دير مار قبريانوس ويوستينا – كفيفان
يعود تاريخ دير القدّيسَين قبريانوس ويوستينا إلى ما قبل القرن السابع للمسيح، ويقع في بلدة كفيفان في قضاء البترون على هَضَبة تعلو 450 متراً عن سطح البحر، تُحيط به قرى جران وعَبدللّي وسمار جبيل.
معلومات عامّة وتاريخيّة:
يرجح كون الإسم سريانياً ويعني المكان الصغير المقدس. كما قد تعني لفظة “كفيفان” المُحدَّب والمُنحني نظراً لوجود القرية والدير على أرض مُحدَّبة بين واديَين أو شِعْبَين. تنتشر فيها الآبار المحفورة في الصخر وكذلك القبور. لقّبت كفيفان بهذا الإسم نظرا” لمبانيها القديمة. فهي مقرّا” لما تبقّى من مختلف الآثار بما في ذلك الآبار المتعدّدة والنواويس المنحوتة في الصّخور والنقوشات الرّومانيّة الّتي تعود إلى عهد الإمبراطور هدريان الموجودة في وادي الكور داخل كفيفان . في الجّهة الشّرقيّة للبلدة، يوجد العديد من الآبار المصوّنة بجدار قديم لا تزال معالمه واضحة حتّى يومنا هذا. بالقرب من الجدار، يقف برجا” للمراقبة في كهف منحوت في الصّخر.
يلاحظأن الجزء الشمالي من الدير يتكون في الواقع من أساسات قلعة قديمة ، يقترح البعض أن هذه الهياكل تعود إلى العصر الروماني وبشكل أكثر تحديدًا من عهد الإمبراطور هادريان.
وقد تَكرَّس هذا الدير على اسم الشهيدَين قبريانوس ويوستينا عند تحويله إلى مَقرّ بطريركيّ في عَهد البطريرك دانيال الشاماتي أي في العام 1230، وهذا بِحسب ما ذكره البطريرك إسطفان الدويهي (1670-1704) في “سِلسِلة البطاركة الموارنة”. وكانت هذه الانتقالة هي السادسة في سِلسِلة انتقالات المقرّ البطريركي المُتَعاقبة، وقد جَرَت من دير سيّدة يانوح “حيث كان جالساً على السدَّة البطريركية إرميا العمشيتي (1199-1230)” كما يقول الدويهي.
وهو يضمُّ جثمان القديس نعمة الله كسّاب الحرديني الذي دُعي “قديس كفيفان”، كما يَحضن جُثمان المُكرَّم الأخ اسطفان نعمة الذي توفّاه الله في الثلاثين من شهر آب 1938.
والوصف التاريخيّ لهذا الدير كما كان في حاله الأولى نَجِده في إحدى الوثائق العائدة له، وفيها أنه بناء صخريّ عقد، يبلغ طوله عشرين “ذراعاً هاشمياً” وعرضه خمسة “أذرع هاشمية”، مُقسَّم إلى “أربع غرف”، وهو يُعرَف منذ سنة 1779 بـ “كنيسة والدة الله مريم في كفيفان”.
وقد تمَّ تجديد بنائه ما بين العامين 1865 و 1895، أي خلال مدةٍ إمتدت إلى ثلاثين سنة. وبعد سبعين سنةً من ذلك، أي في سنة 1965، شُرع بحملة ترميم للدير بكامله. وفي 1988 بدأ العمل لتشييد طابقٍ جديد لسكن الطلاّب المُبتدئين، كونه عُيِّن ديراً للابتداء منذ العام 1899، وهو باقٍ كذلك حتى الآن بعد سلسلة انتقالاتٍ منه وعودةٍ اليه.
وقد ألَّف عنه الأب بيار سعاده كتاباً بعنوان “دير الذهب: كفيفان” أورد فيه نبذةً كتبها الأب بطرس ساره يقول فيها: “إننا لم نَجِد قبل القرن الثالث عشر أثراً لتاريخ هذا الدير”، وقد عَقَّب عليها الأب سعاده بقوله: “كل ما جاء عن هذا الدير أنه كان كرسيّاً بطريركياً في مُستهلّ القرن الثالث عشر كما ذكر الدويهي في “سِلسِلة البطاركة”، موضحاً السبب في ذلك بـ: “أنَّ تاريخ تلك العصور لم يكن جلّياً واضحاً، او إن ما تركه لنا، ذَهَب، كغيره من الآثار، فريسة الضياع والدمار”.
