دير رؤية القديس بولس الرسول في سهل كوكب
بني هذا الدير في عام 1962 في منطقة تدعى تل كوكب التابعة لناحية قطنا وتبعد 18 كم جنوب غرب مدينة دمشق على الطريق المتجهة إلى القنيطرة على أنقاض دير يعود إلى القرون المسيحية الأولى. وحسب الكتاب المقدس في عام 35 ميلادي كان شاؤول في طريقه من القدس إلى دمشق لملاحقة أتباع الدين المسيحي الجديد آنذاك وقبل وصوله إلى دمشق ظهر له نور عظيم من السماء فسقط إلى الأرض
حدثت هذه الواقعة في “تل كوكب” الدمشقية، بحسب ما تداوله المسيحيين الأولين، في إشارة إلى النور الساطع الذي ظهر لـ”شاول” الذي أصبح فيما بعد بإسم “بولس الرسول: وكذلك سميت المنطقة بـ(داريّا) أي دار الرؤية إشارة إلى رؤيّة القديس بولس للمسيح.
وتوارث الأجداد في ذاكرتهم القصة في الموروث الشعبي، وأنشأوا في هذه البقعة ديرًا على اسم القديس بولس، لم يبق منه سوى رسوم دارسة ومندثرة وبعض الحجارة المنحوتة وتيجان أعمدة كورنثية وخرزة بئر لجمع المياه مع قساطل فخارية.
وفي الحقيقة فإن وصف ( تل ) يمكن أن يكون أكثر دقة من ( سهل ) لأنه في واقع الأمر هو عبارة عن تل بركاني تناثرت فيه حجارة بازلتية سوداء و تحيط به تلال عديدة مماثلة كانت معاقل رهبانية منذ تاريخ رؤية القديس بولس فيه أي قبل 1965 سنة تقريباً .
وقد لا يلفت هذا الموقع انتباه المسافر بأنه المكان الذي تحوَّل فيه شاول المضطهد إلى أبرز شخصية في العهد الجديد بعد الرب يسوع . فقد أصبح المجاهد الأكبر الذي لم يفتر خلال نيف وعشرين عاماً عن التجوال في العالم الروماني مبشّراً بالعقيدة الجديدة بين اليهود والوثنين متحملاً أذى هؤلاء وأولئك، وقد سُجن مراراً وسنين طويلة واستهدف لضرب السياط وللرجم بالحجارة، وتعرض للموت وغرقت فيه السفن ثلاث مرات، وعانى شدائد الأسفار وأهوال السهر والجوع والعطش وعنت الطبيعة حتى قضى شهيداً .
كانت عظاته مثالاً رائعاً لفن الخطابة و في كل الموضوعات التي تهم هذا الدين الجديد، لا بل كانت مصدراً رئيساً للتشريع بشقيه الروحي و الاجتماعي، وكان لها الأثر الأبعد في نشر المسيحية و في تشديد عزائم التلاميذ .
عندما يعود بولس إلى الماضي من حياته، يراها بقسميها واضحة أمام عينيه .حياته “بدون المسيح” وحياته “مع المسيح” و معه الآن من المنحنى الكبير الذي يقسم هذه الحياة إلى قسمين :إلى ثلاثة شلالات تنبع من حياتها الواحد تلو الآخر : مقتل استفانوس أول الشهداء ، الاضطهاد في اليهودية و سفرته إلى دمشق.
وتتدحرج هذه الحياة العاصفة بسرعة نحو ذات الارتداد العظيم الذي يحمل النهر و يقوده إلى مصب جديد ليوزع قواه الهائلة لا ليدمر بل ليزداد ويتضاعف ويثمر و يحمل الخيرات إلى الإنسانية
لكنه لم يكن كذلك قبل المعجزة التي حصلت معه في كوكب، فقد عُرف في أورشليم مضطهداً للكنيسة. فكيف وصل إلى هذا الارتداد؟ و أية مراحل اجتازها في داخله ؟ سيبقى ذلك من الأسرار . لقد التصق بولس بطابع ارتداده الفائق الطبيعة التصاقاً لا تنفك عراه، وصار المسيح السماوي بملء قوته في توافق مع حياته .
