هبة المشورة
قرأتُ في أيّام دراستي اللاهوتيَّة مقالاً عنوانه: “الروح القُدُس
ذلك المجهول LE SAINT ESPRIT, CET INCONNU”. يؤسفني أنّني لم أحتفظ بتلك الصفحات ولكن لا يزال الانطباع حيًّا في ذاكرتي. فكم من تساؤل يفضح جهلنا عندما يكون الحديث عن حقيقة الروح القُدُس ومواهبه وثماره ونروح نكتفي بترداد اسمه بدون وعي أو إدراك!
ولعلّ الفضل يعود إلى المجمع الفاتيكانيّ الثاني الذي أعاد إلى علم اللاهوت والليتُرجيّا والبيبليا أهمّيَّة الروح القُدُس ودَوره في تاريخ الخلاص وحياة الكنيسة بعد فترة طويلة أُهمل فيها من حيث الدراسات اللاهوتيَّة.
كما اكتشفتُ، من خلال البحث في وثائق دار المطرانيَّة، وجود أخويَّة باسم “أخويَّة الروح القُدُس للعزبان” ازدهرت في كنيستنا الأرمنيَّة الكاثوليكيَّة في القرن التاسع عشر وما لبثت أن اضمحلّت في مطلع القرن العشرين لتأخذ مكانها أخويّات جديدة باسم “أخويَّة مار أنطونيوس” و”أخويَّة القدِّيسة ريتّا”.. وغيرها.
لا شكّ في أنّ التعبّد للسيّد المسيح ولمريم العذراء والقدِّيسين بما يتضمّن ذلك من إكرام لإيقوناتهم وتماثيلهم وصورهم أسهل على مدارك المؤمن وحواسّه من التعبّد للروح القُدُس الذي يستحيل تشخيصه في هيئة إنسان!
فكان يجب انتظار العقود الأخيرة من القرن العشرين لإحياء أخويّات جديدة ترتكز على روحانيَّة حضور الروح القُدُس وعمله في الكنيسة وفي حياة كلّ مؤمن، سُمّيت بالحركات الرسوليَّة “الروحانيَّة”. نذكر منها “حركة التجدّد بالروح القُدُس” و”طريق الموعوظين” و”الفوكولاري” و”إيمان ونُور” و”عائلات مريم”.. وغيرها كثير.
وكان لرسالة الحَبْر الأعظم البابا يوحنّا بولس الثاني العامّة: “الروح القُدُس في حياة الكنيسة والعالَم” (1968) الوقع الكبير في إبراز الطابع الروح – قدسي PNEUMATHOLOGIQUE في لاهوت الكنيسة الشرقيَّة وليتُرجيّتها وكتابات آبائها. هي ثروتنا الروحيَّة وكنّا عنها غافلين!
لقد أصابت اللجنة المشرفة على “الأحاديث اللاهوتيَّة” في جمعيَّة التعليم المسيحيّ بحلب، في تكريس القسم الثاني من برنامج العام 2005/2006 لدراسة موضوع “الروح القُدُس وهباته السبع في حياة المؤمن”.
وقد وقع اختياري على “هبة المشورة” “CONSEIL”. وهي الهبة السابعة والأخيرة التي تُعرض في هذا السياق.
“المَشُوْرة” و”المَشْوَرة” لغةً تعني النصيحة أو الاستشارة أو الموعظة والإرشاد.
أمّا “المشورة” في علم اللاهوت فهي هبة من الروح القُدُس تجعلنا نكتشف الطريق الذي يجب أن نتبعه.. ولكي تكون رؤيتنا صائبة علينا أن “نستشير”.
والاستشارة هنا تتطلّب الاستماع إلى الله الذي يرشدنا إلى الحقّ، بالصلاة والتأمّل والمناجاة كما تتطلّب الاسترشاد بذوي الخبرة والفضيلة والتقوى لاختيار الطريق الصحيح والحلّ الأنسب، واتّخاذ القرار الصائب والمقصد الثابت.
وفي هذا الإطار دُعيت النذورات الثلاثة:
الفقر والعفّة والطاعة، التي يختارها الرهبان طريقةً مُثلى لحياتهم “بالمشورات الإنجيليَّةCONSEILS ÉVANGÉLIQUES ” لأنّها تمثّل توجيهات السيّد المسيح الجذريَّة كما طلبها من أتباعه.
