ساعة سجود
خميس الأسرار-٢
✦ ١ – الدخول إلى العُليّة: وقت الاستعداد
“اذهبا وأعدّا لنا الفصح لنأكله.” لوقا 22:12
⟡ تأمّل:
في مساء الأسرار، لم يدعُنا الرب إلى معبد من حجارة، بل إلى عُليّة القلب،
مكان سرّي، لا يراه الناس، لكن فيه يهيّأ الفصح، ويُصنع العهد.
العُليّة ليست سقفًا مرتفعًا بل عمقًا داخليًا، حيث تُفرش المائدة لا بالأطباق بل بالتسليم، وتُضاء القناديل لا بزيت الزيتون بل بزيت الصلاة. إنها دعوة للتحضير، يُطلب من التلميذ أن يمضي حيث يقوده الرب، حتى إن لم يعرف الطريق، وحتى إن بدا الأمر غريبًا أو غير واضح. دعوة إلى الشِركة، إلى وحدة الحب، إلى الاتحاد بالمسيح في العشاء، لا كمتفرجين بل كمُتَّحدين. الفصح ليس مجرد تذكّر للخروج من أرض العبوديّة، بل هو عبور جديد، موت مع المسيح، وقيامة معه.
هل قلبي مهيّأ؟ هل صرت أنا “العلّية” التي يدخلها يسوع ليكسر الخبز ويهبني ذاته؟
✦ صلاة:
يا ربّ، دعوتني أن أذهب… فخُذ بيدي، لأن الطريق إليك يمرّ أحيانًا عبر أزقّة نفسي الضيّقة.
دعوتني أن أُعدّ… فطهّرني، لأهيّئ قلبًا يُسرّك. دعوتني أن آكل معك… فامنحني أن أقترب لا لأخذ كسرة خبز، بل لأُصبح أنا الخبز.
يا فصحنا الحيّ، يا خبز المحبة، في كل مرة أسمعك تقول: “اذهبوا وأعدّوا”، أفهم أنك تشتاق أن تسكن فيّ، فلا تدعني أتأخّر، ولا أقدّم لك نصف قلبي، بل اجعلني كلّيًّا لك، لآكل معك، وأعيش بك، وأُسلّم حياتي على مائدتك.
يا سيّد العُليّة، اجعل من قلبي غرفةً علوية، فوق الشكوك، فوق الأحقاد، فوق الجراح القديمة،
ارفعني إلى هناك، حيث لا يصل إلا الحب. طهّر الموضع بكلمتك، وافتح النوافذ ليدخل نور حضورك،
واكسر صمت الغربة بندائك الهادئ: “أعدّوا لي الفصح.” لا تسمح لي أن أختبئ خلف مشاغلي،
بل اجعلني من الذين يمضون، يعدّون، ويرتقبونك. اجعل من ضعفي مذبحًا، ومن وحدتي عُليّة، ومن دموعي مائدة عهد جديد. أهيّئ لك حياتي كلّها، فتعال، أيها الضيف الإلهي، واسكن فيّ، لا كزائرٍ بل كصاحب البيت. آمين.
“يا مفتاح قلبي الصغير”
✦ ٢ – رتبة غسل الأرجل: تواضع المحبة
“قام عن العشاء، وخلع رداءه، وأخذ منشفة واتزر بها، ثم صبّ ماء في مغسل، وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ ويَمسحها بالمنشفة”. يوحنا 13:4-5
⟡ تأمّل:
يا له من مشهد يهزّ السماء! ينحني ليغسل أقدام خليقته. فها هو يغسل قدمي يهوذا كما بطرس… بنفس الحنان. في هذه الانحناءة، ينكشف قلب الله، قلبٌ لا يتفاخر بقدرته، بل يتنازل بمحبة. قلبٌ لا يصنع العجائب ليُبهر، بل ليطهر. قلبٌ يعرف أن بين الأرجل المغسولة من سيُسلمه… ومع ذلك، لا يتراجع. يغسل قدم يهوذا… كأنّه يقول له:
“قدميك على وشك أن تهربا، فدعني على الأقل أحتضنهما بماء الرحمة.”
يغسل قدم بطرس… الذي بعد قليل سينكر، فيغسل ضعف المحارب قبل المعركة.
