
أيقونة صيدنايا في التّراث الأثيوبيّ
ان في مدينة صيدنايا امرأة اسمها مرتا غنيّة ومختارة من الله . وفي يوم من الأيّام كانت تفكر في أنّها تبدّد ثروتها عبثاً مثل كلّ النّاس وتقول في نفسها :
” ما هي المنفعة الّتي أجنيها لنفسي ولحياتي ، كما يقول الإنجيل ، إذا ربحت العالم كلّه وخسرت نفسي ..؟ ”
“ ماذا ينفع الإنسان إذا لم يُعطِ كلّ شيء مقابل حياته ..؟ ” تأمّلت مرتا كثيراً في هذا القول ، وأرادت أن تصنع ما هو الأفضل بمالها ، وفكّرت مليّاً في العمل الخيريّ الّذي يفوق كلّ عمل خيريّ آخر .
في تلك السّاعة تذكّرت إبراهيم أبا الآباء ، وخليل الله ، الّذي كان يضيف الغرباء ، فاستأهل أن يستضيف الثّالوث القدّوس في بيته ، وربح إقامة ملاكَيْن عنده .
وأخت لعازر مرتا ، كانت تحبّ استقبال الفقراء كثيراً , وبهذه الطّريقة استحقّت أن يكون منزلها مكاناً لراحة السّيّد الرّبّ يسوع المسيح خلال ذهابه وإيابه ، في شهر الرّحمة ويوم الخلاص ، كما قيل عنه :
” إنّ ابن الله سوف يُدعى غريباً ” .
عرفت مرتا بقلبها أنّ هذه الأعمال الثّلاثة هي أفضل من سواها ، فابتنت نزلاً كبيراً لإضافة الغرباء . ومنذ ذلك اليوم كانت تعدّ مائدة كبيرة وجميلة كالّتي يقيمها الملك لعرس ابنه من أجل الوافدين إلى النّزل , هكذا كانت تُعدّ لنفسها عرساً سماوياً . بعض نزلائها كانوا من الرّهبان , بعد أن يأكلوا ويشربوا ، كانت تسألهم عن الأمور الإلهيّة وقصص الآباء القدامى .
وفي يوم من الأيّام ، تجمّع الإخوة في بيتها كعادتهم لقضاء اللّيلة , وأخذت هي كعادتها تسألهم كلمة منفعة . فروَوا لها أنّه يوجد في أورشليم أناس يرسمون إيقونة لسيّدتنا القدّيسة الدّائمة البتوليّة مريم والدة الإله ، تحصل من خلالها عجائب عديدة ؛ فكلّ ما يطلبه المرء كانت تحققه له والدة الإله . لم يكن هناك شيء مستحيل عليها ، كما لم يكن هناك شيء مستحيلٌ على ابن العذراء الفائق القدرة .
عندما سمعت مرتا هذا الكلام ، التهب قلبها بمحبّة السّيّدة القدّيسة الدّائمة البتوليّة مريم والدة الإله وأخذت ترجوهم قائلة :
” هل سيذهب أحدكم إلى أورشليم حتّى أعطيه ذهباً ، ليحضر لي إيقونةً مرسومةً لمريم سيّدتي ..؟ ” عندما سمع الرّهبان من مرتا كلمات المحبّة الّتي تكنّها للعذراء ، قال أحدهم : ” أنا سوف أذهب وأشتري لك أيقونة من مالي الخاصّ وأحضرها لك , وعند عودتي أستوفي منك ثمنها ” . في هذه اللّحظة ، سجدت مرتا أمامه ، وقبّلت رجليه ، وأغدقت عليه بأدعيتها .
في الصّباح الباكر انطلق الرّاهب إلى أورشليم . وبعدما أنهى كلّ أعماله هناك تذكّر ما أوصته به المرأة فابتاع لها إيقونة جميلة لوالدة الإله ، ( يقال إنّ القدّيس لوقا الإنجيليّ هو الّذي رسمها ) .
أخذ الرّاهب الأيقونة ووضعها في صدره وانطلق إلى صيدنايا وفي الطّريق صادف أسداً يزأر بوجهه ، ويستعدّ لافتراسه ؛ فارتعب لهذا المنظر . وللحال خرج صوت من الإيقونة أشدّ هولاً من زئير الأسد ؛ فهرب الأسد على الأثر بسرعة البرق ، كما لو أنّ فارساً كان يتبعه يريد قتله . تابع الرّاهب سيره مذهولاً من سماعه الصّوت يخرج من الإيقونة . وفجأة وجد نفسه أمام عصابة من المجرمين يهدّدونه من جديد ، خرج صوت من الإيقونة كصوت الرّعد ؛ فارتعب أفراد العصابة ، وهربوا جميعاً من دون أن يعرفوا من أين صدر الصّوت .
بعد أن سمع الرّاهب الأصوات ورأى المعجزات الباهرة تحدث وقال في نفسه : ” سوف آخذ الإيقونة إلى بلدي أثيوبيا ، لتعينني هناك ، بخاصّة بعد أن شهدت عجائبها ” .