كذلك فإن الأب ساره يقول، تعليقاً على ما هو معروف من انتقال الكرسيّ البطريركيّ من يانوح إلى كفيفان في عهد البطريرك إرميا العمشيتي الذي دام من 1199 إلى 1230 : ” نَظنّ أن عهد التاريخ بديرنا هذا أبعد من تلك الأيام، أي من أوآخر القرن الثاني عشر وأوائل الثالث عشر”.
وكلام الدويهي ليسَ واضحاً حول ما إذا كان هذا الانتقال قد تمَّ في عهد البطريرك إرميا العمشيتي (1199-1230) أم في عهد خلفه البطريرك دانيال الشاماتي (1230-1239).. إذ يقول: ” وانتقل الكرسيّ البطريركيّ سادسةً من سيّدة يانوح، حيث كان جالساً على السدَّة البطريركية إرميا العمشيتي سنة 1199-1230، إلى دير القديس إبريانوس في كفيفان حيث جلس دانيال الشاماتي خلفاً لإرميا”.
وكتاب “بطاركة الموارنة .. إلى القرن الثاني عشر” للأب بطرس فهد وَرَد فيه أن لا ذكِر لسَكَن البطريرك إرميا في دير كفيفان، لكنه سكنه سنة 1209!!.
وكيفما كان الأمر فإنه لم يكن ثمة خلاف حول ان هذا الانتقال قد تمَّ من دير سيّدة يانوح إلى دير كفيفان.. إلى ان جاء الأباتي طوبيا العنيسي يقول إن دانيال الشاماتي انتُخب في دير سيّدة ميفوق، ثم ترك ميفوق وسكن في دير كفيفان. وزَكّى الأب فهد ذلك بقوله، في الصفحة 187 من كتابه: “قيل ان دانيال الشاماتي انتُخب بطركاً في سنة 1230 في دير سيّدة ميفوق، وبسبب الفِتَن والحروب، ترك ميفوق وسَكن في دير كفيفان”؛ فهل الانتقال كان من دير سيّدة يانوح إلى كفيفان أم من دير سيّدة إيليجإ ليها؟
ولكنَّ الدويهي، في الصفحة 12 من “سِلسِة البطاركة”، كانَ كلامه واضحاً تماماً بالنسبة إلى الموضع الذي جَرى منه الإنتقال إلى دير كفيفان، وإلى البطريرك الذي جرى في عهده هذا الانتقال والسنة التي حصل فيها، إذ قال: ” في سنة 1230 انتقل إلى رحمة الله إرميا من عمشيت في دير سيّدة ميفوق، فَعَقَبه البطريرك دانيال من شامات من أعمال جبيل، فَسَكن أولاً في كفيفان”، وبذلك نقض ما قاله هو نفسه في “سلسلة البطاركة”: “انتقل الكرسيّ البطريركيّ سادسةً من سيّدة يانوح … إلى دير القدّيسَين قبريانوس ويوستينا في كفيفان”.
وفي كتاب الأب سعاده ان تاريخ إنتقال البطريرك دانيال إلى كفيفان ورد في كتاب “التراتبية المارونية” ( La hiérarchie Maronite) للخورأسقف يوسف زياده على إنه نفس التاريخ الذي ذكره الدويهي.
أمّا الأب بولس مبارك، في كتابه: “عائلة الخوري تادي”، فيقول في الصفحة 259: “أول ما يُعرَف عن هذا الدير أنه كان كرسيّاً بطريركياً في مُستهلّ 1198″، أي في أوآخر القرن الثاني عشر، خلافاً لما قاله الأب ساره من أن تاريخ هذا الدير لم يوجد له أثر قبل القرن الثالث عشر.
