الرسالة الراعوية السابعة
رسالة راعوية إلى الكهنة
«كمَا أرسَلَنِي الآبُ أُرسِلُكُم أَنا أيضًاً» (يوحنا٢٢:٢)
عيد انتقال سيدتنا مريم العذراء، ١٥ آب ٢٠٠٤
مقدّمة
إلى أبنائنا وإخوتنا الكهنة الأعزاء
١. عليكم “النَّعمَةُ وَالرَّحمَةُ وَالسَّلامُ مِن لَدُنِ اللهِ الآبِ وَالَسِيحِ يَسُوعَ رَبَّنَا” (١ طيموتاوس ٢:١). بتحية الرسول بولس إلى تلميذه طيموتاوس نحييكم ونحن نرى أننا بحاجة دائمة إلى “رَحمَةِ اللهِ وَسَلامِهِ”، كما نشعر أننا بحاجة دائمة إلى تجديد فهمنا لإيماننا وكهنوتنا الذي يربطنا بصورة خاصة “باللهِ الآبِ وَالمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا”، لنصبح أكثر كفاءة لقبول كهنوتنا ولحمل رسالتنا في مجتمعنا.
الاجتماع الثاني عشر في الربوة (لبنان)
٢. عقَدْنا اجتماعَنا السنوي الثاني عشر في الربوة (في لبنان) في ضيافةِ أخينا غبطةِ البطريرك غريغوريوس الثالث، بطريرك أنطاكية والإسكندرية وأورشليم وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك في الفترةِ بين ٢٧-٣١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٢. وتباحَثْنا في طبيعةِ الكهنوتِ وقداستِه وفي شؤون كهنتِنا الموكولين إلى رعايتنا والأعزّاء على قلبنا. وإنَّنا نوجَّهُ إليكم هذه الرسالة، أيها الكهنةُ الأعزاء، إثرَ ذلك الاجتماع، لنعيِّرَ لكم جميعا، أنتم السائرين في طريقِ البتوليةِ أو في طريقِ الزواج، عن تقديرِنا لجهودكم فى جعل كلمة الله ومحبته حاضرتين . في کنائسنا و في مجتمعاتنا.
هدف الرسالة
٣. الأوسط، وفي بلدان الخليجِ وفي بلاد الانتشار البعيدة. “ونذكُرُكُم فِي صلَواتِتَا، وَلا ننفَكُّ نَذكُرُ مَا أَنتُم عَلَيهِ مِن نَشَاطِ الإيمانِ وَجَهدِ المحبَّةِ وَثْباتِ الرَّجاءِ بربِّنا يَسُوعَ الَمَسِيحِ” (١ تسالونيقي ١: ٢- ٣). وإنّنا لنقدِّرُ العناءَ والعُزلةَ ومختلفَ الصعابِ التي تواجهُونها في حملِ الرسالة، ونَحمَدُ الله في الوقتِ نفسِه على ثباتِكم وأمانتِكم، وعلى التقديرِ والمحبَّة التي يكِنُها لكم أبناؤكم في رعاياكم.
٤. إننا نوجّهَ إليكم هذه الرسالةَ لكي نتأمَّلَ معا في معنى كهنوتِنا ومسؤولياتِنا الكهنوتية. نعيشُ في هذه الأيام فترةَ إيمانٍ وتجدُّدٍ في جميعِ كنائسِنا، التي نشطَت لتجدَّدَ نفسها من خلالِ السينودسات والمجامعِ الكنسيةِ المنعقدةِ فيها، ابتداءً من السينودس من أجلِ لبنان، ثم مجمعِ الكنيسةِ الكلدانيةِ في العراق، ومجمع كنيسةِ الإسكندرية للأقباطِ الكاثوليك، والمجمعِ الماروني العام، وسينودس الكنائسِ الكاثولكيةِ في الأرضِ المقدَّسة، والمجمع البطريركي للكنيسة الأرمنية الكاثوليكية، والمحمع الأبرشي الدمشقي للروم الملكيين الكاثوليك، والمؤتمرات العامة التي عقدت سابقا على مستوى كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك.
٥. وإننا نعيشُ في الوقتِ نفسِه في شرقِنا أيامًا مليئةً بالصعابِ والتحدِّيات. فما زِلْنا نعيشُ صراعاتٍ داميةً في الأرضِ المقدسةِ والعراق، وما زِلْنا في جميع بلداننا في مسيرةٍ كأداءَ نحو الحريةِ ونحو ديموقراطيةٍ حقيقية تنبثق من تقاليدنا وحضارتنا. كما أنّنا نواجهُ أيامَ عولمةٍ تغزو مجتمعاتِنا سلبًا وإيجابًا. وينجُمُ عن ذلك تطوُّرٌ متسارعٌ في مجتمعاتِنا فيبدُلُها ويبدَّلُ مواقفَ الإنسانِ فيها، المؤمنِ والمواطنِ على السواء. وكلُّ ذلك يؤثَّرُ مباشرةً على رسالتِنا في جهادِنا لتثبيتِ الإيمانِ والإسهامِ في تكوينِ الإنسانِ المواطنِ والمؤمنِ الملتزم في رعيته ومدینته أو قريته وفي البلدِ کله.
٦. مجتمعاتُنا تبحثُ اليوم عن استقرارِها وعن زعماءَ قادرين على خدمتها بأمانةٍ وتجرُّد. مجتمعاتنا اليومَ تحتاجُ بصورةٍ خاصةٍ إلى من يبذِلُ نفسَه في سبيلِها. وهذا هو مكانُ الكاهنِ ومعنى تكريسِه نفسَه لله لخدمة الناس، ليبذل نفسه في سبيل الغير، وليكونَ خادمًا متجرِّدا واهبًا لخيراتِ الروحِ ومشاركًا قدر الإمكان في إدارة خيراتِ الأرض وتوزيعِها، وَفقَ ما تقتضيه العدالةُ وكرامةُ كلِّ إنسان.
مجتمعاتنا بحاجةٍ إلى من يَصِلُها بالله، أمامَ القِوى الكثيرةِ التي تريدُ أن تُبعِدَ الإنسانَ عن الله، سواء بإقصاءِ الله بصورةٍ كاملة عن الحياة، أو بإدخالِ البلبلةِ في نفوسِ المؤمنين عن طريقِ البدعِ الكثيرة، أو بتمييع المواقفِ الأخلاقيةِ عامّة. وهناك من يحوِّلُ هذه الصلةَ بينَ الله والإنسانِ إلى مخاصمةٍ بينَ المؤمنين في مذاهبهم ودياناتهم المتعددة. المجتمعُ بحاجةٍ إلى رجالٍ لله يَربطونهِ بالله في وجهِ جميعِ التحديات والقِوى المعارضة، ومن ثمَّ يتعاونون مع كل مؤمنٍ بالله، لبناءِ مجتمعٍ إنساني جديد.
الوثائق الكنسية
٧. خَصَّص المجمع الفاتيكاني الثاني وثيقتين للكهنة وهما: القرار عن “خدمة الكهنة”، والقرار عن “إعداد الكهنة وتأهيلهم”. ولكنه تكلم أيضا على الكهنة في وثائق أخرى، منها: الدستور العقائدي عن الكنيسة: “نور الشعوب”، والقرار عن مهمة الأساقفة الرسولية: “المسيح يسوع”، والدستور العقائدي عن الليتورجية: “المجمع المقدس”. ومن بعد ذلك، أصدر قداسة البابا، كما وسائر المجامع الكنسية، وثائق كثيرة تنظر في تأهيل الكهنة وحياتهم وخدمتهم. وأهم تلك الوثائق: الرسالة البابوية “أعطيكم رعاة”، الصادرة في ٢٥ آذار مارس ١٩٩٢، لقداسة البابا يوحنا بولس الثاني، “ودليل خدمة الكهنة وحياتهم”، من مجمع الإكليروس، في ٣١ كانون الثاني يناير ١٩٩٤، و”الكاهن الراعي والدليل في الجماعة الرعوية”، من مجمع الإكليروس، في ٤ آب أغسطس ٢٠٠٢.
تتضمن هذه الوثائق كلها غنى لاهوتيًا وروحيًا وافرًا. وإننا نشجعكم، ايها الأبناء والإخوة الكهنة الأعزاء، على الرجوع إليها وقراءتها مرارًا وتكرارًا فتجدوا فيها مزيدًا لمعارفكم ومادة لتأملكم. وقد استلهمنا في هذه الرسالة الكثير من مضمون هذه الوثائق كما سوف ترَوْن.
أقسام الرسالة
٨. في الفصل الأول من هذه الرسالة، نحاولُ أن نفكِّرَ في هوية الكاهن ودعوته إلى القداسة. فهو موسوم بوسم المسيح، وقد أحدث الكهنوتُ يومَ الرسامة تحوُّلاً في كيانه ووجوده. وهو مقدِّمُ الذبيحة مع المسيح، وهو مرافِقُ الشعبِ في مسيرتِه الأرضيةِ وهادِيه. وفي الفصل الثاني، نتكلَّمُ على الصفاتِ الإنسانيةِ التي يجبُ أن يتحلَّى بها الكاهن. وفي الفصلِ الثالث، نبيِّنُ أهمَّ مجالاتِ العملِ الراعوي في حياته. ونتكلَّم أخيرًا في الفصلِ الرابعِ على ضرورةِ التنشئةِ الدائمةِ للكهنةِ في محتلفِ أعمارِهم ومراحلِ حياتِهم.
