جميع الصديقين القدامى أكملوا الوصايا بخوف الله
القديس مارفيلوكسينوس
-
لقد صار طريق المسيح ممهداً أمام كل من يريد أن يسلك فيه بإستقامة ، وذلك بأمثلة الصديقين القدامى الذين سلكوا فيه قبلنا . فحين نرى آثار خطواتهم على هذا الطريق ننجذب اليه ونسير دون خوف من أي ضلال . فكما أن الاشارات والحواجز الموضوعة على جانب الطريق تحدد مسيرة المسافرين ، هكذا ايضاً فإن نماذج وأمثلة القدماء مع وصايا وناموس الله تحدد الطريق الذس نسلك فيه وتجعله واضحاً أمامنا بما لا يسمح لأحد أن ينحرف عنه يميناً أو يساراً . لأنه كما أننا ملتزمون أن لا نحيد طريق الحق المستقيم حتى لا نضل في أي سبيل معوج ونتعثر في إيماننا ، هكذا ايضاً فإنه لا ينبغي لنا أن نخرج عن طريق التدبير الإلهي القويم الذي دعينا إليه ، بل أن نتقدم بإستقامة في هذه السيرة النقية كما في طريق الإيمان .
-
لهذا يجب علينا أيضاً أن نعرفه بداية ووسط وكمال هذه السيرة ، ونلاحظ الدرجات الكثيرة التي وضعت بترتيب الواحدة بعد الأخرى على هذا السلم الذي يصعد الى السماء . الذي اظهرهساكن السموات مسبقاً في سر لمختار الاباء المغبوط يعقوب ، والملائكة صاعدة ونازلة عليه ( تك 18:58)
ولم يكن هذا السلم يخص الملائكة السمائيين فقط ، ولكن الكتاب لما ذكر صعود ونزول ملائكة الله فوقة كان يدلنا ايضاً على أن الانسان الذي يقترب من قاعدة السلم ويبتدئ أن يصعد عليه درجة بعد درجة يعتبر في مرتبة الملائكة ويحسب في جسد الروحانيين ، وقد تسجل اسمه لكي يصير جندياً سمائياً . وكما أن الاشخاص الذين ينالون شرف الجندية ويعملون في كتائب الملك الارضي يغيرون اسم الفلاحين الذي يتحد بإختياره في جسد المسيح ليخدم مع طغمة الروحانيين يستبدل إسم إسنسان بإسم ملاك حسب قول الكتاب ، وقد استحق أن يتخذ اسم الملاك بما أنه قد بدأ يعمل في صفوف الملائكة ، وصار يدعي ملاكاً بدلاً من إنسان بسبب خدمته وسيرته وليس بسبب طبيعته .
-
وكما أن الملائكة كانت تصعد وتنزل على السلم ، فقد رأى يعقوب البار أن البشر هم الذين يصعدون، لأن الصعود من الارض الى السماء إنما يخص الانسان ، وأن الملائكة هم الذين ينزلزن ، لأن السماء هي موطن الملائكة وهم ينزلون من علو مسكنهم الى الارض ، إذا ، فقد اشترك البشر والملائكة معا على هذا السلم ، لكي ندرك من الكتاب المقدس أن السيرة الحسنة هي مشتركة بين السمائيين والارضيين ، وأن الجميع مطالبون بحفظ الوصايا . فالبشر يحفظون الوصايا بإرتفاعهم من أسفل الى أعلى فوق درجات الوصايا ، والملائكة تخدم مشيئة الله عندما يرسلهم من العلو الى الارض ، لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص (عب 14:1 ). فالذين أدنى وجسدانيون بطبيعتهم يجعلهم حفظ الوصايا أعلى و روحانيين ، والذين هم أعلى وسمائيون بطبيعة خلقتهم تدفعهم وصية الله للنزول الى موضع الارضيين ليكونوا مرافقيين للجسدانيين بإستمرار ، وهكذا نرى جمعاً من اجناس مختلفة يتحدون معاً كجماعة واحدة في شركة الحب ينشدون الثلاثة تقديسات ممجدين إرادة الله ، ويتحركون كلهم بواسطة حركة روحية حية واحدة مثلما يتحرك الجسد بأكمله بحياة النفس .
-
والآن ، بعد أن رأينا أن ذاك السلم التي تصعد الانسان الى السماء تتكون من درجات متعددة ، فلنرتق هذه الدرجات وعن طريقها نرتفع بدورنا مثل أولئك الذين صعدوا قبلنا فوق هذا السلم . لقد أظهرنا أن الدرجة الأولى من درجات هذا السلم هي الايمان ، والثانية هي البساطة التي هي حركة نقية طبيعية تحفظ الايمان بعد أن يكون قد ولدها ، لأنه كما أن المكر يفسد الايمان ، بالمثل فإن الطفولة والبساطة تدعمان الايمان . ومن البساطة يتولد أيضاً خوف الله ، لأن الخوف يتوافق طبيعياً مع الطفولة ، فلاأطفال يخافون الله ، بينما الماكرون يزدرون به ، البسطاء يرتعدون عند ذكر العقاب. والماكرون يبحثون عن وسيلة للتهرب منه .
-
كما أن الخوف يرافق طفولة هذا العالم ويدفعها وبحثها أكثر من التعاليم الى الفهم والقراءة والكتابة، هكذا ايضاً فإن خوف الله يتفق مع طفولة النفس ويدفعها لكي تحفظ الوصايا ولا تزدري أو تحتقر ما يقدم لها بواسطة كلام الله . فالخوف هو الذي يقود الانسان حتى يبلغ كمال عقله ، والرعب والفزع من مشرع الناموس هو الذي يصاحب التلميذ إلى أن يكشف له العدل الذي يحكم ، ويعرفه بأنه ملتزم بحفظ الوصايا وبالاهتمام بمراعاة النواميس التي اعطيت له . وعندما يستعلن العدل فيه وتنهض النعمة المفروسة في نفسه طبيعياً ،فهي التي تطلب منه كمديون أن يسدد دين حفظ الوصايا ، فكما أن رائني العالم يستدعون مديونيهم ويكرهونهم على دفع ما هو مستحق عليهم ، هكذا أيضاً فإن العدل الموجود في نفوسنا يستحثنا أن ندفع لله دين وصاياه ، وإلى ذلك الحين فإن خوف الطفولة هو الذي يقودنا ، وجميع الابرار القدماء قد أرضوا الله بواسطة هذا الخوف ، لأنه لازم وضروري للذين ما زالوا في مرتبة العبيد .
