نسك البطريرك الصربي بولس
(يوري ماكسيموف هو مراسل الدايلي تلغراف وقد كتب هذا المقال في 30 أيلول 2009 قبل وفاة البطريرك بولس بشهرين)
رغم من أنني لم أقابل البطريركَ بولس شخصياً إلا أنني سمعتُ عنه الكثير. زُرتُ صربيا، أولاً، في خريف 2006. رغبتُ بشدة أَنْ أَرى قداستَه، خصوصاً لأنه كَانَ مُتاحاً الوصولُ إليه، بحسب ما علمْت.
لم يكن الأمر أنني كنت أتوقع الحصول على مقابلة معه، لَكنِّي تَمنّيتُ، ببساطة، أَنْ أَنْظرَ بعينَيَّ رجلاً قديساً معاصراً وأحصل على بركتِه، وهذا لوحده سيكون مصدر بهجة لي. إلا أن هذا لَمْ يَحْدثْ. في خريف 2006، سَاءتْ صحتُه، وفي زياراتِي التاليةِ، ازدادت سوءاً. بدا واضحاً أنني كنتُ غيرَ جدير برُؤية قداستِه، بولس.
عندما كنتُ في صربيا، سمعتُ عنه الكثيرَ من القصص المُلفتة من أناس جديرين بالثقة، وأرغب في مشاركتها. إن صاحب القداسة، البطريرك بولس، هو ظاهرةٌ فريدة في عصرنا؛
لذا، فمن غير المُجدي جعلُه مقياساً لبقية البطاركة، تماماً كما لو أننا نجعلُ، مثلاً، القديسَ فيلاريت الرحيم أو القديس ألكسيوس رجل الله مقياساً لغالبية العلمانيين في عصرنا. لكل واحد معاييرُه الخاصة ونوعية جهاده.
أرى بأنّه علينا أن نبتهج كونه وُجد في زماننا شخصٌ مثل هذا في الكنيسة الأرثوذكسية. من المعروف جيداً بأن البطريرك الصربي، حتى عند تسلّمه مهام منصبه الرفيع، تابَعَ نذوره الرهبانية وجاهَدَ لكي يعيش باعتدال، مع أنّ كلَّ ذلك كان طبيعياً بالنسبة له، وبدون أي تَكَلُّف مُصطنع. كان يتنقّل من بلدة إلى أخرى سيراً على الأقدام أو يستقلُّ وسيلة نقل عمومية، ويَحتكُّ بجماهير العامّة. لم يكن يملك شيئاً، وكان طعامه مثل آباء الصحراء القدماء- لأنه، وبكل بساطة، كان مثلَهم.
أخبرتني السيدةُ جانا تودوروفيك قصةً تتعلَّقُ بشقيقتها. كانت تَحضُر استقبالاً عند البطريرك لسبب ما. وفيما كانت تتناقش معه حول أحد الشؤون، حدث أن نظرتْ إلى قدمَي البطريرك فصُدمتْ لمنظر حذائه: كان بالغَ العتاقة وقد بدا واضحاً أنه تمزق عدَّة مرات ثم أُعيدَ إصلاحُه. فكَّرت المرأةُ في نفسها: “يا لَعارنا نحن الصربيين، هل على بطريركِنا التنقُّلَ بحذاء بالٍ؟ أليس بمقدور أحد شراء حذاء جديد له؟”، قال البطريرك بفرح:
“أنظري إلى جودة حذائي! لقد وجدتُه بقرب براميل القمامة عند ذهابي إلى البطريركية. لقد تخلَّص أحدُهم منه، لكنه من الجلد الطبيعي. لقد أعَدْتُ رَتقَه. انظري، لا يزالُ بإمكاني استعمالَه لمدة طويلة”.
هناك قصةٌ أخرى حول الحذاء نفسِه. جاءت امرأةٌ إلى البطريركية طالبةً التَّحَدُّثَ إلى البطريرك، شخصياً، بخصوص أمرٍ مستعجل. لم يكن ذلك الطلبُ عادياً، لذا لم تُستقبلْ حالاً. إلا أن إلحاح الزائرة أثمر، وتمت المقابلة. أخبرت المرأةُ البطريركَ بحماس شديد بأنها، في تلك الليلة رأت العذراءَ في نومها وطلبت منها أن تذهب إلى البطريرك وتعطيَه مالاً ليشتريَ لنفسه حذاءاً جديداً. بعد أن أخبرته بذلك، أخرجت الزائرةُ مغلَّفاً من المال. لم يأخذ البطريركُ المالَ، بل أجاب برِقَّة: “في أي وقت ذهبتِ إلى النوم؟”. أجابت المرأة، وقد أخذَتْها المفاجأة: “حوالى الساعة الحادية عشرة. أجاب البطريرك: “تعلمين أنا أنام بعدك، حوالي الرابعة صباحاً. أنا، أيضاً، رأيتُ العذراء في نومي، وقد طلبتْ مني أن أُبلغكِ بأن تَمنَحي المالَ لمن هم حقاً بحاجة إليه”.
ولم يأخذه.
في إحدى المرات، فيما كان يقترب من مبنى البطريركية، لاحظ أن هناك عدداً من السيارات عند المدخل، فتساءل من عسى أن يكونوا. قيل له بأن تلك السيارات تخصّ أساقفةً. أجاب البطريكُ بابتسامة:
“إذا كانوا، وهم يعرفون أنّ السيد أوصى بعدم القنية، يمتلكون مثل تلك السيارات، تخيّلوا سياراتُهم فيما لو لم يوصِ بتلك الوصية”.
