المسيح صعد من أجلنا
“تألم وقبر وقام من الأموات، وصعد إلى السموات، وجلس عن يمين أبيه”
قانون الإيمان
في سرد حوادث الصعود للقديس لوقا يقول أن السيد فيما هو يبارك تلاميذه، انفرد عنهم وأصعد إلى السماء (لو 24: 51)، فالمسيح ارتفع فوق الأرض واجتاز السموات، فأي قوة تلك التي رفعته فوق جاذبية الأرض!
وليس فقط جاذبية المادة ولكن سلطانها أيضًا، فهو بهذه القوة نزل إلى الجحيم بعد أن مات في مساء الجمعة العظيمة وصعد من الجحيم ولم يمسك منه، وبهذه القوة نفسها قام من الأموات في اليوم الثالث، وبهذه القوة عينها صعد إلى السموات، لا شك أنها قوة لاهوته فبينما السيد هو الأزلي (لا بداية له) في صعوده، لكنه أراد فقط أن يصعد جسديا أمام تلاميذه لكي يشاهدوا صعوده، فكانت مشيئته أن يرتفع بالجسد إلى السماء، وهو فيما كائن باللاهوت لم يفارقها.
فهو إن كان قد نزل إلينا على الأرض وتجسد وتأنس ومشى على الأرض وعاش بجسد بشريتنا لكن لم يخل منه مكان في السماء أو على الأرض فهو مالئ الكل بلاهوته فبعد أن أكمل تدبير الفداء صعد لأنه:
“ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء” (يو 3: 13). وكما أخبر السيد تلاميذه عن آلامه وموته وقيامته (مر 10: 34)، أيضا سبق وأخبرهم عن صعوده إذ قال:
“أهذا يعثركم فإن رأيتم ابن الإنسان صاعدا إلى حيث كان أولًا” (يو 6: 63)، بل ذكر السيد ذلك عدة مرات “أنا أمضي لأعد لكم مكانا ” (يو 14: 2، 28، 16: 7، 28، 20: 17) وأيضًا في صلاته الوداعية إلى الآب:
“والآن أيها الآب مجدني أنت عندك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم” (يو 17: 5).
والسيد المسيح في اتضاعه كان يجري أعماله أمام تلاميذه، وقد أشار إلى ذلك صراحة حين صار صوت الآب فقال لهم السيد وقتئذ أن هذا الصوت كان من أجلهم هم. وهكذا كانت أعمال السيد ظاهرة لتلاميذه فهو بطبيعته كامل في كل شيء لم يكن محتاجا إلى الختان أو يُقَّدم مثل الأطفال إلى الهيكل، ولم يكن في حاجة أن يعتمد لكنه تعمد لأجلنا فلم تكن المياه لتطهره بل هو نزل إليها ليطهرها ويقدسها، وعلى هذا المثال صعد إلى السماء قدام تلاميذه، لقد كانت مشيئته أن يصعد لا خفيه بل ظاهرا أمام تلاميذه، وليس معنى صعوده أن السماء كانت بدونه لحظة لأنه هو مالئ الكل بلاهوته، لكنه صعد بجسده وأجتاز السموات من أجل خاصته (عب 4: 14)، فإن الذي نزل (ولم تخل السماء من لاهوته) هو الذي صعد أيضًا (ولم يخل السماء من لاهوته) فوق جميع السموات لكي يملأ الكل في الكل (أف 1: 23، 4: 10)، ولذا قال عنه سفر الأعمال “هذا رفعه الله بيمينه رئيسًا ومخلصًا” (أع 5: 31).
– أصعدنا معه
“وأقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات” (أف 2: 6)
في صعود السيد المسيح أصعد البشرية معه، إذ كانت قبلا ساقطة وتحتاج لمن يصعدها، فبدون صعود السيد لم يكن ممكنا للطبيعة الترابية أن تصعد إلى السماء، والذين ليست لهم المسيح وبركات صعوده لن يكون لهم صعود إلى السماء، لأنه كيف يقدر الجسدانيون أن يصيروا روحانيين لو لم يتجسد منهم رب الأرواح،
وكما كان الترابي هكذا أيضا الترابيين وكما هو السماوي هكذا أيضا السماويون، وكما لبسنا صورة الذي من التراب (آدم) سنلبس صورة الذي من السماء (المسيح) (1 كو 15: 49).
