البطريرك إسطفان الدويهي: بين “منارة الأقداس” و”تاريخ الأزمنة”
يوم الثالث من أيار 2004، نظمت جامعة الروح القدس ـ الكسليك ندوة بعنوان “البطريرك إسطفان الدويهي: ندوة بمناسبة الذكرى المئوية الثالثة لوفاته”، وذلك برعاية بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للموارنة مار نصرالله بطرس صفير، وتنظيم الأب توما مهنا، العميد السابق لكلية اللاهوت الحبرية في الجامعة.
في الذكرى السنوية الأولى لإعلان البطريرك الدويهي مكرّماً في الثالث من تموز 2008 نشرت جامعة الكسليك كتاباً يتضمن الأوراق البحثية (1) والكلمات (2) التي قيلت في الندوة، لتنير درب كل باحث ومهتم بشخصية البطريرك الدويهي وأعماله وتأثيراته الجمّة على الكنيسة ولبنان.
1 ـ حياة الدويهي: من إهدن إلى روما وما بينهما
يشكّل أيار الحدّين المفصليين في حياة الدويهي: أي مكمن الإرتقاء واللّحد… وما بينهما. ولد عام 1630 وفي اليوم الخامس من أيار عام 1670، ارتقى إلى عرش أنطاكيا، وفي الثالث منه عام 1704 رقد بالرب. مات بطريرك الموارنة و”الملفان” والرائد، لكنه بقي حيًا في إرثه ومُثله.
في إهدن مسقط رأسه، تعلّم وتألق تحت سنديانة مدرستها، ما دفع بالمطران الياس الإهدني والبطريرك جرجس عميرا إلى إرساله إلى روما، مدينة النور الخالدة التي وصلها في حزيران 1641. هناك، اقتفى في المدرسة المارونية في روما أثر من سبقه من الموارنة اللامعين. درس الفلسفة والأدب، كما القانون والإلهيات والموسيقى والرسم، من دون أن يعود مباشرة إلى لبنان. جمع، حيث ما حلّ، كل ما يتعلق بالموارنة ولبنان في مدارس روما ومكتباتها من مؤلفات قديمة وحديثة ومخطوطات متنوّعة.
على رغم إغراءات وسخاء العروض التي تلقاها من أغنياء أوروبا، عاد إلى موطنه، ليلبّي نداء الحاجة عند قومه عام 1655. في العام التالي، رسمه البطريرك يوحنا الصفراوي كاهناً على مذبح دير مار سركيس في إهدن. هناك، اهتم بتعليم أولاد قريته مبادئ القراءة والعلم، كما رمم دير مار يعقوب وأقام فيه خمس سنوات، قبل أن يرسله البطريرك إلى مدينة حلب، حيث أمضى خمس سنوات أخرى.
في حلب، أسّس مدرسة، وانفتح على بقية أبناء الطوائف المسيحية حواراً ولقاءً وعملاً. ثم غادرها برحلة إلى الأماكن المقدسة، تلاها تعيينه أسقفاً على كرسي مطرانية قبرص، ثم انتخابه بطريركاً على الكنيسة المارونية عام 1670. لم يُقم طويلاً في الجبّة، بل غادر إلى كسروان هرباً من جور الحكّام وفرضهم للسطوة على الكنيسة. هناك، شمال لبنان، ضيّق الحماديون (3) وولاة طرابلس عليه وعلى أبناء رعيته، فحمل نفسه للمغادرة إلى كل قرى لبنان وجبله، فيقوّي من عزيمة أبناء شعبه.
عاد إلى قنوبين في السنة التالية، مستقبلاً De Nointel، موفد الملك الفرنسي لويس الرابع عشر في تموز 1674. ثم تنقل بين قنوبين وكسروان لعدة مرّات هرباً من جور الحكّام والأمراء وجباة الضرائب، ليستأجر، لاحقاً، من الأمير أحمد المعني قرية مجدل المعوش الشوفية حيث أدخل العمران إليها، وجدد كنيستها، ليعود ويتوفى في قنوبين.
أتقن اللغات السريانية والعربية واللاتينية والعبرية، عدا مُثله العليا، زهده الدائم، وأثره الطيب. إشتهر بتنظيم شؤون الكنيسة، محاربة الإقطاع، والأهم إسهاماته المهمة في مجال التأريخ. لقبه البعض بـ”أبو التاريخ الماروني”، وآخرون بـ”عامود الكنيسة المارونية”، وغيرهم بـ”ذهبي الفم الثاني”
2 ـ وجوه مميّزة في شخصية الدويهي
من خلال سيرته وأفعاله، للبطريرك الدويهي ثلاثة وجوه مميّزة: الدويهي المعلّم والعالم، الدويهي طالب القداسة، والدويهي الماروني القائل بدور مميّز للبنان.
