حياة
الإخوة الثلاثة القديسين الشهداء
فرنسيس وعبد المعطي ورفائيل مسابكي
بمناسبة إعلان قداسة البابا فرنسيس تقديس شهداء دمشق،
في 20/10/2024، ومن بينهم الإخوةُ المسابكيّون الثلاثة،
أحببنا أن نُعيد نشر مقتطفات من الرسالة الراعوية:
“ذكرى الأعياد الاحتفالية”
التي أصدرها المطران بشارة الشمالي مطران دمشق، عن كرسيه في عشقوت في عيد البشارة 25/3/1927، بمناسبة تطويب شهداء دمشق، ومن بينهم الإخوة الثلاثة: فرنسيس وعبد المعطي ورفائيل مسابكي، الذين استشهدوا في ليلة 9- 10/7/1860، وأعلن تطويبهم في 10/10/1926. واخترنا بالأخص موجز حياة الشهداء المأخوذ: عن المطوّلة التي ألّفها ونشرت مطبوعة في المطبعة الكاثوليكية في بيروت، وعن ترجمة الشهداء التي وضعها المونسنيور سالتي باللغة الإيطالية، لما في هذا الموجز من دقّة حول حياة الشهداء واستشهادهم، لنتعرّف عليهم أكثر ونقتدي بهم في عائلتنا وعائلاتنا:
بشارة الشمالي
بنعمة الله مطران دمشق
إلى الأبناء الأعزاء، إكليروس أبرشيتنا، وأعيانها، وشعبها المباركين! … إننا مبادرون إلى توجيه هذه الرسالة إليكم مضمّنيها، أولاً: ما شاهدناه في قاعدة الكثلكة. ثانيًا: الأسباب التي لأجلها شاءت العناية الإلهيّة تمجيد الإخوة الثلاثة الشهداء في هذه الأيام وقد ألحقنا ذلك بموجز حياة الشهداء:
حياة
الإخوة الثلاثة الشهداء فرنسيس وعبد المعطي ورفائيل المسابكي الذين قُتلوا في دمشق لأجل الإيمان، في اليوم العاشر من شهر تموز سنة ١٨٦٠[1].
القسم الأول:
حياتهم المسيحية
إن الإخوة الثلاثة فرنسيس وعبد المعطي ورفائيل المسابكي كانوا عائلة مقدسة، ولم يصيروا قديسين عند ساعة الاستشهاد الخطيرة فقط، بل كانوا متصفين بالقداسة طيلة حياتهم كلها[2].
ولا غرو فقد نشأوا في عائلة مقدسة، وربوا تربية القديسين على يد والدين بارَّين هما نعمة المسابكي وزوجته الفاضلة “والشجرة تعرف بثمارها”. فتعلَّموا في المدرسة البيتية، وهي أفضل المدارس، خوف الله، وحفظ الآداب، وممارسة الفضائل، وإيثار غنى الآخرة على ثروة الدنيا ولذّاتها، فاستحقوا أن يسفكوا دماءهم على مذبح حبِّهم للدين المسيحي، وينالوا نعمة الاستشهاد الفريدة.
الشهيد فرنسيس: كان هذا الشهيد طويل القامة، بدينًا، ممتلئ الصفحتين، لطيف المعاشرة والمجالسة، طيب الاخلاق، ثابت الجأش، لا يهوله أمر مهما عظم، ولا خطب مهما تفاقم، لأن اتكاله على الله كان عظيمًا، والى الله كان يرجع في كل أموره المكدرة والمفرحة فيجد الراحة والعزاء.
اكتسب ثروة واسعة، بجده ونشاطه واستقامته وحسن إدارته. فزاول تجارة الحرير في أيام رواج المنسوجات الوطنية في دمشق، وفي داخلية البلاد السورية… وقد اعتمدته البطريركية المارونية في بيع حرير مواسمها لِما عَرفتْ فيه من الصِّدق والاستقامة، كما اعتمدته جميع الأسر اللبنانية ذات الشأن… وقد عُرف بالجود والسخاء وسهولة البذل، فضلاً عن إغاثة الفقراء والمحتاجين، فإن دارَه الواسعة الأرجاء كانت مَضافة للغرباء… الذين يؤمّون بيته لندورة الفنادق والنزل في ذلك الحين.
تقيد فرنسيس بسنَّة الزواج المقدس، في مقتبل عمره، عملاً بتقاليد الآباء والأجداد، واختار له رفيقة لحياته، ابنة فاضلة من عائلة والدته تدعى اليصابات شيحا، من الطائفة اللاتينية. فبارك الله قرانها، ورزقها ثمانية أولاد، ثلاثة ذكور وخمس إناث، فنشأوا في بيتها نشأة النحل في الشجرة المزهرة، وكانوا ثروة عائلية أثمن لديها من كل ثراء. ولم تشغل فرنسيس مهام الأعمال عن السهر والتيقظ لإكسابهم تربية صالحة، ولم يضنّ على تعليمهم وتثقيفهم في المدارس بمالٍ وعناء، شأن الآباء الحكماء الذين يعتنون ببنيهم لأجل الله، قبل ما هو لأجلهم.
وإن ما ناله فرنسيس من الثروة الوافرة، والجاه العريض، والتوفيق الداخلي في عائلته، لم يبطره ولا أنساه خالقه… لأنه لم يكن معتمدًا على مقتنيات الدنيا بل على رضى باريه. فمادياته وماله كانت أعراضًا يضحِّي بها في سبيل دينه وواجباته.
