ملكوتُ الله
المطران بولس يازجي
من كتاب “السّائحان بين الأرض والسماء” – الله والإنسان – الجزء الثاني
المطران بولس يازجي
من أهمِّ العبارات التي نكرِّرها في صلواتنا الفردية وطقوسنا الجماعية هي عبارة “ملكوت الله”. فنحن كلّ يومٍ نصلّي “أبانا” ونردِّد “ليأتِ ملكوتك”، ونفتتح القدّاس بـ”مباركةٌ هي مملكة (ملكوت) الآب والابن والرّوح القدس”.
لكن بمقدار ما هذه العبارة مهمة، بمقدار ما يُساءُ فهمها أحياناً. فالبعض منَّا، نحن المسيحيين، يَعتبر ملكوت الله مملكةً مثل “الطائفة”، نتجمَّع فيها في دنيانا لنشكّل قوةً تجاه شعوبٍ أو طوائفَ أخرى…،أوننتظر فيها من الله نصراً هنا على “أعدائنا”، أو…، والأوجه عديدة.
البعضُ الآخرُ يعتبر مُلك الله مكاناً ليس “هنا” بل “هناك” في الحياة الآتية وليس الحاضرة، ونحن في الانتظار. فـ “هنا” و”الآن” هو للشيطان، الذي سمَّاه بولس الرسول “سيِّد هذا العالم”! لكنّ التأمل بهذه العبارة من خلال الكتاب المقدّس خيرُ طريقٍ لمعرفة معناها.
اللهُ ملكٌ لكلّ الديانات والشعوب، وقبل المسيحيّة واليهودية! فهو من يحمي ويعدل، والقاضي الأعلى بين الخير والشر، وهو الأقوى! عند الشعوب القديمة، كان الملكُ الأرضيُّ يستمدّ منه، كنائبٍ عنه، قدسيةً لمُلكه وطاعةً من شعبه.
في الكتاب المقدّس، الله ملكٌ فوق كلّ الملوك، ليس كالآلهة الوثنيَّة. نظر الشعب في العهد القديم إلى الله كملكٍ دائماً، ولكن بنظراتٍ متفاوتةٍ خلال تاريخه الطويل.
عندما جاء المسيح وتجسَّد كان التاريخ قد اختمر-عند البعض- لكنْ تمخَّض عن صورةٍ أرضيَّةٍ دنيويةٍ للمَلكِ الآتي من نسل داوود. هذا الملك سيأتي وينصرهم على الأمم التي حولهم ويقيم مُلْكاً ليس له نهايةٌ!
وقلَّةٌ تقيةٌ كانت “تنتظر خلاص إسرائيل” بصورةٍ روحية.
تجنَّب يسوع خلال حياته وبشارته لقب المَلك، وهرب من الجموع عندما أرادوا أن ينصِّبوه ملكاً، إثر عجيبةٍ كبيرة. شكّل دخول يسوع إلى أورشليم على “حمارٍ” وبتواضعٍ الصدمةَ الصاعقة التي قادت هؤلاء اليهود إلى القرار بقتل هذا الملك المتواضع، لأنه “خيرٌ أن يموت واحدٌ عن الأمّة”!
كانت بشارة يسوع وكرازته بـ “ملكوت”، وبدأ هو يكرز “توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات”، تماماً كالسّابق يوحنا المعمدان. ولكنّ الملكوت الذي دعا إليه يسوع كان مغايراً جداً للمملكة التي كان ينتظرها الرؤساء بين اليهود، لهذا أعلن لبيلاطس:
“مملكتي ليست من هذا العالم“.
قبل آلامه صرخ يسوع بتلاميذه الذين سألوه: “متى يأتي الملكوت؟“
“إنَّ بين الموجودين هنا مَنْ لا يرى الموت قبل أن يرى ملكوت الله آتياً بقوةٍ جليَّاً“.
يشرح الآباء القدّيسون هذه العبارة، أنّ يسوع كان يعني بـ “ملكوت الله” هنا حدث التجلِّي الذي تمَّ بعد قليل، أو أيضاً حدثَ موتِه وقيامته وتأسيس الكنيسة في العنصرة. الأمور التي شهدها الذين كانوا معه في جيله.