الفصل الأول: الكاهن: هويته ودعوته إلى القداسة
التدبير الإلهي للخلاص
٩. ترتبط هوية الكاهن قبل كل شيء بالتدبير الإلهي لخلاص العالم: “إنَّ اللهَ أَحَبَّ العَالَمَ حَتَىَّ إنَّهُ جَادَ باينِهِ الوَحِيدِ لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِهِ بَل تَكُونُ لَهُ الحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ” (يوحنا ٣: ١٦). وبحسب هذا التدبير الإهي صار كلمة الله إنسانًا وغدا حبرَ الإنسانية الجديدة التي افتداها بدمه: “لم تَشَأُ ذبيحَةً وَلا قُربَانًا، وَلَكِنَّكَ أَعدَدْتَ لِي جَسَدًا. لم تَرتَضِ المُحرَقَاتِ وَلا الدَّبَائِحَ عَنِ الخَطَايَا. فَقُلْتُ حِينَئِذٍ (وَقَد كَانَ الكَلامُ عَلَيَّ فِي طَيِّ الكِتَابِ): هَاءَنَذَا آتِ اللَّهُمَّ لأعمَلَ بِمَشِيقَتِكَ” (عبرانيون ٥:١٠-٧). والكاهن مشارك في هذا التدبير الإلهي وفي كهنوت المسيح بالرسامة الكهنوتية التي قَبِلَها. فأوَّلُ مكوِّناتِ هوّية الكاهن هو هذا الرباط بالأبدية، وبإرادة الله الأزلية لخلاص البشر. وثانيها هو قبوله وطاعته لمشيئة الله الآب. فمع مريم العذراء وعلى مثالها هو أيضًا يقول: “هاءنذا. ليكن لي بحسب قولك” (راجع لوقا ٢: ٣٨). وعلى مثال المسيح الذي “تجرد من ذاته وأطاع حتى الموت موت الصليب” (راجع فيلبي ٢: ٦- ٩)، يطيع الكاهن مشيئة الله ويطيع هو أيضًا حتى الموت وقبول جميع أشكال الموت التي تتعرض لها حياتُه الكهنوتية.
ومع هذا القبول لنداء الله، يرسلنا يسوع المسيح، أساقفةً وكهنة، كما أرسله الآب: “كَمَا أرسَلَنِي الآبُ أُرسِلُكُم أنَا أيضًا. خُدُوا الرُّوحَ القُدَّس، مَن غَفَرَتُم لَهُم خَطَايَاهُم تُغفَرُ لَهُم، وَمَن أَمسَكُتُم عَلَيهِمِ العُفرَانَ يُمسَكُ عَلَيهِم” (يوحنا ٢٠: ٢٢ – ٢٣). وكما أمر يسوع الرسل بتجديد الذبيحة الإفخارستية مدى الدهور، فهو يوجه إلينا الأمر نفسه ويقول: “اصنَعُوا هَذَا لِذِكرِي” (لوقا ٢٢: ٤١٩ ور. متى ٢٦ – ٢٨؛ مرقس ١٤: ٢٢- ٢٤). أرسَل المسيح الرسل، وبهم، وبحكم الخلافة الرسولية، ما زال يرسل الأساقفة، والأساقفة يَدْعُون الكهنة إلى المشاركة في كهنوتهم ويقيمونهم معاونين لهم.
١٠. تُحدِثُ الرسامة الكهنوتية في الكاهن تحوُّلاً على مستوى الكيان، كما حصل ذلك في الرسل في المرة الأولى بقوة كلمات المسيح المباشرة لهم لمّا سلّمهم سلطاته، سلطاتِ الوسيط بين الله والناس، فمنحهم سلطان مغفرة الخطايا وتقديم ذبيحة الكفارة. فالكاهن يصنع ما صنع المسيح. ويمارس السلطاتِ نفسَها. إن كهنوتنا هو شرة لعمل الروح القدس في السر الذي يمُنَحُ للكاهن، وهو موجَّة بصورة كاملة لخدمة عمل الكنيسة الذي تقوم به عبر الأجيال … الكاهنُ خادمٌ ليسوعَ المسيح، وبه ومعه ومن أجله يُصبح خادمَ الناس. كيانُه المتَّحدُ بكيان المسيح هو أساس كيانه الكهنوتي الموجَّه لخدمة الجماعة. ومن ثم فبقدر ما يكون الكاهن مرتبطًا بالمسيح يكون قادرًا على خدمة الجميع، لأن كيانَ الكاهنِ وعملَه، أي شخصُه المكرَّس وخدمتُه الراعوية، أمران متلازمان من حيث الوجود لا يمكنُ الفصلُ بينهما١.
يمكننا إذًا أن نقول إن هوية الكاهن تُعرَّف بعدة علاقات، العلاقة الأولى بالتدبير الإلهي للخلاص، والثانية بالكنيسة بوساطة الأساقفة الذين يقيمون الكهنة معاونين لهم، والثالثة بالعالم الذي يُرسَل إليه الكهنة ليكمَّلوا فيه عمل الخلاص. فمن جهة، الرباطُ بالله والطاعةُ لمشيئته، ومن جهة ثانية، توصيلُ نعمة الله إلى الناس في إطار عمل الكنيسة انطلاقًا من الرسامة الكهنوتية التي منحهم إياها الأساقفة.
الكاهن رجل الذبيحة والصلاة
١١. كهنوتُ المسيح وساطةٌ وشفاعةٌ لدى الله. والوساطةُ كائَت ابتهالاً حتى بذلِ الحياةِ وحتى الموتِ على الصليب. فكائت ذبيحةً ومغفرةً ومصالحة، ولهذا “استُحِيبَ لِتَقوَاهُ” (عبرانيون ٥: ٧)، “هُوَ عَظِيمُ الكَهَنَةِ الَّذِي يُلائِمُنَا، قُتُوسٌ بَرِيءٌ نَقِيٌّ وَمُنفَصِلٌ عَنِ الخَاطِئينَ، جُعِلَ مِن أعلَى السَّمَاوَاتِ” (عبرانيون ٧: ٢٦).
وهكذا يكون الكاهنُ الذي يقدِّمُ الذبيحة. هو الذي يصلِّي ويَشفَعُ بالناس. والذبيحة القربانية أو الليتورجيا الإلهية هي أهمُّ صلاةٍ يرفعها. والكاهن الذي يقدِّمُ الذبيحةِ يجب أن يحوَّلَ جميعَ مجالاتِ حياتِه الخاصة والعامة إلى ذبيحة، فيتحرَّرُ من كلِّ ما هو “إنسانٌ قديم”، أي من كلِّ قِوى الشرِّ فيه، فيصبحُ أهلاً لأن يكونَ وسيطًا يُصلِحُ الخطأةَ ويصالحُهم مع الله. ومن ثمَّ لا بد للكاهن من فترات خاصة يَمثُلُ فيها أمام ربه، وفي الصمت والصلاة يضع أمامه عمله ورعيته كاملة بكل نعمها وهموم حياتها، ويحدِّدُ أمام الله قبوله لدعوته، ويسأل المزيد من القوة لمتابعة حمل الرسالة. ولحظات الصلاة والصمت هذه أمام الله هي التي تجعل رسالته ممكنة، وتملأها بفرح الحياة في وسط الصعاب الجمة. لأنه من المحزن أيضًا، إذا ابتعد الكاهن عن الأصول الروحية واللاهوتية لدعوته، أن ينال منه التعبُ والملل والإحباط في تعامله مع الناس. إنه من المحزن حقًّا أن يصبح الكاهن إنسانًا مُحبَطًا منعزلاً منغلقًا على ذاته، يحرم نفسه الحياة، وهو المرسَلُ ليكون مانحَ الحياةِ وفرحِها لغيره. وَعيُ الكاهن أن الناسَ بحاجة إليه يجب أن يجدِّدَ دوما فيه الهمة والقوة، مهما واجه من الصعوبات من قِبَلِ الناس الذين يتعامل معهم، سواء کانوا رؤساء أو مخدومین.
١. راعي ودليل، ٥,
١٢. الصلاة، وخاصة الصلاة الليتورجية الكنسية مع الكنيسة وباسمها، هي المثولُ المستمِرُّ أمامَ الله وهي من المقوِّماتِ الأساسيّةِ في طبيعة الكهنوت. ومهمّةُ الكاهنِ هي أن يجعلَ اللهَ حاضرًا بينَ البشر. ويمكنه أن يقومَ برسالتِه هذه إذا ما كانَت حياته هو حضورًا مستمرًّا أمامَ الله. إنه الشفيعُ ومقدَّمُ الذييحةِ والدليلُ إلى الله، فلا بدَّ من أن يجعلَ كلَّ لحظةٍ في حياتِه وكلَّ موقفٍ له حضورًا أمامَه تعالى. “ألَم تَعلَمَا أنَّهُ يَجِبُ عَلَيَّ أَن أَكُونَ فِي مَا هُوَ لأَبي؟” (لوقا ٢: ٤٩) هكذا قال يسوع يوما لوالديْه، وهكذا يقول الكاهن دائمًا. فهو رجلُ الأسرارِ المقدَّسةِ مانحةِ النعمةِ للناس. وهو المتعاملُ كلَّ يومٍ مع المقدَّسات، وهو رجلُ الله. كذلك هو، وكذلك يريدُه الله وكذلك يريدُه الناسُ أن يكون، وكذلك ينظرون إليه.
الکاهن رفیق الناس في دروب حیاتهم
١٣. الكاهن رفيقٌ للناس في مسيرتهم الأرضية نحو الله. قال صاحب الرسالة إلى العبرانيين: “قَد أرَادَ أن يَقُودَ إلَى الَمجدِ كَثِيرًا مِنَ الأبنَاءِ” (عبرانيون ٢: ١٠). وهذا هو أيضًا أحد المعاني لمهمّةِ الكاهن، أن يقودَ إلى مجدِ الله الكثيرين، من الفقراءِ والأغنياء، والضعفاء والأقوياء والمظلومين، فيعي كل واحد منهم أن عظمته الحقيقية وكرامته أمام الله والناس ناجمة عن محبة الله له.