بدأ هذا الارتداد بعد ثلاث سنين من صعود الرب إلى السماء، حين تكاثر المسيحيون في دمشق إلى درجة أقلقت السنهدريم (مجمع اليهود في أورشليم )وذلك بعد خلو أورشليم من المسيحيين الذين منهم مَنَ ذهب إلى (يوبي) حيث كان بطرس يعلم، ومنهم إلى السامرة حيث كان فيليبس و آخرون تاهوا وتشردوا، ومنهم من وصل إلى دمشق قلب سورية الشرقية ، فساهموا بزيادة عدد المسيحيين فيها. وانصب سيل اللاجئين المسيحيين هؤلاء إليها وكانت بالمقابل فيها أكبر الجوالي اليهودية، وكان لليهود من أيام الملك آخاب الحق بفتح المحلات التجارية على جانبي الطريق الطويلة. هناك خوف كبير على الألوف من اليهود المؤمنين من هؤلاء اللاجئين المسيحيين ، يجب أن تتطهر دمشق من هذه الخلية ، ولم يكن أحسن من شاول لتنفيذ مهمة القضاء عليها ، فصفاته وأفعاله توحي للسنهدريم بالارتياح ، فهو فريسي متعصب ويحمل الجنسية الرومانية ، وأهم من كل شيء أنه كان يرغب بمتابعة اضطهاد المسيحيين في دمشق بعد قيامه بذلك في أورشليم، وقام المجمع بتفويضه بشكل كامل بذلك و زوَّده بكتب إلى رؤساء اليهود في دمشق و إلى الحاكم فيها الذي ” كان تحت إمرة الملك الحارث يحرس مدينة الدمشقيين “.
و هكذا ينطلق بولس ماراً بباب دمشق في أورشليم القريب من ضريح استفانوس الشهيد على رأس فرقة مسلحة وكان يمتطي جواده. السفرة تستغرق مدة أسبوع والمسافة مئتان و خمسون كيلو متراً . و كانت هناك ثلاثة دروب كلها تقود إلى دمشق و لا شك فيه انه اختار طريق سهل كوكب فهو الأسهل والأقرب و اختار الطريق المختصرة . و بعد ستة أيام وصل الموكب إلى عتبة تل كوكب البركانية عند مشارف دمشق.
كان شاول كالصياد الذي سيطر عليه هوس لا يُكبح لجامه، ومع ذلك لم يكن الصياد الوحيد في رحلته .كان هناك صياد آخر / أمهر منه / صياد التلاميذ كان يتبعه خطوة خطوة ، وأنى لبولس أن يعرف وهو يطارد المسيحيين الذين هربوا منه في كل طريقه من باب دمشق إلى جنين إلى سهل عسقلان إلى الناحية الخلفية لجبل حرمون المكلل بالثلوج أعتاب جبل الشيخ المقارب لدمشق ، أنى له أن يعرف انه مطارد من ” الصياد الإلهي ” الذي ناداه :”شاول شاول لماذا تضطهدني ؟” حسب أعمال الرسل وقد ترافق القول مع برق مبهر سطع من السماء أسقطه من على ظهر جواده إلى الأرض .
فحصل هذا الارتداد العنيف والانقلاب الكامل فيه فتحول العدو الألد للمسيحية مناضلاً و واعظاً و ملتهباً في سبيلها حتى لقب بألقاب لا حصر لها : (رسول الأمم ، رسول الجهاد الأمين ، المجاهد الأكبر ، هامة الرسل ، المشرع الأول …) و ما ذلك إلا لكثرة مواهبه فهو كان ممتلئاً بالفلسفة اليونانية ، و عالماً متبحراً بالتوراة و الأسفار و العهد القديم ، لذلك جمع المعرفة الكاملة في تبشيره و تبدى ذلك جلياً في رسائله ، حتى عدَّه البعض أنه شوشّ بساطة المسيحية بأن فلسفها.
و لقد لفتت هذه الواقعة الأنظار إلى أهمية موقعها فبادر المؤمنون وقتئذٍ إلى بناء دير رهباني عُرف باسم “دير رؤية القديس بولس ” فقطنه الرهبان مع الكهوف و المغاور المنتشرة في التلال المحيطة .