تزايدت ثروته المالية على مرور الأيام وتعاظمت، لكنما ثروته الأدبية كانت أعظم ازديادًا ونموًا، نظرًا إلى ثقة الناس به، وما هذه الثقة إلا ثمرة حياته المسيحية واستقامته في تعاطيه مع الناس، ولم تُلهِهِ تجارته ولا شغلته ثروته، عن مناصرة بني جنسه. فقد كان عميدًا وركنًا يرجع إليه في الملمات والمواقف الحرجة. وكان برأيه السديد وحكمته الواسعة، لا يعدم مخرجًا ونصيحة ورأيًا صائبًا ولا يبخل بماله وجاهه على من يقصده لاجئًا إليه. وكثيرًا ما كان الكهنة… يستمدون مساعدته في المشاكل والمصاعب، كما حدث في أيام الخوري يوسف جعجع لما تداعت الكنيسة، فكان من أكبر المناصرين له في ترميمها وتجديد بنائها. وفي سنة ١٨٥٠، لما وهن وتداعى حائط الكنيسة، كان هو الساعي لشراء البيت المجاور، وترميم الجدار المذكور.
ولم ينحصر نفوذه ووجاهته بين قومه وطائفته، بل كان ذا مكانة ووقار في جميع الطوائف، وله منزلة خاصة عند الحكام والمتقدمين، ولدى كبار المسلمين… وزاده امتزاجًا مع سائر الطوائف وتقربًا إليهم أنه زوج ثلاثًا من بناته الخمس في ثلاثة من أكبر بيوتات دمشق وهي بيت الحمصي وبيت القيرواني وبيت البوبولاني المنتمين الى الطوائف الكاثوليكية الثلاث من الروم والسريان واللاتين وأزوج الرابعة في عائلة بيت الحداد من دلبتا والخامسة في بيت يوسف القسيس من عائلة المسابكيين وكأن الله بعنايته الخاصة أراد أن يكون بينه وبين جميع الطوائف[3]… علاقة قربى ونسب لزيادة الإلفة والمحبة ولكي تشترك جميعها اليوم في تمجيد الله وتكريم أوليائه…
ومما يذكر عنه بالإعجاب أن إدراكه هذه المنزلة السامية جاهًا وثروة وكرامة ونعمة لم يخفف شيئًا من ورعه وتدينه بل استمر عبدًا مطيعًا للعاطفة الدينية التي ملكته، يعمل بما يوحي إليه به دينه وضميره. فهو في كبره كما تعود في صغره يبكر كل يوم إلى مناجاة ربه بالصلاة العقلية واللفظية مقدمًا نهاره وأعماله لله، ثم يذهب إلى الكنيسة فيحضر الذبيحة الإلهية، وفي كل مساء يجتمع مع ذويه العديدين، وعائلة أخيه عبد المعطي التي كانت في عياله، فيشكرون الله على نعمه، ويتلون جهارًا صلاة المسبحة وفصلاً من كتاب روحي، ويمارسون رياضات شهر أيار، وشهر آذار المخصص بالقديس يوسف، بورعٍ ورغبةٍ. وهذه الممارسات كانت تجعل نصب عينيه ما يجب عليه لخالقه ولبني جنسه، وتؤهبه للتضحية بماله وكل شيء له وبحياته أيضًا، في سبيل اكتساب رضى ربه.
وكان حافظًا وصايا الكنيسة وكل ما يجب على المسيحي من صيام وانقطاع عن الزفر، يزاول الشعائر الدينية بكل دقة وصرامة، ويسهر على حفظها في عائلته بكل حرص. وحدث أنه رأى إحدى بناته مرة تناولت شيئًا من الطعام قبل الظهر في أيام الصوم، فأنَّبها بشدة على هذه المخالفة. وكثيرًا ما كان يقفل محله التجاري قبل موعد الإقفال، غير حافل بما يلحقه من الخسارة، ليحضر الصلوات الطقسية في البيعة، كرتبة درب الصليب وصلاة المساء[4].
أما تعبُّده للعذراء مريم فحدّث عنه ولا حرج. لم يكن يغفل يومًا تحيتها بالسلام الملائكي، وعن تلاوة المسبحة الوردية، ولا أهمل الاشتراك في ثوب سيدة الكرمل… وأعظم دليل على محبته للعذراء مريم أنه نال إكليل الشهادة وهو ساجد على درجة مذبح الأمِّ الحزينة كما سيأتي.
الشهيد عبد المعطي: كان نحيل الجسم، لونه مائل الى الإصفرار، تدلُّ ملامحه على النسك والعبادة، ومن مميّزاته حبُّ العزلة والابتعاد عن الناس ومعاشرتهم. صرف حياته في مهنة تدريس الأولاد في مدرسة دير الرهبان الفرنسيسيين، منقطعًا عن الدنيا، منصرفًا إلى مهنته والعناية بتهذيب أخلاق الذين تحت إمرته. يصرف في الدير نهاره كله ولا يغادره إلا مساءً للاجتماع بعائلته. وفي تعليمه كان كثير الاهتمام والعناية بمبادىء الدين المسيحي وتحريض الأحداث على عبادة الله وتجنب الخطيئة، والتضحية بكل شيء دون المحافظة على الدين حتى بالحياة. وروى عنه أحد تلامذته… أنه كثيرًا ما كان يردد عليهم أثناء شرح التعليم المسيحي، أن على كل مسيحي أن يكون دائمًا مستعدًا لسفك دمه حبًا للمسيح، وأن أعظم سعادة للإنسان، وأفضل حظ له، وأجلّ نعمة يبتغيها، هي نعمة الاستشهاد. ويؤيد هذا ما رواه عنه الأب الياس شيحا خادم طائفة اللاتين في مدينة يافا، وهو أيضًا من تلاميذه، قال أن قبل استشهاده بساعات معدودة، جمع تلامذته في دير الفرنسيسكان حيث كانوا لجأوا مع اللاجئين، وحرضهم على الاستمساك بدينهم وحذرهم من التراخي قائلاً:
“يا أبنائي تذكروا ما قلته لكم مرارًا عديدة في المدرسة عن أن نعمة الاستشهاد هي نعمة خاصة لا تعطى للجميع، فيجب أن نطلبها من الله بتوسل، وهذا هو الوقت المناسب لطلبها بالإلحاح. قولوا معي: “ربي أعطني نعمة أن أموت من أجلك!”، تذكَّروا الأمثال العديدة التي أوردتها لكم عن الشهداء الذين في السماء، تذكروا أن عذاب الشهادة لا يدوم إلا قليلاً من الوقت، أما السعادة فتدوم إلى الأبد. هناك في الفردوس السماوي سوف تشاهدون وتعانقون أهلكم، أمهاتكم، وآباءكم مع إخوتكم وأخواتكم. تشجعوا ولا تخافوا! وإذا سألوكم أن تغيروا دينكم فأجيبوهم: كلّا ثم كلّا! إننا نريد أن نموت من أجل المسيح. يا أبنائي انتبهوا و كونوا كلّكم ثابتين في المجاهدة في ديانتكم المسيحية. الوداع للحياة! أما أنا وأنتم فسوف نكون في السَّماء”[5].