-
تحت جميع هذه الاشكال يصاحب الخوف العبيد ، وهو نفسه يكون كذلك مرافقاً للحب غير الكامل، فقد قال الكتاب انه لا يوجد في المحبة الكاملة ( ايو 8:4 ) ، ولكنه يرافق كل من يبدأ في المحبة ولم يصر بعد كاملاً . هناك من يخا لئلا يجلد وهذا هو خوف العبيد ، وهناك من يخاف لئلا يفقد اجرته وهذا هو خوف الاجراء ، وهناك من يخاف لئلا يغضب الله وهذا هو خوف الصديقين ، وهناك ايضاً من يخاف لئلا يفقد الميراث وهذا هو خوف البنين. ومع أن الخوف هو أسم مفرد ، الا أنه يشتمل على أنواع كثيرة متمايزة : فالأنبياء القديسون كانو يخافون الله ، وكان شعب اليهود ايضاً يخاف الله من وقت لآخر، ولكن كم كان الفرق كبيراً بين الفريقين ! كان الأنبياء يخافون لئلا يغضبوا الله كصديقين بينما كان اليهود يخافون عصا تأديبه كعبيد .
-
ولكي يزيد ذلك الخوف عندهم ، كان بمجرد أن يرتكبوا مخالفة يسلمهم في الحال لعصا التأديب . فقد كان الله يعاقبهم على الخطية دون امهال ، لأن عملهم لم يكن يحتمل الامهال. وكانت عصا عدله بإستمرار مسلطة على رأسهم ، فكانوا حالما يخطئون يعاقبون ، وحالما ، يرتكبون المخالفة يضربون، وكان العقاب يدركهم في طريق خطاياهم نفسه ، لأن الامهال بالنسبة للعبد الأحمق يشجعه بالأكثر على الازدراء بسيده ، فلكي لا يندفع ذلك الشعب الجاهل الذي كان ساكناً في بيت الله إلى الازدراء كعبد أحمق، كان الله لا يمهلهم .
-
وحدث هذا بوجه خاص خلال الخروج من مصر وما اعقب ذلك حيث يمكننا أن ندرك السبب في هذا العقاب السريع ولماذا لم يكن هناك أي أمهال في عقاب خطاياهم . فقد تسلم الله شعب في مصر كما يتسلم المعلم طفلاً من مربيته لكي يعلمه معرفته ويفهمه حكمته .ولأن الشعب الطفل كان ينسى التعليم الذي اعطى له ولا يحتفظ في ذكرته بوصايا الله ، كان يستعمل معه العقاب السريع على الدوام لكي
-على الاقل- يتذكر التعليم لسبب الخوف من العقاب .
-
فالرجل الذي خرج يوم السبت لكي يحتطب صار رجمه بواسطة الجماعة كلها (عدد 15 : 32-36) والاخرون الذين قاوموا موسى وازدروا به ولم يوقروه ، فتحتت الارض فاها وابتلعتهم ( عدد 32:12) وبقية الذين استخفوا بكهنوتة وأرادوا أن يختطفوا الكراهمة لأنفسهم ، خرجت نار بغته وأكلتهم ( عدد 35:16) ، وآخرون ممن نالوا كرامة الكهنوت ولكنهم قدموا على المذبح ناراً غريبة غير مناسبة احترقوا وهلكوا بواسطة لسان نار خرج من الخيمة
(لا 10 :1-2 )، والذين اشتهوا لحماً واحتقروا خبز الملائكة أصابتهم ضربة عظيمة (عدد 11:20)،
والذين عبدوا العجل قتلتهم رماح اللاويين ( خر 32 : 19-28 )، والذين كانوا سبباً في ذلك التمرد اختبروا بواسطة ماء الاستقصاء لهلاك نفوسهم ( خر 20:32 )، والذين تذمروا على الرب اهلكتهم الحيات المحرقة ( عدد 9:21 )، وجميعهم ماتوا وهلكوا في البرية لأنهم قاوموا عند مدخل أرض الموعد ( عدد 14 : 26-35 )، مثل هذه الخاطايا استحقت هذا العقاب ، الى جانب الذنوب التي كانت تجلب الجزاء على الفور ، كان هذا لكي تتوبخ الذنوب بالعقوبات والخطايا بالنقمات ، ولكي ما يخاف الشعب مثلنا يخاف الطفل من المعلم الذي يعلمه ويرتعب مثل العبد البطال أمام القاضي الذي يفرض عليه عقوبة .
-
وهذا هو السبب الذي من اجله كان موسى معلم الشعب يطلب منه في كل مكان أن يخاف الهه. إعمل هذا الشئ ، اكمل هذا الامر ، إحفظ الوصايا ، أتمم النواميس ، أحبب قريبك ، افتقد فقراء شعبك ، لا تعامل أخاك بقسوة ، لا تشته ما للقريب ، أكرم أباك وأمك ، لا تحلف بإسم الهك باطلاً، لا تنقل تخوم قريبك ، لا تغش ، لا تظلم ، ولا تقسو على من كان أضعف منك ، وفي نهايه كل وصيه من هذه الوصايا كان يذكره بخوف الله ، لأنه كان يعرف أن الوصايا تحفظ بواسطة الخوف، وأن خوف الله يمنع الانسان من ارتكاب الإثم .
-
لقد كان صعباً على شعب اسرائيل أن يحب الهه. ولهذا دفعه موسى الى مخافته . أما وصية ” تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ” (تث 5:6 )، فقد كانت للأبرار الذين بينهم، أما الذين كانوا كعبيد ، ووكانوا يخطئون كل حين مثل العبيد ، فقد كان يوصيهم بخوف الله .الخوف يمنع الشر، أما المحبة فتعمل الخير ، الخوف يضع حداً لمسيرة الآثام ، أما المحبة فتحرض على السعي في طريق الصلاح . الوصيتان : تخاف إلهك وتحب الرب إلهك قد وضعتا في الناموس الذي اعطي للشعب حتى أن الذي يرتقى بالخوف يجد أمامه وصيه الحب الأكثر كمالاً . ولهذا السبب أيضاً نرى أن بولس الرسول لكي ما يظهر الفرق بيننا وبينهم يقول عن تلاميذ المسيح : ” نحن لم نأخذ روح العبودية من جديد للخوف ” ( رو 15:8 )، أن أنكم لم تدعوا لكي تصيروا عبيداً حتى يتولد الخوف عندكم من العبودية ، بل إنكم قد دعيتم للتبني ، هذا الذي يكمل بالمحبة في جميع الخيرات .