أكتفي بهذه المقدّمة وأدخل في صُلب الموضوع مقتبسًا ما جـاء في كتاب الأب غردِيّ الدومنيكي (A.GARDEIL, O. P) تحت عنوان LE SAINT ESPRIT DANS LA VIE CHRÉTIENNE. وقد نقله إلى اللغة العربيَّة الأب ألكسيوس عاقل تحت عنوان “مقام الروح القُدُس في الحياة المسيحيَّة”. (سلسلة صفحات روحيَّة، رقم 6، منشورات المكتبة البولسيَّة، 2003، جونية – لبنان).
1- المشورة وإلهامات الروح القُدُس
تظهر المشورة، أوّل ما تظهر، كنداء من الله، دعوة سماويَّة وإلهام باطنيّ، توجّه حياة الإنسان إلى ما هو الخير.
منذ بدء الخليقة ومن أوّل العهد القديم إلى آخِر العهد الجديد لا يتوقّف روح الله عن العمل بالكلمة أو الحلم أو الرؤية أو الإلهام.
هو روح الله الذي يوجّه آدم وحوّاء ومن بعدهما نوح وأهل بيته وإبراهيم وذرّيّته وجميع الآباء الأوّلين حتّى موسى “كليم الله”.
فالوصايا العشر المطبوعة في قلب الإنسان والمحفورة في لوحين من حَجَر هي “مشورة” الروح أيضًا.
ويأتي عهد الأنبياء والحكماء فتكون إرشاداتهم “مشورات” إلهيَّة توجّه حياة الإنسان نلخّصها بكلمة عاموس: “اطلبوا الله فتحيوا”.
ومن الأمثلة الجميلة حول موهبة المشورة نسوق الكلمة التي أشار عالي رئيس الأحبار، إلى صموئيل أن يجيب بها الربّ الذي يدعوه: “تكلّم يا ربّ، فإنّ عبدك يسمع” (1صموئيل 3/9).
ويأتي ملء الزمن بقدوم المسيح المنتظَر ويظهر جليّاً عمل الروح القُدُس بهبة المشورة.
فهو الذي أشار إلى يوسف ألاّ يترك مريم، وإلى المجوس ألاّ يعودوا إلى أورشليم، وإلى سمعان أن يعاين وجه الطفل يسوع…
وتتجلّى موهبة المشورة في كلمات يسوع وعظاته وأمثاله وتعاليمه بدءاً من “التطويبات” إلى “كلمات الوداع”، حيث أكّد هبة الإرشاد التي يتولاّها الروح القُدُس بعد عودته إلى الآب: “فمتى جاء هو، أي روح الحقّ، أرشدكم إلى الحقّ كلّه” (يوحنّا 16/13).
وما سِفْر أعمال الرُسُل سوى تطبيق عمليّ لمشورة الروح القُدُس الذي أيّد الرُسُل وكان المرشد الأمين والموجّه غير المنظور لانطلاقة الكنيسة.
ولن أتوغّل في الحديث عن روح المشورة في الرسائل فكلّها توجيهات وإرشادات تدلّ على هبة الروح القُدُس التي رافقت الرُسُل في عملهم لبناء كنيسة المسيح.
أكتفي بالإشارة إلى ما جاء في سِفْر الرؤيا تعبيرًا عن ضرورة الانقياد لمشورة الروح القُدُس: “مَن كان له أذنان، فليسمعْ ما يقول الروح للكنائس…” وقد ردّدها يوحنّا سبع مرّات موجِّهاً إيّاها إلى الكنائس السبع.. (رؤيا 2/7…).
وتنتهي رؤيا يوحنّا بهذه المشورة التي يهبها الروح القُدُس للمؤمنين ليتوجّهوا بدعائهم إلى السيّد المسيح ليعود على عَجَل: “تعالَ!” مَن سمع فليقلْ: “تعالَ!”. ومَن كان عطشان فليأتِ، ومَن شاء فليستقِ ماء الحياة مجّاناً” (رؤيا 22/17).