ورُوي عنه أنه في كل صباح كان يذهب باكرًا إلى كنيسة الفرنسيسكان مع ابنته حنه، حتى في أيام الشتاء الباردة، لا يقعده عن هذا الواجب شدة البرد ولا الأمطار والثلوج، ويحضر جميع ما يقام فيها من القداسات جاثيًا على ركبتيه، حتى أن ركبتيه أصبحتا كركب الجمال، كما روى عنه أحد الشهود القريبين منه، وفي كل ثمانية أيام كان يتقدم الى تناول الأسرار الإلهية فضلاً عن أيام الأعياد، وكان يوم خميس الأسرار مساءً يذهب الى الكنيسة، ويقضي الليل مصليًا فيها إلى صباح نهار الجمعة الحزينة، ويستمر في الدير إلى ليل أحد القيامة، عند منتصف الليل، فيمضي عندئذ إلى كنيسة الموارنة لحضور القداس وإتمام وصية المناولة الفصحية، ومن بعد ذلك يحضر إلى البيت. هكذا كانت معيشته مدة حياته كلها.
ولما تعب من التدريس في آخر عمره، انقطع عن مهمات الدنيا إلى العبادة فقط، مستعدًا للتضحية العظيمة التي سبق الله وأعدها له تمجيدًا لاسمه بين الأمم.
وكان عبد المعطي عائشًا في عيالة أخيه فرنسيس مع عائلته التي قوامها امرأته وخمسة أولاد، ذكران وثلاث بنات، على مثال عائلات الآباء الأقدمين، حتى بلغ عدد أعضاء العائلتين معًا نحو عشرين شخصًا، وكلّهم متمسّكون بالتقوى والألفة والمحبة، يتبارون في خدمة الله والأعمال التقوية. فكانت كثرة عددهم دليلاً على وفرة بركات الله عليهم، كما جاء دليلاً عليها أيضًا طول أعمارهم، فقد تجاوزوا، فرنسيس السبعين من سنيه، وعبد المعطي ناهز السبعين، وبلغ رفائيل السنة الخمسين، مستعيضًا عما نقص من عمره الدنيوي بحياته الأبدية.
الشهيد رفائيل: كان قصير القامة، ضعيف الجسم نحيله، أسمر اللون يضرب الى الإصفرار، أسود العينين، وكان بسيطًا في اللّباس والحركات والمعارف، فطابق قول المسيح له المجد: “إن لم ترجعوا فتصيروا كالأطفال لا تدخلون ملكوت السماوات. وكان على بساطة قلبه مثابرًا على الصلاة والعبادة، ينكر كلّ ما يشتمّ منه إهانة الله، يحب مريم العذراء محبة بنوية مخلصة جعلته كالولد الصغير يرجع إلى أمه في كل رغباته وحاجاته، وكان محجوبًا بجاه أخيه فرنسيس وثروته وبمهابة أخيه عبد المعطي وزهده، حتى كأنه لا يشعر بوجوده، لكنه كان كالزهرة المحجوبة عن العين الفائحة الأريج رغم احتجابها[6].
صرف حياته بتولاً وللبتولية ميزة خاصة عند الله.
كان فقيرًا لا يملك شيئًا من قنى هذه الدنيا، لكنه كان غنيًا بالله، وأكبر دليل على هذا الغنى الروحي استحقاقه نعمة الاستشهاد التي لا تمنح إلا للأخصاء المقربين.
وما عدا هؤلاء الإخوة الثلاثة الشهداء، أنشأ بيت نعمة المسابكي أفرادًا أخر طاهرة جميلة تشهد بالبهاء الروحي والأدبي المنتشر في هذه العائلة المقدسة، منهم الكاهن عبد الله شقيق الشهداء الثلاثة[7].
وظهرت علامات ذلك التهذيب المسيحي في أبناء الشهيدين فرنسيس وعبد المعطي اللذين أكسباهم إياه بتعليمهما ومثلهما، وإثباتًا لذلك نكتفي بالإلماع إلى حياة ميخائيل ابن الشهيد فرنسيس الذي غادر دمشق، بعد الحادثة المشؤومة إلى بيروت، وتقيد بخدمة الآباء اليسوعيين يترجم الكتب وينقح المطبوعات، عائشًا بين الرهبان كواحد منهم الى أن توفاه الله سنة ١٨٦٥ بالوباء الأصفر. وممّا كتب في هذه المدة القصيرة مختصر التاريخ المقدس[8]، وكتاب قصص وأمثال، وكتاب مئة حكاية.