ملكوتُ يسوع إذاً هو حالةُ “مجدِه” الظاهر للناس. وهذا ما أعلنه يوحنا الحبيب على لسان الرّب: “المجد الذي أعطيتني (يصلِّي للآب) سأعطيهم (للتلاميذ) إياه“.
وهذا المجد الظاهر لا يعني مجرَّد إعلانٍ، بل هبة. فالإنسان عندما “يُعاين” مجد الله لا يعني أنه يشاهده بل يختبره.
عندما رأى بطرس مجدَ يسوع على ثابور، خَبِر منه خبرةً جعلته يصرخ “يا سيِّد ليتنا (حسناً أن) نبقى ههنا“. ما نسميه رؤية مجد الله يعني اختبار حياة الله في سعادتها ووحدتها ومحبّتها، وذلك بالمقدار الذي نستطيعه، (أن يشاهدوا مجدك قدر ما استطاعوا – تقول ترنيمة العيد).
المجد، هنا إذاً لا يعني كرامة الله أو سموّه، بل حياته. ومشاهدة هذا المجد هي اختبار شيءٍ من حياة الله في حياتنا. إذاً ملكوت الله ليس حالةً أو مكاناً هناك أو فيما بعد، بل هو حالة العشرة مع الله ومشاركته حياتَه في حياتنا هنا.
“ليأتِ ملكوتك” عبارةٌ تعني أولاً أننا مسؤولون أن نحيا حياةً كحياة الله (على شبهه)، أي: “لتكن مشيئتك“، بكلمةٍ أخرى تعني اختبارَ ملكوت الله، أو حلوله بيننا الذي يتم باختبار النعمة الإلهية في حياتنا، وفي قلب كلٍّ منا.
“ليأتِ ملكوتك” تعني أيضاً بالوقت ذاته حالة “الانتظار” والترقّب لحلول ملكوت الله بالكلّية عند المجيء الثاني. “ملكوت الله في داخلكم“، عبارةٌ تفسِّر معنى الملكوت بوجهيه، حالة الانتظار للمجيء الثاني وحالة حياة الإنسان في خبرة النعمة.
حين يشرح الآباء القدّيسون هذه العبارة الغريبة: “ملكوت الله في داخلكم”، يشدّدون أولاً أنّ اختبار الملكوت هو مسألةٌ روحيةٌ داخلية تتمُّ في القلب وليس في بلدٍ أو بقعةٍ جغرافيةٍ أو فترةٍ زمنيَّةٍ محدَّدة… ملكوت الله حاضرٌ عندما نجعل يسوع مالكاً -وحده- في قلوبنا!
“ملكوت الله طُهرٌ وبِرٌّ وسلام”.
وثانياً أنّ العبارة “في داخلكم” تعني: “فيما بينكم”، أي في اجتماع المؤمنين كـ “كنيسة”.
ملكوت الله في وسطنا، أي في محيطنا ومجتمعنا في طريقة حياتنا كـ كنيسةٍ حين نشهد ونصلّي، حيث شاء اللهُ لكلّ منا أن يصلّي ويشهد في حياته الفردية وجهاده الرّوحي وطهارته الداخلية:
“أنتم هيكل الله الحي“.
ملكوت الله في قلب كلّ واحدٍ منّا وملكوت الله هو طريقة حياةٍ تمثِّلها وتُحضرها “الكنيسة”. لهذا حين يجتمع المؤمنون، خاصةً في العشاء السري، حول الكأس المقدّسة، حول السيِّد الذبيح والذابح، يعلنون على الفور: مباركةٌ “مملكة الآب…”.
“ليأتِ ملكوتك”، تعني “لتكن مشيئتك”. نحن إذاً أبناء الملكوت، الذين نحفظ وصيَّة السيِّد ونعمل مشيئته في حياتنا. “ليأتِ ملكوتك”، عبارةٌ توحي لنا على الفور حالة الشوق إلى “الإسختا” في الانتظار،
لكنها تعني بالوقت ذاته حالةً يبدأ تحقيقها واختبارها “هنا”، أي كما تعني هذه العبارة حالة “الانتظار” تعني أيضاً حالة “إحضار”، آمين!
Discussion about this post