يغسل قدمي التلاميذ… لا ليطهّر أجسادهم فقط، بل ليغسل تعبهم، ترددهم، وغبار الشكّ فيهم.
يا لعظمة هذا الإله الذي لا يخجل من الملامسة. لا يمسّنا من بعيد، بل ينحني إلى التراب الذي فينا.
وفي هذا الانحناء لا إهانة، بل تحرير: “حين ينحني يسوع، لا يُحرجنا، بل يُحرّرنا.”
لأنّ الحياء أمام محبته يتحوّل إلى دموع، والخجل أمام غسله يُصبح توبة، والتراب على أقدامنا يتحوّل إلى طريق مقدّس. إنها لحظة استرداد للكرامة، الكرامة التي ضاعت في السير وسط العالم، وها هو يعيدها… لا بكلمة، بل بفعل غسله الصامت العميق.
✧ صلاة :
يا من خلعتَ مجدك لتغسلنا، علّمني أن أنحني لا من ضعف، بل من محبّة، أن أغسل لا الأقدام فقط، بل الجراح والخطايا. طهّرني يا سيّد، وامنحني، أن أنحني لا لأدين، بل لأحبّ، لا لأُظهر صلاحًا، بل لأشارك غُفرانك. اجعلني مغسول اليدين والقلب، فأقف إلى مائدتك، لا كمن يستحق،
بل كمن غُسل بنعمتك، آمين.
✦ ٣ – قدّاس خميس الأسرار: سرّ الإفخارستيا والكهنوت
“ثم أخذ خبزًا، وشكر، وكسره، وأعطاهم قائلاً: هذا هو جسدي الذي يُبذل عنكم. اصنعوا هذا لذكري. وكذلك الكأس بعد العشاء، قائلاً: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي، الذي يُسفك عنكم.” لوقا 22:19-20
⟡ تأمّل:
في العُليّة، يسوع لا يكتفي بأن ينحني… بل يُكسر. يأخذ الخبز بيديه، ويكسره… ليُعطي.
“خذوا… كلوا” — هو يُعطينا ذاته بحرية.
الإفخارستيا لقاء حيّ، وليس ذكرى، بل حياة تُسكب في خبز. ليست رمزًا، بل الجسد الحقيقي للذي أحبّ حتى الموت. في العشاء الأخير، لم يودّعهم فقط… بل ترك لهم حضوره الكامل. ترك قلبه على المائدة، دمًا وجسدًا، حياة وخلودًا. وهنا، في هذه اللحظة، يتأسس أيضًا سرّ الكهنوت: يسوع يقول للرسل، ولمن بعدهم:
“اصنعوا هذا لذكري.” لا ليذكروه بالذهن، بل ليعيشوه بالجسد. كل قدّاس، منذ تلك العُليّة، هو امتداد لهذا العشاء، هو لحظة مجد على مذبح من تواضع. هو حيث المائدة تصير مذبحًا، والخبز يصير جسدًا، والكاهن يُمسَح ليصير خادم السرّ، لا سيد الشعب.
✧ صلاة :
يا خبز الحياة، لقد مددتَ يديك على الخبز، ومددتَ ذاتك على الصليب،
فاجعل قلبي مذبحًا لك، ومائدتي طهارة لك، ويديّ تسبيحًا لك.
يا من سكبتَ دمك ليحيا قلبي، أسكبني أنا أيضًا، في كأس الغفران، وفي نبيذ المحبة، لأكون قربانًا حيًّا مرضيًا أمامك. يا من أسّستَ الكهنوت في العشاء، بارك كهنَتك الذين يحملونك بين أيديهم، علّمهم أن يتكسّروا كما تكسرَ الخبز، أن يغسلوا كما غسلت، أن يحبّوا كما أحببت.
اجعلني، كلّما تناولت جسدك، أفهم أنّي أتناول حبًّا مكسورًا، وسرًّا لا يُفهم بالعقل، بل يُعاش بالقلب. خذني، كما أخذتَ الخبز، باركني، كما باركتَ الخبز، كسّرني، إن أردت، لكن وزّعني حبًّا على العالم، آمين.