أ- الدويهي المعلّم والعالِم
بدأ عمله معلّماً تحت السنديانة، ثم طاف معلماً في أرجاء الشرق. لم يقتصر دوره التعليمي على العمل الفردي، بل خبر بذاته أهمية المدرسة الرومانية لصالح الأفراد والطائفة، فاختار لها، حين أصبح في حيّز المسؤولية، التلامذة المهرة. باهتمامه بهم وبتوجيههم، سهر على تأمين التربية التي كان يتمناها لأولاده، ورسم لهم المستقبل الذي كان يريده وسط بيئتهم الخاصة.
يتمحور عمل الدويهي حول كشف الذات المارونية في أصالتها، وبعث التاريخ الماروني، وإحياء التراث الليتورجي واللاهوتي دونما قصور في رؤيا جمعت، من ناحية، بين الطائفة المارونية كجماعة مهملة في التاريخ الرسمي في حينها، وبين تاريخ المسيحية الشرقية وشعوب الشرق برمته من ناحية أخرى.
كتب حول تنقيح الكتب الطقسية وقام بردّها إلى أصالتها، كما نقح كتب الرتب الدينية والنوافير والأسرار والأعياد والجنازات، وجمع كتب الصلوات بعد تنقيحها. كما استخرج سير القديسين من لغة إلى أخرى، ووضع للشرطونية (أي سيامة الشخص المكرّس) شرحاً مطولاً، كما شرحاً للتكريسات والنوافير الأرثوذكسية، وكتب عن الرشقلات (أي مطالع الألحان السريانية). أما أهم مؤلفاته اللاهوتية، فهي كتاب “منارة الأقداس” الذي يقارن فيه التاريخ واللاهوت والليتورجيا بين الطقوس الشرقية والغربية، وهو كتابه الأهم في المجال الديني العام.
أما مؤلفاته التاريخية فهي على نوعين: الأول في التاريخ الماروني المحض عبر كتاب “سلسلة بطاركة الطائفة المارونية” و”سجل الدويهي” الذي يشمل البراءات البابوية المرسلة إلى الموارنة، و”كتاب المحاماة” في ثلاثة أجزاء (أصل الموارنة، رد التهم ودفع الشبه، والإحتجاج عن الموارنة)، كما كتب أخرى عن أصل الموارنة ونسبهم. أما النوع الثاني، فهو يتضمن أهم كتاب لدى الدويهي، وربما في مجال تأريخ التاريخ في الشرق كله في حينها، وهو “تاريخ الأزمنة” الذي يتناول تاريخ الشرق بأسره. بالإضافة إلى كتب أخرى عن «مقدَّمو بشرّي» (1382-1690) و»تاریخ المدرسة المارونية في روما» وغيرها.
ب- الدويهي طالب القداسة (4) وخادم الجماعة
العلم عند الدويهي ليس غاية في حد ذاته، بل كل شيء عنده سبيل إلى الله. كان المسيحي المثالي، فالتزم الزهد والقداسة نهج حياة يومية، فيما عهده بالطموح إلى القداسة كان مبكراً منذ الصبا. كان يميت حواسه في الأكل والشرب والنظر، ولم يذق قط بواكير الأثمار الجديدة. ولكم انقطع في المغاور والأودية حيث كان يختبئ للصلاة والتأمل، فيقوى بهما وبالإيمان على كل المصاعب…
كان الدويهي مؤمناً بالأهمية الاجتماعية للتربية والعلوم، وعلى دراية بمدى تطوّر التعليم الأوروبي مقارنة بالشرقي في زمانه. لذا، اتبع سياسة ناجحة تتمثل في إرسال أكبر عدد ممكن من الموارنة إلى روما، ليصبحوا قادرين على العودة إلى القرى التي يعيش فيها البسطاء والفلاحون، فيقومون بتعليمهم. بهذه الطريقة، ارتفع مستوى التعليم العام، واستطاع الموارنة، لاحقاً، تبعاً لأعمال الدويهي، من لعب دور أساسي في لبنان وتأسيس الكيان اللبناني.
أنشأ الدويهي، كذلك، مدرسة في حلب، أصبحت قاعدة لتطوير الرهبانيات المتنوّعة. وكما هو الحال مع سياسته التربوية، كان تجديده الرهباني ناجحاً، إذ ازدهرت الرهبانيات وعديدها بعدما وضع الحجارة الأساسية لهذا الغرض في حلب وشمال لبنان.