2- ممارسة المشورة
يبقى علينا أن نرى كيف أنّ موهبة المشورة توحي إلينا، في بعض الأحوال، ببعض أقوال سيّدنا يسوع المسيح، فتكفي لحاجات حياتنا المسيحيَّة. لننظر إلى حياتنا: نلاحظ مثلاً أنّنا قد أخللنا، لمخالفتنا المحبّة الأخويَّة، ونرى أنّنا قد أسأنا السلوك، ولكن بسبب ما نشعر به من حدّة، ليس بوسعنا أن نسكن ونهدأ أو نحرز السلام الضروريّ لقبول سيّدنا يسوع المسيح. وفجأة نسمع في أعماق كياننا هذه الكلمات: “إذا قرّبت قربانك على المذبح، وذكرت هناك أنّ لأخيك عليك شيئًا، فدع قربانك هناك على المذبح واذهب أوّلاً وصالحْ أخاك، ثمّ تعالَ وقرّب قربانك”. كنّا في حالة تردّد، لا نجرؤ، وهوَذا الإلهام الداخليّ يحرّرنا من تلك الحالة. بواسطة روح المشورة، تأتينا الحركة الدافعة النيّرة، فنتبع وصيَّة الإنجيل، وبعد التصالح، نذهب إلى التناول.
هذه نَفْس يجرّبها شيطان المجد الباطل الذي يندسّ غالباً في أعمالها الصالحة. قال القدِّيس منصور فرّييه إنّ الكبرياء تجد لها غذاءً حتّى في سقطاتها. فبعد أن تسقط تلك النَفْس تُصدر فعل تواضع، وإذا بها تفاجئ نَفْسها مفكّرةً هكذا: ما أكبر ما كان تواضعي! وهكذا تتحوّل لذّة شرعيَّة تعقب عملاً صالحاً إلى فعل أنانيَّة ومحبّة ذاتيَّة. فتندفع النَفْس في هذا التيّار ويتلوّث الخير بلوثة الكبرياء، ولعلّ النَفْس لا تشعر بذلك. وإذا بها تتذكّر هذه الأقوال: “ليُضئ نُوركم أمام الناس ليروا أعمالكم الصالحة ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات”. فتدرك النَفْس حينئذٍ أنّه لا يمكن أن يكون لها سوى هدف واحد، وأنّ نُورها يجب ألاّ يُضيء لأجل مجدها الذاتيّ وأنّه لا يسوّغ لها أن تفتخر بأعمالها الصالحة بعجب باطل. وقد يلهم الروح في الحالة ذاتها أقوالاً كهذه: “لا تعلم شمالك ما تصنع يمينك. صلِّ في مخدعك وأغلق بابك… وإذا صُمت فادهن رأسك لئلاّ تظهر للناس صائمًا”… كان سيّدنا المسيح يحُبّ كثيراً الاختفاء والتستّر في الأعمال الصالحة!
وأنا، أين أنا من هذا السلوك؟ فلو واصلت المسير على صعيد الحُبّ الذاتيّ لأضعتُ ثمرة عملي كلّها!
وأيضًا: عرّضت نَفْسي للملامة بزلاّتي وأخطائي. وبدل أن أقرّ بخطإي ببَساطة، بحثتُ عن أعذار أتستّر بها. وإذا بكلمات الربّ تدوّي في قرارة نَفْسي: “ليكن كلامكم نعم نعم ولا لا”. فأستدرك نَفْسي وأقرّ بما جرى، كما هو. وهكذا أنجو من خبث الفريسيّين ورئائهم.
ومرّةً أُخرى تكون النَفْس في تجربة، فتقول: هذا الذي أعيش معه تشوّهه عيوب كثيرة، وهو عادم اللباقة ولا يريد أن يعترف بذلك. هو مزعج، فلا أريد أن أعيش معه، ما أثقله! وبغتةً تسمع في داخلها صوتاً يقول: احذرْ أن ترى القذى الذي في عين أخيك ولا تفطن للخشبة التي في عينك. فيستنير عقلها وتقول لذاتها: “هذا الشخص نظيري، له عيوبه كما أنّ لي عيوبي، نحن رفيقان في الوهن”.