وقلبُ الرسالةِ وأساسُها هو حبُّ اللهِ للناس: “إنَّ اللهَ أَحَبَّ العَالَمَ .. ” (يوحنا ٣: ١٦). ومن ثُمَّ تقوم رسالة الكاهن بأن يُرشِدَ الناسَ إلى هذا الحبِّ ليُدركوه ويستجيبوا له، فيصبحَ حبُّ الله لهم مبدأَ استقرارٍ وطمأنينةٍ في حياتهِم اليوميةِ وفي مختلِفِ الاضطراباتِ التي يتعرَّضون لها. أحبَّ اللهُ العالمَ فأرسلَ ابنَه الوحيدَ ليخلِّصَ به العالم. إن هذا السرَّ منْزَرعٌ في وسطِ أحداثِ حياتِنا الخاصةِ والعامة، وهو دليلٌ لنا، وبنوره نتحاول أن نفهم معنى ما يُصنَعُ اليوم في تاريخِنا. والكاهنُ هو المذكَّرُ بهذا الحضورِ والعملِ الإلهيَّيْن، وهو المعلِّمُ والمطَمْئِنُ ومانحُ السلامِ والاستقرار، تحت إشراف الروح القدس وعمله المحوِّل والمقدِّس.
دعوة إلى القداسة
١٤. “إن الدعوة الى ملء الحياة المسيحية وحياة المحبة موجّهةٌ الى جميع المؤمنين بالمسيح أيًا كانت حالتهم ومكانتهم في المجتمع٢. إن قول المجمع هذا الموجَّة إلى جميع المؤمنين بالمسيح ينطبق خصوصًا على
٢. تور الشعوب، ٤٠,
الكهنة: “فهم مدعوون، ليس فقط لأنهم معمّدون، بل أيضا وخصوصًا لأنهم كهنة ٣. قال يسوع المسيح: “كُونُوا أَنتُم كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ كَامِلٌ” (متى ٥: ٤٨). وهذا الكمال مفروض على الكهنة بصورة خاصة: فهم، بقبولهم الكهنوت، كُرّسوا لله بطريقة جديدة ليكونوا أدواتٍ حيّةً بيد يسوع المسيح الكاهن الأزلي، أهلاً لأن يواصلوا، على مدى الزمن، العمل العجيب الذي به رَمّم الأسرة البشرية بقدرته السامية٤.
يسوع المسيح هو الهدف وهو المثال الذي يسعى الكاهن الى التشبّه به. هذا هو مقياس العمل وميزان المحاسبة في حياة الكاهن. على هذه القاعدة يحاسب الكاهن نفسه ويحدِّدُ قيمة كلِّ ما يقوم به من أعمال أو مشاريع. الارتباط بيسوع المسيح، مثل الارتباط بقداسة الثالوث القدوس، يَنبُعُ مباشرة من السرّ الذي يجعل وجودنا وكياننا، نحن الكهنة، على صورة يسوع المسيح الكاهن والمعلّم والمقدِّس وراعي الشعب”٥.
١٥. ولهذا فهناك قِيَمٌ ومقتضيات أساسيّة للمسيرة الكهنوتية. وفي طليعة هذه القيم والمقتضيات أن نعيش في اتحاد حميم مع يسوع المسيح. قال يسوع المسيح: “أنَا الكَرمَةُ وَأَنتُمُ الأغصَانُ. مَن ثبَتَ فِيَّ وَتْبْتُّ فِيهِ فَدَاكَ الَّذِي يُثمِرُ ثمَرًا كَثِيرًا” (يوحنا ٥:١٥). ويبيِّن الإرشاد الرسولي “أعطيكم رعاة” موقفًا روحيًا آخر له أهميته في حياة الكاهن وهو الاستمرار في البحث عن يسوع: “البحث عن المعلّم والعثور عليه واتباعُه والإقامة معه. ولا بدّ للكاهن، طوال حياته وخدمته الكهنوتية، ان يواصل هذا البحث عن يسوع”٦. حياة الكاهن إذًّا جَهدٌ واحد موصول يسعى إلى الكمال. ومن ثم من الطبيعي أن تكون جهوده ونشاطاته الكثيرة موسومة بهذا التوق المستمر إلى الكمال، بل يجب أن تكون ثمرة له. وما لم تكن النشاطات ثمرة لهذا التوق ولهذا الاتحاد سيُفصلُ كما يُفصَلُ الغصنُ الجافّ عن الكرمة.
ينابيعُ حياةِ الكاهنِ الروحية
١. كلمة الله
١٦. يستنِدُ الكاهنُ في مسيرته إلى القداسة، ويغدِّيها بكلمة الله وبالإفخارستيا وبسائر الأسرار مانحةٍ النعمة، ولا سيما سرِّ التوبة. كلمةُ الله هي أول ينبوعِ لحياةِ الكاهنِ الروحيّة. “الكهنةُ هم خدَّامُ كلمةِ الله، يقرأونها ويُصعُون إليها كلَّ يومٍ لكي يعلِّموها للآخَرين. فإذا اهتموا بقبولها في ذاتهم ازداد بها كمالهم يوما بعد يوم وكانوا حقا تلاميذَ للمسيح٧. الكاهنُ هو قبلَ كلِّ شيء، خادمُ كلمةِ الله، وهو المكرَّسُ والمرسَلُ ليبشَرَ الجميعَ
٣. أعطيكم رعاة، ١٩.٤. أعطيكم رعاة، ٢٠.
٥. دليل، ٦.
٦. أعطيكم رعاة، ٤٦.
٧. خدمة الكهنة، ١٣.
بإنجيلِ الملكوت. عليه إذًا أن يخلِقَ في ذاته عَلاقةً حميمةً وعميقةً مع كلمةِ الله، ليس فقط على صعيدِ اللغةِ والتفسير، وهو أمرٌ ضروري، بل عليه أن يتقبّلَ الكلمةَ بقلب طيّعٍ مُفعَمٍ بالصلاة، فتتغلغلَ الى صميمِ أفكارِه ومشاعرِه وتخلِق فيه روحًا جديدًا، وفكرًا جديدًا هو “فكرُ الرب” (١ قورنتس ٢: ١٦). فلن يكونَ الكاهنُ تلميذًا كاملاً للربّ، الا إذا “مكث” في الكلمة. ولهذا عليه أن “يكونَ أوّلَ مَن يؤمنُ بكلمةِ الله، متيقّنًا أنّ الله هو الذي يفتح القلوب وأن قوة عمله ليست منه بل من قدرة الله. وأن الكلمةَ ليست له بل للذي أرسله، وأنه خادمُها لا سيّدُها، ولا هو مالكها الأوحد بل وكيلُها ومقدِّمُها لشعب الله “٨.
ولذلك فهي كلمةٌ يجبُ التأمَّلُ فيها يوميًّا ودراستُها وتعميقُها وفهمُها و”هضمُها” وتطبيقُها على الحياة وإعلانها. وهذا أمرٌ يستحيلُ الوصولُ اليه من غيرِ حياةٍ روحيَّةٍ في داخلِ الذاتِ تسمحُ بتذوِّقِ كلمةِ الله بهدوءٍ وصمتٍ. والصمتُ في حياةِ الكاهنِ روحانيّةٌ قائمةٌ بذاتها. فهو لحظاتُ حضورِ أمامَ الله فيها السجودُ والاستسلامُ لمشيئته تعالى، وفيها الابتهالُ والشفاعة، وفيها محاسبةُ النفسِ والعودةُ بها إلى الجوهرِ والأساسِ في حياةِ الكاهن، بإرشاد “الروح القدس الذي سيعلمنا كل شيء ويذكرنا كل ما قاله لنا يسوع المسيح” (راجع يوحنا ٢٦:١٤).
جاء في الإرشاد الرسولي “نور الشرق”: “إن نقطة انطلاق الراهب – الكاهن – هي كلام الله، كلام ينادي ويدعو ويتوجّه شخصيًا إلى الإنسان، كما حصل مع الرسل. وذلك الكلام عندما يصيب مسمعًا فحينئذ تولد الطاعة اي الإصغاء الذي يبدَّل الحياة. كل يوم يتغدّى الراهب – الكاهن – من خبز الكلمة. وإذا ما حُرِمَ هذا الخبز يصير إلى الموت، ويفقد كل صلة بإخوته، لأن الكلمة هو السيد المسيح الذي يدعى الراهب – الكاهن – الى التشبّه به٩.
٢. الإفخارستيا
١٧. والإفخارستيا تشكّلُ مركزًا آخر لحياةِ الكاهنِ الروحيّة، وهي أساسُها وقِمتُها. فالكاهنُ يعيشُ بقوةِ الإفخارستيا ومن أجلِها. ذلك أنَّه بتقديمه الذبيحةَ واحتفاله بالليتورجيا الإلهية في كلِّ يومٍ يتعلّمُ كيف يصبحُ هو نفسُه ذبيحةً مقدَّسةً أمامَ الله. “إنّ الأسرار المقدَّسةَ، وجميعَ الخدَماتِ الكنسيّةَ والمهامَّ الرسوليّة، مرتبطةٌ كلُّها بالإفخارستيا ومترتَبةٌ عليها. ذلك أنّ الإفخارستيا تحتوي على كنزِ الكنيسةِ الروحيِّ بأجمعِه، أي على يسوعَ المسيح بالذات … ومن ثمّ فإنّ الإفخارستيا هي حقًّا مصدرُ التبشير بالإنجيلِ وقِمتُه”١٠. وهي قِمَّةُ الصلاةِ المسيحيّةِ، وقِمّةُ الأسرارِ وسائرِ الفروضِ الليتورجيةِ ومَعِينُها. وفي هذا
٨. أعطيكم رعاة، ٤٧.
٩. تور الشرق، ١٠.
١٠. خدمة الكهنة، ٥.