-
من اللائق إذاً أن يرافق الخوف الطفولة ، وأن يكون ضرورياً في بداية تدبير التلمذة . لأنه بقدر ما يكون الخوف مؤلماً لمن يقتنيه هكذا فإنه يدعوه ألا ينسى ما قد تعلمه . وكما أن موسى وضع الخوف كوصية ضرورية للذين بدأوا السيرة في طريق التلمذة لله ، هكذا أيضاً فإنه ينبغي أن يرافق الخوف التلميذ الذي يبدأ السير في طريق البر ، فالذي يخاف لا يتهاون ولا يهمل ولا يزدرى بالوصايا لأن الخوف يستحثه على الدوام أن يحفظها . وإذا عرض له أن يستخف بها فإن تذكار الخوف يمنعه في الحال .
13-حالما يتذكر الانسان الله ، فإن كان هذا التذكار مغروساً حقاً في نفسه فإنه يضطرب وينزعج ويمتلئ خوفاً ورعدة ويتعجب من اهماله السابق ، فكما قال النبي القديس الذي عرف خوف الله وأحس بما يفعله هذا الخوف في نفسه : ” ذكرت الله فاضطربت ” ( مز 4:77 )، أيها النبي القديس ، إن تذكار الله ليس مصدراً للإضطراب ! لماذا إضطربت إذاً عند تذكره ؟ لماذا تذكاره المحبوب يملأك بالفزع؟ نعم ، لأني أخطأت إليه فتذكرت خطاياي وتذكرت الديان فامتلأت خوفاً . رأيت خطاياي وعقابه، وتذكاره أفزعني . فمن كان قلبه بحسب الله لا يخاف ، لأن ” قلبه ثابت ” ( مز 7:112 )، لأن تذكار الله يبهج القلب الثابت في الخير الذي يمتلك صحة الروح في إنسانه الخفي أما حينما يكون الضميير مثقلا بالخطايا،فإن تذكار الديان يجلب الخوف، فالأثيم الذي يتذكر الديان ينزعج ،والمجرم يمتلىء رعبا عند تذكر العقاب. ولهذا قال النبي إنني عندما تذكرت الله اضطربت،”ناجيت نفسي فصغرت روحي والدوار امسك عيني ،انزعجت فلا اتكلم،تفكرت في الأيام الأولى وتذكرت السنسن الدهرية، هذذت الليل بقلبي،فحصت روحيوقلت:هل يقصيني الرب الى الدهور ولايعود للرضا بعد؟”(مز3:77-7) بهذه الافكار كان نبي الله يمضي أسهاره،وكان يصلي على فراشه كما في جماعة القديسين.
14-لقد كان يتذكر كل ماهو مطالب بأن يقدمه لله كان يفكر في أيامه الماضية وفي الأجيال التي سبقت.ويأمل جميع الأبرار: كيف أرضي كل واحد منهم الله في أيامه، وبأي وسيلة وبأي سلوك ساروا قدامه منتصرين وقد كان النبي يذكر نفسه بهم لكي يذكرهم لكل الاتين من بعده ويعلم كل واحد أن يخاف الله على مثالهم وأن يتفكر في نفسه،ويتأمل أيضا بأي تحفظ واحتراس كانوا يدبرون حياتهم قدامه.
15-فقد قال إنه يعمل أمرين:كنت أتفطن في أيامي السالفة،وأتذكر الأجيال التي أرضي فيها القدماء الله.وكنت امتلىء خوفا بتذكر كلا الأمرين:كم أرضى الأبرار الله،وكم أغضبه أنا !حسبت أيامي وأحصيت سنوات عمري، تفكرتفي الأيام التي مضت والسنين التي عشتها في العالم، وتأملت في أي الأمور كنت أغضب الله،وماهي الأخطاء التي عملتها، أي الخطايا بالفعل والفكر ، بالأذن وباللسان؟ وفيما كنت أفكر في ذلك كنت أقول:”لاتدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر قدامك حى”(مز2:143).
16-وقول النبي يدعونا أن نتبع هذا المثال ونقتدي بهذا النموذج، فنحسب ساعاتنا وأوقاتنا ونفحص أنفسنا، بأي أمر أغضب الله، وفي أي أمر نفكر لأن الذين يخرجون إالى سوق العالم يحسبون إيرادات ومصروفات كل يوم، وما يكسبونه وما يخسرونه،فكم بالأولى التاجر الروحاني الذي يخرج سعيا وراء الغني السمائي يكون ملتزما أن يعمل كذلك !لأن الإهتمام بهذين الأمرين ينشىء عنده أمرين فاضلين: يجمع ذهنه لكي يحسب، وينشغل بتأمل غناه.
17-إن ما ينبغي لنا أن نخافه إذا هو إغضاب الله،ويجب علينا أن نعتبر عظمة مجد الله ومحبته ورحمته التي بلا نهاية،والخيرات التي أسبغها على جنسنا،وما أفاضته علينا نعمته،بينما نحن بأعمالنا غير مستحقين أن ننالها.ويجب أن يتأمل الإنسان في نفسه :ماهو،وماذا كان،وماذا يستحق؟وأن يتذكر ذاك الذي أعطاه كل هذا: من هو ، وأن يتذكر أيضا الله،ويضطرب كما حدث للنبي .لأنه يليق بنا أن نخاف الله من أجل أمرين :إما لأننا أخطأنا ، وإما لئلا نخطىء،لأن الذي يذكر أنه ارتكب أخطاء ويتأمل خطاياه الماضية يجب أن يخاف من العقاب،والذي يظن أنه طاهر وليست له خطايا ماضية يتفكر فيها ويحزن عليها فإنه يجب عليه أن يخاف لئلا يغضب الله بما قد يعرض له من أخطاء بهذه الكيفية كان الأبرار يحفظون حياتهم من الخطية بفقد كانوا يداوون الجروح التي كانت تعرض لهم ويحترسون لئلا تلحقهم غيرها لأن الإصابة الأولى تعلمنا الا نعرض أنفسنا للإصابة من جديد، والمعاناة من المرض الأول تدعونا أن نحترس من معاناة أخرى جديدة.
