ساعة سجود
“أنا هو الحياة: تأملات في فجر القيامة”
١-“قيامة المجد: من التراب إلى الخلاص”
تأمُّل:
لِنَرفَعَنَّ التسبيحَ والمجدَ إلى الذي لا يُمسّه وجع، ولا يبلغهُ فَناء، ومع ذلك، لبسَ ألمَنا بفرح، واقتربَ من وجعنا بنارٍ لا تُطفأ. لِنُمجِّدِ البهيَّ في مجده، المنحدر في مذلّتنا، الحاضر في قبورنا، الزارع فينا بُذورَ النهوض، والمُقيم أجسادنا من تُرابِ الخَوف.
أيُّها المسيحُ، يا مَن صرتَ الذبيحةَ، والكاهنَ، والمذبح، يا مَن صرتَ المُقَرِّبَ والقابِل، قربانًا حيًّا من نارِ المحبّة، تحترقُ ولا تفنى. لقد سبحتَ إلى الأعماق، لا بانتقاص، بل بعظمةٍ لا تُدرَك، فاستخرجتَ من الحطامِ جَمالًا، ومن الترابِ خَلاصًا، ومن الجحيمِ عيدًا لا يَغيب.
قُمتَ في اليومِ الثالث، لكن الزمنَ انشقَّ أمام قيامتك، وصارَ اليومُ الثالثُ يومًا أوّلًا، فيه بدأت الخليقةُ من جديد، وصار الذين دفنوا الرجاء، يحملون في أكفانهم بشائرَ المجد. أعطيتَنا روحَ الذخيرة،
ذخيرةَ البنُوَّة لا العُبودية، لكي نكون قربانًا حيًّا، نَتنفّسُ قداسة، ونُشعلُ في العالمِ حضوركَ.
فإنْ كُنَّا نَحملُ صورتَكَ فينا، تغدو حياتُنا أيقونةً للمجد، نصيرُ شَعبًا لا يشيخ، كهنوتًا يَرنم، قربانًا يُقدّم،
خُبزًا فطيرًا لا يخمّره كذبٌ ولا رياء. وهكذا نُعيِّدُ لَكَ، لا بأفراحِ الجسدِ البالية، بل بذبائحِ الحمد، نَسكُبُها على مذابحِ الشكر، لَكَ، ولأبيكَ، ولرُوحِكَ الحيّ القدوس، في عيدٍ لا نهايةَ له.
صلاة:
يا يسوعَ، يا ابنَ اللهِ الحيّ، يا مَن نَزعتَ عن ذاتِكَ جلالَ العُلى، ولبستَ تواضعَ الطين، لتصيرَ لنا حياةً من بعدِ موت، ورجاءً بعد ضياع، وشمسًا تُشرقُ في وادي الظِلال. لقد شَقَقتَ صمتَ القبور، فارتجّتِ الجَحيمُ من خُطاك، واحتفلَ الموتى بلقاءِ النور، وصارَ الدفنُ مدخلًا إلى القيامة. يا مَن انبثقتَ من القبرِ كفجرٍ لا يَغيب، أنرْ ظلالَنا بنورِ قيامتِكَ، وازرَعْ في أرواحِنا بُذورَ الحياة، لكي نحيا لك، لا لذواتِنا، ونُقَدِّمَ لك كلَّ يومٍ ذبيحةَ حمدٍ وتسبيح. طهِّرنا يا رب، كما طهَّرتَ الهيكلَ من بائعين، واجعلنا هيكلًا لك، لا تهجرهُ روحُكَ. قوِّنا على حفظِ صورتِكَ فينا، واجعلنا شعبًا لك، كهنوتًا ملوكيًّا، كنيسةً حيَّة، وأعيادًا تمشي على الأرض، تشهدُ أنَّ القبرَ فارغ، وأنَّ الحُبَّ غَلَب. لكَ المجد، مع الآب، والرُّوحِ القُدُّوس، في الكنيسة، وفي العالم، وفي قلبي، إلى أبدِ الدُّهور. آمين
(موسيقى…)
٢-“على آثار الصليب: من ضعفٍ إلى قوة، ومن ضلالٍ إلى هداية”
تأمُّل:
أيُّها الأحبَّاء… لسنا مِن هذا العالم، ولو عِشنا فيه. نَسيرُ كالغرباءِ لا لأننا نَجهلُ الطريق، بل لأنَّ قلبَنا في وطنٍ آخر… في مدينةٍ لم تصنعها يد، في ملكوتٍ لا يزول ابتعِدوا عن الشهوات، يقولها بطرس لا كناسكٍ مُعتزل، بل كشيخٍ عركته التجارب، ذاق نارَ الضعف، وذاق ماءَ التوبة، ثم قامَ ليستنشق هواء النعمة. تصرّفوا تصرّفًا حميدًا بين الأمم، لا لتُرضوا الناس، بل لتُمجِّدوا الله. فأعمالُكم هي صلواتٌ صامتة، وبسُمعتكم الطيّبة، تَفتحون أبوابَ الإيمان لقلوبٍ طالما أغلقت. اخضعوا… لا من ضعف، بل من قوّةٍ تنبع من الثقة. فالحرّيةُ ليست أن نُجاهرَ بالحقِّ فقط، بل أن نحيا الحقّ بشفافيةِ المحبّة.