دليلُ أهميّةِ الإفخارستيا ودورِها الجوهريِّ في حياةِ الكاهنِ وخدمتِه. ولهذا يجتهدُ الكاهنُ في اكتسابِ الفضائلِ المستوحاةِ من سرِّ الإفخارستيا أي الشكرُ، والاستعدادُ لأن يقدِّمَ ذاتَه مع القربانِ المقدَّمِ في الإفخارستيا، والمحبّةُ المستمدَّةُ من سرِّ القربانِ علامةً للوحدة والمشاركة، وأخيرًا الرغبةُ في التأمل والسجودُ ليسوعَ المسيحِ الحاضرِ حقًّا في القربان١١. ويكونُ الكاهنُ بذلك مثالاً للجماعةِ المؤمنة، بتقواه الإفخارستيةِ ومثابرتِه على التأمّلِ، قدَرَ الإمكان، أمامَ الربِّ الحاضرِ في القربان. وقد يكونُ من الأوقاتِ الممتازةِ للسجودِ أمامَ العزة الإلهية الوقتُ الذي يحتفل فيه الكاهن بالصلاة الطقسية فتكونُ صلائه هذه امتدادًا حقيقيًّا، في أثناءِ النهار، لذبيحةِ الحمدِ والشكرِ الإفخارستيّة ١٢.
ولا بد من التذكير بالبعد الجماعي للإفخارستيا ولأهمية الإنعاش الليتورجي ومشاركة الجماعة فيه، فالليتورجيا الإلهية هي سر الشركة والوحدة في حياة الجماعة المسيحية. وبالاتحاد الصميم مع الجماعة البشرية الموكولة إليه يتغدّى الكاهن بخبز الحياة الذي يجعل حياته اكثر اتحادًا بالله وبرعيته، بل يذهب به إلى أبعد من الرعية إذ يوحِّدُه بجسد المسيح في العالم كله. هذا الخبز النازل من السماء يجعل عمله خصبًا بالنعمة والقداسة لنفسه وللناس الذين وُكِلَت إليه مهمةُ تقديسهم. والقداسة في حياة الكاهن ليست أمرًا منفصلاً عن حياة الجماعة الموكولة إليه. بل هي مسيرة مشتركة بين الراعي والرعية. فالراعي يقدِّسُ نفسه، وتسيرُ معه الرعيةُ وتُسنِدُه في سعيه إلى القداسة.
٣. سر التوبة
١٨. سر التوبة تابعٌ ونابعٌ من سرِّ الإفخارستيا، وقد أقيمَ الكاهنُ خادمًا له، ليكونَ بينَ البشرِ علامةً وشاهدًا لرحمةِ الله التي تستقبلُ وتغفرُ. ويبدأُ الكاهنُ بنفسه فيمارسُ هو سرَّ التوبةِ، إذ إنه يحتاج هو أيضًا، مثلَ كل مؤمن صالح، إلى أن يعترف بضعفه وبخطاياه. وهو أول من يَعلَمُ أن ممارسة هذا السر تثبَّئُه في الإيمان والمحبة الله وللقريب. وحتى يتمكَّنَ من أن يُظهِرَ بصورة فعّالة جمال هذا السرّ، من الضروري أن تكون شهادته نابعة من خبرته الشخصية، فيكون في مقدّمة المؤمنين في طلب المغفرة١٣.
“إنّ خدّامَ النعمةِ في الأسرار يتّحدون بيسوعَ المسيحِ المخلِّصِ والراعي عندما يَقبلون الأسرارَ قبولاً يثمر فيهم أيضا النعمة، ولا سيما إذا تقدموا للاعتراف بخطاياهم في سرِّ التوبة. فالاعترافُ المهيّاُ بفحصِ الضميرِ اليوميِّ سندٌ ثمينٌ وضروريٌّ لتوجيهِ القلبِ نحو حِّ أبي المراحم،”١٤. ويركِّزُ البابا يوحنا بولس الثاني على هذا الموضوع في الإرشاد الرسولي “أعطيكم رعاة” فيقول: “أوَدُّ ان أخصَّ بالذكرِ سرَّ التوبةِ الذي يجبُ على الكهنةِ ليس فقط أن يمنحوه، بل أن يستفيدوا منه أيضًا، فيصيروا بذلك ليس فقط وسطاءَ
١١. ر.أعطيكم رعاة، ٤٨.
١٢. دليل، ٥٠,
١٣. دليل، ٥٣,
١٤. خدمة الكهنة، ١٨.
بل شهودًا لرحمةِ الله وعطفِه على الخطأة. وأكرِّرُ هنا ما ذكرتُّه في رسالتي السابقة في “المصالحة والتوبة”: “حياةُ الكاهنِ الروحيّة وحرارتها، كمثل حياة إخوته الرهبان والعلمانيين، منُوطةٌ بممارستِه سرَّ التوبةِ ممارسةً شخصيّةً والإقبالِ عليه بصورة واعية ومتكررة. فالاحتفال بالإفخارستيا والأسرارِ الأخرى والغَيْرةُ الراعويةُ والعلاقاتُ مع المؤمنين والشركةُ مع الإخوةِ الكهنةِ والتعاونُ مع الأسقفِ وحياةُ الصلاة، بل حياةٌ الكاهنِ كلُّها تنهارُ انهيارًا مختومًا اذا أخلَّ بممارسةِ سرِّ التوبة ولم يلجأ إليه بصورة منتظمة وبإيمان وتقوى حقيقيَّيْن. الكاهنُ الذي يُهمِلُ الاعترافَ او يُسيءُ الإقرارَ بخطاياه، سرعان ما ينعطبُ جوهرُه الكهنوتي وعملُه الراعوي، وسرعان ما تلاحظ ذلك الرعية نفسها١٥.
وفي الختام حتى يتمكن الكاهن من أن يعيش بحسب هويته بصورة كاملة يجب أن تكون فيه حياة روحية وافرة. ولهذا يجبُ ان تكونَ التنشئةُ الروحيةُ، في حياةِ كلِّ كاهن، “القلب” الذي يوحّدُ ويُحيي كيانَه وحياته الكهنوتية. “وعليه أن يتعوّد الاتحادَ بيسوعَ المسيح، فتصبحُ حياتُه منصهرةً في حياتِه. وعليه أن يجعل سرَّه الفصحيَّ قِوامَ حياتهِ بحيثُ يصبح قادرًا على أن يُشرك فيه الشعبَ الذي يُوكَلُ اليه”١٦.
الفصل الثاني: الكاهن الإنسان
الهوية وضرورة التنشئة
١٩. “إنَّ كُلَّ عَظِيمَ كَهَنَةٍ يُؤخَدُ مِن بَينِ النَّاسِ” (عبرانيون ٥: ١)، فتملأُه نعمةُ الله وتبدلُه. ويَبقَى مع ذلك شبيهًا “بإخوتِهِ فِي كُلِّ شَيءٍ لِيَكُونَ عَظِيمَ كَهَنَةٍ رَحِيمًا مُؤتَمّنًا عِندَ الله” (عبرانيون ٢: ١٧). يبقى الإنسانُ في الكاهن أداةَ النعمة، بما فيه من صفات أو نقاط ضعف، فيما يحاول أن يطوِّرَ ذاتَه بنعمة الله وبالتربية التي يتلقّاها قبل الكهنوت كما وبالتنشئة الدائمة بعده. وسيقويه الروح القدس ويُحدِثُ فيه التحوُّلَ اللازم إن اجتهد هو نفسُه فبدَّل مما في نفسه، وجعلها أداة طيّعة لعملِ الله فيه. تقول الرسالة البابوية “أعطيكم رعاة” إنه بدون تنشئة انسانية ملائمة، تمسي التنشئة الكهنوتية كلها من غير أساس، ومعزولة عن مرتكزها الضروري. وإن “الكاهن المدعو الى أن يكون صورة حيّة ليسوع المسيح، رأس الكنيسة وراعيها، عليه أن يسعى ليعكس في ذاته، قدر المستطاع، الكمال البشري الذي تلألأ في ابن الله المتأنس”. فيُقبل على اقتناء “مجموعة صفات بشرية، لا بدّ منها لبناء شخصية متوازنة، قوية وحرّة، قادرة على الاضطلاع بأعباء المسؤوليات الرعوية”. من هنا ضرورة التربية على “حبّ الحقيقة
١٥. أعطيكم رعاة، ٢٦.
١٦. التنشئة الكهنوتية، ٨.
والتزاهة واحترام كل انسان، وعلى مفهوم العدالة والوفاء بالوعد والرحمة الحقيقية، وعدم التناقض في المواقف، وخصوصًا على الاتزان في الرأي وفي التصرّف١٧. وللتعامل مع الرعية ومع الناس، هناك صفات يقدرها الناس بحق إذ تدعوهم إلى التجاوب والبناء معًا، وهي “الطِّيبة والصدق والقوّة الأدبية والثبات وحب العدالة واللطف والصمود والصبر في عمل الخير، وصفات أخرى أيضًا عدَّدها القديس بولس، حيث قال: “مَا كَانَ حَقًّا وَشَرِيفًا وَعَادِلاً وَخَالِصًا وَمُستَحَبًّا وَطَيَّبَ الذُكرِ وَمَا كَانَ فَضِيلَةً وَأَهلاً لِلمَدحِ، كُلُّ ذلِكَ قَدِّرُوهُ حَقَّ قَدرِهِ” (فيليي٤: ٨)١٨. وعلى هذا الأساس الإنساني المتين تُرسَّخ حياتنا الکهنوتیة.