ها هي الآن نَفْسٌ واقعةٌ في محن من حيث صحّتها وعافيتها، فصارت تشعر في الداخل والخارج بأثقال الحياة، وجعلت تصرخ: يا ربّ، ماذا فعلتَ بي؟ إنّها لحالة لا تطاق! وإذا بكلمات الإنجيل تهمس في داخلها: مَن أراد أن يتبعني فليكفر بنَفْسه ويحمل صليبه كلّ يوم ويتبعني. فتجيب النَفْس: لقد أردت أن أتبعك يا ربّ، ونصيبـي هو ما سبقتَ فوعدتني به: إنكار ذات وحمل صليب. فأنا قابلة راضية. أو هي تسمع في داخلها كلمات المعلّم: تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والمثقلين وأنا أريحكم. احملوا نيركم فهو نيري لكنّه ليّن وخفيف لأنّي حملته وأنتم تحملونه معي.
وهكذا يضيء سيّدنا يسوع المسيح بنُور صليبه، ويساعد على فهم سرّ الصليب في الحياة، فيقول لنا كما لبطرس وهو فارّ من رومة خوفًا من الاستشهاد: أنا عائد إلى رومة لأُصلَب فيها جديداً. حينئذٍ تعوّل النَفْس على الرجوع إلى رومة لتعود فتحمل صليبها.
إنّ الروح القُدُس يضاعف أنوار ضميرنا بإلهاماته. فتارةً بلين ورفق، بإلهام أو وحي أو همس مقنع مُلِحّ، وأحيانًا بتوبيخ شديد، ولا سيّما عندما نصمّ الأذن ونبقى في عنادنا. وهو يعمل لنستنير في جميع الأحوال. الإنجيل يعلّمنا تعليماً عامّاً، والروح القُدُس يُعيد علينا مشورات الإنجيل في الأوان المناسب، تجاه الصعوبات. فقد قال السيّد المسيح: “هو يذكّركم كلّ ما قلته لكم” (يوحنّا 16/13).
إنّ عمل موهبة المشورة حقيقة واقعيَّة، فلندركْها. هذه الموهبة هي فينا بحصولنا على النِعمة المبرّرة، ولنا ما يمكّننا من التأثّر بإلهاماتها. فلنكنْ على يقين من أنّنا تحت تأثيرها ونفوذها، ولنستعملها، ولنتعوّد الالتجاء إلى أنوارها، ومتى دعت الحاجة ساعدتنا هي على استخدامها في الأوان المناسب.
3- المشورة والضمير
وربّ قائل: هو ضمير الحكماء الفلاسفة يتكلّم، لا صوت الروح القُدُس!
ما هو الضمير؟ هو ما يُمليه العقل الصوابيّ المستقيم، الذي إنّما هو اشتراك في نُور الله. فإنّ صوت الضمير هذا كثير الشبه بإلهامات الروح القُدُس. إنّ عقلنا المستقيم ما دام تحت تأثير العقل الإلهيّ يتكلّم تحت تأثيره. ولكن، في نَفْس ألّهتها النِعمة فصارت مشترِكة في الطبيعة الإلهيَّة، في نَفْس هي تحت تأثير الروح القُدُس الدائم وتحت تأثير نِعمة المسيح، نجد أكثر من ذلك، نجد إلهامًا إلهيًّا مباشرًا. ومع ذلك فهذان العاملان، الضمير والإلهام الإلهيّ، ليسا سوى كتلة واحدة. وفي الواقع، هو الله الواحد نَفْسه يُنير ضميرنا ويلهمنا. في النَفْس المؤلَّهة، حيث الله ساكن، وحيث أوجد جهازًا خاصًّا يلتقط إلهاماته، كلّ ما يُمليه الضمير، في النَفْس الخاضعة لتأثير المواهب، هو في الواقع الحقيقيّ إلهامات من الروح القُدُس. أو بالحريّ إلهامات موهبة المشورة هي عبارة لما يُمليه الضمير بطريقة نيّرة.