18-يجب على الأنسان أن يتأمل الله بذهن يقظ،وينظر الى عظمة مجده وطبيعته الخفية، ويرى بعين عقله هذه الطبيعة النقية المقدسة:إن الله ليس في حاجة لأحد،مكانه في الأعلى ومسكنه مرتفع جدا،كل الغنى والبركات والكنوز هي مجتمعه عنده،هو كله نور وحياة وسعادة،وهو يغفر وهو صالح ورحوم:إنه متسامح رؤوف ومملوء محبة، هو حلو ومشتهى حسن /إنه يترجى ويطلب ويدعو كل العالم إالى الحياة إنه مشغول من أجل حياتنا ، وهو يبحث عنا لكي يجدنا، إنه يسر ويبتهج بنا أكثر بكثير منا إنه يترجانا باستمرار أن نقبل غناه،وأن نأخذ بلا حدود من خيراته،ونغنى من كنوزه ولانكون بعد فقراء.
19-إنه لايفرح بحياته كما بحياتنا، ولما كان فقرنا غير قادر أن يرتفع إالى غناه،أحدر هو غناه إلى فقرنا، ولما رأى أننا لا نريد أن نتغنى افتقر هو نفسه لكي يغنينا اسمه محبوب ولقبه مشتهي وتذكاره شهى،إنه يمنح مذاقه حلاوة الروح للنفس التي تحسه. وهو يتمجد بكثرة غنى مجد طبيعته كما لم يراه إنسان ولن يقدر أن يراه، طبيعته فائقة الوصف،غناه لايدرك،وعطاياه تشبهه وهي مثله تفوقكل حدود المعرفة.
20-إنه صالح أكثر مما نحن أردياء ،وعمته تغلب كثرة إساءتنا.طبيعته هي القياس الوحيد لنعمته،وهي وحدها مقياس محبته.نعمته ممتدة وعدله قصير الأمد، محبته تدوم الى الأبد، ونقمته الى حين.هو متقدم في غفرانه ومتباطىء في تبكيته،عقوباته قليلة واحساناته عديدة،يظهر في عقابه التحنن الذي يحمله لنا،ولأنه يرغب أن نكون له لذلك فهو يجلدنا لكي نأتي اليه.ليست عنده خسارة سوى هلاكنا،والحزن لايدركه مالم يكن من أجلنا هو لبس أوجاعنا لكي نطرحها نحن هنا،وتسربل بضعفنا لكي يشفى أمراضنا.لقد حزن لكي يفرحنا،واحتمل الغموملكي يملأنا بالبهجة ، وصار معوزا في كل شيء لكي لا يعوزنا نحن شيء.
21-ومع أنه كان يعرف أننا سوف نغضبه،إلا أنه جبل طبيعتنا كأطفال محبوبين هو في احتياج إاليهم.ومع أنه كان يعلم أننا سنكون في عداد خدام الشياطين، إلا أنه حسبنا كورثة بهذين العالمين،ومع أنه كان يرى مسبقا صورة مشيئات الشيطان مرسومة في صورتنا،فقد رسمنا وصورنا على صورته المشتهاة.ومع أنه أحس أننا لا نحافظ على ما أعطاه لنا منذ البداية، إلا أنه أعدها لنا بأعظم مما كانت.
22-المعطى الغني اذا لم نتقبل منه عطاياه يعتبر ذلك عنده خسارة ،وهو حين يعطينا يشكرنا عندما نقبل عطيته؛ وحين نأخذ من كنزه يعتبر أننا بذلك نضيف إاليه!إنه يحب البشر،وهو على الدوام صالح وخير. نقاوته التي لا تتكدر تعمل فينا بواسطة تعليمه لكي ماتصيرنا أنقياء بشبهه.هذا الغني الذي لم يفتقر قط يجتهد في التودد الينا لكي مايجعلنا نأخذ من غناه يصيرنا نكون نحن الذين نمتلك يبدو وكأنه يغتني بواسطتنا.إنه لايريد أن يمتلك شيئا بدوننا ولا يفرح بشء من غيرنا، ففرحنا هو مسرته وحززنا هو حزنه وكل خسارتنا يحسبها له لقد أعطانا جميع الخيرات ويريد لنا المزيد لقد سكب علينا كل غنى ولك يكتف بذلك حتى أعطى نفسه لنا في محبته.
23-هذا هو الله ،كم عهو غني وصالح وكريم ومتسامح.وبهذا المقدار هو حلو ورحيم ،مهتم بالتدبير وقادر على العمل، سريع التحنن والغفران، ورؤوف ومملوء محبة، غني وسخي في العطاء ،خير ومحين،صبور ومسالم،وهو الذي يحب جنسنا بهذا المقدار، ويفرح بطبيعتنا الى هذا الحد هو طبيبنا وربنا،وهو أبونا الذي ولدنا بنعمته ورفعنا بتحننه فمن هو الانسان الذي يرى كل هذه الخيرات التي وهبت لنا ولا يمجد معطيها ولا ترتقد نفسه كلما تذكرها؟ من هي النفس التي حظيت بكل هذه المواهب ولا تخجل أمام واهبها؟ إن مايجب أن تخافه هو أن لا نخاف الله وأن لا نخجل من كل هذه المحبة وأن لا نخجل من كل هذه المحبة وأن نأخذ دون خزي كل هذه النعم والخيرات الوفيرة.