“أيّ نشيد لكَ عندي”
أيّ نشيد لكَ عندي، فالكون امتلأ أناشيد
صمتي حبي ونشيدي، ألحانه قلبًا جديدا
* * * * *
إنشادي لك يبقى سرًا، يبهجني في عمق روحي
فما دمت فيّ حاضرًا، تبقى أنت نبع فرحي
ازرع في نفسي كلامك، فأفهم سرّك إلهي
ها أنا الآن أمامك، اطبع وجهك على وجهي
* * * * *
أريدك لقلبيَ ربًّا، لا كضيف وهم يمر
معك أختبر حبًا، عمق سره لا يُخبر
ازرع في نفسي كلامك، فأفهم سرّك إلهي
ها أنا الآن أمامك، اطبع وجهك على وجهي
✦٤ – الانحدار إلى جثسيماني: ساعة النزاع والصلاة
“وانفصل عنهم نحو رمية حجر، وجثا على ركبتيه وصلّى، قائلاً: يا أبتِ، إن شئتَ أن تُبعد عني هذه الكأس… ولكن، لا تكن مشيئتي بل مشيئتك! وظهر له ملاك من السماء يقوّيه، وإذ كان في جهاد، كان يصلّي بأشد لجاجة، وصار عرقه كقطرات دمٍ نازلة على الأرض.” لوقا 22:41-44
✧ تأمّل:
الآن، ينزل يسوع… إلى وادي الألم. من العُليّة التي كسر فيها الخبز، إلى جثسيماني حيث ينكسر القلب. أرض الزيتون تتحوّل إلى مذبح النزاع، والقلب الذي أحبّ الجميع… يحتمل الخيانة، والوحدة، والوجع. يسوع لا يختبئ من الحزن، بل يواجهه وجهًا لوجه، في صلاة تُشبه النزيف.
جثا على ركبتيه… الإله يركع في الظلمة. لا لكي يطلب تغيير الخطة، بل ليُسلّم الكأس التي يعلم مرارتها… إلى مشيئة الآب. “إن شئتَ… أبعدها” – لكن: “لا مشيئتي، بل مشيئتك!” – هذه الثقة لا تليق إلا بابن، يعرف قلب الآب. في جثسيماني، لم يكن يسوع فقط أمام الصليب، بل أمام قرار: هل يُكمِل الحبّ مهما كلّف؟ وكان الجواب: نعم.
هو لم يهرب، بل صلّى حتى صار العرق دمًا، والأرض التي سيسقط عليها بعد قليل، سبق وغسلها بدم الطاعة.
✧ صلاة:
يا من نزلتَ إلى جثسيماني، أنزلني من غروري، واجعلني أرافقك لا بالكلمات، بل بالسهر والصلاة.
يا ربّ، حين تثقل الكأس في يدي، ذكّرني بكأسك التي لم ترفضها، وبالدم الذي اخترت أن تسكبه لأجل خلاصي. علّمني أن أقول “لتكن مشيئتك” لا هروبًا من الألم، بل ثقةً بمن لا يسمح بشيء إلا لحكمة ومحبّة. يا من عرَقَك صار دمًا، اغسلني أنت بهذا العرق المقدّس، وطهّر قلبي من تردّده، من خوفه، من مقاومته لطريقك.
يا يسوع الجثسيماني، حين تكثر عليّ الظلال، حين تصمت السماء، حين أتعب من الانتظار، ذكّرني أنك أنت صليتَ قبلي، وسجدتَ قبلي، مع آلام حبّك… آمين.
“ها آتى بطيبى فوق شعرك”
ها آتى بطيبى فوق شعرك هبنى الآن أعرف حق قدرك
عوضًا عن شوكٍ فى إكليلك و اتكئن رأسى على صدرك
إذ كسرت قلبك من أجلى أنا ها قارورة الطيب أكسرها هنا
عند قدميك و أدهنهما حيث راحتى لا و لا عنا
لا يكن فى قلبى شريك لك لك كل قلبى لك وحدك
و لينكسر قلبى ليشبع قلبك و كل شهوتى فى مجدك
دعنى أسكب نفسى عند قدميك و أحظى دوامًا بملئ ناظريك
و أسعى ضعيفًا و أستند عليك حتى كل المجد يرجعن إليك
دعنى أكرم اسمك و أرفعه الآن لئلا تمضى الفرصة و ينتهى الزمان
فمريم وحدها قد فازت بالنيشان و طيب المريمات فاته الأوان
✦٥ – القبض على يسوع: ساعة تسليم الحبيب
“وبينما هو يتكلّم، إذا جمع، والذي يُدعى يهوذا، أحد الاثني عشر، يتقدّمهم. فدنا من يسوع ليُقبّله. فقال له يسوع: يا يهوذا، أبقبلة تُسلّم ابن الإنسان؟” لوقا 22:47-48
⟡ تأمّل:
يا له من مشهدٍ يفلق قلب السماء نصفين! قبلةٌ، يفترض أن تكون لغة حنان، تصير سيفًا يُغرس في قلب الحب. هي ليست خيانة فحسب… بل خيانة مقنّعة بالمودّة، مدهونة بالعطر، مسلّحة بالقرب.
