الـتـقـوى
المتروبوليت بولــــس متروبوليت حلب والاسكندرون وتوابعهما
“وجميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطهدون”
عندما يتكلّم الإنسان أو يقرأ، عليه أن يحدّد المعاني الفعليّة للكلمات. والشرط الأساسيّ للتفاهم بين الناس هو أن تعني لهم الكلمات والمصطلحات المستخدمة المعنى ذاته.
صورة عن عدم التفاهم على معاني الكلمات وخاصّة الروحيّة منها- نجدها في الإنجيل، بين يسوع ومتديّني زمانه. عدم التفاهم هذا بسبب تبدّل مفاهيم الكلمات واضح جدّاً في العظة على الجبل: “سمعتم أنّه قيل للأقدمين… أمّا أنا فأقول لكم…”.
لهذا من الضروريّ أن نتساءل دومًا: ماذا نفهم من كلمات هامّة مثل: “المحبّة – الإيمان – التواضع – العطاء – التقوى…”، وأن نقرأ ماذا تعني هذه الكلمات فعلاً في الإنجيل، وكما جاءت على فم يسوع وفي أحاديثه.
“التقوى” إحدى أصعب هذه الكلمات. وهنا، في الرسالة اليوم، يتطرّق إليها بولس الرسول كطريقة العيش للمسيحيّين، ويمدح هذه الصورة في تلميذه تيموثاوس وفي عائلته. فما معنى التقوى كما نصادفه بين العديدين منّا؟
للبعض تعني التقوى: حفظ علاقة معيّنة مع الله. وبالتالي التقيّ هو مَن يظهر للناس أنّه يواظب على الكنيسة ويقدّم واجباته فيها دون نقصان، ويمكنه بعد ذلك أن يشعر بأنّه أنهى إتمام كلّ الطلبات الإلهيّة!
تلك المظاهر هي ممارسات جيّدة، ولكن فقط عندما تجوز بالإنسان إلى ما بعد المظاهر! فالتقوى لهؤلاء تعني بالنهاية الخوف أيضًا:
“اتّقي الله” يعني أن تخاف الله. فالله شخص جبّار وعادل. وهكذا على الإنسان التقيّ أن يخاف مخالفة الوصيّة الإلهيّة، وهذه هي التقوى. لكن حاشى! للبعض الآخر تعني التقوى: “الهروب من العالم الأثيم”!
فلمّا كان العالمُ يظهر غير محبّ لله بل ذاهبٌ في غوايته وضلاله، إذن التقوى تعني ?لهؤلاء- أن نعيش “عكس التيّار”، وخارج العالم، وضدّ مغرياته.
وتقود “هذه التقوى” صاحبها إلى إدانة الناس على كلّ تصرّفاتهم ونعتهم بالخطاة كما فعل الفريسيّ في الإنجيل اليوم.
أمّا “التقوى” الحقيقيّة، في الكتاب المقدّس، فإنّها تحمل معانٍ مختلفة وأعمق من تلك المظاهر. “التقيّ” أو البارّ يعني “مَن يحيا كما يريده الله أن يعيش”. التقوى هي “الصورة” التي يريدها الله أن تظهر على وجه كلّ إنسان! لذلك هناك ثلاثة مظاهر للتقوى الحقيقيّة، ودونها يكون وجه التقوى قناعًا للأنانيّة والتبرير والتعالي وليس صورةً لوجه يسوع المحبّ.
إذن، ما دامت التقوى هي العيش بحسب الوصيّة الإلهيّة، فإنّ الرّبّ يسوع أعلن صراحةً: “وصيّة واحدة أعطيكم: أحبّوا بعضكم بعضًا”. إذن هذه هي التقوى. فلا نقيس التقوى فقط من مظاهر العلاقة مع الله، إنّما من مظاهر علاقة الإنسان بالآخرين. أن نتظاهر بالتقوى مع الله، هذا أمرٌ سهل. وإذا ادّعينا ذلك فلن يظهر الله ويكذّبنا الآن! ولكن علينا أن نثبت تقوانا مع الناس بنوعيّة تصرّفاتنا وكيفيّة تعاطينا معهم.
أوّلًا، وقد نتفاجأ، إنّ مظهر التقوى الأوّل هو “الفرح”! ولا يعني الفرح هنا اللهو والتسليات والضحك بدون معيار وبمعانٍ فارغة، كما لا يعني الفرحُ الهروبَ من المشاكل والمسؤوليّات والعيش في الفوضى واللامبالاة!
يعني الفرح: إنّ العلاقة التقويّة للمؤمن مع الله تعطيه (للمؤمن) الشعور بالثقة والثبات.
