موهبة الحكمة
“علّمنا أن أيامنا معدودة، فتدخل إلى قلوبنا الحكمةُ“
(مز 90/12)
الأب منير سقال
مقدمة
أ- الوعد بالروح القدس
“سأطلب من الآب أن يعطيكم معزّيًّا آخر يبقى معكم إلى الأبد. هو روح الحق… قلت لكم هذا كلّه وأنا معكم. ولكن المعزّي، وهو الروح القدس الذي يرسله الآب باسمي، سيعلّمكم كل شيء ويجعلكم تتذكّرون كل ما قلته لكم…” (يو14/15-25).
“فإن كنت لا أذهب لا يُجِئكم المعزّي، أمّا إذا ذهبت فأرسله إليكم… فمتى جاء روح الحق أرشدكم إلى الحق كلّه” (يو16/7-13).
منحنا السيد المسيح معزّيًّا ومرشدًا ومحييًا ليرافقنا في كل مجال من مجالات حياتنا المختلفة. إنّها “نعمة” مجانية، ولكنّها تصبح غير فعّالة عندما لا نقبلها ولا نستغلّها فتُؤخذُ الحكمةُ منّا وتُعطى لغيرنا، لأننا لا نُحسن التعامل مع “النعمة – الموهبة”
ب- مواهب الروح القدس
“وأمّا المواهب الروحية، أيها الإخوة، فلا أريد أن تجهلوا حقيقتها… فالمواهب الروحية على أنواع، ولكنّ الروح الذي يمنحها واحد… كل واحد ينال موهبة يتجلّى فيها الروح للخير العام” (1 كور 12/1-7).
يمنح الروحُ المؤمنين مواهب طبيعية ومواهب فوق طبيعية، كما يشاء هو وبالطريقة التي يختارها، لا كما يطلبون هم. والهدف من “الهبة – الموهبة” هو أن يخدم صاحب الموهبة إخوته بما منحه الله. فالمواهب تكمّل القديسين وتعمل على الخدمة، وتبني جسد المسيح (أفس 4/12)، وقد وردت في العهد الجديد أربع لوائح تحوي عشرين موهبة: (روم 12/6-10)، (1 كور 12/4-10 و28)، (أفسس4/11و12)؛ (1 بط 4/ 10 و11). وقد وردت موهبة النبوءة فيها كلها (4 مرات) وموهبة التعليم ثلاث مرات في اللوائح الثلاث الأولى، وموهبة الخدمة مرتين في (روم) و(1 بط)، وموهبة الرسول مرتين في (1 كور) (أفسس) وموهبة التدبير مرتين في (روم) و(1 كور)، وموهبة الوعظ مرة واحدة في (روم)، ووردت موهبتا الرعاية والتبشير مرة واحدة في (أفسس)، ووردت ثلاث مواهب مرة واحدة في (روم) هي الرحمة والمحبة والعطاء، ووردت تسع مواهب مرة واحدة في (1 كو) هي: الحكمة، المعرفة، الإيمان، موهبة الشفاء، القدرة على صنع المعجزات، النبوءة، التمييز بين الأرواح، التكلّم بلغات متنوعة، ترجمة اللغات المتنوعة.
“وهذا كله يعمله الروح الواحد نفسه موزّعًا مواهبه على كل واحد كما يشاء” (1 كور 12/11).
ويذكر الوحي تسع ثمار للروح القدس يحصل كل مؤمن عليها كلّها، بخلاف المواهب التي لا يحصل المؤمن عليها كلّها. وثمر الروح: المحبة والفرح والسلام / في علاقة المؤمن بربّه؛ وطول الأناة واللطف والصلاح / في علاقة المؤمن مع إخوته في البشرية؛ والإيمان والوداعة والتعفّف / في علاقة المؤمن بنفسه. (غل 5/22-23)، وهذه الثمار هي كمالات يُنشئها فينا الروح القدس كبواكير المجد الأبدي.