كأحرارٍ لا نُخادع، كعبيدٍ لله، لا لشرائع الأرض. أكرِموا الجميع… نعم، الجميع! حتى مَن يُسيء إليكم، حتى مَن يضربكم ولا يفهمكم، لأنّ المسيح أيضًا صَبر، شُتِمَ، ولم يَشتِم، تألَّمَ، ولم يُهدِّد، بل سلّم أمرَهُ للديّانِ العادل.
هو حَمَل خطايانا، هو صُلب لأجلِنا، لكي نموت عن الخطيئة… ونَحيا للبِرّ، ونَتنفّسَ من جراحِه هواء الشفاء. يا مَن كنتم ضالّين كخرافٍ، قد رَجَعتُمُ الآن، رَجَعتُم إلى الرّاعي، إلى أسقُفِ نفوسِكم.
هَلُمّوا نَسيرُ على آثارِه، نحملُ صليبَنا لا بكآبة، بل برجاء، لأنَّ مَن سار أمامَنا، هو القائِد، هو الشّافي، هو الوطن.
صلاة:
يا رَبِّي، يا مَن تَأنّيتَ علينا طويلًا، يا مَن لَم تُجَازِنا بحسبِ خطايانا، بل بِجراحِكَ شَفَيتَنا، نَسجُدُ أمامَ وجهِكَ خاشِعين. يا يسوع، أيُّها الحَمَلُ الصامت، الشَكورُ في الألم، الوديعُ في الذُل، الذي شُتِمَ ولم يُجَازِ، تألّمَ ولم يُهدِّد، بل سلّمَ نفسَهُ للرّبِّ العادل… نُقدِّمُ لكَ اليومَ حريَّتَنا، لا كِساءً لمكرٍ، بل كعبيدٍ لكَ، في الحقِّ والمحبّة. اجعلنا نَبتعدُ عن الشهواتِ الجسديّة، ونُقاتلَ الحربَ في الداخل، كي نربحَ السّلامَ في القلب. اجعلْ سلوكنا بين النّاس شهادةً لك، نَحيا الخيرَ بصمت، ونُسكتُ الجهلَ بأعمالِ النعمة،
نُكرِمُ الجميعَ لا عن رياء، بل من أجلِكَ يا مَن أكرَمتَنا بالصليب. نَتوسّلُ إليكَ يا رَبّ، علِّمنا أن نصبر على الألم، أن نَحتملَ الظلمَ دون تذمُّر، أن نُطيعَ لا من خوف، بل من ضميرٍ حيٍّ لكَ. قَوِّنا كي نحيا لِلبرّ، فقد متَّ عنّا، لكي لا نعودَ للظلال، فخذنا من تِيهِ الضلال، وردَّنا إليكَ، يا راعي نفوسِنا، يا أسقُفَ أرواحِنا، أيها الحيَّ إلى الأبد.
لكَ المجدُ أيّها الرّاعي الصالح، مع الآبِ والرّوحِ القُدُس، اليومَ وكلَّ يومٍ، وإلى دُهورِ الدُّهور. آمين.
(موسيقى…)
٣-“قيامَتُكَ، فجرُ البدايات: من سجن الموت إلى نور الحياة”
تأمل:
يا مَن انحدرتَ لا إلى قاع الجحيم فقط، بل إلى عمقِ ألمِ الإنسان، إلى النقطة التي بها سقطَ آدمُ وانحلَّتْ صورةُ الله في التراب، أنتَ لم تُرِدْ أن ترفعَ آدمَ فحسب، بل أن تُعيدَ إليه صوته، صورته، ومكانته كابنٍ محبوب. في هذا النص، نُعاين قيامتَك يا ربّ، لا كحدثٍ مضى، بل كنبعٍ حاضرٍ، كخيط نورٍ ينحدر من علياء اللاهوت، ويمسّ الجحيمَ، والموتى، والأنبياء، والأرض، والمذبح، والقبر.
“إلى الجبّارِ الذي انحدر إلى الجحيم ليفتقد آدم” أيّ حبٍّ هذا، أيّ قوّة وديعة؟ الجبّارُ صار سجينًا لبرهة، لكي لا يبقى أحدٌ في سجن. “إلى المحجوبِ عن الملائكةِ… الذي ذاق الموت حبًّا لرعيّته”
يا من تعاليتَ عن العيون، لكنكَ كشفتَ ذاتكَ في الألم، يا من سجدَت لكَ الأجنادُ في المجد، فصِرتَ في القبرِ كما نحن. ذاقت الأرضُ جسدكَ، لكنها لم تقدرْ أن تحتفظَ به، ففيه الحياةُ عينُها، لا الموت. “أقام آدم من سقطته” كلّنا آدم. كلّنا السقطة. وكلّنا، بقيامتكَ، لنا نصيبٌ في الرفع. يا من أبهجتَ السمائيّين والأرضيّين، انشقّ حجابُ الزمن بين العتيق والجديد، فأشرقتَ في الصباح، لا على أورشليم فقط، بل على أورشليم القلب، حيث لا هيكل، بل أنتَ. “تبارك يومُ الربّ” هذا ليس يومًا عاديًا، بل “فجرُ البدايات”، إنه “أول الأسبوع”، و”أول الخليقة الجديدة”، فيه صار الليلُ ممرًّا إلى النور، والقبرُ بابًا، والموتُ عيدًا.
