أولًا: المقدّمة
انْفُخُوا فِي رَأْسِ الشَّهْرِ بِالْبُوقِ عِنْدَ الْهِلاَلِ لِيَوْمِ عِيدِنَا (مز 81: 3).
هذا أمر نبوي. أما بالنسبة لنا، فإن مقاطع إشعيا التالية تنبئ بعيد الأيام المقبلة بصوت يفوق كل بوق من حيث قوته وكل آلة موسيقية من حيث خاصيّتها (اش 58) .
هذه الأقوال تدع جانبًا الصوم اليهودي وتُظهر لنا الصوم الحقيقي على طريقته القويمة، عندما تصومون انظروا أن لا تكونوا في خصومة أو مشاجرة مع الناس الآخرين، بل اجعلوا حدًّا لكل ظلم طارئ.
أما الرّب يسوع فيقول: مَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ (مت 6: 16) أَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ (مت 6: 17).
لأنه لا يكلّل أحد ولا يحوز على راية الظفر إن كان وجهه عابسًا أو قاتمًا.
لا تكونوا عابسين وأنتم تستعيدون صحتكم. فإنه لا بدّ لنا أن نتهلل لصحة نفسنا، ولا مجال للحزن بسبب تبدّل الطعام وكأننا نؤثر ملذّات البطن على منفعة نفسنا، لأن الشبع يقف إحسانه عند حدود البطن، أما الربح الناتج عن الصوم فهو يَنفذ إلى النفس. كن فرحًا لأنك أعطيت من قبل طبيبك دواء ينـزع الخطايا.
لا تبدّل وجهك كما يفعل المراؤون. إن الوجه يتبدل عندما يظلم الداخل مع التظاهر الخارجي، وكأنه مخفي وراء ستار كاذب.
المرائي هو الذي يكون له على المسرح وجه آخر. يرتدي قناع السيّد وهو في الحقيقة عبد. يلبس قناع الملك وهو بالحقيقة من عامة الناس.
هكذا أيضًا في الحياة الحاضرة، كثيرون يتظاهرون وكأنهم على المسرح. يكونون على كل شيء في عمق القلب ويتظاهرون بوجه آخر أمام الناس. أما أنت فلا تبدّل وجهك. كما أنت هكذا أظهر للآخرين.
لا تبدّل مظهرك عابسًا ساعيًا وراء الشهرة عن طريق التظاهر بالصوم والإمساك، لأنه لا نفع للإحسان الذي يطبَّل له، ولا ثمر للصوم الذي يشهّر أمام الناس، أي كل ما يقوم به الإنسان بغية التظاهر أمام الآخرين لا ينفذ إلى الدهر ولا يتخطى حدّه مدح الناس.
أسرع بفرح إلى هبات الصوم. إنّه هبة قديمة العهد لا تعتق ولا تشيخ، بل تتجدد وتزهر على الدوام.
ثانيًا: تاريخ الصوم
ربما تظن أنني سأعيد قدم الصوم إلى مرحلة الناموس الموسمي. الصوم هو أقدم من ناموس موسى. ومع قليل من الصبر ستقتنع من كلامي هذا.
لا يخطر ببالك الظن بأن بداية الصوم تعود إلى يوم الكفّارة الذي حُدّد لإسرائيل في العاشر من الشهر السابع (لا 27:23).
هلمّ تقدم أكثر في التاريخ وأبحث عن قدمه. فإن نظام الصوم لم يبتكر في الأزمنة الحديثة. إن هذه الجوهرة هي من ميراث آبائنا. كل شيء يتميز بقدمه جدير بالاحترام والإجلال فاحترم إذاً وجهه الشاحب. الصوم هو من عمر الإنسانية نفسها. لقد شُرّع له في الفردوس.
إن آدم هو الذي تقبّل الوصية الأول للصوم، وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا (تك 2: 17).