أجل، إنّ الفلسفة وحدها ليس بوسعها أن تفسّر سيكولوجيَّة الضمير الفائقة الطبيعة، فإنّها في النَفْس المؤلَّهة بالنِعمة تتمازج وتتداخل الحياتان، الطبيعيَّة والفائقة الطبيعة، فيأتي اللاهوت وينظر في ذلك الواقع الكامل، ويميّز في ما يفرضه الضمير بشدّة العنصر الفائق الطبيعة الذي نسمّيه الإلهام.
ألم يؤكّد لنا سيّدنا يسوع المسيح أنّ الروح القُدُس سوف يُملي علينا مجدّدًا كلّ ما قاله لنا: إنّه يأخذ ممّا هو لي ويخبركم. يكشفه لكم مجدّدًا ساعة تحتاجون إليه، بهيئة وحي غير ملموس ولا منظور، بهيئة مشورة.
فمتى رأى الروح القُدُس النَفْس تتخبّط يوافيها بمشوراته الحسنة، بمشورات مقنعة فعّالة مُلحّة تميل بها إلى تحقيق ما يريده الله. تأتينا تلك المشورات لأبسط الأفعال العاديَّة، لأنّ مادّة المواهب ليست حتمًا سامية. نحن مثلًا تحت تأثير هوى الغضب، فيقول لنا صوت داخليّ: اضبطْ نَفْسك، واصمتْ، وتسلّطْ على زمام أمورك. نحن نسأل أنفسنا بماذا يجب أن نجيب الشخص الفلانيّ، فنجمع الفكر قليلًا، وإذا النُور يطلع فينا: هذا ما يجب أن يُقال، وهذا ما يجب ألاّ يقال، لقد نلنا مشورةً من العلاء! تراودنا تجربة التسرّع، وإذا بشيء يضبطنا ويحملنا على التروّي وعلى الصلاة قبل العمل: هي المشورة تنقذنا من التهوّر. وإذا كنّا بعكس ذلك مدفوعين إلى التهاون فتهزّنا للعمل وفي أحوال أُخرى أكثر خطورة تنتابنا محن ومخاوف، وتقلّبات في الوجود، فتضطرب نَفْسنا، فنجمع الفكر في السكينة والسلام وإذا الجواب الإلهيّ: لماذا تقلق وتُعنّي النَفْس؟ يكفي كلّ يوم شرّه. أو: ألقِ على الربّ همّك وهو يعولك. وفجأةً، وربّما ساعة كنّا مزمعين أن نقرّر مصيرنا عن يأسٍ، نستنير ونتعزّى فنستطيع مواصلة المسير. فتارةً يلهم الروح برفق ويحرّض، وتارةً يلوم ويوبّخ: هو توبيخ الضمير، وطورًا ينتصب حَكَمًا وقاضيًا فيشهد لنا في داخلنا هل ما نفعله حَسَن أو شرّ.
4- تدخّلات روح المشورة
ربّ معترض: كيف يمكن أن تكون المشورة إلهامًا ووحيًا؟ لا شيء يشبه الإلهام أقلّ من المشورة التي من طبعها تسعى لتعرف أيّ قرار تتّخذ، فتزن كلّ شيء لتختار الأفضل. المشورات طويلة ومعقّدة، فلا شيء أقلّ شبهاً بالإلهام من المشورة.
ذلك صحيح في المشورات التي نعطيها، لا في التي نقبلها. فإذا أتتنا من شخص فيه الكفاية، أتتنا مختمرة ناضجة فنقبلها بلا تردّد. تلك هي المشورات التي تأتينا من روح الآب والابن، إنّها ثمرة شورى الثالوث، والروح القُدُس يعطيناها كاملة جاهزة ويوحي بها إلينا في داخلنا ويبثّها في قلبنا. فهل لمثل هذه المشورات من وجود.
ذلك ما تعلّمنا إيّاه الخبرة. لقد كانت تعلم ذلك جيّداً الفتاة جان دارك لمّا كانت تجيب قضاتها: أنتم ذهبتم إلى شوراكم وأنا ذهبت إلى مشورتي. كانت، ولا ريب، تتكلّم عن الأصوات البالغة إليها، لكنّ هذه الأصوات كانت من الله. كانت تقابل بين المشورات الآتية من العلاء ومشورات البَشَر. فهذا العون العلويّ لا ينقص البتّة إحدى النفوس المسيحيَّة.