ولا يسعنا السكوت عن ذكر الراهبة الأخت إفرازيا، ابنة الشهيد عبد المعطي، التي بعد أن فجعت بمشاهدة والدها قتيلاً، نزحت إلى بيروت مع عائلتها، غير أن ذكر والدها لم يبرحها قط، وإذ كانت ابنة شهيد فقد اقتفت آثاره بكل أمانة، متجنبة كلَّ التجنب اهانة الله، وجمعت في نفسها كمال العقل وحرارة التقوى، وقدمت حياتها لله، فانضوت سنة ١٨٦٥ الى لواء جمعية القديس منصور دي بول في بيروت. وفي أثناء حياتها كانت البنات والأحداث الفقراء موضوع اهتمامها ومحبتها، فنتج عن إرشادها ومثالها الصالحين أنها هذبت بنات كثيرات أصبحن مسيحيات حقيقيات متعلقات بأهداب الدين، جديرات بأن يتحملن بشجاعة أمضَّ مشقات هذه الحياة، وقد ألقيت اليها إدارة جمعية بنات مريم، فقامت بهذه المهمة مدة أربع وأربعين سنة، وعندما كانت تكلم بنات مريم عن ملكة السماء الجميلة، كان يلوح على محياها من الحرارة والحماس ما يجعل السامعين يظنون أنها تشاهد العذراء القديسة. فبلغتها الوفاة في ٣٠ آب سنة ۱۹۱۲. وإن صورة هذه البتول التقيّة بنت الشهداء التي صرفت أيام الصبا الطاهرة إلى جانب والدها عبد المعطي وعمَّيها فرنسيس ورفائيل، لمن شأنها أن تزيد بهاءً في صورة شهدائنا الثلاثة. فسعدًا لهذه العائلة التي نالت بفضل التهذيب المسيحي سعادة في الأرض، وفاز أعضاؤها بسعادة السماء حيث يمجدون الله، وما أجدرها بأن تكون مثالاً متبوعًا للعيال المسيحية.
القسم الثاني:
الاستشهاد
في مساء اليوم التاسع من شهر تموز سنة ١٨٦٠ عندما اشتد الحريق وامتدَّ في حارة النصارى لجأ فرنسيس وعبد المعطي ورفائيل إلى دير الرهبان الفرنسيسكان ومعهم ميخائيل ابن فرنسيس، ونعمه ويوسف ولدا عبد المعطي، وتركوا النساء والأولاد الصغار في المنزل الذي في ساحة الدير إلى جانب دير الرهبان اعتقادًا منهم أن المعتدين لا يمسون النساء والأولاد بأذى وكان عدد اللاجئين مثلهم إلى الدير كثيرًا حتى غصت بهم ساحاته وأروقته، غير أنهم لما جنَّ الليل وتفاقم الخطر تفرقوا[9]…
عند الساعة الحادية عشرة قبل نصف الليل، قفل رئيس الدير الأبواب بكل حرص وقال للحاضرين وفي مقدمتهم فرنسيس المسابكي وأخواه عبد المعطي ورفائيل: “لندخل جميعًا إلى الكنيسة”. فدخلوا كلهم وتلوا طلبة جميع القديسين ثم حرضهم على أن يعترفوا بخطاياهم ويستعدوا لكل طارىء ففعلوا. وبعدئذ طلبوا شفاعة مريم العذراء وزيحوا القربان المقدس وتناولوا جسد الرب زاد المسافرين وسلاح المجاهدين، وكان الليل قد انتصف، فصعدوا إلى سطح الدير ليروا ما حولهم، ولم يبق في الكنيسة غير فرنسيس المسابكي جاثيًا تحت تمثال الأم الحزينة، ثابت الجأش لا يردعه شيء مما حوله[10].
وعند الساعة الأولى بعد نصف الليل دخل الأعداء الدير من على السطوح، ومن باب سري خاص دلّهم عليه أحد الخونة العارفين مداخل الدير ومخارجه، فهرب بعض اللاجئين من على السطوح، واختبأ البعض الآخر، وهرع أناس الى الكنيسة ليحتموا بها، ومن هؤلاء الأب الرئيس الذي بادر الى المذبح فتناول القرابين المقدسة صونًا لها من الامتهان، ومنهم أيضًا عبد المعطي ورفائيل المسابكي. وكان فرنسيس لا يزال جاثيًا على مذبح العذراء يصلي.
دخل المعتدون الدير، وفي أيديهم مشاعل وعصي وبلطات وخناجر، وهم يصرخون أین فرنسيس مسابكي إننا نطلب فرنسيس مسابكي. فتقدم فرنسيس إليهم بكل شجاعة قائلاً: “أنا فرنسيس مسابكي ماذا تطلبون مني؟” فأجابوه: “إننا مرسلون من قبل صديقك الشيخ عبد الله لكي ننقذك أنت، ومن معك، ومن يلوذ بك، جميعًا، لكن على شرط أن تغيروا دينكم”. فأجاب فرنسيس: “نحن مسيحيون وفي دين المسيح نموت”. قالوا: “إذا بقيتم مسيحيين فإنكم ستهلكون جميعًا”. فلم يضطرب قلب فرنسيس ولم تهلع نفسه بل كان جوابه لهم جديرًا بالشهداء في قرون الكنيسة الأولى إذ أجاب: “قولوا للشيخ عبد الله[11]، أنه يقدر أن يأخذ مالي إذا أراد لكن نفسي لا أعطيها أحدًا. نحن لا نخاف الذين يقتلون الجسد بل نخاف من يقتل النفس، لأن السيد المسيح قال في انجيله: «لا تخافوا ممن يقتلون الجسد بل خافوا خاصة من يمكنه أن يهلك النفس والجسد في جهنم»”. والتفت الى أخويه والآخرين وقال لهم: “تشجعوا واثبتوا في الإيمان المقدس لأن من يثبت ينال الإكليل في الملكوت السماوي”. ثم التفت الى أخويه وقال لهما: “تشجعا، وكونا قويين، واثبتا في الإيمان، لأن الإكليل معدّ في السماء لمن يثبت”. فوقع كلامه أحسن موقع في قلب أخويه عبد المعطي ورفائيل، فلم يترددوا قط في اختيار المحافظة على الإيمان والتضحية بالحياة، فأجابا فورًا بأنهما لا يجحدان مُطلقًا إيمانهما، ولا يتخليان عن الدين كنزهما الوحيد. وإن كلماتهما الأخيرة التي لفظاها أمام الأعداء لهي بمثابة وصية إيمان وشجاعة وإرادة صريحة ترسلها أرض بولس ويوحنا الدمشقي المجيدة إلى النفوس الضعيفة في هذه الأيام، وتلك الكلمات الجديرة بالذكر هي هذه: “ليس لنا سوى نفس واحدة فلسنا نُهلكها بجحد إيماننا. إننا مسيحيون ونريد أن نحيا ونموت مسيحيين”. فهجم المضطهدون عليهم بسلاحهم وبادروهم بالضربات القاتلة والشهداء قد كانوا بدأوا صلاتهم الأخيرة وكان انتهاؤها في السماء.