معرفة الذات
٢٠. أولى الفضائل الإنسانية هي فن التعامل مع الذات ومع الآخرين. يعرف الكاهنُ ذاتَه ويقبلُها هبةً من الله ومن محبته. فهو كما هو، بكل ما فيه من ضعف وقوة، مدعوٌّ إلى جهادٍ داخليّ مستمِرٌ ليطوِّرَ صفاتِه ويحرِّرَ نفسَه من الضعف الذي فيه والذي يعيق خدمتَه الكهنوتية. يجب أن يعرفَ الكاهن نفسَه ليعرفَ كيف يتعاملُ مع المؤمنين الذين أُرسِلَ إليهم. وقد يجد بينهم، وبين جميع الذين يلاقيهم على دروب خدمته، من هم دونه نصيبًا في هذه الحياة، كما يجد من هم أوفرَ نصيبًا منه، يفوقونه علمًا وفضيلة. وسوف يجد بينهم الصديق والمخاصم. ومع الجميع عليه أن يكون متواضعًا واعيًا في الوقت نفسه لما وهبه الله من نِعَم ولما في شخصيته من حدود. ومع الجميع، يبقى أمينًا لأصالة دعوتِه فيحافظُ على كرامة نفسه وعلى الاحترام الواجب للآخرين.
العلاقات بين الكهنة والأسقف
٢١. إنّ العلاقة بين الكاهن والأسقف مهمة جدا في حياة الكاهن اليومية، المادية والفكرية والروحية والراعوية. وهي مبنيّة على سر الكهنوت نفسه: “إنّ جميع الكهنة يشتركون، باتحادهم مع الأساقفة، في كهنوت المسيح الواحد، وفي رسالته الواحدة. فوحدة الرسامة والرسالة اذًا تفرض الشركة الكنسية بينهم وبين الأساقفة١٩. “تشمل هذه الصلة بين الكهنة والأسقف كل الأمور الخاصة برسالة الكاهن، والعلاقات الإنسانية المتبادلة المبنيةَ على الاحترام والمحبة، حتى ولو اختلفت أو تعارضت المواقف الإنسانية في حمل الرسالة، لأنهم، أي الكهنة والأساقفة، يحتفلون في كل صباح بتقديم الذبيحة نفسها، والإفخارستيا نفسها، وبطلب الشفاعة نفسها من أجل البشرية. فهي علاقة صلاة ومثولٍ أمام الله، يقدرون بها حملَ رسالة الخلاص “والحياة الوافرة” لكل من وُكِلَتْ إليهم رعايتُهم.
١٧. أعطيكم رعاة، ٤٣.
١٨. خدمة الكهنة، ٣.
١٩. خدمة الكهنة، ٧.
هذا يعني أن يعتبر الأساقفةُ “الكهنةَ إخوةً لهم وأصدقاء، فيهتمّون، وسع طاقتهم، بأمرهم المادي أوّلا، وخصوصًا بأمرهم الروحي … وبتوفير التنشئة الدائمة لهم. ليعملوا على الإصغاء إليهم، واستشارتهم، والحديثِ معهم في متطلبات العمل الراعوي”. وتضيف الوثيقة المجمعية فتقول: “وأمّا الكهنة فيعلمون أن الأساقفة مُنِحُوا ملءَ سرّ الكهنوت، فعليهم أن يحترموا فيهم سلطة المسيح الكاهن الأعظم.
وليُغدُّوا في أنفسهم لأساقفتِهم مشاعرَ صادقة تغذِّيها المحبة والطاعة٢٠. وتمتد هذه الوحدة بين الأسقف والكاهن لتكون وحدة بين الكهنة أنفسهم. فمن مقتضيات المحبة الرعوية ان يظلّ الكاهن، بطريقة خاصّة ومميّزة، على اتصال شخصي مع الجسم الكهنوتي بإشراف الأسقف ورعايته٢١. وإن ما يقيم بين الكهنة اتحادا صميما هو رباطُ الأخوَّةِ الناجمةِ عن قبول سر الكهنوت نفسه. “ولذلك يتوجب على المتقدّمين في السن أن يستقبلوا مَن هم أحدثُ منهم سنَّا، فيساندونهم في جهودهم الأولى، ويعملون على تفهّم عقلياتهم حتى ولو كانت مختلفة. وكذلك يتوجب على الكهنة الشباب ان يحترموا سنّ القدماء وخبرتهم فيتحاورون معهم في المعضلات الرعوية ويشاركونهم فرح الرسالة٢٢.
الحياة المشتركة
٢٢. الحياة الكهوتية المشتركة وسيلة للتعاون الأخوي وللتجدد في الحياة الكهنوتية. وهي خبرة جيدة، وإننا نُوصي بها حيث يمكن العملُ بها، ولا سيما في المدن حيث توجد رعايا كثيرة. وإذا كانت إقامة الكهنة معًا في مكان واحد أمرًا صعبًا بسبب مقتضيات العمل الرعوي نفسه، فَلْيُعمَلُ الكهنةُ المتواجدون في المدينة الواحدة على الالتقاء معا أقلَّه في بعض أوقات النهار، مثلاً للطعام والصلاة، فتكون تلك الأوقات لهم وسيلة للتعاضد الأخوي والتجدد الروحي. وبصورة عامة، يجب أن تنفتح الحياة الشخصية للكهنة على الأخُوَّة الكهنوتية، فيكونُ بينهم ضيافةٌ ولقاءاتٌ وصلوات. وكذلك يكونُ مكانُ إقامة كاهن الرعية، مكانًا يرحِّبُ في كل لحظة باستقبال الإخوة الكهنة. هذا الاستعداد للاستقبال هو في حد ذاته سندٌ للكاهن في وحدته وحمايةٌ له من مخاطر العزلة والتعويضات التي تسبَّبُها. وعلاوة على ذلك فإن “هذه الحياة الكهنوتية المشتركة تعود بالنفع على الحياة والنشاط الراعوي، وتقدم للجميع، للكهنة والعلمانيين، مثالاً نيّرًا في المحبة والوحدة”٢٣.
التربية العاطفية في حياة الكاهن
٢٣. النضج العاطفي أمر مهم وحاسم في التنشئة على الحب الحقيقي المسؤول، ويفترض الوعيَّ والتنبُّه
٢٠. حدمة الكهنة، ٧.
٢١. أعطيكم رعاة، ٢٣.
٢٢. خدمة الکهنة، ٨.
٢٣. أعطیکم رعاة، ٨١.
لأهمية الحب ومكانته الأساسية في حياة الانسان. والواقعُ أن الانسان، بالرغم من أنّ المجتمعَ المعاصر المنفتحَ اليوم على رياح العولمة الغازية يتَّجه أكثر فأكثر نحو الإباحية، لا يقوى على الحياة بدون حبّ. ومن ثم لا بد للكاهن في وسط هذا المجتمع من تربية عاطفية سليمة مؤسَّسةٍ على رؤية مسيحية شاملة ومتَزنة في كل ما يختص بالجسد وبالسلوكيات الأخلاقية المسيحية، ليتمكَّنَ هو من الأمانة لتكريسيِه نفسَه لله، في طريق الحب المتطلِّعِ إلى المطلق، وليتمكَّنَ من إرشاد المؤمنين في الحياة المسيحية، التي تعتبر الجسد بكل متطلباته المادية والروحية مرتبطًا بقداسة الله نفسها. وفي هذا يقول الرسول بولس: “أَوَمَا تَعلَمُونَ أنَّ أَجسَادَكُم هَيَكَلُ الرُّوحِ القُدُسِ، وَهُوَ فِيكُم وَقَد نِلْتُمُوهُ مِنَ الله، وَأنَّكُم لَسْتُم لأنفُسِكُم؟ فَقَد اشتُرِيَ وَأُدِّيَ الثَّمَنُ. فَمَجِّدُوا اللهَ إذًّا فِي أجسَادِكُم” (١ قورنتس ٦: ١٩).
يصل الكاهن الى هذا الاتزان العاطفي عندما يستطيع أن يجمع بين نمط حياته كإنسان مكرَّس وبين الرغبة الطبيعية الموجودة فيه في أن يُحِبَّ وأن يُحَبّ. ويظهر ذلك في قدرته على إقامة صداقات كهنوتية سليمة. وهذا أمر ممكن إنْ وضع الكاهن لنفسه هدفًا كهنوتيًا واضحًا وساميًا، ووجّه اليه كلَّ ما في داخله من أحاسيسَ وعواطف. ولا يمكن أن يكون هذا الهدف الاّ الحبَّ السامي والمطلق، لأن هذا الحب وحده يستطيع أن يستوعب طاقةَ الحبِّ الكبيرةَ الموجودةَ في الانسان، والمتطلِّعةَ الى الخير السامي والمطلق.
حياة البتولية
٢٤. هذا الكلام يمهّد الطريقَ لحبّ العفة المكرّسة وتقديرِها، وهي دعوةٌ الى حياةٍ مبنيّةٍ على الحب المطلق. والتربية على الحبّ المسؤول أمر لا بدّ منه لكل من كان مدعوا، مثل الكاهن، الى العزوبية المكرّسة، أي إلى أن يهب ذاته وحبه وكل اهتمامه ليسوع المسيح وللكنيسة، وذلك بموجب قرارٍ حر وإرادة واعية. ومن ثمَّ، ليست العفّة المكرّسة، لمن اتخذ مثل هذا القرار، مجرّدَ قانونٍ كنسي، بل هي خيارٌ ناجمٌ عن حبِّ حيّ وشخصي ليسوع المسيح وللكنيسة، بكل ما في ذلك من تضحيةٍ بالذات شاملةٍ و کاملة.
وهذا يفترض معرفة صحيحة للذات، وتقييمًا صحيحًا للحياة العاطفية، ومعرفة واضحة لما تتطلَّبُه حياة العفة المكرسة من بذل للذات في سبيل الله والإخوة. ومن المهم في جميع الأحوال أن يكونَ الخيارُ واضحًا وصريحًا، وأن يُعاشَ بفرح في سبيل الملكوت أي في سبيل الخير الأفضل. وهذا أمر يتطلَّبُ صلاة عميقة وحضورًا مستمرًّا أمام الله، وتواضعًا مقرونًا بثقة كبيرة بنعمة الله الذي ليس لديه أمر مستحيل.