ففي تجسد المسيح أخذ طبيعتنا البشرية من العذراء القديسة مريم واتحد بها، وفي قيامته تمجدت طبيعتنا فيه، وفي صعوده أصعدنا معه، لأنه حملنا معه.
فبعد أن اتحد الرب بجنسنا وأخذ منه جسدا تمجد هذا الجنس، فأصعده معه لأنه صعد بهذا الجسد الذي أخذه منا وجعله أهلًا أن يصير سماويا إذ أعطى الطبيعة الترابية كرامة ومجدا باتحادها باللاهوت، وهو بذلك وهب لنا نحن الترابيين أن نبلغ رتبة السمائيين لأنه وهو: “باكورة جنسنا لاق بذاك الذي من أجله الكل وبه الكل وهو آت بأبناء كثيرين إلى المجد أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام. لأن المقدس والمقدسين جميعهم من واحد فلهذا السبب لا يستحي أن يدعوهم إخوة” (عب 2: 10-11).
وبغلبة السيد المسيح على الموت وهب لنا هذه الغلبة ورفع طبيعتنا الساقطة المغلوبة “إذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم واشترك هو أيضا كذلك فيهما لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت” (عب 2: 14).
أي شكر وتسبيح نقدمه للسيد مخلصنا الذي رفع طبيعتنا وأصعدنا معه، ذاك الذي في صعوده حملنا معه. واجتاز السموات (عب 4: 14)، ورفع في المجد (1 تي 3: 16).
– أخذته سحابة
أي سحابة مقدسة تلك التي أخذت السيد المسيح عن أعين التلاميذ، أي سحابة تلك التي حجبته عن رؤيتهم؟
كيف تحجبه سحابة وهو “الذي جعل مسالكه على السحاب الماشي على أجنحة الرياح” (مز 104: 3 ). لعلها سحابة من القوات السماوية من أجناد الشاروبيم و الساروفيم المتوهجون نارًا.
ولقد ارتبط السحاب بظهور الرّب ومجده. فقد صار سحاب ثقيل على جبل سيناء عند حلول الله وحضوره وسط الشعب (خر 19: 16)، وكان عامود السحاب يتقدم الشعب في مسيرته (خر 13: 21)، والسحاب ملأ البيت لأن مجد الله حل فيه (2 أي 5: 14)،
وتحدثت النبوة عن السحاب هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر (إش 19: 1). وفي حادثة التجلي جاءت سحابة نيرة وظللتهم (مت 17: 5). وقد تنبأ داود النبي عن السيد “سحاب وضباب حوله” (مز 97: 2)، وقال سليمان أن الرّب يسكن في الضباب (2 أي 6: 1).
إن السحاب وهو المرتفع في مكانه عن الأرض إشارة إلى السماء فكان جدير أن يظهر في صعود الرب إلى السماء وستكون السحب هي العلامة التي تظهر في السماء عند المجيء الثاني للرّب “هوذا يأتي مع السحاب وستنظره كل عين” (رؤ 1: 7)، كذلك جعل الرّب أن يكون اختطاف المؤمنين على السحاب (إش 4: 17) إننا نشتاق إلى تلك الساعة التي نتلاقى فيها في السحب لملاقاة الرّب.
– فرح السمائيين بالصعود
بينما كان التلاميذ ينظرون وهم شاخصون بعيونهم في السماء، حيث كان صعود الرب وجاءت السحابة وأخذته عن عيونهم، ظهر ملاكان بلباس أبيض ومنظرهما بهي تحدثا مع الرسل، فإذا كانت الملائكة نزلت من السماء حاملة البشارة بالتجسد، فقد نزل جبرائيل يبشر السيدة العذراء، ونزلت أجواق الملائكة تعلن فرح البشرية وقت ميلاده، ووقت التجربة جاءته أيضا الملائكة، وفي البستان ليلة آلامه نزل ملاك من السماء، وفي قيامة الرب نزلت الملائكة تبشر النسوة والرسل، كذلك أيضًا في صعود الرب ظهرت الملائكة وظهرت الجنود السمائيين تستقبل ملك الملوك ورب الأرباب، إنه إعلان عن ابتهاج السماء بصعود الرب وشركتها مع الأرض في الفرح وتقديم السجود للرب الظافر الصاعد إلى علاه و أصعدت البشرية معه لتسترد مكانها في السماء، وهذا ما جعل الملائكة تفرح وتبتهج فإذا كانت الملائكة تفرح بتوبة إنسان واحد (لو 15) فكم تكون فرحتها بعودة جنس البشر جميعه، ورجوع البشرية إلى السماء.