صلاة :
يا نورًا طلع من قلب الأرض، انهَضْ فينا ما سقط، واهدم أسوارَ اليأسِ فينا، وافْتحْ الفردوسَ في قلوبنا. هبْ لنا أن نكون شهودًا لقيامتكَ، لا بالكلام، بل بالوجهِ المضيءِ، وبالفرحِ الذي لا يخبو،
وبالسجود الذي لا ينقطع. آمين.
اليوم هو بداية الأزمان، في هذا اليوم تفتحت أبواب التاريخ نحو جديد، فصار يومُ القيامة ليس مجرد حدثٍ تاريخي، بل هو بداية الخلق الجديد، بداية الحياة الأبديّة التي غيّرت مجرى الزمان والمكان. في هذا اليوم، تمّ الانتصار على الموت، ولم يعد هناك مَن يمكنه تقييد الحياة.
“اليوم، رَبَضَ شِبْلُ الأسَدِ على الموت”
هو يسوع المسيح، الأسد الذي من سبط يهوذا، الذي فاجأ الجحيم بخروجه الحاسم من القبر، ولم يكتفِ بالانتصار عليه، بل حطّم كل قيد كان يحبس الأرواح في قبضة الموت. هو شِبْلُ الأسد، الفتى الذي كسر قوة الشرّ، وأزال كل حاجز بين الأرض والسّماء.
“اليوم، أشْرَقَ النُّورُ مِنْ قَلْبِ الظُّلْمَة”
من القبر، من حيث لا يتوقع أحد، كان هناك ميلادٌ جديد. فالنور لا يأتي من الخارج بل ينبع من الداخل، من قلب الظلمة، من عمق الموت حيث لا أمل، ليشرق ويبدّد كل ما كان يُعتَقد أنه قد انتهى. المسيح قام فصار “القيامة” هي الكلمة الكبرى التي بها يتحوّل الموت إلى حياة، والدمار إلى تجديد.
“اليوم، ابتدى الأحْياءُ يدوسونَ مَرْبِضَ الموت”
ما كان مستحيلاً قد أصبح حقيقيًا. اليوم الذي فيه قام المسيح من بين الأموات، صار الأحياء يمشون على الأرض بروح جديدة، قوة قيامةٍ تبعث فيهم كلّ رجاء وأمل. والذين عاشوا في خوفٍ من الموت أصبحوا يقاومونه بفرحٍ.
“هوذا اليوم البِكر، فيه قام البِكر من الأموات”
في هذا اليوم، الذي كان فيه البكر من الأموات يقيم نفسه، يرفع طبع أمه – أي الطبيعة البشرية – إلى السماء، إلى حيث الآب. هوذا يسوع الذي فاجأ الجميع بحياته الجديدة، قد خلّصنا من الموت وأعاد لنا تلك الصورة الإلهية التي كانت فينا منذ البداية.
“اليوم خاب الصّالبون الذين حرَسوا القبر”
لم تكن القيامة مجرد فعل خارق للعادة، بل كانت تدميرًا لقوة الشرّ التي عملت ضدّ الحياة. الذين ظنّوا أنهم سيمنعون القيامة، فشلوا. المسيح، الذي عَبَرَ القيود الماديّة، قام منتصرًا على كلّ شيء، على الجحيم، على القبر، وعلى الموت.
“هوذا اليوم حامل البشائر الجميلة يُعَزِّي التلاميذ المحزونين الباكين”
ما أعظم هذا الفجر، الذي جاء ليعلن الخبر المفرح بعد الحزن العميق! المسيح القائم من بين الأموات يخرج من القبر ليبشّر التلاميذ، ليحوّل حزنهم إلى فرح، ويعيد إليهم رجاءهم. القبر الذي كان في نظرهم نهاية أصبح بداية جديدة. والفرح الذي في القلوب هو البشارة الحية.
اليوم، لا نحتفل بقيامة المسيح فقط، بل بقيامتنا نحن. اليوم هو يوم الانتقال من الموت إلى الحياة، من الظلمة إلى النور، ومن اليأس إلى الرجاء. فكما قام المسيح، هكذا نُقام نحن أيضًا.
يا من قمتَ من القبر، انقلنا من ظلماتنا إلى نورك الأبدي، يا من كسرتَ أبواب الجحيم، افتح لنا أبواب الحياة الجديدة. في هذا اليوم، ونحن نرفع إليك أعيننا، املأنا بالفرح القيامي، وارزقنا رجاءً ثابتًا فيك. لك المجد والشكر، الآن وإلى الأبد. آمين.