الصّليب بين فلسفة الحبّ واندثار الموت
“الصّليب هو إرادة الآب، زينة الملائكة، ضمان الكنيسة، فخر الرّسول بولس، حامي القدّيسين، نور كلّ المسكونة. لأنّه مثلما يطرد إنسان الظّلام من بيته، عندما يضيئ مصباحًا ويرفعه عاليًا، هكذا أضاء المسيح الصّليب كمصباح ورفعه عاليًا، لينقشع كلّ الظّلام الّذي كان يغطي الأرض.” (القدّيس يوحنا فم الذّهب)
الصّليب نعمة سماويّة انسكبت على المسكونة لتنقلها من الظّلمة إلى النّور. بل الصّليب هو محور العالم ومن دونه لا يستدلّ الإنسان على الطّريق إلى الله. ويبقى المضيّ نحوه ملتبساً، أو مجهولاً، وتبقى العلاقة الإلهيّة الإنسانيّة مجرّد علاقة فرائضيّة بين سيدّ وعبد. وأمّا أبناء الله الّذين اختاروا أن ينغمسوا في المحبّة الإلهيّة فلا بدّ أن يستنيروا بالصّليب الّذي هو قوّة الله الّتي تجلّت حبّاً ورحمة وغفراناً على الصّليب، برهان الحبّ للعالم.
على الصّليب بلغت رحمة الله ذروتها، فأعطى المسيح ذاته كاملة للخليقة كلّها وصالحها مع الآب. فإرادة الآب هي التلاقي مع جميع البشر بالمسيح الّذي بذل نفسه حبّاً من أجل الجميع. وليس أعظم من الحبّ الإلهيّ الّذي فاض كغمر جارف ليقول للإنسان إنّ الله لا يحبّ بل هو الحبّ الواهب ذاته حتّى النّهاية. تلك هي حكمة الله الّتي يجهلها الإنسان، وذاك هو الحبّ الّذي يُخضِّع الفلسفة ولا يخضع لها. فكيف يمكن للفلسفة أن تشرح الحبّ إذا ما كانت مقاييسها تستند إلى معادلات عقليّة محدودة ينأى بها الحبّ ويترفّع عنها.
الحبّ هو الحبّ، تلك حكمة الصّليب، والحبّ عطاء بلا حساب، ورحمة تترأف بضعف الإنسان وفقره. الجميع أعوزهم الحبّ، فما كان من الرّبّ إلّا أن يمنح ذاته لهم. ومن منّا بمعزل عن هذه الحاجة الملحّة، والقوّة المحرّكة لإنسانيّتنا. ولكّنّنا أمام الصّليب نفهم أيّ حبّ نحتاج. إنّه ذاك الّذي يتسرّب إلى عمق كياننا ليخلقنا من جديد، ويعيدنا إلى حالتنا الأولى وصورتنا الأولى قبل أن يستأثر بنا التمرّد على المحبّة الإلهيّة، وقبل أن تخذلنا إرادتنا غير المدركة لظلاميّة العيش بعيداً عن الحبّ الإلهيّ.
الحبّ، حكمة الصّليب وإرادة الله، ضمان بقاء الكنيسة، وحضورها النّورانيّ في العالم. به تلتزم بقضيّة الإنسان، وتبذل الذّات من أجل المعذّبين والمستضعفين والمظلومين والمتروكين. وهي، أي الكنيسة، تتنكّر لمسيحيّتها إن لم تكن رسالتها الوحيدة الالتزام بخلاص الإنسان. وبالصّليب تعاين جمال الله وتزرعه في قلب الإنسان حتّى يزهر حبّاً يمتزج بأنفاس المسيح. فإذا فقدت الكنيسة هذا الحبّ انتفى دورها واستحال مجرّد حضور سلطويّ مشابه لأيّ حضور ماديّ آخر. لذلك لم يفتخر القدّيس بولس عبثاً بالصّليب: “حاشا لي أن أفتخر إلّا بصليب ربنا يسوع المسيح، الّذي به قد صلب العالم لي وأنا للعالم.” (غلاطية 14:6). لقد فهم بولس سرّ الصّليب وأهمّيّة العلاقة به كأداة ينتصر بها على العالم. ليس لنا أن نفتخر بشيء، لا عمل، ولا فعل، ولا عبقريّة، ولا إبداع، ولا عطاء… نفتخر فقط بالحبّ الممنوح لنا من الله لأنّ به كان لنا كلّ شيء.
الصّليب سراج حياتنا، به تهتدي خطانا إلى سبل الرّبّ وتثبت في المضيّ نحوه.
بالصّليب ندرك أهمّيتنا في عينيّ الرّبّ، وقيمة إنسانيّتنا المجبولة بالحبّ.
بالصّليب نتحرّر من غواية الأيديولوجيّات الّتي مهما بلغت من معرفة، ومهما حاولت انتشال الإنسان من جهله وبؤسه الفكريّ والنّفسيّ، لن تبلغ إلّا تمتمات تندثر مع مرور الزّمن.
بالصّليب يتّزن العقل ويستنير، وتسكن النّفس ويتحقّق سلامها.
بالصّليب ينفتح الإنسان على قلب الله، ويتلمّس حقيقة الحبّ، وينغمس في حقيقته. فلا يعود يرهب أحداً أو يخاف شيئاً لأنّه اختار أن يكون كما ربّه ملكاً على الصّليب عرش الحبّ.
بالصّليب نغلب الشّرّ، ونهزم الموت، وتكتمل الحياة باللّقاء بفرح الرّبّ.
من صفحة الرعية الأنطاكية الأرثوذكسية Antiochian Orthodox Parish