و لكن مع الأسف ولظروف طبيعية و بشرية تعرض هذا الدير كغيره إلى العبث به أولاً ثم إلى الزوال ، ولم يبق منه حتى أوائل الستينات وقت إعادة بنائه سوى رسوم مندرسة عن بعض الأحجار الصقيلة و رأس عمود كورنثي ، وخرزتا بئرين لجمع مياه المطر في أعلى التل ، والآخر عند السفح المقابل . و هناك خنادق و أسس مكشوفة لبناء لا شك في ضخامته ، و بعض تلك الجدران لا يزال كلسها عالقاً ، وفيها مقاعد صخرية ، و هناك بقايا كنيسة تقع بين التلة البركانية و بين الطريق الرومانية المتجهة إلى الجنوب و هي عبارة عن أحجار نحيتة مختلفة الأحجام لعل أضخمها كان رتاجاً لباب .و قد تجد هناك كسرات آجر كان مستعملاً في البناء .
الوضع مماثل تماماً لدير الشاروبيم في أعلى قمم صيدنايا، ولكن الفارق يكمن أن أحجار الشاروبيم بقي كمها الأكبر في سفح الموقع، و إن كان كمها الأصغر إستجره سكان قرى رنكوس و عسال الورد لبناء مساكنهم. وبالمقابل فإن أهالي القرى المحيطة “بدير رؤية بولس ” في كوكب فعلوا الشيء عينه، وأن كانوا قد استجروا كل الأحجار في بناء مساكنهم.( على قول أهالي صحنايا و عرطوز و جديدة عرطوز بالتواتر عن أجدادهم). و هذا ما حصل أيضاً في الآثار المسيحية في ادلب و جسر الشغور و حوران و السويداء … و هكذا لم يبق من أحجار هذا الدير العظيم إلا النذر اليسير الذي كان ديراً عامراً و يضج بالحياة تقريباً إلى القرنين التاسع و العاشر للمسيح أي بعد الفتح الإسلامي لدمشق بقرنين أو ثلاثـة.
و في الستينات عثرت مجموعة من الفلاحين في أنقاض هذا الدير على مبخرة ذهبية كما قال الأستاذ د.يوسف سمارة مدير الآثار في دمشق وتعود إلى العصور المسيحية الأولى، ويتابع الدكتور سمارة بأن وجود هذا الدير كانت قد أثبتته شهادات من القرون الوسطى زمن الفرنج و حروبهم في بلاد الشام مثل كتاب :
“تاريخ القدس” لمؤلفه جاك فيتري ، وكتاب “مذكرات الشيفالية دارفيو ” الذي استَشْهَد به جالابر ،و كتاب “رحلة إلى بلاد المشرق” لتيفينوص 434 الجزء الثاني ، وكتاب “وصف الشرق” لبوكوك ص 119-128 ، و كتاب “رحلة من حلب إلى دمشق” لكرين ص 65-66 وكتاب “خمس سنوات بدمشق” لبورتر ص 43 و كتاب”وصف فلسطين و الجليل” لكيران ص 305-306 في الجزء الثاني .
وجالابر الذي يذكر إن أكثر الإدلاء يؤكون أن كوكب هي مكان الرؤيا البولسية و المؤرخ بجاندر الذي استشهد بكتاب “في بلاد التوراة ” لمؤلف مجهول .
و يذكر الأب بارنابة مايسترمان في دليله عن الأرض المقدسة 1907 “إن قرية كوكب الصغيرة تحتوي على بقايا كنيسة في جوار التلة المدعوة مار بولس .
أما ليكليرك فيقول في مقاله “بولس”:”إن خير ما يروى في هذا الصدد ما جاء في كتاب “كانت التوراة على حق” لمؤلفه هيوشونفيلد” والكتاب ذو شهرة عالمية تحرى فيه كاتبه تتبع الحقائق التاريخية ومقارنتها واستخلاص النتائج بحيث لا يدع مجالاً للشك فيما يقدمه.
و قد تحدث عن شاول انه شاب متين البنية قادر على المشي مسافات طويلة ولكنه احتاج إلى أسبوع كامل على الأقل في رحلته حتى وصل إلى مشارف دمشق بسبب فقدانه البصر .