العبارة لاَ تَأْكُلْ ما هي إلا شريعة صوم وإمساك. لو أن حواء لم تأكل من ثمر العود لما كنّا بحاجة إلى الصوم الحاضر.
لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى (مت 9: 12). لقد ترتّب علينا كثير من الشرور بسبب خطايانا، فلنعالجها إذًا عن طريق التوبة. لكن التوبة بدون صوم لا تأتي بثمر. مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ (تك 3: 17) وسيكون شَوْكًا وَحَسَكًا تُنْبِتُ(تك 3: 18). لقدّ تسلّمت وصية التعرّف ضمن حدود ولم تعطَ أن تستسلم لملذات الجسد. حسابك لله يكون عن طريق الصوم. إن العيش في الفردوس يعكس صورة الصوم.
لا لأن الإنسان كان يتشبه بالملائكة عن طريق القناعة، بل أيضًا لأنه لم يكن ليعرف في الفردوس كل ما ابتكره الناس بعد ذلك من شرب خمر وذبائح حيوانية وكل ما يعكّر صفو ذهن الإنسان.
لقد طُردنا من الفردوس لأننا لم نصم. فلنصم إذاً حتى نعود إليه. ألم ترَ كيف أن الفقير لعازر دخل الفردوس عن طريق الصوم (لو 16).
لا تتشبّه بمعصية حواء وتتبع مشورة الحية. لا تتحجج بالمرض الجسدي. إن هذا التعلل لا يتوجّه إليَّ بل إلى ذلك الذي يعرف حقائق الأمور بالضبط.
تقول لي لا أستطيع أن أصوم، لكنك تقدر على إشباع البطن طيلة عمرك وعلى إجهاد جسدك بثقل المآكل التي تتناولها. إنني اعلم من جهتي أن الأطباء يصفون الصوم دواء للمرضى، لا كثرة المآكل.
كيف تقدر من جهة على إشباع البطن وتدّعي من جهة أخرى أنك لا تقدر على الصوم؟ ما هو الأسهل بالنسبة للبطن؟ أن تمضي الليل هادئاً، مع قليل من الطعام، أم أن تستلقي على الفراش مثقلًا بكثرة المآكل؟
أو قل بالأحرى أن تتقلب متنهدًا ومواجهًا خطر القيء من كثرة الأطعمة؟ أو أنك تريد أن تقنعني أنه اسهل على البحارّة أن ينقذوا من الغرق مركبًا مثقلاً بالحمولة من أن ينتشلوا مركبًا قليل الحمولة وخفيفًا.
هذا لأن المركب الثقيل ما أن ترفعه الأمواج قليلًا حتى يشرف على الغرق، بينما يسهل على المركب الخفيف أن يتجاوز العاصفة لأنه لا يصعب عليه أن يرتفع فوق الأمواج وأن الأجساد التي تثقل بالأطعمة بصورة متواصلة معرّضة أكثر للأمراض إلا أننا عندما نتناول طعامًا خفيفًا متوازنًا، نتجنّب شرَّ المرض كما يتجنّب المركب الخفيف العاصفة وينجو إلاّ إذا اعتبرت، حسب رأيك، أن الاستراحة أضمن من الركض و الهدوء أشدَّ من العراك.
فإذا صحَّ قولك هذا يكون أفضل للمرضى أن ينتفخوا بالمآكل بدل أن يكتفوا بالطعام الخفيف. طعام خفيف يسدّ حاجة كل حيّ للغذاء أفضل من مأكل كثير يثقله، لأنّه مع كثرة الأطعمة تتعكر عملية التغذية بدخول أمراض متنوعة.
ولكن لنتقدم في تاريخ الصوم ونتقصّ قدم تشريعه. كيف تقبّله القديسون جميعًا كميراث آبائي ومارسوه بدقّة مسلِّمين إياه من أب إلى ابنه إلى أن وصل إلينا بالتسلسل.