أولًا: موهبة الحكمة
“ولكن هناك حكمة نتكلّم عليها بين الناضجين في الروح، و هي غير حكمة هذا العالم ولا رؤساء هذا العالم وسلطانهم إلى زوال، بل هي حكمة الله السرّية الخفيّة التي أعدّها الله قبل الدهور في سبيل مجدنا، وما عرفها أحد من رؤساء هذا العالم” (1 كور 2/6- 8).
موهبة الحكمة، في الكتاب المقدس، هي من المواهب التي تتميز بها الشيخوخة، بَيدَ أن الحكمة ليست مزيّة تلقائية من مزايا السن، بل هي هبة من الله على المسنّ أن يتقبّلها و يتوخّاها، ليصل إلى حكمة القلب التي تمكّنه من أن يُعِدّ أيامه، أي من أن يعيش بطريقة واعية الزمن الذي وهبَتْه العنايةُ الإلهية لكل منّا. النقطة الأساس في هذه الحكمة هي اكتشاف الحياة البشرية في معناها الأعمق واكتشاف الإنسان في مصيره السامي، فإذا كان هذا على جانبٍ من الأهمية بالنظر إلى الشاب، فهو أكثر أهمية بالنسبة إلى المسنّ الذي يجب أن يوجّه حياته بحيث لا يغيب عن ذهنه “الشيء الضروري الوحيد” – “النصيب الأفضل” (لو 10/42)،والذي لن ينزعه أحد منّا
ثانيًا: الحكمة هي شريكة الله
“الرب اقتناني أول ما خلق من قديم أعماله في الزمان. من الأزل صنعني، من البدء، من قبل أن كانت الأرض” (أمثال8/22-23).
تشترك كل ثقافات الشرق القديم في البحث عن الحكمة، و في العهد القديم تتضمّن الحكمة، كما في الشرق، سمتين تكادان تتعارضان:
أ- صفة طبيعية في الإنسان، ثمرة التربية و الخبرة. و تتوخّى هذه الصفة – الحكمة هدفاً عملياً: أن يتصرّف الإنسان بفطنة ومهارة لينجح في الحياة. يتطلب ذلك نظرة فاحصة عن العالم، كما أنه يقود أيضاً إلى تنظيم قواعد أخلاقية لا تخلو من ارتباط بالدين.
ب- هي صفة الألوهة. الله يحتفظ بها لنفسه ولا يمنحها إلاّ بنعمة منه لبعض الأشخاص المميّزين. وفي الكتاب المقدس، تتّخذ كلمة الله هي أيضاً صورة حكمة، وهو أمر له أهميته “أسمع الحكمة تنادي، وجهارًا ترفع صوتها (أمثال 8/1)… أرسلت جواريها تنادي من فوق أعالي المدينة” (أمثال 9/3). هذه الحكمة الإلهية تترافق مع الحكمة البشرية، ولكنّها تختلف عنها تمامًا، حتى عندما تمتلك الحكمة الملهمة ما هو جليل في الحكمة البشرية. حكمة البشر وُلدت من الحسّ العام و الخبرة فارتبطت بالعقل و الممارسة، وحكمة الله وُلدت من الاعتقاد بإله (أو بآلهة) يمتلك الحكمة كصفة خاصة به. لا نجد هذه الحكمة إلاّ لدى الأنبياء و في الأخبار الشعبية. هذه الحكمة هي قوة سِرّية، تأتي من الله،وتشبه الروح القدس الذي تتوازى معه مرارًا: “لي المعرفة وحسن التدبير… لي المشورة وحسن الرأي. أنا الفطنة، والجبروت لي…اسمعوا لي أيها الأبناء، فهنيئًا لمن يتبع طرقي، اسمعوا المشورة وكونوا حكماء…” (أمثال 8).