هنا التقوى ثمرة الإيمان. “على الربّ توكّلتُ فلا أخزى…” تقول المزامير.
ومن له هذه الثقة بالله عنده التقوى الحقيقيّة، فهو عند ذاك مثل بولس وإن كان يحيا في الاضطهاد والآلام والمشقّات والحروب، إلاّ أنّه يملك بتقواه “إيمانًا وأناة ومحبّة وصبرًا”! ومن هنا يأتي الفرح.
إنّنا نحمل مسؤوليّاتنا، ونصطبر على آلامنا من جهة، كما ونلتزم بمسؤوليّات الآخرِ الضعيف بحريّتنا ونشاركه آلامه من جهة ثانية. إنّ الاتّكال على الله وثقتنا، من تقوانا، بمحبّته وعنايته يعطيانا الفرح.
“التقيّ” إنسان فرح ووجهه بهج دائمّا. “التقيّ” هو أكثر من فرح، إنّه إنسان “مُفرح”، حيث يحلُّ يحلُّ معه السلام والبساطة والأمانة وبالتالي الفرح.
وثانيًا، التواضع هو مظهر التقوى الثاني. ما هو الحلّ المسيحيّ للإنسان في عالم ملآن بالمتكبّرين ويعجّ بأصحاب المصالح والاستهلاكيّين؟
ما الحلّ لنا في وسط لا يعتذر فيه أحد ويدين الواحد على الفور وفي كلّ شيء أخاه! ما الحلّ في عالم لا يشعر فيه أيّ إنسان أنّه مخطئ؟ “لا تقاوموا الشرّ بالشرّ” أوصانا يسوع.
عندما يختلف اثنان، يختلفان ولدى كلّ منهما القناعة أنّه هو المحقّ والمصيب والآخر هو المخطئ، وهذا طبيعيّ! لكنّ الحلّ المسيحيّ هو فوق المعتاد والطبيعيّ.
لا بدّ لي وإن كان لديّ الشعور أنّني على حقّ وأنّ الآخر على خطأ، لا بدّ لي أن أترك هذا الحقّ وأقول يجب أن أكون ليس “على حقّ” بل “في التواضع”.
ما هو التواضع سوى تفضيل محبّة الآخر على كرامتي. التواضع هو تفضيل تحسين علاقتي مع الآخر على حساب حسنات وخيرات وهميّة قد لا يحفظها الآخر لي في العلاقة. هذه هي التقوى، ملآنة بالتواضع.
ثالثًا، العطاء هو المظهر العميق للتقوى. ليس الفرح إذن إشاعة جوّ من التسلية والضحك، الفرح هو رفع الآلام. ليس التواضع ذلًا، التواضع هو تجاوز الحدود العاديّة من أجل النجاة بالعلاقة والمحبّة مع الآخر.
لذلك نستنتج على الفور أنّ علاقة التقوى مع الآخرين هي علاقة مسؤولة وليست مجرّد مظاهر.
لهذا التعبير عن مصداقيّة الأمرَين السابقَين (الفرح والتواضع) هو العطاء، والعطاء بسخاء، وذلك على الصعيدَين الماديّ والروحيّ، ولا شيء ماديّ في العطاء، لأنّ العطاء يجعل المادّة روحاً ويفسّر الروح بالمادّة. تعطي بقدر ما تحبّ.
على هذا المعيار: “العطاء والمشاركة” فلنقسْ محبّتنا وتقوانا.
ولكن، لكي لا يظن أحدنا أن العبادة والطقوس سببٌ لعدم التقوى الحقيقيّة، علينا أن نوضح أنّ زيف العبادة هو السبب، لكن العبادة والطقوس هي الأسس العمليّة والأفضل لعيش التقوى بالمسيح يسوع.
الطقوس والصلوات والأصوام والأعياد وكلّ الأسرار الإلهيّة هي الأداة الأفضل من أجل حياة التقوى.
لإنّ الطقوس تؤمّن قراءة الكتاب من ناحية وساعات التأمل والأسرار التي تضع المؤمن الممارس في عملانيّة الحياة الروحيّة كلها. هكذا تصير العبادة الحقيقيّة الدافع والإطار والحياة للتقوى، فهي تولّد التقوى، وفي إطارها نحيا التقوى، حيث يصير الطقس ليتورجيا محبّة الآخر، وتمدّنا العبادة بالروح والفرح والتواضع لنحافظ على التقوى، “مستمرّين على ما تعلّمناه وموقنين به، عالمين أنّنا تعلّمناه من بولس وسيّده الربّ يسوع: أن نعيش بالتقوى”، آمين.
Discussion about this post