؤوب قام به منذ أن بلغ الـ17 من عمره، تمكن من جمع مبلغ من المال في ”قجة من حديد” كان يضع فيها كل ما يفضل عنه، وبدأ ببناء الدرج قرب الكابيلا وذلك عن عمر يناهز الـ 25 سنة تقريباً، فبنى عشرات الأدراج حتى وصل الى المكان الذي وجد فيه الصور لأول مرة، فقرر أن يبني كنيسة صغيرة، وهذا ما حصل! ومن ثم نصب قرب هذه الكنيسة جرساً كبيراً، ونشر على الجدران الصخرية التي تحيط بها منحوتات تعبر عن مراحل درب الصليب الـ14.
غمرت هذه الصور المنحوتة لـ”درب الصليب” الكنيسة الصغيرة التي بناها العم بولس من جانبيها الأيمن والأيسر. وبالإضافة إلى هذه الصور، ضم الجانب الأيمن للكنيسة حوض أزهار ومكان لإستراحة الزوار ومزار وضعت فيه بعض الأيقونات، أما الجانب الأيسر، فقد ضم طاولة مستطيلة مصنوعة من الباطون تتسع لحوالي الـ20 شخصاً، لأن العم بولس نذر بأن يذبح عجلاً ويقيم وليمة كلما رزق بولد. وتجدر الإشارة إلى أنه خلال إجرائه أعمال الحفر عثر العاقوري على قبر قديم فسيجه إحتراما لحرمة الموت.
حول العم بولس مرقد الماعز إلى درب للصلاة، وطريق البور إلى طريق خشوع وتأمل، وعاونه في ذلك كل من إخوته وأولاده، ولم يستخدم لهذه الغاية سوى ”الدابة والزلم”، فلم تكن موضة الكسارات والجرافات والجبالات رائجة في أربعينات القرن الماضي، وهذا ما دفعنا إلى التساؤل: من وضع هذا التمثال الضخم على رأس التلة؟
تمثال سيدة الحبس
ورداً على تساؤلاتنا، أكد العم بولس أن وصول التمثال إلى أعلى التلة كان حلماً لديه، فقد توجه إلى أحد ”أهم النحاتين في البلاد” وطلب منه تمثالا للعذراء، فسخر منه ذاك الرجل وقال: ”أنت تريد تمثالاً؟ صناعة التمثال تحتاج إلى الكثير من المال”. وروى العم بولس ما جرى: ”دفعت له مبلغا من المال وتعهدت أن أكمل الدفع بعد الإنتهاء من نحت التمثال، أي بعد عام ونصف تقريباً، وكانت التكلفة باهظة، وبعد الانتهاء من صناعته نقلته بشاحنة إلى الطريق قرب كنيسة مار سمعان (وهي طريق جبلية وعرة يمكن أن تصل إلى التلة التي نصب عليها التمثال في ما بعد)، وكان ذلك في العام 1989. وصل التمثال إلى القرية 4 أجزاء منفصلة تزن كل منها 2 طن، فكان من المستحيل تحميلها على الأكتاف، فصليت كثيراً وأكد لي أبناء القرية أن لا حل الا بالطلب من قيادة الجيش إرسال هيليكوبتر لنقل الأجزاء الأربعة. وهذا ما حصل، فتوجهت في صباح اليوم التالي إلى أدما وتحدثت إلى المسؤول عن الطيران، وهو الطيار درويش حبيقة، ورغم الحرب التي كان يخوضها الجيش آنذاك، قبل هذا الطيار الطلب وأمر بتوجيه طائرة تابعة للجيش في اليوم التالي إلى العاقورة حيث تعرضت إلى القصف من بعض المراكز المحيطة، ولكنها أصيبت بشكل طفيف. وفي اليوم التالي، أبت الطائرة العسكرية العودة إلى المكان لنقل التمثال، فعدت أدراجي إلى أدما، فأتت الموافقة من قيادة الجيش إرسال الطائرة من جديد بعد أن قلت لهم ”بنتحر هون بأرضي وعندكن إذا ما بتودّوا الطيارة”، وتم نقل التمثال إلى أعلى التلة”.
ولكن أحلام وطموحات العم بولس لم تتوقف عند هذا الحد، فقد لاحظ مدى وعورة الطريق المؤدية الى التمثال، فأراد أن يصل الدرج الذي يؤدي من الكابيلا إلى الكنيسة الصغيرة بالتمثال. فاستشار عددا من المهندسين الذين أكدوا له أن هذا الأمر مستحيل. ولكن إصراره وطبعه الحاد كالطبيعة التي تحيط به بالإضافة إلى إيمانه الكبير جعلا منه شخصا يصل إلى كل ما يصبو إليه، فتمكن بمساعدة ”معلمين وشغيلة” من بناء الدرج الكبير الذي يؤدي من أسفل الطريق إلى المزار، حيث أقام باحة خضراء وأحواضا للزهور بالإضافة إلى مغارة الميلاد.
ويزين المكان أيضاً، تماثيل الرسل الإثني عشر، وتمثال مار مارون ومار شربل، بالإضافة إلى 15 مزار لكل الكنائس التي يتم فيها الإحتفال بالذبيحة الإلهية في العاقورة.
النص بقلم مارسيل عيراني – موقع النشرة
Jbeil Mount Lebanon
مزار سيدة الحبس
May19,2015