لم يكن الرّاهب يعلم أنّ الإيقونة لم تأته بمشيئته الخاصّة بل لتكون مع المرأة الّتي أحبّتها من كلّ قلبها , ظنّ أنّه حصل عليها بماله الخاصّ ، واشتراها من دون مشيئة والدة الإله ، تماماً كالأغراض الأخرى الّتي يشتريها الحجّاج , لذا قال في نفسه :
” لن أعطيها لتلك المرأة ، ولن أذهب إلى بيتها ، بل إلى بلدي ” . وبينما هو يتأمّل هذه الأمور وصل إلى شاطئ البحر ، حيث وجد عدّة سفن فسأل البحّارة عن وجهة سيرهم ، فقال له أحدهم :
” إلى صيدنايا ” ؛ فتركه الرّاهب وسأل آخر ، فقال له إنّه ذاهب إلى أثيوبيا ؛ فصعد الرّاهب سفينته ليذهب معه . وبعدما أقلعت السّفينة ، وعند وصولها إلى منتصف الطّريق في وسط البحر ، هبّت ريح عاصفة غيّرت اتّجاه السّفينة ، وحوّلته إلى جهة صيدنايا . ذهب الرّاهب إلى بيت مرتا ليستريح ، وكان يقول في نفسه : “ كيف ستعرف أنّي أنا الّذي أوصته بالإيقونة ..؟ “, ثمّ إنّه دخل إلى منزلها مع المسافرين الآخرين .
في الصّباح أراد أن يخرج معهم , وما إن وطئ عتبة النّزل حتّى خرج الجميع إلا هو ، لأنّه لم يستطع أن يعبر من الباب الّذي كان يُغلَق بوجهه بفعل أعجوبة السّيّدة الدّائمة البتوليّة مريم والدة الإله ، فيما كان الآخرون يدخلون ويخرجون بحرّيّة .
كانت عادة مرتا أن تستقبل وتودّع الزّوّار عند باب المدخل ، وتعطي المحتاجين زاداً للسّفر ؛ فوجدت هناك الرّاهب يحاول عبثاً الخروج ، فقالتْ له :
” أيّها الأب أرى أنّك مريض امكث هنا اليوم ، وغداً تذهب ، فإنّ بيتي مخصّص لاستضافة المسافرين ” . فقبل الرّاهب . وفي اليوم التّالي عندما أراد الذّهاب ، تكرّر ما حدث له ولم يستطع أن يعبر الباب ؛ فاستضافته المرأة من جديد . وفي اليوم الثّالث إذ لم تغادره رغبته في الخروج ، حاول مجدّداً ومجدّداً لم يستطع .
عندما رأت مرتا أنّ هذا الحدث تكرّر لثلاثة أيّام على التّوالي ، تعجّبت ، إذ إنّ الرّاهب لم يكن يبدو عليه المرض عند رقاده في المساء ، إلا أنّه في الصّباح لم يكن يستطيع عبور الباب ، فسألتّه :
” ماذا يحصل لك أيها الأب ..؟ تكلّم .. ” فشعر الرّاهب بالخجل وقال لمرتا :
“ ألم تتعرّفي إليّ ..؟ أنا الّذي طلبتِ منه أن يحضر لك إيقونة للسيّدة الدّائمة البتوليّة مريم والدة الإله من أورشليم “. فقالت له : كيف لي أن أعرفك ، وكثيرون هم القادمون والخارجون من هنا ..؟
عندها روى لها الرّاهب كل العجائب الّتي حصلت معه بوساطة الأيقونة ، منذ اليوم الّذي ابتاعها فيه حتّى الآن , ثمّ أخرج الإيقونة من صدره وأعطاها لها قائلاً : ” إليك هذه الأيقونة المذهلة ” .
لدى سماع مرتا ذلك سجدت عند قدمي الرّاهب لشدّة حبّها للعذراء , وأخذت الإيقونة من يديه وسجدت من جديد ، كما سجدت الملكة هيلانة عندما وجدت صليب ربّنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح وصرخت بفرح كبير ، حتّى إنّ كلّ النّاس سمعوها وتحلّقوا حولها .
فيما بعد ، شيّدت مرتا للإيقونة منزلاً جميلاً كالّذي شيّده سليمان لعرش صهيون ، وأحاطتها بكلّ الإكرام الّذي يليق بها على قدر طاقتها ، وأضاءت إلى يمينها وإلى يسارها قنديلين لا ينطفئان لا ليلاً ولا نهاراً , وكانت تسجد أمامها وتقبّلها ، لدرجة أنّها لم تعد تقدر على فراقها حتى لتستريح .
الشيء المذهل والمعجزة الجديدة لوالدة الإله أنّ الأيقونة كانت تظهر لها كأنّها تلبس جسداً حيّاً ، كما رأى المجوس مريم في المغارة حاملة ابنها الحبيب . كما كانت ( أي الأيقونة ) تذرف الدّمع وتتصبّب عرقاً ، وكلّ من كان يمسح نفسه بهذا السّائل كان يشفى من أمراضه حتّى المستعصيّة منها .
هكذا شاع أنّ أيقونة سيّدتنا الدّائمة البتوليّة مريم والدة الإله ، وصلت من أورشليم إلى مدينة صيدنايا بلد مرتا في العاشر من مسكارام .
لتكن صلواتها وبركتها ورحمة ابنها المحبوب معنا أجمعين إلى أبد الآبدين آمين ..
ملاحظة : أُخذت هذه القصّة من كتاب ” عجائب مريم ” الأثيوبي العائد في ما يُظَنُّ إلى القرن الثّالث عشر أو الرّابع عشر للميلاد ، عن التّرجمة الفرنسيّة الصّادرة سنة 2004 .
* من كتاب ” حياة العذراء على الأرض ” للأرشمندريت توما المعلوف ، دير مار الياس شويا البطريركي ( 2003 )
No Result
View All Result