وموهبة المشورة هذه لا بدّ منها على وجه الإطلاق لنحسن التصرّف في الحياة الروحيَّة. من واجبنا أن نسوس ونسيّر حياتنا الروحيَّة، فلا تكفي لذلك طبيعة قويَّة شديدة المراس قد تعوّدت ممارسة القناعة والعدل، بل تعوزنا سياسة مجملة عامّة. فأحوال الحياة تتبدّل، ومناهج العمل تتغيّر، وحياتنا الشخصيَّة الخاصّة لا تبقى هي هي، إذ نتغيّر مع السنّ والعمر، فنتقدّم أو نتأخّر. فيجب علينا أن نطبّق ما فينا من قوى الشجاعة والعدل والقناعة على مواضيع متقلّبة ومرنة وسلسة في جوهرها، وصعبة المراس والتكييف على أساليب القدِّيسين. فوحدنا لا قِبَلَ لنا بذلك.
ثمّ إنّ نظرنا قصير المدى فلا نرى في ذواتنا إلى مجال بعيد، ولدينا أداة من شأنها أن تُغمض أعيننا هي الحُبّ الذاتيّ الذي يُخفي عنّا معالم الفطنة. الحياة كلّها، أشخاص وأشياء، تدور حولنا بلا انقطاع، فلا نبصر منها الوجه الحقيقيّ، وإذا أبصرناه أعوزتنا الشدّة الضروريَّة لنعرض على ذواتنا الحُكم الصائب فيها. وفي بعض الأحيان نحيد عن الخطّ القويم إذا بدا لنا القرار الصوابيّ صعباً علينا. ولكي نداري عوائدنا وتعلّقاتنا الطبيعيَّة نحاول أن نحتال ونراوغ تجاه إلهامات حُبّ الله. تلك هي في غالب الأحيان حالتنا السيكولوجيَّة النفسيَّة في تدبير شؤوننا.
وفضيلة الفطنة، حتّى الفائقة الطبيعة، تندمج في ذلك التدبير الأعوج، لأنّها أصبحت من كياننا، فلنا أن نستخدمها ونسيّرها. هي، ولا ريب، من الكمالات الفائقة الطبيعة، لكنّ لنا أيضاً أهواءً ونيّات ومآرب خفيَّة. فلا نسلك بإخلاص وولاء ولا نثبت في السلوك الواحد. ومع ذلك، متى نشأت فينا نيَّة محورها محبّة الله وجب علينا أن نحوّلها إلى توجيه عمليّ ينفَّذ حالاً: ذلك ما تقتضيه الفضيلة الكاملة.
فمن أين المانع الذي يحول دون هذا الكمال؟
يقول سيّدنا يسوع المسيح: “سراج الجسد العين، فإن كانت عينك سليمة كان جسدك كلّه نيّراً، وإن كانت عينك شرّيرة أو مريضة، أي إذا كان الشرّ يعكّر صفاءها، فجسدك كلّه في الظلام” (متّى 6/22 – 23). جسدنا هو العمل، وعيننا هي نُور الضمير. فإذا كانت عيننا غير صافية، فكيف نستطيع أن نتّجه بحسب اتّجاهات المحبّة، فتكون لنا النعم نعم واللا لا؟ إنّ لفي ذلك ضعفَنا.
فلكي يأتي لنجدة هذا الضعف يتدخّل الروح القُدُس. بيد أنّ في حياتنا وجهةً أُخرى أدعى إلى التعزية. حياتنا لا تنقضي كلّها في المواربة، بل فيها قرارات صريحة، ولولاها لما كنّا أهلاً للاسم المسيحيّ الذي نحمله.
وهنا يأتي السؤال: هل كلّ إلهام أو نصيحة أو رأي هو من الروح القُدُس؟
لا شكّ في أنّ ثمّة أرواح أُخرى “تُوَسْوِس” في قلب الإنسان وتقوده إلى الشرّ وعليه أن يميّزها عن الروح الحقّ، ولذلك يجب التمييز بين الأرواح. وهذا يحتاج إلى دراسة خاصّة. أكتفي أيضاً بالإشارة إلى ما جاء في رسالة بولس الأُولى إلى أهل قورنتُس حول موهبة التمييز ما بين الأرواح، فشتّان بين ما يأتينا من لدن الله وما يأتي من عند الشيطان وما هو طبيعيّ (راجع 1قورنتُس 12/10، و1قورنتُس 2/11-12). ولذلك ننعت أحياناً موهبة المشورة بالمشورة “الصالحة”.