24-هذه الأمور وما أشهها هي التي تذكرها النبي واضطرب بسببها.وكل من كانت له يقظة وحرس هذه النفس القديسة فإنه يضطرب مثلها عن تذكر الله،ويرتعد لتذكاره في خروجه ودخوله وفي جميع أعماله.لأن الذي يخاف لا ينام،وإذا نام فإنه يرى في حلمه مايدعوه للخوف. إنه لا يأكل ولا يشرب. وإذا اضطرته الطبيعية يختلط الخوف بطعامه وشرابه. كل مايصيب الإنسان الملوء من خوف الله يظل خارجا عنه.لأن الخوف يشغل ذهنه ويحتل كل مداخل ومخارج نفسه،مثل الحراس الذين يحرسون أبواب المدينة، فلا يسمح لأي عمل أو فكر بالدخول أو الخروج دون أن يفصحه. إنه لا يسمح بالخروج لأي فكر من أي نوع سواء كل من الداخل أومن الخارج،كما لايسمح بالدخول لأي عمل لايليق.
25-والنبي أيضا يعرفنا بخوفه لله في مواضع أخرى حيث يقول:”قد اقشعر لحمي من رعبك ومن أحكامك جزعت”(مز120-119)، وأيضا:”صرت مثل زق في جليد ولفرائضك لم أنس”(مز82-119)؛كما قال:”الحزن في قلبي اليوم كله”(مز3:12):”الى متى تحجب وجهك عني؟”(مزمور4:13)،”الى متى يارب تنساني؟الى الانقضاء؟”(مز 13:3).وقال أيضا :”اشفني يارب فإن عظامي قد رجفت ونفسي قد ارتاعت جدا”(مز2:6)”تعبت في تنهدى،أعوم كل ليلة على سريري وبدموعبي أبل فراشي،توجعت عيني من غضبك،”(مز7،6:6).قال هذا وهو متيقن من أن كل ذلك كان بسبب خوف الله.وقد قال أيضا :”كنت أئن من تنهد قلبي”(مز8:38)،وقال:”اهدني يارب بخوفك وبعدلك”(مز9:5) وقال:”ليست في جسدي صحة من وجه غضبك ولا سلامة لعظامي بسبب خطاياي، لأن آثامي قد طمت فوق رأسي كحمل ثقيل قد ثقلت علي ،قد نتنت وقاحت جراحاتي ،شقيت وانحنيت من جهة خطاياي واليوم كله أمشي حزينا،لأن عقباي قد امتلأتا احتراقا، تعبت وتزللت جدا”(مز9:4:38).
وقال أيضا :”قلبي قد اضطرب وفارقتني قوتي ونور عيني أيضا ليس معي”(مز11:38)،وأيضا:”صممت وصرت مئيبا وحزينا بلا مسرة وتجدد وجعي،حمى قلبي في بالمنى واشتعلت نار في جسدي (مز3:39-4) وقال أيضا:صمت،لا أفتح فمي لأنك أنت فعلت ،قنيت من تبكيت خطاياي”(مز10:39).
وفي موضع اخر يغبط الإنسان الذي يخاف الله ويعرفنا بالخيرات التي ينشئها خوف الله في الذي يخافه، ويقول:”طوبى للرجل الخائف الرب”(مز1:112)وهنا نجد أن الذي يخاف الله هو الذي يحظى بالتطويب. وفي حين أن الرب يمنح تطويباته من أجل أعمال أخرى (مت*:3-12)،نجد أن داود النبي يطوب الرجل الذي يخاف الرب. ويقول “طوبى للرجل الذي لم يسلك في طريق الخطاة (مز1:1)،وهو متيقن من أنه لم يسلك في طريق الخطاة لأنه يخاف الله.وقال أيضا:طوبى للرجل الذي تؤدبه ياربوتعلمه من شريعتك”(مز12:49) ،وواضح أن خوف الله هو الذي يعلم الشرائع وأن الرجل الذي يخاف الله الذي يبل تأديبه.وقال أيضا:”طوباهم الذين بلا عيب في الطريق،السالكوت في ناموس الرب.(مز1:118)،وهنا أيضا فإن خوف الله هو الذي يحفظ الإنسان من العيوب ويحثه على السير في طريق الناموس،كذلك يقول:”طوباهم الذين غفرت لهم آثامهم وسترت خطاياهم”(مز1:32)، وواضح هنا أيضا أن خوف الله هو الذي يقود الغنسان الى التوبة التي من أجلها تغفر الخطايا ،وأن خوف الله هو الذي يلد الحزن والدموع التي من أجلها تستر عن عيني الإنسان صور خطاياه.
27-وقال أيضا:”طوبى لجميع الذين يتقون الرب السالكين في طرقه”(مز1:128)،وهنا أيضا “يوضح داود النبي أن خوف الله هو الذي يجعله يسلك في طرق وصاياه،وفي موضع آخر يقول عن الذي يخاف الرب إنه يحفظ الوصايا التي اعطاها الرب(مز12:19)،ويدعو جميع البشر أن يتقربوا الى الله بخوف،ويطلب من الخليقة جمعاء أن تخاف الرب الذي صنعها:”لتخش الرب كل الأرض ،وليرتعد قدامه كل سكان المسكونة “(مز8:33). وقول النبي قد أوجب الخوف على كل سكان العالم،وعلم الخليقة كلها أن يأتوا الى الله بواسطة هذا الطريق،وكل من يشعر بعبودبته يلزمه أن يخاف سلطان من يخضع له.ينبغى اذا أن كل مخلوق وكل من وهب تمييزا لكي يحس بخالقه،أن يدنو اليه بخوف ورعدة.ِ
28-إنه من المناسب لطبيعتنا أن تخاف الله،وأما أن نحبه فذلك يعطى لنا بنعمته،لأن الإنسان غير قادر أن يحب الله،لكن الله هو الذي يتنازل كي يحب من الأنسان .والخليقة مرتبطة بطبيعتها بخوف الله،وحين ترتفع لدرجة الحب،فليس ذلك لأنها قادرة بطبيعتها أن ترتفع الى هناك،بل لأن النعمة هي التي تتنازل اليها لكي ترفعها الى علو درجة الحب الإلهي،بحيث أنها تحب الله بواسطة النعمة بعد أن كانت مرتبطة بخوف الله بواسطة العدل. الملوك والرؤساء لايسمحون لكل الناس أن يظهروا لهم الحب وأن يكون لهم دالة وألفة معهم، ولكن كل مرؤوسيهم الخاضعين لهم يظهرون أمامهم بالخوف والخضوعع وليس بالدالة والحب.لأن السلاطين البشريين المعتادين بالمستويات العالية يعتبرون محبة الفقراء لهم نوعا من الإهانة ،ولهذا فهم يفرضون الخوف على جميع الناس كأسياد وليس الحب كآباء.أما الله فقد صارلنا أبا بنعمته،ومنحنا القدرة أن نحبه،ولكن لاينبغي لنا أن نرتفع الى هذا الحب بجسارة كما لو كان بقوتنا وإرادتنا.لأنه لايليق بنا سوى أن نثبت في الخوف كل أيام حياتنا حتى إذا شاء هو نفسه،ترفعنا نعمته لدرجة محبته.فليس هو على مستوى طبيعتة نفسنا أن نحب الله،بل إن مستواها الطبيعي هو الخوف.ولهذا تحض الكتب المقدسة بصفة خاصة على اقتناء الخوف أكثر من الحب؛أن الاحتراس يرافق الخوف والثقة تلازم الحب.