هكذا قدم الإخوة الثلاثة أنفسهم الزكية ضحية على مذبح الواجب الديني المقدس في كنيسة الرهبان الفرنسيسكان[12] في دمشق حيث كانوا كل يوم في حياتهم الطويلة يصلون ويبتهجون بحضور الأسرار الإلهية[13].
أصبح ذاك الليل التاريخي، وانبلج الصباح على مشهد مدينة دمشق، فإذا النار تلتهمها وقد امتد لهيبها إلى الكنائس والمدارس والبيوت الفسيحة الفناء، فحولتها الى ردوم ورماد، وسالت أشعة شمس تموز بحرها… وتسربت الكلاب بين تلك المنازل مشبعة نهمها مما تلقى من الأجساد، وهي بهذا أقل جورًا وفظاظة على بني الإنسان من بني الإنسان، فكان مشهد يذيب القلوب ويملأ النفوس حزنًا وكآبة، وبقيت الحال على هذا النمط نحوًا من عشرة أيام. فعاد الأمن إلى نصابه وانطفأت تلك النيران المستعرة مفسحة سبيلاً إلى جمع رفات الضحايا ومواراتها في الأرض. فأمرت الحكومة المحلية بإقامة بناءٍ واسع في التل القديم، جمعت إليه بقايا كل من وجدوا من صرعى الاضطهاد. والى الآن، يُعرف هذا المحل بمغارة الشهداء. أما الذين قتلوا في الدير من رهبان وموارنة فقد شاء الله بعناية منه خاصة أن تحفظ رفاتهم في الدير، فأرسل طبيبًا يدعى الدكتور يوسف بياجيني كان راهبًا لعازريًا مقيمًا بدمشق، انتدبته الحكومة المحلية وعينته طبيبًا صحيًا، عاهدة إليه بكل ما يلزم في مثل هذه الظروف. فحضر بنفسه إلى الدير وأمر بجمع رفات الذين قتلوا فيه تحت مناظرته، كما صرح في شهادته في محضر دعوى الرهبان. وبعد أن جمع هذه الرفات جعلها كلها من غير تمييز في بئر الدير، وكان عددها ثمانية، لم يتمكن من تمييز بعضها عن بعض لشدة ما لحق بها من التشويه والفساد بسبب النار والاحتراق والشمس، وضم إليها من وجده من الرهبان الشهداء الذين قتلوا خارج الدير، فجاء عدد الضحايا موافقًا لعدد الشهداء الرهبان والموارنة.
وفي سنة ١٨٦١ في الثاني والعشرين من تشرين الأول، جرى الكشف مجددًا على هذه الذخائر المقدسة بحضور الأب فولجنس رينيون مفوض الأراضي المقدسة في باريس وحضور قنصل فرنسا والدكتور بياجيني المذكور آنفًا، وحضور ثلة من الجند أرسلها الحاكم للمحافظة، كما روى الأب رينيون المقدم ذكره. وهذه خلاصة روايته:
“نهار الجمعة الواقع في الثاني والعشرين من تشرين الأول سنة ١٨٦١، جرى بحضوري رفع بقايا جسوم الرهبان المقتولين، وكانوا في محل تحت الارض يشابه البئر، في داخل الدير، وذلك يستلزم أن ينحدر أحد الناس إلى قرارة البئر لكي يجمعها في سلة، فتنشل بالحبال إلى سطح البئر، وكان الحاكم الجديد قد أرسل جندًا وكلّفهم المحافظة والنزول إلى البئر لإخراج الرفات، فتمرد الجندي المكلف بذلك وأبى النزول، فاضطررنا أن نجبره بالقوة القاهرة ففعل. وإذا أول ما وجدنا ذراع صليب محروقة، ثم بعض أجزاء من ثياب رهبان وعلمانيين، ثم عظام رهباننا. إلا أن عدد الجماجم لم يكن مطابقًا لعدد الأشخاص القتلى. ولذا أخذنا نبحث في كل محل وزاوية من الدير حتى عثرنا على بئر أخرى صغيرة، في داخل الكنيسة، إلى جانب المذبح الكبير وإلى جهة جرن المعمودية، فوجدنا هناك جمجمتين وقسمًا من اسكيم رهباني، وقد تحقق الدكتور بياجيني أن إحدى الجمجمتين هي جمجمة الأب كرمالو، وأما الأخرى فقد رجح رأي الجمهور على أنها جمجمة الأب عمانوئيل الذي قتل على المذبح كما هو معروف. ثم واصلنا الاستقصاء فوجدنا في فناء بيت غير بعيد عن الدير جثة الأب انجلبرتو المدفون هناك، ومع الجثة قسم من ثوبه. حينئذ أصبح العدد كاملاً. فجعلنا الذخائر في صندوقين كبيرين، في أحدهما عظام الراهبين اللذين توفقنا إلى معرفتهما[14] وتركيب أعضائهما تمامًا، وفي الآخر البقايا المختلطة من رفات سائر الرهبان، واثنين من أخصاء الرهبان هما الأخوان المسابكيان[15] اللذان قتلا أيضًا في دير الرهبان أثناء الثورة الهائلة. وإذ كانت مهمتنا قد انتهت ختمنا الصندوقين وحفرنا تحت بلاط الكنيسة قبرًا استودعناهما فيه ذارفين عليهم دموع الأسى – انتهى”.