وللصداقة الكهنوتية دورٌ في ما دُكر، خصوصًا عندما يمرّ أحد الكهنة بلحظات صعبة في هذا المجال. فالمحبة الأخوية والحياة الأخوية مع الجماعة هي أفضل عون له لمواجهة الصعاب. “لا جَرَمَ أنَّ في العالم اليوم أناسًا كثيرين يصرّحون بأن العفة الكاملة أمرٌ مستحيل. وما ذلك الا باعثٌ آخر وحافزٌ للكهنة ليطلبوا بتواضع وباستمرار، وبالاتحاد مع الكنيسة، نعمة الأمانة التي لا يرفضها الله للذين يطلبونها”٢٤. ولا سيما إذا بذلوا من جهتهم الجهود اللازمة في المحافظة على حياة العفة وتحويلها إلى محبة كبيرةٍ مشرقةٍ في حياتهم.
دعوة الكهنة المتزوجين
٢٥. وإننا نتوجه هنا إلى كهنتنا الذين اختاروا أن يخدموا الرب في الزواج. وبهذا ارادوا أن يحملوا معا مسؤولية أسرةٍ بشرية خاصة بهم وأسرةِ الله الكبيرة التي هي الرعية وجميعُ المؤمنين الموكولين إلى رعايتهم. فهم من جهة يؤدون الشهادة لما في الزواج من قيمة وقداسة جعلها له الله، ومن جهة أخرى فإنهم يتطلعون هم أيضًا إلى اكتمال حبهم وتضحيتهم على مثال حب المسيح الذي بلغ أوجه وكماله في تكريس كيانِه وبذلِه ذاتَه في سبيل من أحب (راجع يوحنا ١٣: ١). وهم أيضا أرسلهم الله ليكونوا في الزواج وفي الكهنوت شهودًا للحبّ السامي الذي لا حد له والذي يقدر وحده أن يخلِّص البشرية. ونوَدُّ هنا أن نعبر لهم عن تقديرنا للخدمة التي يقدمونها وللنعمة التي هم أداة لها ويوفرونها للمؤمنين الموكولين إلى رعايتهم. وإنا ندعو جميع الكهنة المتبتلين والمتزوجين إلى التعاون وتبادل الخبرات الكهنوتية والمساندة الأخوية في حمل الرسالة.
التعامل مع المال
٢٦. ومن الفضائل الإنسانية أيضًا تعامل الكاهن مع المال. هذه العلاقةُ بالمال، مثلَ كلٍّ علاقة أخرى في الحياة، تتوقف على مدى الحرية التي يتمتع بها الكاهن. فقد وضعَ حريتَه بين يدي ربه يوم تقدم ليُسامَ كاهنًا، وبذلك حرَّرَ نفسه من كلّ رباط أرضي ليكون أكثر كفاءة لتقديس الأرض بكل خيراتها، وليصير هو نفسُه وكُلُّ من يخدمهم أكثر كفاءة لاستخدام هذه الخيرات، فتكون له ولهم مصدرا للحياة الوافرة.
في حياة الكاهن، وكذلك الأمر في حياة كل إنسان، يمكن أن يكون المال وسيلة لعمل الخير أو عائقًا دونه. ولهذا حدَّرنا السيد المسيح وقال: إن المؤمن لا يستطيع أن يعبد ربين، “الله والمال” (متى ٦: ٢٤).
المال للكاهن وسيلة وليس غاية، ومن ثم يجب ألا يصير المال في حياته سيدًا. يحتاج الكاهن إلى المال ليعيش حياة لائقة ويقوم بواجب الضيافة الناجم عن حياته الكهنوتية، وبواجب مساعدة الفقراء، وبكل ما يقتضيه عمله الراعوي عامة. وفي جميع الأخوال، يجب ألا يصبح المال يومًا شرطًا لا بد منه، ومن دونه لا يتم العمل الراعوي ولا تتم الرسالة. بل نحمل رسالتنا في كل ظرف، وفي كل ظرف نعلن كلمة الله، سواء توفر المال اللازم أم لم يتوفر، متذكرين أن السيد المسيح لم يكن له “مكان يضع فيه رأسه” (راجع متى ٨: ٢٠).
حتى ولو حُرِمْنا يومًا خبزَنا اليومي، سوف نستمر في مل الرسالة، كما حملها يسوع نفسه في الفقر التام، من غيرِ أبنيةٍ ولا أُطُر. مع هذا الاستعداد لدى الكهنة، تسعى الأبرشية قدرَ الإمكان لتوفير استقرار الحياة المادية لكل كاهن، حتى لا يقضيَ معظمَ وقته في البحث عن “خبزه اليومي”، وهو مانحُ الخبزِ
٢٤. خدمة الكهنة، ١٦.
الروحي، والمادي أحيانًا، للجميع، وحتى لا يكون العوَزُ المادي مدخلاً لمزيد من العزلة وتَحَوُّلِ القيم في حیاته. “صحيح أنَّ العَامِلَ يَستَحِقَّ أُجرتَهُ (لوقا ١٠: ٧)، وأن “الرَّبَّ قَد قَضَى لِلَّذِينَ يُعلِنُونَ البِشَارَةَ أن يَعِيشُوا مِنَ البِشَارَةِ” (١ قورنتس ٩: ١٤)، ولكنه صحيح أيضا أنَ حقّ الرسول هذا لا يمكن أن نخلط بينه وبين أية مطالبة بإخضاع خدمة الانجيل والكنيسة للفوائد والمصالح المادية التي يمكن أن تنجم عنها. الفقر وحده يضمن للكاهن الأُهبة اللازمة ليُرسَلَ الى حيث يكونُ عملُه أكثرَ فائدةً وأشدَّ ضرورة ٢٥، ولو اقتضى ذلك من الكاهن تضحية كبيرة. هذا هو الاستعداد الأساسي لدى الرسول الذي يحمله على الانطلاق من غير مزود ولا قيد، سنده الوحيد إرادة السيد الذي أرسله (راجع مرقس ٦: ٨).
٢٧. موضوع علاقة الكاهن بالمال هو قسم من تربية الكاهن على الحرية المسؤولة والواعية. فإذا كان لديه مال خاص، وجب عليه في استخدامه أن يحترمَ مستوى الحياة لدى الفقراء في رعيته، ومن ثم وجبَ أن يكونَ إنفاقُه في أيِّ مجال كان (في السكن او وسائل النقل او الإجازات الخ … ) بروح الاعتدال الذي يحفظ له كرامته ويُقِي في قلبه حبَّ أفقر الفقراء. وهذا التصرّف الواعي يطال أيضًا مبدأ التعامل مع المال العام، مال الكنيسة أو الرعية أو المشاريع المختلفة، الموضوع بين يديه وتحت مسؤوليته … وهنا بالإضافة إلى الموقف الروحي من المال، على الكاهن أن يقبل بطيبة خاطر مبدأ تأدية الحسابات بحسب الأصول، فيلتزم في إدارته للمال أصول المحاسبة الرسمية، يقوم بذلك بنفسه أو بمساعدة ذوي اختصاص في هذا المجال.
وتُستَعمل أموال الكنيسة “في تنظيم العبادة الإلهية وضمان المستوى المعيشي اللائق للكهنة٢٦، ومساندة أعمال الرسالة والمحبة، وخصوصًا في رعاية الُمُعوزين”. وتقادم الشعب هي عادة إما لخدمة الكنيسة وإما للفقراء٢٧. “ولا يجوز لوظيفة كنسيّة أن تنقلب سبيلاً للكسب المادي، أو مصدرًا لزيادة ثروة الكاهن الشخصية” أو ثروة أسرته. فلا يعلِّقْ الكهنة قلبهم بالمال، وليتجنّبوا كل أنواع الجشع، ويَنيِذوا نبدًا تامًّا كلّ ما بمكن أن يكون عملاً تجاريًا٢٨.
مثالُ يسوع المسيح يجب ان يدفع الكاهن الى التشبّه به في حريته الباطنة تجاه خيرات العالم وثرواته. ويعلّمنا الرب أن الله وحده هو الخير الحقيقي وأن الغنى الوحيد هو كسب الحياة الأبدية. “مع أن الكاهن
٢٥. أعطیكم رعاة، ٣٠.
٢٦. “للإكلير كيين الحق في معاش لائق وفي الحصول على أجر عادل للقيام بالوظيفة أو المهمة الموكولة إليهم. وإذا كان الإكليركيون متزوجين يجب أن تراعى أيضا معيشة أسرتهم، ما لم يُدَّير لهم ما يكفي بطريقة أخرى” (مجموعة قوانين الكنائس الشرقية، ٣٩٠).
٢٧. كل التقادم التي يتسلمها الخوري وسائر الإكلير كبين المرتبطين بالرعية في مناسبة القيام بمهمة رعائية، ما عدا التقادم المذكورة في القوانين ٧١٥-٧١٧، يجب أن تُدرَّج في حساب الرعية، ما لم يتأكد أن المعطي له إرادة مغايرة بالنسبة إلى تقادم أُعطِيّت بحرية كاملة. ويعود إلى الأسقف الأبرشي، بعد استشارة المجلس الكهنوتي، أن يضع الأحكام التي تنظم تخصيصَ تلك التقادم والأجرّ العادل للخوري، ولسائر إكلير كبي الرعية على قاعدة القانون ٣٩٠” (المرجع نفسه، ٢٩١).
٢٨. خدمة الكهنة، ١٧.
لا يمارس الفقر بحكم وعدٍ رسميّ، بيد أنَّه ملزَمٌ بأن يحيا حياة بسيطة، وأن يمتنع عن كل ما هو زائد وزهو باطل”٢٩.