وهل هناك وجعٌ أشد من أن يخونك من أكل خبزك، ومن سجد معك، وبكى معك، وتكلم عنك بكلام المودّة؟ يسوع لم يُباغَت، لكنه أيضًا لم يتراجع. لم يغلق قلبه أمام يهوذا، بل ناداه بالاسم… يا يهوذا!
كأنّه يقول له: “ما زلت أعرفك، وإن أنكرتني، فأنا لا أنكر صورتك التي نقشتُها في قلبي.” يا له من حبّ… لا ينهار أمام الخيانة، ولا يتراجع أمام السيوف، ولا يساوم على الغفران. يسوع لا يُفاجَأ بالشر… لكنه لا يكفّ عن اختيار الخير. لا يُفاجَأ بالخيانة… لكنه لا يتوقّف عن الحب. لا يُفاجَأ بالكبرياء… لكنه ينحني. هو الله الذي لا يحمي نفسه، بل يقدّمها. وفي خيانة يهوذا، ينكشف وجه الله الحقيقي: صامت في حضرة الخيانة، وفي قلبه صرخة حبّ لا تزول.
✧ صلاة:
يا ربّ، ما أعجبك في خضوعك، وما أقسى قلبي حين لا يعرفك في ساعات الظلمة!
لقد سُلّمت بقبلة، وأنت خبأت في قلبك نار الغفران. علّمني هذا الحبّ الذي لا يخون حتى حين يُخان. علّمني، حين أُخذَل، أن أختار الصمت لا الانتقام، أن أُسلّم نفسي لمشيئة الآب لا ليد البشر.
يا من ناديتَ يهوذا باسمه، نادِني كلّما ضللت، نادِني كلّما اخترت قبلة العالم بدل صليبك. نادِني، فأنا أريد أن أعود. حين تشدّني جموع الخوف، حين تمسكني يدُ الكبرياء، حين تُظلم العُليّة ويُغلق بابها، ذكّرني أنك أنت قبِلت الخيانة، لكي لا أُرفض أنا. آمين.
“كامل الأجيال”
كامل الأجيال تقرب التسبيح لدفنك يا مسيحي
حاملاتُ الطيب أهدت لك الطيوب بشوق يا مسيحي
يا ربيعي العذب يا بني الحلو أين اختفى جمالك
أيها الثالوث الأب الابن الروح ارحم جميع العالم
كامل الأجيال تقرب التسبيح لدفنك يا مسيحي
✦٦ – جَثْسِيمَانِي
“وإذ كان في جهاد، كان يصلّي بأشدّ لجاجة، وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض.”لوقا 22:44
⟡ تأمّل:
يا لجمال هذا الإله، حين يكتشف في ساعة الألم وجه الإنسان كلّه… ويحبّه أكثر. في جثسيماني ليس ألم الجسد ما سحقه… بل كأس الخيانة، والبعد، والخطيئة. لقد اقتربت الساعة، ولم يكن للهروب فيها أي باب، ففتح يسوع باب قلبه وصرخ: “يا أبتاه، إن شئتَ أن تعبر عني هذه الكأس… لكن، لا تكن مشيئتي بل مشيئتك!”
يا لهذا الحبّ، حين يُذيب المشيئة في الطاعة، هناك، حيث انكمش التلاميذ في النوم،
كان يسوع يسهر… يصارع، يتألم، يحب. يسوع في جثسيماني لا يبحث عن مجد الصليب، بل عن وجه الآب. ومن يطلب وجه الآب في الألم، لا يُهزَم.