لم يُعرف الخمر في الفردوس (كما ذكرنا) ولا الذبائح الحيوانية ولا أكل اللحوم. لقد عرف اللحم والخمر بعد الطوفان لأنه أوصي عند ذلك كُلُّ دَابَّةٍ حَيَّةٍ تَكُونُ لَكُمْ طَعَاماً كَالْعُشْبِ الأَخْضَرِ(تك 9: 3). عندما يئس البشر من بلوغ الكمال الروحي حينئذٍ سمحوا لأنفسهم بالتمتع بكل شيء.
والبرهان على أن البشر لم يعرفوا الخمر هو نوح كان يجهل استعمال الخمر: لم يرَ أحد يستخدمه وهو لم يذقه هو شخصيًا، لذلك حدث له ما حدث من أذى من جراء عدم احتياطه.
وَابْتَدَأَ نُوحٌ يَكُونُ فَلَّاحًا وَغَرَسَ كَرْمًا. وَشَرِبَ مِنَ الْخَمْرِ فَسَكِرَ(تك 9: 20-21)، لا لأنه كان سكيرًا بل لعدم خبرته في شرب الخمر باعتدال. إن شرب الخمر بعيد عن مرحلة الفردوس بقدر ما يبتعد الصوم الشريف في قدم زمنه.
ونعلم أيضًا أن موسى لم يجرؤ على الاقتراب من جبل سيناء والصعود إليه إلاّ بعد صوم طويل. لم تكن له الجرأة على الصعود إلى الجبل المدخّن ولا الشجاعة على الدخول في وسط الغمام الذي غطاه (خر 24: 18) لو لم يتسلّح بالصوم. عن طريق الصوم تسلّم الوصايا العشر التي دُفعت إليه على لوحين من حجر مكتوبين بإصبع الله (خر 34: 28)، بينما في أسفل الجبل دفعت الشراهة الشعب إلى عبادة الأوثان، لأنه جَلَسَ الشَّعْبُ لِلأَكْلِ وَالشُّرْبِ ثُمَّ قَامُوا لِلَّعِبِ(خر 32: 6). البقاء على الجبل أربعين يومًا وابتهال عبد الله المؤمن، كل ذلك لم يجد نفعاً مقابل يوم واحد من السكر والعربدة. وبعبارة أخرى، إن لوحي الوصايا التي أتت عن طريق الصوم مكتوبة بإصبع الله حطمها السكر، لأن النبي موسى حكم أن الشعب المستسلم للسكر لم يكن يستحق استلام الوصايا الإلهية (خر 32: 19).
بالنسبة للشعب الذي عرف الله الحقيقي والصانع له العجائب، لحظة واحدة كانت كافية ليعود ويغرق في وثنية المصريين. فاجعلوا أمامكم إذًا الأمرين وقارنوا بينهما: أنظروا أن الصوم من جهة يقرّب الإنسان إلى الله، بينما التمتع من جهة أخرى يقضي على خلاص نفسه.
لكن لنتابع طريقنا ونتقدم في التاريخ. من الذي أضعف موقف عيسو وجعله عبدًا لأخيه؟ أليس هو طعام تناوله وباع من أجله بكوريته لأخيه (تك 25: 31-34)
في المقابل، يُهدَ صموئيل لأمّه عن طريق الصلاة والصوم، ما الذي جعل شمشون الكبير لا يقهر، أليس هو الصوم الذي ساهم في الحبل به؟ لأن الملاك أوصى به لأمه قائلاً لها: وَالآنَ فَلاَ تَشْرَبِي خَمْرًا وَلاَ مُسْكِرًا وَلاَ تَأْكُلِي شَيْئاً نَجِسًا، لأَنَّ الصَّبِيَّ يَكُونُ نَذِيراًلِلَّهِ مِنَ الْبَطْنِ إِلَى يَوْمِ مَوْتِهِ (قض 13: 7).