“في ناحية كوكب ، على بعد عشرة أميال من المدينة مرَّ شاول بتجربة الرؤيا التي كان من شأنها وأثرها ما نعرف من قراءة سفر أعمال الرسل”.
و يورد شونفييلد “إنه جاء في مخطوطات البحر الميت التي عُثر عليها هناك عام 1946 كيف هاجر مؤسسو الطائفة التي كتبت تلك المخطوطات إلى أرض دمشق حيث أقروا (العهد الجديد) و كان يتزعمهم حقوقي يدعونه (كوكب) أو(النجم) و هم جميعاً اتباع معلم البَّر الأكبر”.
و يقول (شوفيه و إيزامبرت) في كتابهما “رحلة وصفية وتاريخية و أثرية في الشرق” ص492 عندما يتحدث عن كوكب ” أنه يجب أن نعتبر هذا المكان المحل الذي حدثت فيه رؤيا القديس بولس واهتدائه إلى المسيحية كما ذهبت إلى ذلك أقدم التقاليد التي كانت مقبولة في زمن الصليبيين. و مثله يقرر جاكيه في كتابه عن أعمال الرسل ويقول د.يوسف سمارة :” واسم كوكب نفسه أليس فيه كثير من الدلالة على النور الذي غمر بولس في طريقه إلى دمشق “.
أما العّلامة الأستاذ محمد كرد علي صاحب كتاب “خطط الشام ” فيقول في الجزء السادس عن رواية البكري أنه قال :” ودير بولس آخر ودير بطرس أو نطرس وهما معروفان بظهر دمشق في نواحي بني حنيفة في ناحية الغوطة ، وإياهما عنى جرير بقوله :
لمّا تذكرت بالديرين أرقني صوت الدجاج وقرع النواقيس
فقلت للركب إذ جدَّ المسير بنا يا بعد يبرين من باب الفراديس
ويتحدث وصفي زكريا في الجزء الثاني من كتابه “الريف السوري ” ص 405 – 406 عن خربة كوكب فيقول:”إن سبب وجود الكنيسة والدير هناك هو ما جاء في الكتب المسيحية من أن هذا المكان هو الذي اهتدى فيه شاول (مار بولس ) حينما كان قادماً إلى دمشق ليلقي القبض على من تنّصّر فيها ويسوقهم إلى أورشليم موثقين” وأن الآية الباحثة عن هذا الاهتداء وعن ظهور المسيح ومخاطبته شاول قد وقعت هنا :”في ذهابه حدث أن أقترب إلى دمشق فبغتةً أبرق حوله نور من السماء فسقط على الأرض وسمع صوتاً قائلاً له:”شاول شاول لماذا تضطهدني؟ وصار لا يبصر أحداً فاقتادوه بيده وأدخلوه إلى دمشق وآمن بالمسيح وأخذ ينشر الدين الذي كان يريد القضاء عليه…”
ولا يزال سكان القرى المجاورة لكوكب يدعون هذا المرتفع باسم تلة مار بولس، ولها عندهم منذ القرون الأولى حرمة وتقديس، فقد كانوا ينذرون تعميد أطفالهم في الدير. وبعد زواله اصبحوا يقومون بذلك على قمة التلة كونها مقدسة. وبقي الحال حتى بناء الدير مجدداً في عام 1962. وأذكر كلاماً للمرحوم الارشمندريت نقولا رزق كاهن بلدة صحنايا مع غبطة البطريرك اغناطيوس الرابع عام 1980، عندما زار غبطته هذه البلدة بعد تسلمه العرش الانطاكي عام 1979. نقل فيه إلى غبطته تمنيات أهالي رعيته ورعية جديدة عرطوز من أجل الإهتمام أكثر بدير القديس بولس في كوكب، خاصة وقد كثرت التعديات على بنائه وأرضه. وقد روى لغبطته الكثير من التعديات والمخالفات ، ثم استعرض لغبطته قصة شراء البطريركية لهذه الأرض في الثلاثينيات في عهد مثلث الرحمات البطريرك الكسندورس طحان ، حيث قال حرفياً: “في الثلاثينيات جاءني صاحب أرض كوكب وهو