✦ صلاة:
يا يسوع، يا من غاص قلبك في ليل الزيتون، وسُحقت نفسك حتى الموت، علّمني أن أدخل معك، لا سائحًا، بل تلميذًا. علّمني أن لا أهرب من الحزن، بل أضعه عند قدميك. أن لا أختبئ من الكأس، بل أشربها معك في طاعة المُحبّين. في جثسيماني، لم تلبس تاجًا من ذهب، بل اكليل عرقٍ كقطرات دم. هناك لم تصرخ “لماذا؟” بل همستَ: “إن شئتَ… فلتكن لا مشيئتي، بل مشيئتك”. يا وجه الآب في ليالي خوفي، أعطني أن أعرفك حيث لا يُسمع صوتك، أن أراك في صمت البستان، وأن أؤمن، ولو نامت إرادتي مثل التلاميذ. أيقظني، يا رب، حين تثقل جفوني عن السهر معك. واغرس في قلبي صلاة النزاع، حتى أتحوّل… من هاربٍ إلى مُحبّ، ومن خائفٍ إلى ذبيحة.
خذني إلى حيث الحبّ يصير صراعًا، والدمعة تصبح تسبيحًا، والصلاة تتحوّل إلى عهد جديد.
يا من لم تُهزم في البستان، علّمني أن أُسلّم لا حين أفهم، بل حين أثق. أن أحبّ لا حين أُكافأ، بل حين أُجلد. أن أُصلّي لا هربًا، بل دخولًا في مشيئتك، لأن فيها وحدها… قيامتي. آمين.
“نشيد المخلوقات”
(كلمات القديس فرنسيس الأسيزي)
✦٧ – ساعة القبض: حبّ لا يقاوم
“فخرج يسوع وهو عالمٌ بكل ما سيأتي عليه، وقال لهم: «من تطلبون؟» قالوا له: «يسوع الناصري». قال لهم: «أنا هو»… فتراجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض.” يوحنا 18:4
✦ تأمّل:
يا له من مشهد يخلع المهابة عن الزمن! يسوع يخرج نحو جلاديه… لا هاربًا، بل مُقدِّمًا ذاته.
هو يعرف من يطلبونه، ويعرف ما سيأتي عليه، ومع ذلك لا يتوارى، لا يختبئ خلف زيتونة،
بل يقف، ويسأل: “من تطلبون؟” كأنّه يقول: “خذوني… لا تتخبّطوا، أنا هو”. “أنا هو”… كلمة تُعيد إلى الأذهان نار العليقة، وصوت الجبل، ذاك الذي كلّم موسى، هو الآن في الجتسيماني يُسلِّم نفسه. لكنّ هيبته لا تنفصل عن حبّه، وقدرته لا تلغي طاعته.
في هذا المشهد، لا نرى فقط ضعف التلاميذ وهروبهم، بل نرى مجد الحبّ الذي يواجه الخيانة بلا مقاومة، القداسة التي تمشي إلى الألم بثبات، والراعي الذي يُسلِّم ذاته عن الخراف. يسوع لا يُقبَض عليه… بل يُقدِّم نفسه. هو الحمل الذي يختار الذبح، هو السيّد الذي لا يدعو جيوش السماء، بل يقبل قبلة العدوّ، هو الإله الذي لا يدين الآن، بل يفدي.
✦ صلاة:
يا يسوع، علّمني أن لا أهرب حين يقترب الألم، علّمني أن أقول: “أنا هو”،
حين يتطلّب الحبّ تضحية، وحين يطلب الإيمان شجاعة لا دفاعًا.
أنت لم تكن ضحية… بل قربانًا. لم تُخدع، بل اخترت. فامنحني أن أختارك أنا أيضًا،
حين يقترب الظلام، وحين يبرد الحماس، وحين تنهار الكلمات ويُختبر القلب وحده.
يا من سقط أمامك الجنود من قوّة حضورك، أسقط فيّ كل كبرياء، وأقم فيّ حضورك الوديع.
وحين أسمع صوتك يقول: “من تطلب؟” أجبك بكل قلبي: “أطلبك أنت، لا خلاصًا من دونك”. آمين.
بشفاعة والدة الإله وجميع قديسيك، اجعلنا مستحقين أن نقول بالشكر:
“أبانا الذي في السماوات…”