الصوم يولّد أنبياء، يجعل المشرّعين حكماء. هو كنـز صالح للنفس، وسكناه فيها ضمانة. هو سلاح المجاهدين ورياضة المتبارين. هو الذي يبعد التجارب ويحثّ على التقوى. يواكبه انتباه روحي متواصل. الصوم يولّد العفّة.
في الحروب يصنع الرجال، وفي السلم يعلّم الهدوء. يقدّس المكرّس لله، يجعل الكاهن يتقدم أكثر قي طريق الكمال، لأنه لا يمكن للكاهن بدون صوم أن يخدم العبادة الإلهية الحاضرة والسريّة فحسب بل حتى العبادة الناموسية التي لموسى أيضًا.
الصوم هو الذي أهّل إيليا لتلك الرؤية العظيمة، لأنه بعد أن طهّر نفسه بالصوم مدّة أربعين يومًا أهّل لرؤية الرّب في مغارة حوريب بقدر ما يستطاع للناس أن يروا الله، وقد أقام ابن الأرملة بعد صوم متغلبًا هكذا على قوة الموت. من فمه، وبعد صوم طويل، خرج الصوت الذي حبس السماء معاقبًا الشعب بسبب معصيته، وكان ذلك لمدة ثلاثة سنين وستة أشهر، لأنه إذ أراد أن يطرّي قلوب الشعب القاسية فضّل أن يحكم على نفسه معهم بالشقاء.
لذلك قال:حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ إِنَّهُ لاَ يَكُونُ طَلٌّ وَلاَ مَطَرٌ فِي هَذِهِ السِّنِينَ إِلاَّ عِنْدَ قَوْلِي (1مل 17: 1).
وفرض الصوم عن طريق الجوع الذي حلّ مع الجفاف من أجل تقويم الشعب الذي كان استسلم للملذات الجسدية واستفحل الضلال في عيشه.
وأيضًا كيف كانت حياة أليشع؟ بأية طريقة استضافته المرأة الشونمية؟ فكيف أطعم الأنبياء الذين استضافهم؟ ألم تقتصر ضيافته على بعض البقول البريّة وقليل من الطحينّ؟
لأنه عندما وضعت البقول خطأ في القدر تعرّض الآكلون للموت من جراء الأعشاب المسمَّمة. فجاءت بركة النبي الصوّام وأبطلت فعل السمّ (2مل 4: 38-44).
بكلمة واحدة، لدى فحص الأمور، تجد أن الصوم كان مرشدًا لجميع القديسين سلوكهم وفقًا لوصايا الله.
هناك جسم طبيعي هو الأميانط (amiante) لا يحترق في النار ويبدو فيها وكأنه يصير فحمًا، لكن عندما يُنشل منها ويغسل بالماء يزداد لمعانًا. وهكذا استبان مع أجسام الفتية الثلاثة لأنها كانت نقية.
لقد وُجدوا في لهيب الأتون وكأن أجسادهم من ذهب لا من لحم وعظام، وظهروا عند خروجهم أبهى مما كانوا عليه (دا 3). طبعًا برهنوا على أنهم أسمى من الذهب لأن النار لم تُشوّه مظهرهم بل حفظتهم بلا عيب.
فمن كان يستطيع أن يحتمل مثل هذا اللهيب الذي كان يوقد بالنفط والزفت والزرجون حتى ارتفع فوق الأتون تسعًا وأربعين ذراعًا وانتشر وأحرق الذين صادفهم حول الأتون من الكلدانيين؟
دخل الفتية الثلاثة الحريق بعد أن صاموا قبلاً فاستنشقوا اللهيب وكأنه نسيم عليل مندّي. لم تجسر النار على الاقتراب من شعر رأسهم لأنهم كانوا قد تغذوا بالصوم.