ولكنَّ أجمل ما نَختُم به هذه اللَمحة عن دير كفيفان هو ما كتبه عنه الأب أنطوان خليفه عندما كان رئيساً له في العام 2000.. مُقدِّماً كتاب “دير الذهب : كفيفان”، فجاءت كلمته مُستوحاة من التاريخ العريق الذي لهذا الدير، وفَضلَه على الدراسة الإكليريكية للمبتدئين من أبناء الرهبانية اللبنانية المارونية، اذ قال: “منذ قيامه من ظُلمات الماضي السحيق ديراً على اسم الشهيدَين قبريانوس ويوستينا، مروراً بصيرورته، بعد يانوح (عدنا إلى ان الانتقال اليه كان من يانوح)، كُرسيّاً بطريركياً مارونياً مع البطريرك دانيال الشاماتي (إذن هو الذي انتقل إليه وليس سَلفِه إرميا العمشيتي) إثر وفاة البطريرك العَظيم إرميا العمشيتي، واللانطلاق منه بأول مدرسة عُليا لدراسة الفلسفة واللاهوت تجمعُ الإخوة الدارسين من أبناء رهبانيتنا اللبنانية المارونية، إلى إختياره، منذ مئة سنة وسنة، اي منذ 1899، ديراً موحَّداً للإبتداء بإرادة بطريرك كبير من هذه البقعة المباركة من أرض لبنان الخيرَّة.. المُثلَّث الرحمات البطريرك الياس الحويّك، حتى رُسوخه في الحاضر.. مُحتضناً ضريحَ الطوباويّ نعمة الله كسّاب الحرديني، قدّيس كفيفان، مُعلّم القديس شربل، ومحتضناً أيضاً ضريحَ الأخ إسطفان نعمه، وغيرهما من الوجوه الرهبانية التي تألَّقت روحانيةً وقداسة، كان كفيفان، الدير- المزار، يَنقُشُ صورَتَهُ على وجه التاريخ المارونيّ، وتاريخ لبنان، في هذه الأرض المقدَّسة، ويطبع بصماتِهِ في قلوبِ الكثيرينَ من أبناء الرهبانية”.
أماكن للزيارة داخل الدير:
ضريح القديس الحرديني، ضريح الأخ إسطفان، المتحف (إنّ الكؤوس التي كان يستخدمها القديس نعمة الله والمخطوطات المحفوظة في الأرشيف والأدوات الزراعيّة التي استخدمها الأخ إسطفان جميعها معروضة في المتحف) ومحل تذكارات ومونة الدير.
دير كفيفان استقبل أيقونة جديدة للقديس نعمة الله الحرديني في 2014
إستقبل رئيس وجمهور دير كفيفان، وفي إطار احتفالات ذكرى تطويب وتقديس الأب نعمة الله كساب الحرديني، أيقونة له رسمها وقدمها المهندس شكري خلف بعد أيقونتين للقديسين شربل ورفقا.
وللمناسبة، اقيم احتفال بدأ بتطواف الأيقونة ومسيرة صلاة من مدخل الدير الى الباحة الخارجية تقدمتها الأيقونة التي رسمت بجبلة من ذخائر وعظام القديس نعمة الله والتراب المقدس.
وشارك في المسيرة آلاف المؤمنين من مختلف المناطق اللبنانية رافقوا وصول الأيقونة إلى الدير حيث أقيم قداس ترأسه رئيس الدير الأب سيمون صليبا وعاونه بالذبيحة الإلهية لفيف من الكهنة من رعايا مختلفة. وخدمت القداس جوقة الاخوة المبتدئين بإدارة الاب جوني كرم ومشاركة مرنمين وموسيقيين.
في بداية القداس، ألقى خلف كلمة شرح فيها مضمون الأيقونة ومكوناتها ومعانيها وقال: “إن رسم لوحة هو أمر عادي لفنان تشكيلي، أما كتابة ايقونة فهو أمر لا يشبه أي عمل فني عادي، فتنفيذه يتطلب تأملا وصلاة بكل ما تعنيه كلمة صلاة من إتصال مع الله، وتصميم وشفاعة ورعاية. وبعد رسم الايقونات الثلاثة: شربل ورفقا والحرديني، فقد اصبحت ملكا للأديار ولكل مؤمن يلتمس الشفاعة منه بلمس الأيقونة”.
وتابع متوجها الى خلف بالقول: “القديس نعمة الله يعرف ان يكافئك، رسمت ايقونته وهو أيقونة الرب، استعملت عناصر ومواد من الدير من ذخيرة الحرديني ومن تراب الارض وورق الشجر التي قدسها الحرديني، وهذا ما يميز الايقونة”.