ج- دور الدويهي الوطني
أسهم الدويهي في زرع بذور الكيان اللبناني ليس على صعيد طائفته فحسب، بل على صعيد باقي الطوائف التي تشكل أقليات في الشرق تناساها مجمل المؤرخين. أما هو، فله الفضل في ذكرها وتبيان دورها وتفاعلها مع طائفته، ولكم جاهد بوجه حكام طغاة مثل الحماديين والعثمانيين حفاظاً على كيان جماعته، من دون أن ينعزل بقومه عن محيطهم الشرقي والمتوسطي في آن.
يُظهر كتاب “تاريخ الأزمنة” قناعته بوجوب التزام طائفته دوراً فاعلاً في تاريخ الشرق، وبوجوب تفاعلها التعددي مع باقي الأقليات في لبنان بشكل يميّز الكيان اللبناني في واقع تركيبته التعددية ضمن الواقع الشرقي الكلّي. لم يعنِ ذلك قط، عند الدويهي، انغلاقا عن الحضارة العالمية. إن أحد مقوّمات التميّز الماروني، عنده، هو الانفتاح الحضاري على الغرب والشرق معاً.
صحيح أن الدويهي حاول تنظيم شؤون طائفته وتحديثها متأثراً بتنظيمات المجمع التريدنتيني (5) في أوروبا، لكنه لم يتوانَ قط عن إبراز خاصية طائفته. لا يبرح في كتابه رد التهم ويبيّن واقعها الشرقي الكاثوليكي. إن نظرة إلى كتاباته وشخصيته وإلى مختلف جوانب حياته، ما هي إلا مختصر لمعاناة الطائفة المارونية، لمقوّمات شخصيتها القاعدية جذوراً وفروعاً، لتطلّعاتها وتجربتها الروحية والوطنية والحضارية…
3 ـ حصيلة عمل الدويهي التفسيرية
مرّت الكنيسة المارونية، منذ القرن الخامس عشر، في بلبلة وضياع لتراثها كما لفهمها لذاتها، من جراء عوامل متعددة، من أهمها الجهل المتفشي بين الشعب والإكليروس، بسبب فقدان المدارس والمعلّمين، وبسبب الفقر المادي وظلم الحكام. لم يكن للشعب من متنفس روحي وثقافي، خارجاً عن صلواته الطويلة المشبّعة بقراءة الكتب المقدّسة، وبعض مواعظ الآباء الأقدمين، وسِيَر القديسين. حتى هذه خضعت للبلبلة والضياع، بسبب تدخل الموفدين الرومانيين الذين رأوا فيها “إنحرافات”، كما بسبب حماس الأفواج الأولى من خرّيجي المدرسة المارونية في روما، الذين أرادوا أن يصلحوا بسرعة هذه “الإنحرافات”، مما زاد في الطين بلّة.
هذه كانت حال الكنيسة المارونية، عندما عاد الدويهي إلى جبل لبنان عام 1655، بعد أن قضى 14 عاماً في مدارس روما، حيث حصّل، بنجاح وتفوّق، المعارف الفلسفية واللاهوتية والعلمية. لم يختر الدويهي البقاء في الغرب كما فعل كُثر من أترابه، كجبرائيل الصهيوني (المتوفي سنة (1648) وابراهيم الحاقلاني (المتوفي سنة 1664)، ومرهج الباني (المتوفي سنة 1711)، ويوسف السمعاني (المتوفي سنة 1768)، الذين برعوا وتميّزوا بالتعليم والبحث والتأليف، بل عاد إلى وطنه ليوظف، ببراعة ونجاح، الحصيلة العلمية في خدمة شعبه.
وعى الدويهي منذ بداية عمله بين شعبه، أن عليه أن يكيّف العلم الذي حمله من روما مع إيمان شعبه وتراثه، لكي يتمكن من أن يقول له شيئاً نافعاً، وقادراً أن يرفع من مستوى فهمه لإيمانه. كان عليه، أولاً، أن ينكب على درس تراثه الماروني السرياني الأنطاكي، منطلقاً من النصوص الأصلية التي تحمل هذا التراث.
المصدر:
ندوة لمناسبة الذكرى المئوية الثالثة لوفاة البطريرك إسطفان الدويهي، منشورات جامعة الروح القدس – الكسليك، لبنان 2009.
اعداد: مكتب الأبحاث ـ دائرة الإعداد والتدريب
No Result
View All Result