أما دانيال رجل الرغائب الذي طيلة ثلاثة أسابيع لم يأكل خبزًا ولا شرب خمرًا، فقد علّم الأسود أيضًا أن تصوم عندما أُلقي في الجب. وكأن جسمه مصنوع من حجر أو من نحاس أو من مادة جامدة أخرى لم تقوى عليها الأسود بأسنانها. كما أن السقي يجعل الفولاذ أشد وأمتن، هكذا بطريقة مشابهة تقوّى جسم دانيال من جراء الصوم.
جعله لا يقهر أمام الأسود التي لم تجرؤ أمامه حتى على أن تفتح أفواهها (دا 6).
ثالثا: فضائل الصوم
الصوم أخمد أجيج النار، الصوم سدَّ أفواه الأسود. الصوم يرفع الصلاة إلى السماء وكأنه يعطيها أجنحة تخوّلها الطيران إلى فوق.
الصوم يُعمر البيوت، يُعنى بالصحة كأم. هو مربٍّ للشباب ومزيّن للمتقدمين في السن. مرافق حسن للمسافرين وضمانة لكل من يساكنه. لا يشك الرجل بامرأته عندما يراها تصوم، كما لا تغار المرأة من رجلها عندما تراه يصوم بانتظام.
من الذي قضى على ثروته من جرّاء الصوم؟? لا ينقص شيء منها عن طريقه. هو يريح الطباخين قليلًا من العمل. تقتصر المائدة على الطعام القليل. لقد أعطي السبت لليهود لِيَسْتَرِيحَ ثَوْرُكَ وَحِمَارُكَ وَيَتَنَفَّسَ ابْنُ أَمَتِكَ (خر 23: 12). ليكن الصوم فرصة استراحة سنوية للخدام من أتعابهم المتواصلة. يستريح الطباخ قليلًا من عمله. يأخذ مدبر المواد مأذونية.
لا يعود يسكب خمرًا في كأسك، وتتوقف صناعة الحلويات المختلفة، من الدخان، من رائحة الشوي، من كل من يسرع هنا وهنا كمن أجل خدمة البطن وكأنه السيد الذي لا يكفيه شيء. كان من عادة جامعي الضرائب أن يريحوا الملزمين قليلاً في وقت من الأوقات من دفع الضريبة. فليعط بطنك استراحةً ما للفم، ويلجأ محبة منا إلى السكينة.
هو الذي لا ينفك يطالب بالمآكل وإن نسي اليوم يعطي غدًا ما كان قد تناوله البارحة. عندما يمتلئ يتكلّم عن فلسفة الإمساك، وعندما يفرغ ينسى ما كان قد علّمه في وقت شبعه.
الصوم لا يعرف ما هو الدَّيْن?ابن الصوّام اليتيم لا تخنقه ديون والده ملتفة حول عنقه كالحيات. ومن جهة ثانية الصوم مناسبة للابتهاج. كما أن العطش يجعل الشرب مستحباً، كذلك الصوم المسبق يجعل المائدة مستحبة والطعام أشهى، لأنك إن أردت أن تجعل مائدتك لذيذة وشهية اعتمد الصوم الذي يخلق مثل هذا التبدّل.
أما أنت، الذي تتسلّط عليك شهوة التمتع بالأطعمة، فإنك تفقد بهذه الطريقة ملذاتها وتقضي على المتعة واللذة من جراء شهوتك وهو محبة اللذة. لا شيء يُشتهى ويتمتع به المرء بصورة متواصلة ولا يزدري به في النهاية. كل شيء نادر مستحق التمتع به.هكذا شاء الخالق عن طريق التبدل في العيش أن يديم التمتع بما وهبنا من نِعم.
ألا ترى الشمس مستحبة أكثر بعد انتهاء الليل؟ والاستيقاظ بعد النوم، والصحة بعد المرض، والمائدة أيضًا بعد الصوم، أكان ذلك للأغنياء الذين تفيض عندهم المآكل أم للفقراء القانعين بالطعام القليل؟
أذهب في مثال ذلك الغني لأن التمتع بالمآكل طيلة حياته سلّمه إلى نار جهنّم (لو 16). لقد أدين لا لظلمه بل لأنه كان يعيش في التنعم الدائم.لذلك أخذ يحترق في نار الأتون.