من أعيان المسلمين الدمشقيين قائلاً لي بأن رهباناً أجانب جاءوه مؤخراً ومعهم خرائط قديمة استدلوا منها على موقع رؤية بولس الرسول في كوكب وبذلوا له مالاً وفيراً ليبيعهم الأرض من أجل أن يبنوا عليها ديراً …” ويتابع الارشمندريت نقولا نقلاً عن صاحب الأرض ما قاله :”… أجبتهم أنني وإن كنت مسلماً ولكنني عربي أولاً وأخيراً ودمشقي بالأخص ولا أبيع هذه الأرض إلا لأبناء عمومتي العرب المسيحيين الأرثوذكس وعلى رأسهم البطريرك الكسندورس طحان الدمشقي وقبله البطريرك غريغوريوس حداد نصير الملك فيصل والثوار في الغوطة ومطعم الجياع رحمه الله، فهم أصحاب هذه الأرض، وهي أرضهم قبل أن يأتي الإسلام إليها ، وأنا وإن كنت مسلماً وافتخر بذلك ، إلا أنني افتخر أيضاً بأبناء بطريركية الروم الأرثوذكس فتاريخهم يشهد على عروبتهم ولهم وحدهم حق بناء الأديرة على مزاراتهم المقدسة .وإن لم يدفعوا لي ثمن هذه الأرض فأنا أهبها لهم فهي حقهم الطبيعي. وكان لهم فيها دير عظيم على ما نعرف وآثاره تشهد بذلك…”
ويتابع الارشمندريت رزق فيقول:”سارعت وعرضت الأمر على سيدنا البطريرك الكسندروس الذي أعجبته شهامة السيد المذكور وعروبته وطلب الاجتماع به ، ودعوته إلى البطريركية ، واجتمعا بحضوري فيها فكلفني البطريرك بشراء الأرض ومتابعة إجراءات تسجيلها وقفاً أرثوذكسياً وقدم للبائع مبلغاً قليلاً قياساً على ما قدمه الرهبان الأجانب . ومع ذلك وافق البائع واعتبر ذلك مساهمة منه في البناء لأنه كان قد علم بأن البطريركية كانت تقوم بوفاء الديون الباهظة التي استدانها مثلث الرحمات البطريرك غريريوس الرابع حداد أيام “السفر برلك ” لإطعام الناس بغض النظر عن أديانهم . وغادر المذكور البطريركية وهو يكيل الدعاء للبطريرك الكسندورس بطول العمر “.
ولقد بقيت هذه الأرض مهملة لم تستطع البطريركية بناء الدير فيها لعدم توفر السيولة النقدية من جانب ولكونها أصبحت منطقة عسكرية بعد قيام دويلة إسرائيل فيها عام 1948 وقد عسكر فيها الجيش العربي السوري منذ ذاك التاريخ .
وفي عام 1961 تم شراء أجزاء جديدة من هذا الموقع وبدأ البناء بسعي البطريرك ثيوذوسيوس أبو رجيلي عند البطريرك الروسي الكسي وذلك في زيارته الأخوية الأولى إلى البطريركية الأرثوذكسية الروسية في موسكو . وقد تبرعت الأخيرة مشكورة بتبرع سخي من أجل تنفيذ ثلاثة مشروعات أرثوذكسية في دمشق وهي : بناء هذا الدير في موقعه التاريخي وقد قدمت أيضاً مخططات هندسية ، وبناء مستشفى أرثوذكسي في دمشق مع تجهيزاته الفنية والطبية مماثلاً لمستشفى القديس جاورجيوس الأرثوذكسي في الأشرفية ببيروت ، ومخبر حديث جداً لمدارس الآسية الأرثوذكسية .
وبالفعل تم بناء دير رؤية القديس بولس في كوكب ، وتجهيز مخبر مدارس الآسية فيما حوّلت المعونتان المالية والفنية المخصصة لبناء المستشفى بدمشق إلى مستشفى القديس جاورجيوس ببيروت. أما شكل الدير حالياً فهو عبارة عن بناء دائري شامخ في وسطه كنيسة وقد أحيط بأطلال أعمدة وقناطر لتوحي للناظر بقدم هذه الذكرى .