مرَّةً، فيما كان البطريركُ مسافراً، جوّاً، في إحدى الزيارات، دخلت الطائرةُ في منخفض هوائي فوق البحر وأخذت تهتزّ. فسألَ أسقفٌ شابٌّ البطريركَ، وكان جالساً بجانبه، ماذا سيدور في فكره لو أن الطائرة أخذت تهوي. أجاب صاحبُ القداسة، البطريرك بولس، بهدوء: “فيما يتعلَّقُ بي، ساعتبرُ ذلك منتهى العدالة؛ لقد أكلتُ كثيراً من السمك، خلال حياتي، لذا لن أتفاجأ إذا ما أكلتني الأسماك الآن”.
ليست فكرة سيئة أن نقتبسَ مقطعاً من حوارٍ بين نيكولاي كوكوخين والشماس نيبويشا توبوليك:
“إنها نعمةٌ من الله أن يكون لدينا راعًٍ روحانيٌّ مثل صاحب القداسة البطريرك بولس. فهو يسلك في حياةً ذاتَ طابع نسكي ويُعتبَرُ نموذجاً حياً للراعي بحسب الإنجيل. إنه يحيا بالمسيح بكل ما لهذه الكلمة من معنى. فهو يصوم مثل أي راهب أرثوذكسي، أي أنه لا يأكل اللّحمَ، ويحافظ على نظام صيامي صارم للغاية أيام الآحاد والأربعاء والجمعة. يُقيم القداس كلّ صباح في كنيسة صغيرة في مبنى البطريركية. ليس في تلك الكنيسة جوقةٌ، بل، أبناءُ الرعية فقط وهم يقومون بالترتيل”.
“إنه يرتدي، بنفسه، الثيابَ الكهنوتية قبل الخدمة ويَخلعها بعد الخدمة، ويُعَرِّفُ ويُناول أبناءَ الرعية بنفسه. لا يزالُ يرتدي الجبّة نفسَها والقلنسوّة نفسها منذ رسامته في الخدمة الملائكية (كان ذلك منذ خمسين عاماً). لم يُبَدِّلْهما على الإطلاق، وهو يَغسلهما ويَكويهما ويُصلحُهما بنفسِه.
ويقوم بتحضير طعامه بنفسه. أخبرني، مرةً، بأنه صنع لنفسه حذاءاً كان، أصلاً، نسائياً، فلديه كل المعدات لإصلاح الأحذية؛ ويستطيعُ أن يُصلِحَ بنفسِه أيَّ حذاء. كثيراً ما يَخدم في كنائسَ متعدّدة.
وعندما يكتشف بأن أفلونية أحد الكهنة أو جبّته ممزّقة، فإنه يقول له: “اجلبْها لي، وسوف أُصلِحُها”. إنه أمر مفيدٌ لتهذيب النفس روحياً أن نكون متواجدين حول هذا الإنسان.
ومع هذا، فالبطريرك بولس يحمل دكتوراه في اللاهوت (وذلك قبل أن يُصبحَ بطريركاً)، ولديه عدةُ كتب من تأليفه: دراسة حول دير القديس ذيونيسيوس دافيتش وإيضاحات حول أسئلة تتعلق بالإيمان بأجزائه ثلاثة، وكذلك عدة مختارات تُرجِمت إلى الروسية.
اليوم، ناهز البطريركُ بولس الخامسةَ والتسعين. وهو في المستشفى منذ زمن بسبب اعتلال صحّته. أما المجمع المقدّس للكنيسة الأرثوذكسية الصربية فيقوم بالمهام الإدارية للكنيسة. وقد طلب البطريركُ بولس، باستمرار، أن يُعفى من مهامِّه بسبب صحته المتدهورة، إلا أن آخر مجمع عُقِد قد قرَّرَ أن يبقى البطريركُ في منصبه الروحي كرئيس للكنيسة الصربية حتى مماته. كان البطريرك بولس قريباً جداً من الناس، وقد أحبه الناس بدورهم محبة كبيرة. إنه شخصية فريدة حتى بالنسبة للكنيسة الصربية، أما البطريرك الذي سيليه فسيكون، حتماً، مختلفاً عنه.
يقول بيدراغ ميودراغ، وهو يَعرف البطريرك عن كثب، في مقالة قصيرة عن صاحب القداسة:
“من السهل الوصولُ إليه، فعندما كانت شقيقتُه على قيد الحياة كان يتردَّدُ إلى بيتها سيراً على الأقدام. إنه، بشكل عام، يحب التنقل مشياً دون أية مرافقة. يستطيع أيٌّ كان أن يقترب منه ويتحدَّث إليه. وهو يستقبل الزوار كلَّ يوم في مكان إقامته. يأتي الناسُ إليه لطرح حاجاتهم وأسئلتهم البسيطة، ولديه لكل واحد منهم كلمةُ التعزية المناسبة.
يستيقظ البطريركُ باكراً جداً، وفيما يكون الجميعُ نياماً، يُقيمُ القداسَ الإلهي حاملاً في صلواته كلَّ الشَّعب الصربي. فهو يحمل في قلبه صربيا كلَّها. إنه صغير في قامته ، لكنه كبير في قلبه. أصابعُه رفيعةٌ، لكنه عندما يرسم بها إشارةَ الصليب، فإن قوات الأبالسة تهرب؛ يرتدي البطريركُ ثياباً قطنية رقيقةً، إلا أن تحت تلك الثياب يَكمنُ قلبُ مجاهد شجاع. يقول الناس: “إنه ملاكُنا الذي يحمينا ويدافع عنّا”.
Discussion about this post