والصوم يفيدنا، ليس فقط من أجل الحياة الأبدية، بل يفيد أيضًا، جسدنا البشري. إن الرفاهية الزائدة تجرّ سقطات لاحقة، لأن الجسم يتعب ولا يستطيع أن يحمل ثقل الأغذية الكثيرة. أحذر ألاّ تزدري اليوم بالماء حتى لا تشتهي فيما بعد على مثال الغني نقطة واحدة منه. لم يسكر أحد من الناس من شرب الماء ولا أصابه صداع بسببه، ولا تعبت رجلاه أو يداه منه أيضًا.
إن عسر الهضم الذي يرافق عادةً كثرة الطعام والشراب هو الذي يولّد أمراض الجسد الصعبة. وجه الصائم محتشم، لونه لا يحمّر بصورة فاقعة، بل يتزين بلون شاحب يعكس عفة صاحبه. عيناه هادئتان وكذلك مشيته. هو رصين الطلعة لا يستجلب الضحك. أقواله متّزنة وقلبه نقي. تذكّر القديسين القدماء الذين طَافُوا فِي جُلُودِ غَنَمٍ وَجُلُودِ مِعْزَى مُعْتَازِينَ مَكْرُوبِينَ مُذَلِّينَ (عب 11: 37).
تمثّل بحياتهم إن ردت أن تشترك في نصيبهم.
رابعًا: في العهد الجديد
من الذي أراح لعازر في أحضان إبراهيم (لو 16)؟ أليس هو الصوم؟
حياة القديس يوحنا السابق كان صومًا مستمرًا. لم يكن له لا سرير ولا مائدة طعام، لا أرض مفلوحة ولا حيوان يعلفه، لا قمح، لا رداء ولا شيء مما تحتاج إليه الحياة الحاضرة.
لذلك لَمْ يَقُمْ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ (مت 11: 11) . وأيضاً الصوم هو الذي رفع بولس الرسول إلى السماء الثالثة (2 كو12).
يأتي في ذكره على تعداد أحزانه والافتخار بها. وعلى رأس ما أتيت على ذكره حتى الآن يأتي مثال ربنا يسوع المسيح نفسه، الذي عن طريق الصوم، حافظ على الجسد الذي أخذه من أجل خلاصنا. بالصوم ردّ عنه هجمات الشيطان معلّمًا إيانا بهذه الطريقة أن نهيئ أنفسنا وأن ندرّبها من أجل مواجهة التجارب.
لقد أخلى الرّب ذاته وتنازل مقدمًا هكذا فرصة لقاء مع الشيطان ومحاربته.
فإنه لم يكن بقدور العدو أن يقترب عن طريق أُخرى من السيد بما أنه إله، لو لم يتنازل إلى مصاف البشر
أَخْلَى نَفْسَهُ آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ (في 2: 7). وقد تناول طعامًا حتى بعد القيامة لكي يثبت بهذه الطريقة جسده القائم له طبيعة مادية (لو 24: 43).
أما أنت الذي تحشو بطنك بالمآكل، ألا تلاحظ رخاوتك من جراء ذلك، ألا تتفوه بكلمة عندما ترى ذهنك يجف بسبب فقدان الأقوال المحيية الخلاصية المغذية إيانا؟
أم تجهل أن من يتخذ حليفاً ينجح في التغلب على العدو؟ هكذا فإن الذي يضيف على جسده شحمًا يقاوم الروح.
كم أن الذي يجعل للروح حليفًا مساعدًا يسيطر على جسده. ذلك لأن الروح مناهض للجسد، حتى أنك إن أردت أن تقوّي ذهنك لجأت إلى الصوم من أجل إخضاع جسدك.