وقد تابع غبطة البطريرك اغناطيوس الرابع السير في طريق أسلافه في الاهتمام بهذا الدير فشكل لجنة من القرى المجاورة لتهتم به ولتسترجع أراضٍ منه كانت قد أُستملكت وتم تسييجه ووضع ناطور فيه . وأخيراً كلف قدس الأشمندريت متى رزق أحد كهنة البطريركية الشباب وهو من بلدة جديدة عرطوز بالإقامة فيه وتأسيس رهبنة له والسعي لتطويره بالتعاون مع اللجنة الخاصة بذلك وجدير بالذكر أنه يقام في هذا الدير ومنذ تدشينه عام 1962 قداس احتفالي في 29 حزيران من كل عام بمناسبة عيد الكرسي الانطاكي المقدس تحضره ألوف وافدة من المؤمنين من دمشق ومعظم الأرجاء السورية واللبنانية بالإضافة إلى أبناء الرعايا المجاورة .
وتنفيذاً لإعلان غبطته من إنطاكية مع شقيقه البطريرك المسكوني برثلماوس في 29 حزيران 1999 عن بدء الاحتفالات الألفية لتشمل كل العالم الأرثوذكسي مع خصوصيته لدمشق عاصمة الكرسي الانطاكي ، فإن هذه الاحتفالات بدأت في الدير المذكور في أول السنة الكنسية في 1 أيلول 1999 وذلك لأهمية هذا الدير . وقامت أخوية إحياء و نشر تراث القديس بولس الرسول الروسية بتدبير من السيد سمير غضبان ووالده الدكتور شكيب بوضع نصب تذكاري للقديس بولس في ساحة الديرباحتفال كبير برئاسة غبطة البطريرك اغناطيوس الرابع وبحضور حشد كبير من رجال الدين المسيحي ولجنة إحياء تراث القديس بولس الروسية يتقدمها الجنرال فالانتين مستشار الرئيس الروسي بوتين وآلاف من المؤمنين…
وصف الكنيسة:
أمّا اليوم فقد تم بناء كنيسة الدير وفق طراز معماري مميّز,حلزوني الشكل,مهيبة جميلة تحاكي عملية الرؤيا, صغيرة مزينة بالداخل بمجموعة رائعة من الايقونات الرائعة التي تمثل أحداثاً وشخصيات من الرسل والقديسيّين.
وهي ما تزال شاهدة على قدسيّة المكان وهيبته.
بالاضافة الى الكنيسة هناك مجموعة من الابنية لادارة وخدمة الموقع وساحات ممهدة وحدائق جميلة بالاضافة الى مسرح جميل ورائع مفتوح.وتمثال رائع من البرونز يمثل القديس بولس ينتصب في مكان بارز قام بتصميمه وتنفيذه نحات روسي اسمه ((الكسندر روكاشينكوف)) ويعتبر التمثال تحفة فنية رائعة .
كلّ هذا مسيج بسياج ,وتدخل الى الموقع من خلال بوابّة جميلة وأنيقة.
الخاتمة:
ختاماً نقول أن هذا الموقع يعطينا دليلاً ضافياً على أهمية سورية مسيحياً بشكل عام ودمشق المقدسة بشكل خاص فهذه لم تكن فقط مجرد بوابة عبور للمسيحية بل كانت صاحبة الدور الرئيس في نقلها بالبشارة مع بولس الرسول وغيره وإلا لما كانت تلي إنطاكية في الأهمية ولما أصبحت العاصمة الأبدية للكرسي الانطاكي المقدس وما ذلك إلا لكونها زاهية بلاد الشام وعاصمتها الخالدة على مر العصور وهذا فخرنا وعزتنا .
سورية ، إذا اتخذت الرقعة الأرضية ، أو عدد السكان مقياساً للأهمية ، بلد صغير في الكرة الأرضية ، ولكنها تقف في أول البلدان الأخرى وذلك لعراقتها حضارياً وغناها بأوابدها الخالدة . وما تزال حدودها الجغرافية على كثرة ما اختزلته منها الأحداث على مر العصور ، تضم كنوزاً فوق كل ثمن ، منها الديني ومنها الحربي والفني ومنها الطبيعي والفولكلوري .
المصدر: موقع بطريركية الروم الأرثوذكي \ د. جوزيف زيتون http://church-history.info