لو شاء الرهبان الفرنسيسكان في تلك الأيام وشاء الموارنة أيضًا أن يتحوطوا بما يلزم من التدابير لحفظ رفات شهدائهم، لما كان في طوقهم أن يفعلوا أكثر مما جرى بشأنهم. فنشكر الله أولاً وآخرًا هذه النعمة الثمينة… وهكذا نال هؤلاء الإخوة السعداء بدلاً من الحياة الفانية حياة أبدية خالدة لا تنتهي أفراحها، ونالوا في هذه الدنيا مجدًا خالدًا لا يوازيه مجد وهو يدوم ثابتًا الى ما شاء الله.
القسم الثالث:
في تمجيدهم واستشفاعهم
اكتنف السكوت العميق تلك الجثث المسكينة، وفرقت العاصفة التي هبت على دمشق شملَ المسيحيين، فتبددوا تحت كل كوكب، ولم يكن في تلك الحال من يفتكر أو يخطر في باله سؤال رومة الالتفات الى تمجيد هؤلاء الضحايا.
وبعد ذلك، لما شرع الفرنسيسكان يجمعون الإثباتات القانونية لاخوتهم الشهداء الثمانية، لم يهتموا بأن تشمل التحقيقات الإخوة الثلاثة أيضًا، لأنهم لم يكونوا مفوضين بذلك، ولصعوبة وجود الشهود في الظروف السياسية والمحلية التي كانت سائدة في البلاد. ومهما كان من الأمر فإن الله شاء بعناية خاصة أن تتم التحقيقات في هذه الأيام المتأخرة، وفي ظروف خاصة، من شأنها تنبيه الأفكار الى عبيد الله هؤلاء الأبطال الثلاثة، زيادةً في تمجيدهم.
في أواخر نيسان من سنة 1926، تقرر تطويب الشهداء الفرنسيسكان الثمانية، وعلم بهذا رئيس أساقفة دمشق الماروني، فتذكّر مقتل الشهداء الموارنة، وراجع من الآثار الخطية التاريخية ما كان قد جمعه عن أولئك الشهداء على غير عمد سابق، فثبت لديه مقتلهم من أجل الايمان[16]. وبناءً على إشارة سيادة القاصد الرسولي في هذه البلاد، وبالاتفاق مع غبطة السيد البطريرك والسادة الأساقفة مطارين الطائفة الفائقي الاحترام، رفع عريضة إلى الحبر الأعظم البابا بيوس الحادي عشر ملتمسًا منه أن يعلن استشهاد الإخوة المسابكيين بفم بطرس الحي بشخص خليفته بیوس.
وعن هذا الالتماس، نشأت مأثرة البابا بيوس الحادي عشر العظيمة التي سجلها له التاريخ، فقد أرسل توًا إلى سورية ممثلاً له لأجل إجراء التحقيقات القانونية. وبعد أن تأكد بواسطة هذه التحقيقات أن الإخوة المسابكيين الثلاثة قد قتلوا حقًا في دمشق، في الليل الذي ما بين التاسع والعاشر من تموز سنة ١٨٦٠، لأنّهم رفضوا أن يجحدوا إيمانهم الكاثوليكي، أمر حالاً بالتئام مجمع الكرادلة العام مع مستشاري مجمع الطقوس فتباحثوا بكل حرية في استشهاد الإخوة المسابكيين، وبعد أن استمع الحبر الأعظم قرارهم، أعلن احتفاليًا براءة مفعمة بالعبارات الجميلة كأنها موحاة من العلاء من شأنها أن تحدث صدى بعيد الامتداد في كل أنحاء الشرق، وكان ذلك في السابع من تشرين الأول سنة ١٩٢٦ الذي يحتفل فيه بتذكار الانتصار الشهير المعروف بعيد سيدة الانتصار أو سيدة الوردية.
وبموجب هذه البراءة، أعلن بيوس الحادي عشر بأنه يمكن الشروع بكل أمن بتطويب المعترفين بالإيمان البواسل الثلاثة، وبهذا العمل العظيم حصل هؤلاء الأبرار على مجد الطوباويين. وفي العاشر من تشرين الأول من السنة عينها، رفعت الكنيسة إلى أمجاد المذابح الإخوة الثلاثة المسابكيين فرنسيس وعبد المعطي ورفائيل، الذين كانوا متشابهين بحياتهم وسيرتهم وموتهم، تحملوا العذاب مع الرهبان الفرنسيسكان، وتجشموا الموت من أجل المسيح أمام مذبح الرب. ولهذا هم يحملون معهم الآن أغصان الاستشهاد في أشعة الأنوار البهية والمجد المسيحي. ونحن الشعب الماروني المفاخر بتعلقه الدائم بالكرسي الرسولي المقدس، وبالإيمان الكاثوليكي، يمكننا اليوم أن نسطر بمداد الذهب تاريخ هذا النهار الذي اقتبل فيه ثلاثة من اخوتنا وأبناء طائفتنا من يد بابا رومية، مجدَ التطويب في السماء بعد أجيال عديدة لم تنل هذا الحظ السامي.
إنهم لقد استحقوا هذا الحظ. قالت حفيدة من حفيدات الشهداء في التحقيقات: إني أرغب لهؤلاء الأبطال أن يمجدوا لاعتقادي أن جزاءهم أعظم من جزاء الرهبان، إذ أن لهم عيالاً وبنين وأموالاً، فتركوا الكل من أجل محبة المسيح. فقد تم تمجيد هؤلاء الأبطال ليس فقط لأجل الاعتراف بفضائلهم، بل أيضًا لأجل عزاء ومسرة شعبنا لكي يستطيعوا ما بين مشقاتهم وتذكارات مصائبهم أن يعتمدوا على شفاعة هؤلاء الطوباويين.