ثالثًا: حكمة يقتنيها الإنسان، حكمة يعطيها الله
أ- حكمة يقتنيها الإنسان:
لحكمة هي صفة عملية قبل كل شيء، وهي لا تتضمّن مرارًا أي مضمون أخلاقي. فالصانع الحاذق هو حكيم (خر28/3)، ونقول الشيء عينه عن المستشار المحتال و المختبر ( 2 صم 13/3 )، والشيخ الغني بالخبرات ( أيوب 8/8 )، والعالِم الذي يعرف القراءة والكتابة وتفسير الشريعة ( إر 2/8 ).
وتتكوّن هذه الحكمة من الذوق السليم والفهم والفطنة والبراعة. هي فنّ الحياة. تؤمّن السعادة في هذه الحياة ( أمثال 14)، و لهذا تسمى ينبوع السعادة وطريق الحياة وشجرة الحياة (أمثال 3/18 و 11/30): “شجرة الحياة للمتمسّكين بها، ومن يتمكّن منها فهنيئًا له”. تتماهى الحكمة مع الفضيلة والحكيم والبار والتقي: “رأس الحكمة مخافة الرب” (أمثال 1/7).
ب- حكمة يعطيها الله:
الحكمة التي يعرفها الله وحده في أعماقها هي كشيء خفي عن جميع البشر، بعيدة عن متناول أيدينا. مجّد الأنبياءُ مرارًا هذه الحكمة الإلهية. فالله، الرب السامي ومالك الحكمة، يعطيها لمن يريد. للصنّاع الذين يصنعون آنية العبادة (خر28/3)، لأشخاص مميّزين مثل يوسف ( تك 41/8 ) ودانيال وآخرين،ولاسيّما لقادة شعبه مثل سليمان وللملك المسيحاني.
في النصوص النبويّة، تبدو الحكمة معرفة علوية يمنحها الله، هي تشبه روح الله الذي ترتبط به مرارًا، هي عطية من الله، يلهمها روح الله، فيحلّ الحكماء في الكتاب المقدس محل الأنبياء الذين غابوا “عن الساحة” (سي 24/33)، وتُنسب إلى هذه الحكمة نشاطاتٌ تربطها سائر الكتب المقدسة بروح الله: الخلق – حماية شعب الله – تربية البشر على الفضيلة – وهذا التوازي عميق جداً بحيث تتماهى الحكمة مع الروح. وعمل الحكمة الإلهية هو عمل روح الله، هو عمل الله نفسه.
رابعًا: مظاهر الحكمة و عملها
يتميّز الحكيم برغبته في معرفة الطبيعة، مُعجَب بها، وعلى ضوء إيمانه يرى فيها يد الله القديرة، إلاّ أن ما يشغله هو أن يعرف كيف يعيش حياته ليحظى بالسعادة الحقيقية. فالحكيم هو: الخبير الماهر في فن حسن التصرّف / الخبير في النفس البشرية / يضع قواعد السلوك لتلاميذه / يُلقي النصائح الخاصة بالصدقة والعدالة والعناية بالفقراء. إلاّ أن إلهامه العميق يأتيه من مصدر آخر أعظم بكثير من الخبرة: من الله.
الحكمة حقيقة خفية لابد من معرفتها و العمل بها ( حك 6/12-21 )، لا يحصل الإنسان عليها إلاّ بعطية من الله (حك 8/17-21)، تعلّمه مشيئة الله. هي وحدها تعرف هذه المشيئة و بإمكانها إذًا أن تخلّص البشر (حك9/13-18). هي الوحي الإلهي تكشف عن مشيئة الله و مقاصده، تشترك في حياة الله و تشاركه في جميع أعماله ( حك 8/3-4 )، تلازم الأبرار و تُقيم في نفوسهم وتجعل منهم أصدقاء الله – الله مصدر كل علم و كل معرفة. الحكمة تحقق محبة الله، هي صورة سابقة لحركة النعمة الإلهية التي تبلغ ذروتها في يسوع المسيح.