29-الحب هو ثمرة الخوف،فلن يحصد الإنسان الحب قبل أن يكون قد تعب وزرع بالخوف،وكما أن حصاد الفلاحين في هذا العالم في يد الله،وأن ليس باختيارهم سوى العمل والزرع،هكذا أيضا فإنه ليس باختيارنا سوى أن نتعب ونعمل بالخوف،أما إدراك قياس الحب وجمه ثماره فهو بإرادة الله،قبل ظهور المسيح الذي أتى بالحب للعالم كان الخوف هو الذي يتدبر به جميع البشر في العالم،والى أن يستعلن المسيح للإنسان(في نفسه)ينبغي أن تستمر حياته في مسارها الطبيعي أي في عبودية الخوف.وإن كان خالقنا بنعمته قد دعانا نبين له لكي يكرمنا ويرفعنا،ولكنه من واجبنا أن نمكث في الاتضاع ونثبت في خوف العبيد. ليس لنا أن تدعى بنين، ولكن ذلك هو لنعمة ذاك الذي دعانا.ليس لنا أن نتوقع ونطلب أجرة،بل علينا أن نخدم في خوف،والله هو الذي يعطيناأجرة المحبة.ولسنا نخطىء حين ندعو الحب أجرة الخوف،فكما أن العامل يأخذ أجرته بعد العمل ،هكذا فإن الرب يسوع يذيقنا حلاوة حبه بعد خدمة الخوف.
30-ومن هذه المذاقة نبلغ الى الفرح،وعند ذلك نقوم في ثقة البنين،ومن هنا أيضا يجد انساننا الخفى الحرية بالقرب من الله ،ويستمد ذهننا كل حين الفرح الروحي،ويتنعم سرا في حياة النور السمائي،ويتولد في النفس الازدراء بكل الأشياء المرئية،ونصبح كما لو كان مسكننا منذ الآن في الملكوت المعد للقديسين.هذه الأمور وما يشبهها هي من خاصة النفس التي تذوق الحب الإلهي،لأن الإنسان الذي يكون في الحب الكامل هو في الله.وأي سعادة تماثل هذه السعادة،وأي راحة تساوي الوجود في الله؟القيام في الحب الكامل هو النقاء من جميع الشرور وكمال كل صلاح،لكن ربنا يسوع المسيح لا يعطى غنى الحب هذا إلا للإنسان الذي يعرف أنه يستحقه.
31-لأنه إذا كان الحب يلد الثقة،فإن التهاون هو في المقابل يلاشى الثقة، ولاتوجد أية فضيلة وإلا ويكون بالقرب منها ثغرة يمكن أن تسلب عن طريقها،أما الخوف فليس فيه تهاون، بل هو مملوء يقظة واحتراس وسهر دائم يحفظ الفضائل من السلب،لأن خوف الله يدفع الإنسان الى جمع الكنوز،وبعدما جمعها يعظم خوفه ويتضاعف لأنه الآن يهتم بحراسة مقتنياته لكي لاتسلب منه.
32-خوف الله نفاع جدا وضروري،من كل جهة الحياة الانسان في العالم ،فموضع الحياة الزائلة هو مكان الخوف.أما عالم الأحياء الذين لايموتون فهو مسكن الحب.فلننتبه إلى موضعنا ونزيد فينا الخوف،ولنتأمل المسكن الذي نحن مقيمون فيه ونقتنى لنا الرعدة أمام الله.وليملك علينا فكر طاعته دائما،ولنتيقظ تماما كالذي ينهض من نوم عميق ونحرص على حفظ وصاياه.لأن هذه هي طبيعة خوف الله،فهي لاتنبهنا على أمر واحد دون الآخر ،بل تحثنا على عمل جميع الوصايا.
33-ولهذا فإن روح الله أراد أن يعلمنا خوف الله عن يد جميع الأنبياء.لأن داود النبي قال أيضا:”ليخف الرب كل عابري الأرض ،ويجثو أمامه كل من ينحدر إالى التراب”(مز3:22)،كما قال:”اهدني يارب في خوفك وفي برك”(مزه:8-9)،ولأنه كان يعرف منفعة مخافة الله طلبها من الله كعطية من عنده،لأن البر وكل اهتمام للنفس يرافقه خوف الله ويوجهه،ومخافة الله هي التي تقدر أن تطلب من الله أن ينسى خطايا صبه (مز7:25).وقد قال أيضا:”رأس الحكمة مخافة الرب” (مز111-10)، لأن كمال طريق الأعمال الجيدة هو الحب الروحاني،والحكمة المتولدة من الحب،ولهذا بصواب علمنا داود الطوباوي أن بداية طريق الحكمة هي مخافة الله.كما أن لكل عمل في العالم بداية ونهاية،وأن الطرق المفتوحة للسير لها أيضا بداية ونهاية،هكذا أيضا فإن طريق الصلاح له بداية ونهاية.فبدايته هي خوف الله ونهايته هي الحكمة التي تولد من الحب.يجب إذا على من يريد أن يبدأ طريق المسيحية أن يبدىء بخوف الله حسب تعليم داود الطوباوي،وكما قال قال بني آخر:”خوف الله يفتح أذني”(إش50-5)حسب الترجمة السبيعينية).