ومن جهة أُخرى نقول: إذا كنّا نخطئ إلى الروح القُدُس بالجهل والإهمال وعدم التمييز بين الأرواح فثمّة خطيئة أُخرى ليست أقلّ شناعة من الأُولى ألا وهي “احتكار الروح القُدُس” أي أن نظنّ بأنّه مُلك لنا دون سوانا، وأنّه يعمل في مجموعتنا الكنسيَّة دون سواها. فنتكلّم باسمه وكأنّنا معصومون من الخطأ ونفرض رأينا وكأنّه مفروض من الروح القُدُس!
لا ننسى أنّ الروح “يهبّ حيث يشاء”، وأنّ “كلّ واحد يتلقّى ما يُظهر الروح لأجل الخير العامّ… وهذا كلّه يعمله الروح الواحد نَفْسه موزِّعاً على كلّ واحد ما يوافقه كما يشاء” (1قورنتُس 12/4-11).
الخاتمة: أُمّ المشورة الصالحة
إنّ العذراء الجزيلة القداسة وسيطة، ووسيطة شاملة، في نظام النِعمة. والكنيسة تحيّيها تحيَّة خاصّة وتدعوها وسيطة النعم التي كلامنا عليها. والبابا لاون الثالث عشر قد زاد على طلبتها الدعاء التالي: “يا أُمّ المشورة الصالحة”، وكان هذا الدعاء عزيزاً محبوباً في رهبانيَّة القدِّيس مبارك (بندكتُس).
لمريم العذراء الجزيلة القداسة حقّ وسلطان على إيلائنا المشورات مباشرةً. لكنّها تعمل على إيلائنا مشورات الروح القُدُس. بوسعها أن تصلّي إلى الروح القُدُس وتؤثّر فيه ليهب لنا إلهاماته في حين حاجتنا إليها.
فماذا يبقى علينا إذاً؟ لنعملْ مع الموهبة التي فينا. لنضعْ ذواتنا تحت إلهام الروح القُدُس ولنضعْ ذواتنا أيضًا تحت حِماية العذراء القدِّيسة: فهي تذكّرنا أنّه لا بدّ لنا من أن نلتجئ إلى الروح القُدُس، وهي نَفْسها تطلب إليه أن يأتي لنجدتنا.
وهكذا تُضمَن لنا هذه الموهبة مضاعفةً: فمن جهتنا نبسط شراعنا لمهبّ ريح الروح القُدُس، الذي يعطينا مواهبه، ومن جهة العذراء القدِّيسة تعطينا هي مواهبها الخاصّة وتؤثّر في استعداداتنا الحسنة بطلبها إلى الروح القُدُس أن يولينا مواهبه متى صرنا في حاجة إليها.
ونختم حديثنا بصلاة إلى الروح القُدُس للقدِّيس كريكور ناريكاتسي:
“أتوسّلُ إليك أيّها الروح القدير، أرسلْ إليّ ندى عذوبتك، وأنعمْ على نَفْسي وروحي بعميم عطاياك ومراحمك سيطرْ على عواطفي وحواسّي. احرثْ حقل قلبي المتحجّر ليتقبّل بذار الروح فيثمر. أبعدْ عن ذهني غشاوة النسيان فتنقشع معها ظلمات الخطيئة لأرتفع بأفكاري من هذه الأرض إلى الأعالي السماويَّة.
أنرْ عقلي لأدرك معارف ألوهيّتك واجعلني أهلًا لأعمل وأعلّم وأكون مَثَلًا صالحًا للمستمعين محبّي الله. ولك المجد في كلّ شيء مع الآب الكلّيّ القدرة والابن الوحيد المعطي الآن وإلى أبد الآبدين”. (كتاب الصلوات، الصلاة 34)
Discussion about this post