– جلس عن يمين الآب
بعد أن تمم السيد المسيح عمل الفداء وصعد إلى السماوات جلس عن يمين أبيه، وليس المقصود هنا الجلوس الجسماني في المفهوم البشري فالله ليس له يمين أو يسار وليس هو محدود في طبيعته، ولكن المعنى في جلوس الابن عن يمين أبيه هو أنه بعد أن أكمل عمل الفداء أخذ ماله من مجد وكان ذلك المجد مخفي في زمان تجسده “الذي وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته بعد ما صنع بنفسه تطهيرا لخطايانا جلس في يمن العظمة في الأعالي” (عب 1: 3)، فالسيد بعد أن اجتاز السماوات جلس عن يمين أبيه (مر 16: 19)، وهذه هي صورة المجد وكانت غير منظورة للتلاميذ وقت الصعود.
(والرب لم ينقص شيئًا بسبب تجسده كذا لم يزد شيئًا في صعوده، لا هو قل في تجسده ولا هو كثر في صعوده، فمجده لم ينقص حينما أخذ جسدا بشريا، ولا هو أخذ مجدًا ليس له حينما صعد إلى السماء فإنه أي المسيح جلس عن يمين العظمة أي الآب وفي هذا الرد على هرطقة أريوس – “شرح (عبرانيين 1: 3) لأغسطينوس”.
وهذا المفهوم يتضح في صلاة المسيح الوداعية “أنا مجدتك على الأرض، العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته، والآن مجدتني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم ” (يو 17: 5).
وفي جلوسه عن يمين الآب جلس على عرش مجده (مز 46). “إذ بالعدل والحق أتقن كرسيه” (مز 97: 2)، فيسوع الذي وضع قليلًا عن الملائكة بتجسده، جلس في يمين العظمة في الأعالي، صائرًا أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسما أفضل منهم (عب 1: 3-4).
إن السيد دخل إلى مجده وقد سبق إشعياء أن تنبأ عن هذا “أنا الرّب هذا اسمي ومجدي لا أعطيه لآخر” (إش 42: 8).
وفي جلوس السيد في مجده أخضع كل شيء تحت قدميه وهو ما شرحه القديس بولس الرسول “وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين حسب عمل شدة قوته، الذي عمله في المسيح إذ أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه في السماويات. فوق كل رئاسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يسمى ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضًا. وأخضع كل شيء تحت قدميه” (أف 1: 19-22).
وهو ما سبق أن تنبأ به داود النبي “قال الرّب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك” (مز 11: 1)، ورآه دانيال النبي “أُعطى سلطانًا ومجدًا وملكوتًا” (دا 7: 13).
إن السيد المسيح في حياته على الأرض أوضح ذلك الأمر لتلاميذه إذ قال لهما ” دفع إلىَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض” (مت 28: 18).
وبعد أن جلس السيد وملك فإن الخليقة أصبحت تشترك مع السمائيين لتقدم السجود “وهم يصرخون بصوت عظيم قائلين مستحق هذا الخروف المذبوح أن يأخذ القدرة والغنى والحكمة والقوة والكرامة والمجد والبركة” (رؤ 5: 12).
فالخليقة الساقطة التي عُتقت من الموت وارتفعت بصعود الرّب وجلست معه في السماويات تجثو له وتمجده من أجل تدبير عمله المجيد،
لذلك رفعه الله أيضًا وأعطاه اسما فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء (الملائكة) ومن على الأرض (البشر) ومن تحت الأرض (الذين عتقهم من الجحيم) ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب مجد الله الآب (في 2: 8-11). وفي ذلك أيضًا يقول القديس بطرس في رسالته عن المخلص “إذ قد مضى إلى السماء وملائكة وسلاطين قوات مخضعة له” (1 بط 3: 22 ).