الفصل الثالث: الكاهن الراعي
أسس العمل الرعوي
٢٨. أنَّا الرَّاعِي الصَّالِحُ وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبذِلُ نَفسَهُ فِي سَبِيلِ الخِرَافِ” (يوحنا١: ١١). هذا هو المثالُ المقدَّمُ لنا، وهذا هو مقياسُ الرعايةِ الصالحة: الراعي الذي يبذِلُ نفسه في سبيل الخراف. فرعايةُ الخراف وحاجاتها وآلامُها وآمالُها هي الأولويَّة والشأنُ الأهمّ في حياة الراعي. ويفرِضُ واجبُ الرعاية على الكهنة أن يعرفوا أبناءَهم: “أنَا الرَّاعِي الصَّالِحُ، أَعرِفُ خِرَافِي وَخِرَافِي تَعرِفُنِي، كَمَا أنَّ أبي يَعرِفُنِي وَأَنَا أَعرِفُ الآب” (يوحنا ١٠: ١٤). إنها معرفةٌ تتجاوزُ الصعيدَ البشريّ لأنها تتأصلُ في المعرفة المتبادَلةِ بين الآب والابن
– “كَمَا أثَّ أبي يَعرِفُني وَأَنَا أَعرِفُ الآبَ”- بكل ما في هذه الكلمات من عمقِ وقداسة. هي معرفةٌ مثلُ معرفةِ الله للناس، وهي إذًا محبةٌ متساميةٌ مِثلُ محبةِ الله نفسِه للناس الذين نخدِمُهم. وهذه المعرفة تقتضي من الكاهن حركةَ خروجٍ مستمرَّةً من ذاته لكي يخدم رعيته، ومن مقتضياتِ ذاته كإنسان، ومن الاستقرارِ الماديّ الذي يميلُ إليه كلُّ كاهن وكلُّ حامل رسالةٍ روحية، حين يأخذ بالاهتمام لنفسِه وبيتِه ومسكنِه.
٢٩. لا بدَّ من أن نذكرَ هنا أن “المحبّةَ الراعوية توشكُ اليومَ أن تفقدَ معناها بسبب ما يمكنُ أن نسمِّيُه بالكاهن الموظَّف. فليس من النادرِ أن نلحظَ عند بعضِ الكهنةِ أثرَ ذهنيةٍ تتوقُ خطأً إلى تقليصِ الخدمة الكهنوتية إلى نواحيها الوظيفية والأسرارية، فيكتفي الكاهن بأن “يتصرَّفَ كموظّف”، فيؤدِّي بعضَ الخدماتِ الخاصّة ويقدَّم بعض الإعانات، ويظنُّ أنّ في ذلك كلَّ قِوامِ هويّتِه وخدمتِه الكهنوتية. وهذا أمر يمكن أن يؤديَ بحياة الكهنة إلى فراغ يستعيضون فيه عن الكهنوت الحقيقي بأنماطٍ من الحياة تناقِضُ طبيعةَ خدمتِهم٣٠.
مجالات العمل الراعوي
٣٠. النشاطات التي يقوم بها الكاهن متعدَّدة ومتنوِّعة، منها خدمةُ الرعية والدراسة والتعليم (في الإكليركيات والجامعات والمدارس)، ومنها الشؤون الإدارية ومنها العمل في مجالات المجتمع المختلفة. وفي كل مهمَّةِ الكاهنُ هو راعٍ ومعلَّمٌ يُعرِّفُ بيسوع المسيح، وهو شاهدٌ له في ما يقول وفي ما يفعل. لأن المهمةَ الأساسية التي يُرسَلُ إليها الكاهن هي خدمةُ الرعية أي رعايةُ الإيمان في نفوس الناس. ومن ثم لا
٢٩. دليل، ٦٧.
٣٠. دليل، ٫٤٤
يَعتَبِرْ أحدٌ من الكهنة نفسَه معذورًا عن العمل الرعوي، مهما كانت رسالته أو خدمته في الكنيسة والمجتمع. التعليم المسيحي
٣١. الكاهن هو خادمُ الكلمة. هو معلِّم التعليمِ المسيحي في الرعيّة بصورةٍ عامّة وفي المدارس بصورة خاصّة، في مدارسِ الرعية حيثما وُحِدَتْ، وفي المدارس الكاثوليكية وفي كل مدرسةٍ خاصّةٍ أو عامة. “والكاهنُ هو المعاونُ الأول والمباشر للأسقف في هذه المهمة: فهو معلِّمُ الايمان ومربَّيه في رعيّته. ويقوم بدوره أوّلاً وقبلَ كل شئ، بأن يعلِّمَ هو نفسُه التعليمَ المسيحي، وأن ينظّم العملَ الكرازيّ في رعيته، وأن يستعينَ بالمعلّمين العلمانيّين المؤهَّلين ويعملَ على مرافقتهم. وثانيًا بتوعيةِ أبناءِ رعيّتِه على رسالتهم التعليمية، والتعاون معهم لتنظيم العمل الكرازي على مستوى الرعية. يبقى التعليمُ المسيحي جانبًا أساسيًّا من حياة الكاهن ورسالتِه الرعوية، مما يتطلَّبُ منه جَهدًا والتزامًا حقيقيَّيْن ونَشِطَيْن وعملِيَيْن”٣١.
على الكاهن أن يبعثَ بين أعضاء مؤسَّساتِ الحياةِ المكرَّسة روحَ مسؤوليةٍ صحيحةٍ ومناسبة لتلقين التعليم المسيحي، كما عليه أن يُعنَى عنايةً خاصة بالتربية الدينية والروحية الأساسية والدائمة لمعلِّمِي الدين. فيكونُ هو معلِّمَ معلّمِي الدين. ويُعنَى يأن يحتلَّ التعليمُ المسيحي المكانَ الأول في التربية المسيحية للعائلة وللحركات الرسولية، بحيث يصل إلى كل فئات المؤمنين.
زيارة العائلات
٣٢. زيارة العائلات في الرعية هو عملٌ أساسي في عملِنا الرعوي في الشرق. فالكاهن هو الأب، وما زالت زيارتُه للبيت مطلوبة وتُعتبَرُ بركة. كما أنها تُمكِّنُ الكاهن من التقاءِ جميعِ أفراد العائلة، وبالتالي جميعِ أفراد الرعية. فينحسرُ بذاك عددُ المجهولين أو المنسيّين في الرعية. وزيارة الأسرة هي الوسيلة الوحيدة لالتقاء من لا يأتون الى الكنيسة، والبعيدين عنها، وهم كُثر. توصِّلُنا مختلفُ النشاطات الرعوية إلى العديد من الفئات والقطاعات من أبنائنا وبناتنا، وأما زيارةُ العائلة فتُوصَّلُنا إلى الجميع. ومن ثمَّ فإننا نُوصي بالمحافظة على هذه العادة وهذا التقليد الحسن في حياة رعايانا. الاحتفال بالأسرار والتحضير لها
٣٣. منذ المجمع الفاتيكاني الثاني، أصبح التحضيرُ لقبول الأسرار، ولا سيما قبل الزواج، من التقاليد المتّبعة في الكثير من رعايانا. وقد بدأ الكثيرون أيضا بدعوة الأهل والأشابين للمشاركة في دورات أو لقاءات تحضيرية قبل منحٍ سر المعمودية أو المناولة الأولى (أو سر التثبيت في الرعايا على الطقس اللاتيني)، فتصبحُ النعمةُ الممنوحةُ للأبناء مناسبةً لإحيائها في نفوس الأهل والأشابين أيضًا. وقد وَضعَتْ الكثيرُ من الكنائس، ومنها كنائسُنا، كتبًا خاصّة لهذا الأمر. ومن ثم كي لا يكون السر “مجرد عادة اجتماعية، بل يكونُ عملاً إيمانيًّا، من الضروري إحاطته بعمل رعوي يساعد على إدراك معناه في حياة الأسرة المعنية
٣١. المخطط الرعوي، ٢٣.
وفي حياة الجماعة المسيحية المحلية أي الرعية”٣٢.
وعلى الكهنة أن يحتفلوا بمختلف الأسرار بما يَليقُ بها، فيعبر الاحتفال عن معنى السر والنعمة التي يمنحها. وينطبق هذا الكلام أولاً على سر الإفخارستيا، وعلى سائر الأسرار أيضًا. وبذلك يحصل المؤمنون الذين يقبلون الأسرار على ثمارها الوافرة، ويجد الكاهن نفسه فيها تجددا في دعوته وفي قداسته الشخصية وفي علاقات الخدمة التي تربطه بالجماعة الموكولة إليه.
العمل مع العلمانيين
٣٤. رسالةُ العلمانيين في الكنيسة مبنيَّةٌ على سرَّيْ العماد والتثبيت، اللديْن يجعلان من كل مؤمن بالمسيح عضوا كاملَ العضوية في الجماعة المؤمنة ومشاركًا في حياتها ورسالتها، بالتعاون والتواصل مع جميع الفئات في شعب الله الواحد. المجمع الفاتيكاني الثاني هو الذي لَفَتَ انتباهَ الكنيسة والمؤمنين إلى رسالة العلمانيين ومكانتها في الكنيسة، وهي اليوم من العلامات الكبرى في حياة الكنيسة ومؤشّرٌ لعمل الروح القدس فيها.