وإن الله تعالى الذي بعثهم إلى حياة جديدة، بعد أن كاد ذكرهم يمحى، لا يضن عليهم بالشفاعة، بل إنه أحياهم ثانية لشفاعة جديدة، وهم أولياء الله ومختاروه ورجاله، وهم من أبناء جلدتنا وإخوتنا في الوطن والمعتقد، وبالحياة تحت سماء هذه البلاد، وإنهم مستعدون لسماع طلباتنا وصلواتنا والنظر في حاجاتنا. فما علينا إلا أن نلتجئ إليهم بتمام الثقة والدالة والمحبة، وبعون الله ورحمته ننال مطاليبنا كلها إذا كانت آئلة إلى خير نفوسنا، وعسى أن تكثر العجائب والكرمات بواسطة أولياء الله هؤلاء، فيسجل لهم منها في وقت قصير ما يضمن تسجيل أسمائهم في سجل القديسين، فتتجدد الأعياد والأفراح في رومية وفي البلاد قاطبة، وكلها عائدة لتمجيد الله الذي يمجد مختاريه في هذه الدنيا وفي الآخرة، ويرحم شعبه بتوسلاتهم وشفاعتهم.
آمين.
كاتبه
بشارة الشمالي
مطران دمشق
في 4 نيسان 1927
۞ Ϯ ملحقϮ ۞
شفاعتهم
“شهداء دمشق القديسون” هم كلّهم:
– شفعاء الجماعة المسيحية الحقيقية الموّحدة: فنرى في “شهداء دمشق” رمزًا للجماعة المسيحية المتّحدة المتضامنة، التي تشابه الجماعة المسيحية الأولى.
– الوحدة المسيحية: دم المجزرة هو الدم البريء الذي سُفك عربون الوحدة المسيحية. فشهداء دمشق هم شفعاء هذه الوحدة التي جاءت أمنا مريم العذراء إلى دمشق، في الصوفانيّة تحديدًا، لتُطلق رسالة الوحدة المسيحية.
– شفعاء المؤامرات: بعصر المؤامرات الاقتصادية التي تأخذ غطاءًا سياسيًّا ودينيًّا، لتدمر عالمنا، يصرخ دم هؤلاء الشهداء “شهداء دمشق” ليتشفع لكل ضحايا المؤامرات على اختلافها، هذه المؤامرات التي تؤدي إلى المذابح والحروب والقتل الجماعي، والتي تُخلّف الكثير من الضحايا القتلى والجرحى والضحايا الأحياء.
– شفعاء السلام: فعالمنا وشرقنا بأمس الحاجة للسلام الحقيقي، سلام الرب، هذا السلام الذي وعدنا به الرب بنفسه، النابع من الداخل، ليجعل علاقاتنا فيما بيننا روابط محبة إلهيّة ينتج عنها سلام لا ينزعه أحدٌ منّا.
“الإخوة المسابكيّون الثلاثة القديسون” هم:
– شفعاء الأسر والعائلات المسيحية الحقيقية: ففي عصر تفكك الأسر، والخصومات بين الإخوة نرى أسرةً متماسكةً مشكّلةً “كنيسة منزليّة” تسكن مع بعضها، ثلاثةَ إخوة، عائلتين وشابًّا عاذبًا في دار واحدة يعيشون معًا، يصلون معًا، يتربّون معًا وعيونهم معًا على السّماء، يفرحون معًا، يحزنون معًا، حتى استشهدوا معًا، وفي المعجزات يظهرون معًا.
– القديس فرنسيس مسابكي: شفيع التجار: ففي عصر التجارة المستغلة نرى تاجرًا أمينًا، لم يثنه المال عن حب الرب، فبقي الرب اختياره الأول دائمًا.
– القديس عبد المعطي مسابكي: شفيع المعلمين: وكم نحن بحاجة لمعلمين صالحين يُرشدون التلامذة للحق ولطريق الخلاص والقداسة أولاً، فيتألق العلم لخدمة الحق والكلمة، ونجني الازدهار الحقيقي.
– القديس رافائيل مسابكي: شفيع خدَمَة الهيكل العلمانيين: في هذا الوقت نحن نفتقد لخدَمَة الهيكل الذين يعملون بأمانة ومجانيّة لخدمة سيد الهيكل، من دون تكبر وأنانية، لا لمصالحهم الشخصية، فيختفون للخدمة وراء ستر الرب، وهم يتصاغرون ليظهر هو.
لنطلب شفاعتهم، ولنقتدِ بهم ولنتذكّر دائمًا وصيّتهم:
“تشجعوا واثبتوا في الإيمان المقدس
لأن من يثبت ينال الإكليل في الملكوت السماوي”.
ولنتابع القصة في الكتيب الثاني الذي يحمل قصة باقي قديسي “شهداء دمشق”
الشهداء الرهبان الفرنسيسكان الثمانية.
[1] بحسب ما كتبه المطران بشارة الشمالي مطران دمشق، إثر تطويبهم ونشره في 4/4/1927، ونحن نعيد طباعتها ونشرها لأهمية ما تحمله من معلومات حقيقيّةٍ ودقيقة عن شهدائنا الأبرار.
[2] عن حياة الشهداء بقلم المونسنيور سالتي (المحامي عن الإيمان، المرسل من الڤاتيكان للتحقيق في إجراءات التطويب سنة 1926).
[3] أي كانت حياته مثالاً لعيش الوحدة المسيحية التي شارك دمه بذبيحتها.
[4] عن حياة الشهداء بقلم المونسنيور سالتي.
[5] عن التحقيقات الرسولية في دعوى الرهبان الفرنسيسكان.
[6] نقلاً عن رهبان دير الفرنسيسكان كان يساعد الرهبان في الخدمة كلّ يوم (كتيّب ذكرى شهداء دمشق الأمجاد، الإخوة مسابكي).