هذا ما يتفق مع كلام بولس الرسول الذي يقول:وَإِنْ كَانَ إِنْسَانُنَا الْخَارِجُ يَفْنَى، فَالدَّاخِلُ يَتَجَدَّدُ يَوْمًا فَيَوْمًا (2كو 4: 16)، أو لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ (2كو 12: 10).
خامسًا: وفي العهد القديم
ألا تزدري بالمآكل التي بكثرتها تفسد؟ ألا ترغب في مائدة الملكوت التي يهيِّئها الصوم دائمًا في الحياة الحاضرة؟
من الذي، عن طريق كثرة الطعام واستمرار التمتع الجسدي، نال مرةً موهبةً روحيَّة؟ لقد لجأ موسى إلى الصوم مرة ثانية من أجل تقبل الوصايا ثانية (خر 34: 28).
لو لم يصم أهل نينوى حتى مع بهائمهم لما نجوا من وعيد الخراب (يون 3: 5-10). من هم الذين تناثرت أعضاء أجسادهم وعظامهم في الصحراء؟
أليسوا هؤلاء الذين اشتهوا أكل اللحم؟ عندما قنعوا بالمن والماء الفائض من الصخرة انتصروا على المصريين وعبروا البحر على اليبس، ولم يكن فيما بينهم ذو علّة.
لكن ما أن اشتهوا اللحوم المطبوخة حتى عادوا إلى مصر ولم يروا أرض الميعاد.
ألا تخشى من التشبه بهم؟ ألا ترعبك شهواتك التي ربما تحرمك من الخيرات السماوية؟ النبي دانيال لم يكن ليشاهد مثل هذه الرؤى لو لم ينقِّ نفسه مسبقاً عن طريق الصوم (دا 1: 8-20).
إن كثرة الطعام تجرّ نوعًا من خيالات تشبه غيومًا سوداء تقطع استنارات الذهن بالروح القدس. إن كان للملائكة طعام فما هو إلا الخبز كما يقول النبي: أَكَلَ الإِنْسَانُ خُبْزَ الْمَلاَئِكَةِ (مز 78: 25). لا اللحم، لا الخمر ولا شيء آخر يشتهيه ذوو محبة البطن.
الصوم سلاح أمام جنود الشياطين.
وَأَمَّا هَذَا الْجِنْسُ فَلاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ (مت 17: 21). حسناته لا تعدّ. أما نتيجة الشراهة فهي الهلاك، لأن التمتع بالمأكل والسكر وما إليها تجرّ مباشرة كل نوع من أنواع الخلاعة التي تليق فقط بالبهائم.
فالسكر يولّد في النفس حب التمتع باللذات الجسدية والزنى،بينما الصوم، يساعد حتى الزوجين على نوع من الاتزان الجنسي ويحدّ من المبالغة في التمتع الجسدي، مما يساعد كثيراً على الاستمرار في حياة الصلاة.
سادسًا: فضائله على صعيد أوسع:
لكن حسنات الصوم لا تقتصر على الابتعاد عن الأطعمة الشهية، لأن الصوم الحقيقي هو في الابتعاد عن كل شرّ.
الحد من كل عمل ظالم، الابتعاد عن كل ما يحزن الآخر بل إعانته في كل ما يحتاج إليه (اش 58: 6). لا تصوموا وأنتم في نزاع مع الآخرين.
أنت لا تأكل لحمً بل ترغب في مأكل لحم أخيك. تمتنع عن شرب الخمر، لكنك لا تقطع لسانك عن التجديف. تنتظر هبوط الليل لكي تفطر بينما تمضي النهار كلَّه في المحاكم.
الويل للسكارى من غير شرب الخمر. الغضب ما هو إلا سكر للنفس لأنه يُخرج الإنسان عن صوابه كما يفعل فيه الخمر. الحزن أيضًا نوع من السكر لأنه يُظلم الفكر.