34-وقد كتب عن يونان النبي أنه خاف من الله وهربالى يافا(يون3:1).وقد تولد خوفه من بساطته،فقد هرب كشخص يخاف الله لكي لايلتزم بعمل كان يرى أنه يفوق طاقته.وعندما سأله الملاحون من أين هو،ومن هو الإله الذي يعبده،قال لهم:”أنا خائف من الرب إله السماء “ولما رأوا الأعاجيب التي عملها الله في البحر –لأن البحر وكأنه قد وهب تمييزا،اضطرب ليعلن لهم عن ذلك النبي الهارب،ثم عاد فهدا ووقف عن هيجانه عندما طرحوه فيه-رأوا في هذا قوة الرب.وكتب عنهم:”فخاف الرجال من الرب خوفا عظيما وذبحوا ذبيحة للرب ونذروا نذورا”(يون 1-16).
35-لقد طلب الله من اليهود الخوف ،وذلك حين بكتهم عن يد إرميا النبي مستشهدا بالطبائع الصامتة التي ترتقد عند قول الرب مع كونها صامتة في الوقت الذي فيه يحتقرون هم وصاياه:”إياى لا تخشون يقول الرب،أو لاترتعدون من وجهي أنا الذي وضعت الرمل تخوفا”للبحر كفريضة أبدية لا يتعداها؟”(إر5-22). هنا أيضا نجد أن الخالق يطلب من الخلائق الخوف والرعدة.ولأنهم تركوا عنه مخافته استحقوا التوبيخ عن طريق الطبائع الصامتة ،فهي تخاف وترتعد قدام عظيمة الخالق،بينما البشر يحتقرون ويزدرون بوصاياه.
36-وقد أظهر الله عن يد النبي عظمة طبيعته لكي يضع خوفه في الذين يسمعونه،وهم الذين سيحتقرون اتضاعه لو أنه أظهر لهم=لقد أعلن لهم مجد طبيعته لكي يرتعدوا قدامه،أما الذين أحبوه أكثر عند سماعهم بتنازله فقد أظهر لهم حلاوته واتضاعه.لأن الجاهل من عادته أن يحتقر من يتضع قدامه،أما الحكيم فيحبه أكثر بسبب اتضاعه.والجاهل ليس له عين يرى بها الحب فبي الاتضاع،ولهذا فقد أظهرت له عظمة الله،وكتب التوبيخ من أجله،وتمثلت القسوة والرعبة أمامه لكي بواسطة ذلك يخاف أكثر ذلك الذي أظهرها له،والشهادات التي سوف أذكرها تكشف عن السبب لماذا استخدمت إرادة الله أصوات الخلائق لدى الناس:البحر يطيعني فيضبط عظمة أمواجه بحدود الرمل الحقيرة،ويرتفع دون أن يتجاوز الحاجز المتواضع الذي يحيط به،وانت يا إنسان تحتقر الإله المخوف!
37-وفي موضع آخر يعرفنا الله أنه استخدم كل الوسائل النافعة مع اليهود،فقد بين لهم مبررات كل من الخوف والحب ووضعها أمامهم ،أما هم فلم يكن لهم خوف ولا حب :”إن كنت أنا ربا”،فلماذا لا تهابوني؟وإن كنت أبا فلماذا لا تكرموني؟”(ماد1-6):فإن كنتم لا تهابوني كرب،فلماذا لا تكرهوني كأب؟.ولهذا فهو من الجهة الواحدة يعدد أمام الشعب الأعمال التي عملها لهم:الخروج من مصر،خيرات البرية،الدخول الى أرض الموعد،اخضاع شعوب الغرباء،الخيرات المتعددة الفائضة عليهم كل الأيام-لكي مايقودهم إلى محبته بتذكار هذه النعم الجزيلة.ومن الجهة الأخرى يحصى الأعمال العظيمة التي عملها في الطبيعة،سائر الطبائع التي أوجدها بغمر إرادته ،وهي كلها قائمة بقدر كلمته،وهي تراعي كل حدودها ،وكلها خاضعة لتدبير مشيئته:”وزن الجبال بالقبان والأكام بالميزان ،وقاس السموات بالشبر وكال بالكيل تراب الأرض….كل الأمم كلا شىء قدامه،من العدم والباطل تحسب عنده”(إش 40 :12-17)؛.قال هذا كله عن يد النبي لكن يعلن عظمته وبذلك يجلب الخوف لكل من يسمعه.
38-عندما يكلم الله الذين هم في درجة العبيد،فهو يعدد أمامهم الأمور الرهيبة والمخوفة التي لطبيعته،أما الذين أدركوا درجة الحب فيخبرهم بحبه واتضاعه،وأيضا بتنازل لكي يتعلم معهم،لأنهم لا يستخفون به في تصاغره بل يحبونه أكثر في هذا أيضا.وفي الموضع الذي لايثق فيه بالناس بسبب صغر أرواحهم وطفولة معرفتهم، يعلن لهم ويتحدث اليهم هن الأمور الرهيبة والمخوفة،ولا يعطيهم حرية الدنو اليه ولا دالة الثقة في محبته خوفا من أنهم حين يشعرون بمعرفته وتسامحه وعلى الأخص بمحبته وصلاحه-يحتقرون لطفه وحلاوته،وينشغلون جسديا بالعبودية لكافة الشرور.وهذه الأمور (الرهيبة)لا تظهر لأولئك الذين قد اقتنوا ميراث النبوة بنعمته وبجهاداتهم،لأنهم يحبون مذاقة محبته،وقد صاروا صالحين لأنهم يحسون بصلاحه،كما أنه عندما أستعلن لهم تنازله واتضاعه،دفعهم ذلك إلى أن يصيروا مشابهين لأبيهم،ولهذا كانت استعلانات الله الأولى متوافقة مع الخوف،والأخيرة متناسبة مع الألفة والمحبة:في الأولى يستعلن كإله لنا وفي الأخيرة كأب.في الماضي كان يسمح باقتراب الناس اليه في درجة العبيد،والآن هو يدعوهم لميراث النبوة.