[7] عبد الله: مولود في دمشق سنة ۱۸۰۸، ودعي إلى الدرجة الإكليريكية فلبى الدعوة بارتياح ونفس طيبة، وأرسله رؤساؤه إلى رومة حيث تلقى العلوم في مدرسة انتشار الإيمان المقدس ورُقي الى درجة الكهنوت سنة ١٨٣٠، وعاد وأمضى فيه ردحًا من الزمن يدرس الفلسفة واللاهوت في مدرسة عين ورقا، ويقوم بالرسالات والأعمال الخيرية، وصرف خمس سنين بين ذويه قريبًا من إخوته القديسين يخدم رعية دمشق، فكان لهم مثال التقي والفضيلة ومقويًا لدعائم التقاليد الحسنة من تقوى وتعلق بالكرسي الرسولي في بيته وفي رعيته ثم سافر إلى إيطاليا بأمر رؤسائه، فأقرَّ فيها مركزه نهائيًا في مدينة ليفورنو بصفته خادمًا لرعية الموارنة ومعرفًا للشرقيين في تلك المدينة، حيث توفاه الله في الحادي عشر من أيار سنة ۱۸۸۲، وله من العمر اثنتان وسبعون سنة، ولا تزال غيرة هذا الكاهن الفاضل وتقواه حيّتين في قلوب كاثوليك ليفورنو الشاكرين له، لأنه قد اكتسب حبهم واحترامهم بسلامة طويته، ومحافظته على واجبات الكهنوت، ولاسيما في كرسي الاعتراف.
[8] نقله عن اللاتينية، وقد راج استعماله في المدارس الابتدائية.
[9] و يُذكر أنهم التجؤوا إلى دور الكثير من المسلمين وآغاوات الميدان الذين حموهم في دورهم.
[10] عيناه صوب ملكة الرجاء أمنا مريم العذراء.
[11] وكان هذا مدينًا له بمبلغ كبير من المال.
[12] في الكتيب الثاني نتعرّف على بقية شهداء دمشق القديسين الرهبان الفرنسيسكان.
[13] عن حياة الشهداء للمونسنيور سالتي.
[14] الأب كرمالو و الأب انجلبرتو.
[15] وقد أفادت التحريّات فيما بعد إلى مذكرات كتبها السيّد الياس يازجي أحد تلامذة الشهيد عبد المعطي، وكان عمره آنذاك حوالي سبع سنوات، وهو شاهد عيان، أن الشهيد عبد المعطي جمع بعض تلامذته الذين كانوا لا يزالون في الدّير، وخبأهم في جورة كهف النبيذ، وهو معهم، ليرافقهم عند الانفراج إلى بيوتهم خوفًا عليهم. فبعد أن تمّ اجتياح الدّير من قبل الرعاع الملثّمين، بقي عبد المعطي مع تلامذته حتى الصباح، ولكن عند الصباح اكتشفه الرعاع، وأخرجوهم، وبقي الياس يازجي برفقة معلمه عبد المعطي، وقادهم الرعاع إلى دار فيه رجال كثيرون، منهم حراس معهم جمل، وصفهم الكاتب بالـ”عبيد”، أي لونهم أسود، وهناك اسلموا عبد المعطي، وكان الولد برفقته، وتعرّف الحارس على الشهيد عبد المعطي ووصفه بمعلّم الكفر، وعندها شعر الولد الياس بأنّ يدًا سحبته من تحت بطن الجمل الذي كان مع الحارس فولّى الولد هاربًا، بينما تمّ استشهاد عبد المعطي على يدهم، وهذا ما يفسر وجود فقط رفات اثنين من الإخوة مع رفات الرهبان في البئر.
[16] عن حياة الشهداء للمونسنيور سالتي.
۞ Ϯ صلاة Ϯ ۞
لطلب شفاعة “شهداء دمشق”
الذين استشهدوا في مدينة دمشق في الليلة بين التاسع والعاشر من تموز 1860.
ربي يسوع مخلّصي، يا شهيدَ الجُلجُلةِ العظيم، يا مَنْ أعطَيْتَنا بمثالِكَ، ومِنْ على صليبك، مِثالَ التَّضحيةِ الحقيقيَّةِ، وَشِئتَ في كلّ عصرٍ ومكانٍ أن تُعطيَنا أمثِلةً حيَّةً لِهَذِه التَّضحيةِ، بِشَخصِ أصفِيائِكَ ومُختاريك وشهدائِكَ. أعطنا الآن، بحسب مشيئتك القدوسة، النِّعمةَ (نذكرها…) التي نلتَمسُها بشفاعة شُهدائِكَ القديسين “شهداء دمشق”، الذين سَفَكوا دِماءَهُم وضحَّوا بحياتهم، واقتبلوا الموت حُبًّا بكَ. نحن نرفعها لكَ بشفاعتهم، وعلى يدي أُمِّنا مريمَ العذراء، مُتَوسّلين إليكَ بأن تَجعَلَ منَّا مِثالاً حقيقيًّا للجماعةِ المسيحيّة المتَّحدة، على غرار هؤلاء الشّهداء الأبرار، الذين مَضَوا كجماعة في تتميم مشيئتك القدّوسة حتى الاستشهاد، فهزموا مؤامرات الشرّ والقتل بانتصارهم بالشهادة والقداسة، و رووا الأرض بدماء الوحدة المسيحية. ليتمجَّدَ بِذَلِكَ اسمُكَ، وتَنتَصرَ كَنيستُكَ، ويُقوّمَ إيماننا ويُشفى، ويَتوَطَّدَ، ويَعودَ إلى هذا الشرق بهاؤك، وإلى العالم قاطبةً سلامُك، فَيَلمَعَ بمحبّتك، ويتألَّقَ بتَعاليمِك، وببراءَةِ قِدِّيسيهِ العِظامِ، وبدم شهدائه الأبرار، باستحقاقات دمك الثمين المهراق لأجله، آمين.
طبع بإشراف وإذن
سيادة المطران الياس سليمان
منشورات شهداء دمشق
2024