والخوف أيضاً نوع آخر عندما لا يبرر مصدره. لذلك يقول لمزمور: مِنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ احْفَظْ حَيَاتِي (مز 64: 1). وبصورة عامة الأهواء النفسية المختلفة التي تسبب اضطرابًا للذهن يمكن اعتبارها نوعًا من السكر.
انظر جيدًا إلى الغاضب كيف يصبح من شدة غضبه كالسكران، لا يعود يسيطر على نفسه، لا يلاحظ حاله ويتجاهل وجود الآخرين.
كما في حرب ليلية يضرب عشوائيًّا. يتفوه بكلام غير لائق، يشتم، يضرب، يهدد، يحلف، يصرخ وكأنه على وشك الانفجار. تجنب مثل هذا النوع من السكر كما ولا تسكر أيضًا بالخمر.
لا تفضل شرب الخمر على الماء، حتى لا يسوقك السكر نفسه إلى الصوم. لا يمكن للسكر أن يكون مقدمة للصوم لمبارك كما أن الطمع لا يقود إلى العدالة. كذلك لا تستطيع عن طريق الخلاعة أن تصل إلى العفة وبصورة عامة عن طريق الرذيلة أن تصل إلى الفضيلة. الصوم له مدخل آخر. السكر يقود إلى الخلاعة، أما الخلاعة فهي تقوده إلى الصوم.
كما أن المتباري يتدرّب ويتروّض مسبقًا، كذلك الصائم يجب أن يتعفف من قبل. لا تخزّن خمرًا في معدتك خلال أيام الفسحة الخمسة وكأنك تريد أن تعادل أيام الصوم وتضحك على صاحب الوصية.
إن تعبك سيذهب باطلًا مجهدًا جسدك دون أن تعوّض له في أيام الإمساك. تخزن في جرّة مثقوبة، يتسرّب منها الخمر ويجري في طريقه، أما الخطيئة فتبقى وحدها في مكانها.
العبد يهرب من سيده عندما يضربه. وأنت تنوي البقاء مع الخمر وهو يضربك كل يوم على رأسك؟ إن افضل مقياس لشرب الخمر هو حاجة الجسد.
إن تخطيت هذا الحد يأتي وجع الرأس، تثاؤب، تستنشق رائحة الخمر المخلّل، كل شيء حولك يدور ويضطرب. السكر يقود إلى النوم الذي يشبه الموت أو الصحو الذي يشبه الحلم أتعلم يا ترى من هو مزمع أن يأتي وتتقبله؟ هو الذي وعدنا بقوله: وَإِلَيْهِ نَأْتِي وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلًا (يو 14: 23).
لماذا إذًا تسرع عن طريق السكر وتوصد الباب أمام الرّب؟ هو يطرد الروح القدس. كما أن الدخان يطرد النمل كذلك تهرب المواهب الروحية من السكر.
سابعًا: الخلاصة
الصوم حشمة المدينة، سكينة الأسواق، سلام العائلات وضمانة لموجوداتنا.
أتريد أن تتعرف إلى وقاره؟ قارن بين الليلة الحاضرة والنهار المقبل، تجد أن المدينة تتبدّل وتنتقل من السكينة الكليّة إلى الضجة والاضطراب. أرجو أن يتشبه نهار غد باليوم الحاضر من حيث السكينة والوقار دون أن يفقد شيئًا من بهجته.
عسى أن يعطينا الرّب الذي أهَّلنا للوصول إلى مثل هذا اليوم ما يهب عادة للمجاهدين الأشداء فإنه بمواظبتنا على الجهاد والصبر سوف يؤهِّلنا أن ندرك ذلك الذي يوزّع فيه الأكاليل، أن نصل ههنا إلى أيام ذكر آلام الرّب وفي الدهر الآتي إلى مجازاتنا حسنًا على أعمالنا حسب حكم المسيح العادل الذي يليق له المجد إلى الأبد. آمين
المصدر مدونة كتابات الاباء القديسين
Discussion about this post