39-وعندما كان يستعلن ليجمع العبيد،كان يحمل السيلط والقيود والضربات والعقوبات ،والالام والعذابات،والخوف والرعب،والتوبيخ والصرامة والمجازاة السريعة،وعصا ممدودة فوق رؤوس المذنبين،وقضاء حاضر وقاض مستعد.هناك كانت ترفع الخشبة لصلب المجدف،وتجمع الحجارة للرجم،وتشعل النار للتعذيب بالحريق،وتعد السياط لتأديب المجرمين،ةتهيأ الأدوات لانتزاع الأسنان الواحدة بعد الأخرى،وتفقع العيون،ويعد الحديد المحمى لتسديد الديون.هناك كانت تلطم الخدود،وتكتب الأحكام على الخطايا .مثل هذه الالام كانت معدة للعبيد،حتى لاريفع العبد الأثيم رأسه ويتشامخ على الديا:فهو يكسر ساقية لكي لا يقاوم، ويطع يديه لكي لا يضرب،ويقلع أسنانه لكي لا يعض ،ويخزق عينيه لكي لا يرى ولا يشتهي ما ليس له، يقاض بالخسارات حتى لايسبب الخسارة للغير.
40-لقد كان يقمع شرور هذا الشعب بخوف العذابات ،وذلك لأنهم لم يقتنعوا بأن خوف الله يمنعهم من إتيان تلك الأعمال البغيضة،لأن الإنسان الذي يخاف الله لا يحتاج الى الخوف من العذاب ؛فخوف الديان الخفى يجتذبه بعيدا عن كل الرذائل .اقتن في نفسك إذا أيها التلميذ هذا الخوف وأنت لا تخاف من شيء.لأن من يخاف الله لا يخاف العالم،أما الذي يخاف من العالم فلا يخاف الله.فلنخف من أن نغضب الله،حبل الخوف قد وضع عليك لكي ماتخاف الله،لأنه يوجد شيء في العالم يثير الخوف في النفس التي شعرت بخوف الله. والإنسان الذي يرتعب بواسطة عدل الله لايرعبه الخوف من الاحزان في شيء.لقد استبدل ربنا خوفا بخوف،فقد رفع عنا خوف الموت الزمني ووضع علينا خوف الموت الأبدي.لاتخف من الموت الأول ،ولكن خف من الثاني:”لاتخافوا من الذين يقتلون الجسد. بل خافوا بالحرى من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما”(مت 10-38).فالذين يقتلون لا يكونون مصدر رعبة أو خوف طالما كان هناك من يقيم ويحيى،لكن الذي يوجب الرعب والخوف حقا هو الذي يميت بينما ليس هناك من يحيى ومن يقتل وليس هناك من يعيد الى الحياة.
41-الخوف من كل ماهو زائل يزول معه،أما الذي لا يزول ولا يتغير فيليق به أن نقدم له الخوف،وخوفه لا بطل :فهو “الناظر الى الأرض فترتعد ،ويمس الجبال فتدخن”(مز 104-32)كما قال:”من انتهارك تهرب ومن صوت رعودك تفزع”(مز 7:104)فهوا ذا حسب قول النبي يحل خوف الخالق أيضا على الطبائع الصامتة تخافه، ملتزم طبيعيا بالخوف.فإذا كانت الطبائع الصامتة تخافه ،فكيف لاتخافه بالأولى الخلائق الناطقة التي وهيت إدراكا وتمييزا؟النار الزمنية تكون مرعبة للناس،بينما تذكار النار الأبدية بعيد عن ذهنهم،منظر العذابات المرئية يملأهم رعدة،بينما العذابات الأتية بعيد عن رؤية أنفسهم؛الموت الزمني هنا ممتلىء فزعا،بينما صورة الموت الأبدي لا نضعها أمام أعيننا !لأنه حالما يدخل تذكار ماهو مكتوب فإن التفكير في كل ماهو أرضى يختفى من القلب.
42-وبالعكس ،مادامفكرنا خاليا من خوف الله الدائم فإن كل خوف يلاقينا يرعبنا،وما دام الملك بعيدا،فالخوف يكون من القاضي،أما إذا حضر الملك بسلطانه يتوقف الخوف يكون من القاضي،وليس هذا فقط،بل إن القاضي أيضا هو نفسه وكل الذين تحت يده يخضعون للسلطة الملكية.والذين كانوا مصدر خوف يمسكون بالخوف بدورهم ،لأن كل أنواع الخوف تنضم وتتحد الى خوف واحد،وكل القادة والرؤساء الذين يملك خوفهم على جميع من هم تحت سلطانهم يطيعوت هم أيضا ويخضعون تحت خوف واحد يسيطر على كل الأنواع الأخرى ،حتى لايبقى سوى خوف واحد واجب.وبهذا الخوف يبطل سلطان كل أنواع الخوف الأخرى وتتوقف الرعدة التي تتولد عنو جميع المقتدرين،ويحنى كل رئيس رأسه أمام الرأس الملكي الواحد لذي يملك على الكل.وبالمثل فإنه بهذه الصورة حينيبتعد خوف الله عن النفس ،فإنها بالتالي تخاف من الكل:من السلاطين والقضاة والرؤساء والحكام والأغنياء والقادة.ومن الشعوب وكل البشر،ومن الصغار والأدنياء،هذا الى جانب الاحزان والخسائر والعذابات والأمراض والالام والعوز والفقر وهجران الأهل وابتعاد الأصدقاء والنفي من البلاد.فكل هذه الأمور تصبح مصدر خوف ورعبة للإنسان الذي لا يخاف الله.
43-فإذا دخل خوف الله في النفس وسكن فيها وضبط جميع أفكارها،فإن هذه النفس لاتقدر أن تتقبل أي خوف أخر (سواء من السلاطين أو من غيرهم).لأن كل خوف يريد أن يدخل النفس إذا نظر خوف الله ساكنا فيها فإنه يهرب حيث لايوجد مكان في ذلك المنزل لساكن آخر.فكما أن الإناء الممتلىء لايمكن أن يقبل بأي شيء اكثر إلا إذا صار تفريغه مما به،هكذا أيضا فإن النفس الممتلئة من مخافة الله لا تستطيع أن تقبل خوف العالم أو أي شيء مما في العالم،لأنها منشغلة تماما بهذهه المخافة الواحدة الحقيقية لله. فلنحرص إذا أن نقتني هذه المخافة ونزدرى بكل شيء،ونتخلى عن كل شيء لكي نتفرغ فقط للعمل الواحد، أن نخاف الله،وبتذكار اسمه المخوف العظيم نحفظ حياتنا بكل يقظة، ونقدم التمجيد كل حين للآب والإبن والروح القدس الى الدهور آمين .