في صميمٍ سرِّ الكنيسة تظهرُ هوّيّةُ المؤمنين العلمانيّين وكرامتُهم الأصيلة، وانطلاقًا من هذه الهوية يمكنُنا تحديدُ دعوتِهم ورسالتِهم في حياة الكنيسة والعالم. “فكرامة الأعضاء واحدة بفضل ميلادهم الجديد في المسيح، وواحدٌ التبنِّي الإهي، وواحدةٌ الدعوة إلى الكمال: خلاصٌ واحد، ورجاءٌ واحد ومحبةٌ واحدة لا تنقسم. وبفضل هذه الكرامة المشتركة بوساطة سر المعمودية، يصبح المؤمن العلماني مسؤولاً مشاركًا في رسالة الكنيسة مع جميع الخدّام المرسومين، ومع الرهبان والراهبات. إلا أنّ هذه الكرامة الواحدة الناجمة عن المعمودية لها في العلماني المؤمن صورةٌ خاصة تميِّزُه عن الكاهن والراهب والراهبة، من غير أن تَفصِلَه ٣٣
تنظر الوثيقة ” رجاء جديد للبنان” في هذا الموضوع وتطلب “أن يشترك المؤمنون اشتراكا فاعلاً ومسؤولاً في حياة الكنيسة، في مختلف البنى والمجالس الرعوية، وفقا لمؤهلاتهم. وعليهم أن يلجوا حياة الكنيسة في مختلف الصُعُد. ولكنهم ينتظرون منها غالبًا أن تستعين بهم وتعبر لهم عن ثقتها ٣٤.
“على الكهنة أن يعترفوا صادقين بكرامة العلمانيين وبدورهم الخاص بهم في رسالة الكنيسة. فيجب ان يستمعوا اليهم، ويحترموا رغباتهم، ويعترفوا بما لهم من خبرة ومقدرةٍ في مختلف ميادين النشاط البشري. ويجب أيضًا ان يولُوا العلمانّين الثقة الكافية فيحمّلوهم المسؤولياتِ اللازمة في خدمة الكنيسة. وقصارى القول، ان الكهنة قد وُضِعوا وسْط العلمانيين ليقودوهم الى الوحدة في المحبة ٣٥. “وإذ يدرك
٣٢. المخطط الرعوي، ٤٤.
٣٣. علمانيون، ١٥.
٣٤. رجاء جديد، ٤٥.
٣٥. خدمة الكهنة، ٩.
الكاهن عمق الشركة التي تربطه بالمؤمنين العلمانيين والرهبان، فهو يبذل كل جهد ليَبعثَ ويُنَمِّيَ روحَ المسؤولية المشتركة في خدمة رسالة الخلاص الواحدة، مشجِّعًا ومباركًا كلَّ المواهب والوظائف التي يوزَّعُها الروحُ على المؤمنين لبناء الكنيسة٣٦.
المجلس الراعوي
٣٥. “إن الكنيسةَ سرُّ شركةٍ لاهوتية وثالوثية مع الله الآب والابن والروح القدس، تَفيضُ فتحقِّقُ شركةَ المؤمنين في ما بينَهم وتجمعُهم في شعبٍ واحد”٣٧. وإن الكاهن الذي يكلَّفُ بخدمةِ الرعية مُطالَبٌ بالعمل مع رعيته حتى يقيمَ فيها حياةَ وحدةٍ على مثالِ وحدةِ الآب والابن والروح القدس. ولهذا يلجأ الكاهن إلى الاستشارة والنقاش والتقييم والعمل بروح الفريق. مجلس الرعية هو من الهيئات الاستشارية التي أوصى بها المجمع الفاتيكاني الثاني. وقد وُجِدَ قبل ذلك في كنائسنا الشرقية، في بعض رعايانا، تحت صور مختلفة. وعمِلَتْ الكثيرُ من رعايانا حديثًا على إنشائه، بينما لم تتمكَّنْ غيرُها حتى اليوم من إيجاد هذه الهيئة في الرعية، لصعوباتٍ في البيئة الرعوية نفسِها أو في مفهوم الرعية ودَورِ العلماني فيها. ومن ثمَّ من واجب الكاهن أن يؤهَّلَ العلمانيّين للعمل الرعويّ المشترَك ولتفَهُّمِ دورِهم في الكنيسة والرعية، ومن واجبِه أن يؤهَّلَ نفسَه أيضًا للعملِ ككنيسة مع جميع المؤمنين الموكولين إليه. المجلس الرعوي لكل رعية هو “الهيئةُ التي تجمعُ حول كاهن الرعية جميعَ فئاتِ الرعية. لا بدَّ من العمل على تثبيتِ هذه الهيئة وانتشارِها، بإظهار دورها وروحانيتها وطريقة عملها وأسُسِها وقوانينها بحيث تؤمِّنُ الشركةَ الكنسية في كل رعية، وذلك انطلاقا من خبرة الماضي والواقعِ الاجتماعي والكنسي الذي نعیشُه في رعایانا ٣٨.
الاهتمام بالفقراء والمرضى والمتروكين
٣٦. تتجلى محبة الفقير في الإنجيل في حياة يسوع المسيح. ونجد في سفر أعمال الرسل (أعمال ٢: ٤٢- ٤٧؛ ٤: ٣٢- ١٢:٥٤٣٥- ١٥) أن الجماعة المسيحية الأولى عاشت حياة المشاركة الفعلية في الخيرات المادية، حتى إنه “لم يكن بينهم محتاج” (أعمال ٤: ٣٤). وفي تاريخ الكنيسة اختار النساك والأديار الكثيرة حياة الفقر والتجرد لإظهار سمو الحياة الروحية ولدعوة المؤمنين إلى التجرد ومن ثم إلى المشاركة في خيرات هذه الأرض. وجاء ما قاله المجمع الفاتيكاني الثاني في محبة الفقير مستمَدًّا من روح الكنيسة الجامعة في كل زمان ومكان، ومذكِّرا المؤمنين وأبناءَ العصر بضرورة الإصغاء إلى جميع الفقراء في المجتمعات البشرية، وضرورة حياة المشاركة معهم، بحسب مقتضيات المحبة والعدالة.
٣٦. دليل، ٣٠.
٣٧. المخطط الرعوي، ٦٧.
٣٨. المخطط الرعوي، ٧١.
على الراعي أن يبذِلَ محبتَه الراعوية في سبيل جميع أبناء رعيته، الفقراءِ والأغنياءِ معًا. “لا شكَّ في أن الكهنة هم للجميع، ولكن عليهم أن يعتبروا أن الفقراء والصغار هم في عُهدتِهم بصورة خاصة “٣٩. “الكاهن هو صديق الفقراء، وعليه من ثمَّ أن يُفرِدَ لهم أرقّ ما لديه من دلائلِ عنايتِه ومحبته الراعوية، مُؤْثِّرًا بخدمته – ولكن من غير استثناء أحد – كل أشكال الفقر، القديمةِ والحديثة، المنتشرةِ اليوم مع الأسف في العالم. ولن ينسى أبدا أن أوّل بؤس يجب أن يُحرَّرَ منه الانسان هو الخطيئة، أصلُ كلِّ شر”٤٠.
ولا تكتفي الكنيسة بالشفقة على الفقير والمتألم. بل تسعى الى أن تجعلَه يَعي مكانته ودوره الفاعل في الكئيسة بالرغم من فقره أو مرضه أو معاناته. فالمتألّم “لُتمُّ فِي جَسَدِهِ مَا يَنقُصُ مِن آلامِ المَسِيحِ لأجلِ جَسَدِهِ الَّذِي هُوَ الكَنِيسَةُ” (قولوسي ١: ٢٤). “على المسيحي، في عمله وسط المجتمع، أن يستوحيَ كلامَ الله الذي يدعوه أولاً إلى تبنّي اهتمامِ الرب بالأيتام والفقراء، الذين لَيِسُوا وَجْهَ الَمَسِيحِ وهم أحبّاءُ الله ٤١.
التنبُّهُ للفقير وتقديمُ العونِ اللازمِ له، الروحيّ والماديّ، مهمة من المهام الرئيسة لكاهن الرعية. ولكنها أيضًا رسالة الرعية كلها. فالجماعة المؤمنة بكاملها مسؤولةٌ عن تفعيل وصيةِ المحبة، تجاهَ كلِّ أخ في الإنسانية وبصورة خاصة في الرعية. والمحبَّة تتجاوزُ مفهوم الصدقة لتكون تعاونًا أخويًا وثمُوما مشتركًا في خيرات الروح وفي خيرات الدنيا. وبذلك تكون الرعية عائلة واحدة هي عائلة الله، يسند كل واحد فيها أخاه بمحبته واهتمامه لکل همومه.
العمل المسكوني
٣٧. يجب أن يعتبر كاهن الرعية نفسَه خادمًا لكل إنسان، ومن ثم تستهدفُ محبتُه واهتمامُه كلَّ إنسان، في المدينة أو القرية حيث وُكِلَت إليه الرعاية، كلَّ إنسان أيًّا كان دينه أو طائفته أو انتماءاته الاجتماعية أو السياسية. لأنّ الرسول وإن حُدِّدَتْ رسالتُه في رعية واحدة، إلا أنَّ محبةَ الله تُرسِلُه إلى كل من يلتقيه في خلال يومه وعمله. فلا تعزله الرعيةُ عن بيئته، فهو رسول إليها، ليكونَ فيها أداة نعمةِ الله للجمیع.
منذ عقود بدأ عهدُ انفتاح وحوار مسكوني في الكنيسة كلها، وكذلك في كنائسنا أيضًا، وبدأت الصلوات ترتفع من قلوب الكثيرين تسألُ الله أن يمنَّ علينا بنعمة الوحدة بين المؤمنين باسمه القدوس. وقد فتح المجمع الفاتيكاني الثاني باب الحوار مع الجميع على مصراعيه، مع الإخوة في جميع الكنائس كما ومع أبناء الديانات المختلفة. كذلك اندفعت الكنائسُ كلَّها تشعر بحاجتها إلى أن تُكلِّمَ بعضُها بعضًا. وبدأ الحوار على الصعيدين العالمي والمحلي.
٣٩. خدمة الكهنة، ٦.
٤٠. دليل، ٠٦٧
٤١. رجاء جديد، ١٠١.