وإننا إذ نتمتع ببركات هذا الصعود نشكر الله ونسجد له ونمجده إذ حسبنا نحن المؤمنين مع هؤلاء الساجدين له، ولساننا ينطق بالتسبيح لرب المجد، لقد صعد السيد وجلس الملك في مجده، ومساكين هؤلاء الذين لا يريد و ن أن يملك عليهم فهم وقت الدينونة ينوحون وليس من فائدة “و حينئذ تنوح جميع قبائل الأرض” (مت 24: 30)، حقا أنهم مساكين لأنهم يصيرون تحت موطئ قدميه ويسمعون صوت الحكم المخوف هؤلاء الذين لم يريدوا أن أملك عليهم آتوهم واذبحوهم قدامي (لو 19: 27)، أما نحن فقد صار لنا جلوس السيد في مجده مصدر القوة والتعزية، وهي التي رآها إستفانوس وهو يستشهد وأعلنها أثناء محاكمته أمام المجمع اليهودي “ها أنا أنظر السموات مفتوحة وابن الإنسان قائما عن يمين الله” (أع 7: 56).
– الصعود و استعلان مجيئه الثاني
تحدث الملاكان اللذان ظهرا للتلاميذ وقت صعود الرّب عن سر مجيئه الثاني، وأخبرا أن يسوع الذي انطلق وصعد إلى السماء سيأتي في مجد أبيه، لقد كشف الصعود عن سر مجيئه رجاء الكنيسة الذي تنتظره وهي تسير نحو السماء تبشر بموت الرب وتعترف بقيامته من الأموات وصعوده إلى السموات، هذا المجيء الذي سبق الرب وأخبر به تلاميذه قائلًا: “وحينئذ يبصرون ابن الإنسان آتيا في سحاب بقوة كثيرة ومجد” (مر 13: 26).
لقد ارتبط المجيء الثاني للرّب بصعوده وهذا ما قاله السيد لتلاميذه “وإن مضيت وأعددت لكم مكانا آتي أيضًا وأخذكم إليّ” (يو 14: 3).
وفي صعود الرّب نالت الكنيسة قوة صعودها وارتفاعها، فتصعد وتأتي إليه في مجيئه الثاني حينما يدعوها “تعالوا إليّ يا مباركي أبي” (مت 25: 34).
– الصعود وكمال النبوات
تنبأ داود النبي عن صعود الرب في مجده وقال “صعد الله بتهليل الرّب بصوت الصور (المزمار) رتلوا لإلهنا، رتلوا لملكنا رتلوا لأن الرب هو ملك الأرض كلها، رتلوا قصيدة فإن الرّب ملك على كل الشعوب، جلس الله على كرسي مجده” (مز 46)، وسفر المزامير ملئ بإشارات كثيرة عن صعود الرب (مز 97: 1)، (مز 18: 10).
ويفسر القديس بولس البوشي (القرن 13) إشارة إلى الصعود في رؤيا يعقوب (تك 28: 11-13) حيث رأى سلمًا مرتفع من الأرض إلى السماء وملائكة الله نازلين وصاعدين عليه، والرّب فوق أعلى السلم.. . فقد ارتفع الرّب فوق في علاه وابتهجت الملائكة بصعوده.
ويرى أيضًا في قصة الفأس و إليشع (2 مل 6: 1-2) رمزا آخر للصعود فقد كانت هناك فأس وأثناء القطع بها سقطت في الماء وغاصت في القاع، فجاء رجل الله وقطع عودا وألقاها في الماء في المكان الذي سقطت فيه الفأس عندئذ طفا الحديد على سطح الماء فمد الرجل يده وأخذه، وتأمل القديس بولس البوشي في القصة وقال أن سقوط الحديد يشبه سقوط البشرية التي تثقلت بالخطية وانحدرت متردية وسقطت في القاع ولم تقدر أن تصعد ثانية بسبب ثقل (دينونة) الخطية لكن الله تحنن عليها واتحد بجسد طاهر من القديسة مريم العذراء وأصعده بغير مانع وأعطى لجنسنا القدرة على الصعود.
وفي صعود النبيان أخنوخ (تك 5: 24)، وإيليا (2 مل 2: 11) نبوة سابقة تخبرنا عن صعود الرب وفيه رجاء لصعودنا معه، ففي صعودهما من الأرض إشارة لصعود السيد المسيح ولكن هناك اختلاف جوهري إذ أن أخنوخ الله نقله، وإيليا أرسل الرّب مركبة نارية حملته، أما صعود المسيح أمر فائق للعقل ومملوء مجدا إذ نزل أولًا إلى الجحيم وهو يطأ قوات الظلمة إذ جعل أعدائه موطئا لقدميه، وسبى سبيا وصعد إلى السماء ومعه الغنائم، وجلس في عرش مجده (أف 4: 8).
Discussion about this post