الحكمة كنز يفوق كل ما سواه، هي هبة من عند الله، هي الموزِّعة لكل الخيرات، هي الحياة والسعادة والأمان والغنى والبِر وجميع الفضائل، فكيف لا يسأل الإنسان الله أن يهبه إيّاها: “لذلك صليتُ من أجل الفهم، فنِلتُه، ودعوتُ الله فحل عليَّ روح الحكمة” (الحكمة 7/7)، “الحكمة بقوة تحكم الكل، من طرف إلى طرف، وبعذوبة، تدبّر كل شيء، أحببتها وطلبتها منذ صبايَ وتمنيت أن تكون لي عروسًا” (حكمة 8/1)؛ “الحكمة تعلّم الفضائل كلها: العفة والعدل والشجاعة والفهم… لذلك عزمتُ على أن اجعل الحكمة صديقة لي تسكن معي، يقينًا مني بأنها تكون لي مشيرة بالخير” (حك 8/7-10).
خامساً: يسوع، حكمة الله
يقدّم يسوع حكمته كموضوع مثير للتفكير: “ملكة الجنوب… جاءت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان، وهنا الآن أعظم من سليمان ” ( متى 12/42 )، ما من شك في أن يسوع، باسمه الخاص، يَعِدُ تابعيه بهبة الحكمة:”لأني سأعطيكم من الكلام و الحكمة ما يعجز جميع خصومكم عن ردّه أو نقضه” (لو 21/15).
و بعد أن قبله ذوو القلوب المطيعة لله يختم تعليمه عن الحكمة بهذا القول العجيب: “ولكنّ الحكمة قد برّها جميع بنيها” (لو 7/35). يسوع الحكمة يُشرك الناس في هذه الحكمة بفيض روحه عليهم. وبه تحوّلت حكمة هذا العالم إلى حماقة فقد تجاهلَتْ الله الحي (روم 1/ 21-22)، و قد بلغَت أقصى جنونها عندما صلب الناس ربَّ المجد (1 كور 2/8). من أجل ذلك رذل الله حكمة الحكماء هذه لأنها حكمة دنيوية بشرية شيطانية وجزم أن يخلص العالم بجهالة الصليب. إن حماقة الصليب / الحكمة الإلهية لا تحتمل الغش ولا الالتباس: “المسيح هو قدرة الله وحكمة الله، فما يبدو أنه حماقة من الله هو أحكم من حكمة الناس… فنحن ننادي بالمسيح مصلوبًا” (1 كور 1/18-25).
هذه الحكمة، لا يهبها الله للحكماء و الفهماء، في نظر العالم و أنفسهم، بل للصغار ( متى 11/25 )، و على هذا النحو، ينبغي أن نصير حمقى في نظر العالم، لكي نصير حكماء بحسب الله. لأن الحكمة المسيحية، هبة، لا تُكتسب بالجهد البشري، بل بوحي من الآب. وهي، في حدّ ذاتها شيء إلهي، عجيب و خفي، ومن المحال سبر غوْرها بالعقل البشري، و لايمكن منحها إلاّ بواسطة الروح القدس، روح الله، لأولئك الذين ينقادون له (1 كور 2/10-16). هذه الحكمة هي إعلان لسر الله، هي قمة المعرفة الدينية التي يطلبها بولس الرسول من الله للمؤمنين (كول 1/9)، والتي يستطيع هؤلاء أن يعلّموها بعضهم بعضًا (3/16) بكلام مأخوذ عن الروح ( 1 كور 2/13 ). و هذه الحكمة، كما يقول القديس يعقوب، “حكمة تنزل من فوق” ( 3/12-17 )، و تتطلب استقامة خلقية كاملة على المرء أن يجتهد في المطابقة بينها و بين أعماله، مع التماسها من الله في الوقت نفسه كعطية و هبة ( يع 1/5 ). وكل ذلك سيتم تحت إرشاد الروح القدس.
خاتمة
Discussion about this post